المجموعة الثانية:
1: ما معنى الوسواس والخناس؟ وما دلالة اقترانهما؟
التعريف في "الوسواس"للجنس على الراجح من أقوال المفسرين، فيشمل كل وسواس من شياطين الجن والإنس.
و{الخناس}:صفة مبالغة من الخنوس، وهو الاختفاء، والمبالغة إما للكثرة أو للشدة، والمعنى: أنه كثير الخنوس أو شديد الخنوس.
واقتران الصفتين ببعضهما دليل على تلازمها، وهذا التلازم فيه شر إضافي، ففي وسوسته شر، وفي خنوسه شر، وفي كثرة وقوع الوسوسة والخنوس وتتابعهما شر عظيم يستوجب الاستعاذة بالله تعالى من شره.
2:ما هو سبب تسلّط الشيطان على العبد؟ وما سبيل نجاته منها؟
تسلط الشيطان عل العبد على مرتبتين:
الأولى: تسلط ناقص: ويقع على طائفتين:
الطائفة الأولى: عصاة المسملين، الذين يتبعون خطوات الشيطان حتى يستزلهم بارتكاب ما حرم الله أو ترك ما أوجب الله، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
فلا يتسلط الشيطان عليهم تسلطاً تاماً، ولا يسلمون منه سلامة تامة؛ بل هم وإياه في تصارع وجهاد ؛ يقوى تسلطه عليهم ويضعف بقدر ما فرّطوا فيه من اتباع هدى الله جل وعلا.
فما معهم من التوحيد والإسلام يمنعه من التسلط التام عليهم، وما في قلوبهم من حظ الشيطان باتباع خطواته سَببٌ لتسلط الشيطان عليهم.
الطائفة الثانية: أهل البلاء من المؤمنين المتقين، يقع عليهم شيء من التسلط والأذى ابتلاء من الله -عز وجل-، فيُبتلون ابتلاءً بأذية الشياطين وكيدهم لينظر الله كيف يعملون، وهذا الإيذاء قد تقصر مدته وهو الغالب، وقد تطول، ويكون طوله إذا طال مع ملازمة الصبر والتقوى من علامات بلوغ أهله مرتبة الإحسان.
وهذا الأذى الشيطاني على المؤمنين له أنواع:
النوع الأول:إيذاء بالفزع والتخويف ومحاولة الإضرار، يجعل الله لعباده المؤمنين معه سبباً يعتصمون به من ذلك فلا يصيبهم منه ضرر، وإنما قد ينالهم شيء من الأذى الذي يُحتمل ويذهب أثره من الخوف أو الفزع أو الرهبة التي تقتضيها بغتة الموقف؛ ثم يزول ذلك، ومن ذلك ما حصل للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجن، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ عفريتاً من الجن جاء يفتك بي البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم ؛ فذكرت قول أخي سليمان: {رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي}؛ فرددته خاسئاً".
النوع الثاني:أن يجد المسلم شيئاً من أذية الشياطين وتسلطهم عليه، كما فى حديث لخالد بن الوليد أنه كان يفزع في منامه فشكا ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن عفريتاً من الجنّ يكيدك"؛ ثم علّمه تعويذة.
النوع الثالث: النزغات والهمزات والنفخات والنفثات التي تكون من الشياطين ويكون لها شرور وآثار تستوجب الاستعاذة بالله تعالى منها، كما قال الله تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم}، وقال سبحانه: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}.
النوع الرابع:التسلط الذي قد يَعْظُمُ أثره ويطول أَمَدُه ويقصر بحسب ما يقدره الله -عز وجل- من ذلك، كما قال الله تعالى: {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنُصْب وعذاب}.والمراد ب "النصب": ما أصابه من العناء والضرر.
ومن هذا النوع ما يحصل لبعض الصالحين من الابتلاء بالسحر والعين وتسلط الشياطين، وما يحصل لهم من الآفات التي تُضعف أبدانهم ويتسلط عليهم الشيطان بأنواع من الأذى، فهؤلاء إن قاموا بما أوجب الله تعالى من الصبر والتقوى كان ذلك رفعة لهم واجتباء، ولم يضرهم كيد عدوهم شيئاً، وإنما هو أذى يتأذون به، ويصاحبه من لطف الله عز وجل بهم، وتيسيره ما يخفف عنهم البلاء، ثم تكون عاقبتهم حسنةً بإذن الله تعالى، كما قال الله تعالى: "إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} فجعل الإحسان يُنال بالصبر والتقوى.
الثانية:التسلط التام، وهو تسلط الشيطان على أوليائه الذين اتخذوه وليّا من دون الله -جل وعلا-، فخرجوا من النور إلى الظلمات، ومن ولاية الله وحزبه إلى ولاية الشيطان وحزبه، يصدّون عن سبيل الله، ويعادون أولياء الله، ويؤذوهم، ويدعوون إلى الباطل بالقول والعمل، ويكتمون الحق، فصاروا من الخاسرين، كما قال تعالى: {ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبينا * يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا}.
وسبيل النجاة من تسلط الشيطان على العبد، أن يكون شديد الحذر مما يعرضه لسخط الله تعالى، وأن يعظم خشية الله في قلبه، ويتبع هداه؛ فيكون في أمان الله وضمانه، كما وعد الله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}، وقد أمر الله بالاستعاذة من شر الشيطان وشركه. والمعصوم من عصمه الله، وأنه لا أمان للعبد إلا بالإيمان والتوكل على الله جل وعلا، فالمؤمنون المتوكلون على ربهم لا تتسلط عليهم الشياطين بل هم في حفظ الله ورعايته، والله معهم يؤيدهم ويهديهم وينصرهم حتى تكون لهم العاقبة الحسنة، وبحسب ما يكون مع العبد من تحقيق للإخلاص يعظم إيمانه ويعظم توكله على الله جل وعلا حتى يكون من عباد الله المخلَصين وينال بذلك أعظم تحصين من كيد الشيطان الرجيم، كما قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلاً}.
وقد شُرِعت التسميةُ في كل شأن من شُئونِ الإنسانِ لحُصول البركة والحفظ من كيد الشيطان، حتى عند قراءته للقرآن شُرعت الاستعاذة منه حتى لا يصده عن الانتفاع بالقرآن، وقد قال الله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون}، فيُسمي العبدُ إذا أكل، وإذا شرب، وإذا دخل بيته، وإذا خرج منه، وإذا أَصبح، وإذا أمسى، وإذا ركب، وإذا جامع، وإذا دخل الخلاء، وإذا أراد النَوم، فإذا اتبع العبد هدى الله تعالى في شأنه كله؛ فإنه يُعصم من كيد الشيطان.
3: بيّن الحكمة من تخصيص الاستعاذة بصفات الربوبية والملك والألوهية وترتيبها على هذا الترتيب.
تخصيص الاستعاذة بصفات الربوبية والملك والألوهية يتضمن الدلالة على أمور عظيمة:
الأمر الأول: أنها تضمنت المبدأ " ربهم الذي أنشأهم من العدم؛ وأنعم عليهم بالنعم " وتضمنت الولاية " قهو الملك الذي يتولى أمورهم ويملك نفعهم وضرّهم، وهو المتصرف فيهم" وتضمنت الغاية "فهو إلههم الذي يجب أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن يتوجهوا إليه بقلوبهم وسائر عبادتهم".
الأمر الثاني: أن هذه الصفات الثلاث حُجّة قاطعة على وجوب التوحيد؛ فالخالق المنعم المالك المتصرف يجب أن يكون هو إله الناس لا يعبدون غيره.
الأمر الثالث: أن أصل بلاء الناس إنما هو في الشرك بالله جل وعلا في هذه الأمور الثلاثة (الربوبية، والملك، والألوهية)، وضعف التعبد لله تعالى بها، وكل شرك فيها فإنما حصل بوسوسة الشيطان، وهذا هو حظ الشيطان من الناس، وهذه الأمور الثلاثة يقع فيها الشرك الأكبر والشرك الأصغر، ويقع فيها الشرك الجلي والشرك الخفي، وكل شرك في أي نوع من هذه الأنواع له آثاره السيئة على العبد، من تسلط الشياطين، ومن عقوبات الذنوب والمعاصي.
الأمر الرابع: أن التعبد لله جل وعلا بما تقتضيه هذه الصفات الثلاث أمر واجب، والتقصير في ذلك ظلم من العبد لنفسه، وهذا الظلم هو منشأ شقاء العبد وضلاله وتسلط الشياطين عليه وإضلالهم له.
وإذا أحسن العبد التعبد لله تعالى بهذه الصفات الثلاث فاز فوزاً عظيماً وسَعِد سعادة عظيمة في الدنيا والآخرة.
الأمر الخامس: أن الاستعاذة بربوبية الله وملكه وألوهيته تقتضي تعظيمها وأن لها شأناً عظيماً وآثاراً جليلة في الخلق والأمر، ففي عالم الخلق بدؤه وملكه غايته لله تعالى وحده لا شريك له، وكذلك فى عالم الأمر، فالله تعالى هو رب الناس وهو الذي يأمرهم بما يشاء وينهاهم عما يشاء ويحلّ لهم ما يشاء ويحرم عليهم ما يشاء ؛ كل ذلك من آثار ربوبيته لهم.
وهو تعالى ملك الناس: يثيب من يشاء ، ويعاقب من يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويقرّب من يشاء، ويبعد من يشاء.
وهو سبحانه الحكم العدل في كل ذلك، فله المثل الأعلى، وله الأسماء الحسنى.
الأمر السادس: أن مدار عمل الشيطان على إخلال العباد بهذه الأمور الثلاثة، فميدان الصراع مع الشيطان هو في هذه الأمور الثلاثة؛ فمن أخلصها لله جل وعلا؛ فقد خلص من شر الشيطان وشركه، وكان من عباد الله المخلصين.
الأمر السابع: أن هذه السورة تضمنت إيجازاً بديعاً لمدار الابتلاء والامتحان فبين الله للناس فيها أنه ربهم وملكهم وإلههم، وأن عدوهم هو الشيطان الرجيم، وأن سلاحه هو الوسوسة وأنه سعيه إنما هو ليشركوا بالله جل وعلا في ربوبيته وملكه وإلهيته ليكون مصيرهم إلى عذاب الله وسخطه.
الأمر الثامن: أن العبد المؤمن حينما ينادي ربه هذا النداء ويستعيذ به فهو لاجئ إلى ربه وملكه وإلهه ليعيذه من شر عدوه، وإذا حقق العبد الإخلاص في هذه الأمور الثلاثة وأحسن التعبد لله تعالى بها فقد أوى إلى معاذ منيع وحصن حصين، وكان في عصمة الله تعالى وضمانه وأمانه.
الحكمة من ترتيب هذه الصفات الثلاث بهذا الترتيب:
{برب الناس}أي: خالقهم ومالكهم ومدبر أمورهم.
{ملك الناس}المتصرف فيهم بما يشاء، فلا يخرج أحدٌ منهم عن ملكه وتصرفه.
{إله الناس}معبودهم الذي يألهونه ويخضعون له ويتقربون إليه ، فيحبونه غاية المحبة، ويعظمونه غاية التعظيم، ويخضعون له غاية الخضوع، وهو إلههم الذي لا إله لهم سواه.
فهو مُنشؤهم من العدم، ومدبر أمورهم، والمتصرف فيهم، وهو منتهى حاجاتهم وآمالهم.