تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)}
تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله تعالى: {إنّما التّوبة على اللّه للّذين يعملون السّوء بجهالة ثمّ يتوبون من قريب فأولئك يتوب اللّه عليهم وكان اللّه عليما حكيما}.
ليس معناه: أنهم يعملون السوء وهم جهّال، غير مميزين فإن من لا عقل له ولا تمييز لا حدّ عليه، وإنّما معنى {بجهالة}: أنهم في اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية جهّال، فليس ذلك الجهل مسقطا عنهم العذاب، لو كان كذلك لم يعذب أحد ولكنه جهل في الاختيار.
ومعنى {يتوبون من قريب}: يتوقفون قبل الموت، لأن ما بين الإنسان وبين الموت قريب، فالتوبة مقبولة قبل اليقين بالموت). [معاني القرآن: 2/29]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {إنّما التّوبة على اللّه للّذين يعملون السّوء بجهالةٍ ثمّ يتوبون من قريبٍ فأولئك يتوب اللّه عليهم وكان اللّه عليماً حكيماً (17) وليست التّوبة للّذين يعملون السّيّئات حتّى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن ولا الّذين يموتون وهم كفّارٌ أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً (18)}.
إنّما حاصرة، وهو مقصد المتكلم بها أبدا، فقد تصادف من المعنى ما يقتضي العقل فيه الحصر، كقوله تعالى: {إنّما اللّه إلهٌ واحدٌ} وقد تصادف من المعنى ما لا يقتضي العقل فيه الحصر، كقوله: إنما الشجاع عنترة فيبقى الحصر في مقصد المادح، ويتحصل من ذلك لكل سامع تحقيق هذه الصفة للموصوف بمبالغة، وهذه الآية مما يوجب النظر فيها أنها حاصرة، وهي في عرف الشرع:
الرجوع من شر إلى خير، وحد التوبة: الندم على فارط فعل، من حيث هو معصية الله عز وجل، وإن كان الندم من حيث أضر ذلك الفعل في بدن أو ملك فليس بتوبة، فإن كان ذلك الفعل مما يمكن هذا النادم فعله في المستأنف فمن شروط التوبة العزم على ترك ذلك الفعل في المستأنف، وإلا فثم إصرار لا توبة معه، وإن كان ذلك الفعل لا يمكنه، مثل أن يتوب من الزنا فيجب بأثر ذلك ونحو ذلك، فهذا لا يحتاج إلى شرط العزم على الترك، والتوبة فرض على المؤمنين بإجماع الأمة، والإجماع هي القرينة التي حمل بها قوله تعالى: {وتوبوا إلى اللّه جميعاً } على الوجوب، وتصح التوبة من ذنب من الإقامة على غيره من غير نوعه، خلافا للمعتزلة في قولهم: لا يكون تائبا من أقام على ذنب، وتصح التوبة وإن نقضها التائب في ثاني حال بمعاودة الذنب، فإن التوبة الأولى طاعة قد انقضت وصحت، وهو محتاج بعد موافقة الذنب إلى توبة أخرى مستأنفة، والإيمان للكافر ليس نفس توبته، وإنما توبته ندمه على سالف كفره، وقوله تعالى: على اللّه فيه حذف مضاف تقديره: على فضل الله ورحمته لعباده، وهذا نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: «يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ »قال الله ورسوله أعلم، قال: «أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم سكت قليلا» ، ثم قال: «يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله؟ » قال الله ورسوله أعلم، قال: « أن يدخلهم الجنة »، فهذا كله إنما معناه: ما حقهم على فضل الله ورحمته، والعقيدة: أنه لا يجب على الله تعالى شيء عقلا، لكن إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء سمعا، فمن ذلك تخليد الكفار في النار، ومن ذلك قبول إيمان الكافر، والتوبة لا يجب قبولها على الله تعالى عقلا، فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب، قال أبو المعالي وغيره: فهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن لا قطعا على الله بقبول التوبة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى، فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامة الشروط، فقول أبي المعالي يغلب على الظن قبول توبته، وقال غيره: «يقطع على الله تعالى بقبول توبته، كما أخبر عن نفسه عز وجل».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وكان أبي رحمة الله عليه يميل إلى هذا القول ويرجحه، وبه أقول، والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله تعالى: {وهو الّذي يقبل التّوبة عن عباده}وقوله: {وإنّي لغفّارٌ لمن تاب وآمن} والسّوء في هذه الآية يعم الكفر والمعاصي، وقوله تعالى: بجهالةٍ معناه: بسفاهة وقلة تحصيل أدى إلى المعصية، وليس المعنى أن تكون «الجهالة» ان ذلك الفعل معصية، لأن المتعمد للذنوب كان يخرج من التوبة، وهذا فاسد إجماعا، وبما ذكرته في «الجهالة» قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر ذلك عنهم أبو العالية، وقال قتادة: «اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة»، عمدا كانت أو جهلا، وقال به ابن عباس ومجاهد والسدي، وروي عن مجاهد والضحاك أنهما قالا: «الجهالة هنا العمد»، وقال عكرمة: «أمور الدنيا كلها جهالة».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: « يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله» ، وهذا المعنى عندي جار مع قوله تعالى: {إنّما الحياة الدّنيا لعبٌ ولهوٌ } وقد تأول قوم قول عكرمة بأنه للذين يعملون السوء في الدنيا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فكأن «الجهالة اسم للحياة الدنيا»، وهذا عندي ضعيف، وقيل بجهالةٍ، أي لا يعلم كنه العقوبة، وهذا أيضا ضعيف، ذكره ابن فورك ورد عليه، واختلف المتأولون في قوله تعالى: {من قريبٍ } فقال ابن عباس والسدي: «معنى ذلك قبل المرض والموت »، وقال أبو مجلز ومحمد بن قيس والضحاك وعكرمة وابن زيد وغيرهم: «معنى ذلك قبل المعاينة للملائكة والسوق، وأن يغلب المرء على نفسه» ، وروى أبو قلابة، أن الله تعالى لما خلق آدم فرآه إبليس أجوف، ثم جرى له ما جرى ولعن وأنظر، قال: وعزتك لا برحت من قلبه ما دام فيه الروح، فقال الله تعالى: «وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فابن عباس رضي الله عنه ذكر أحسن أوقات التوبة، والجمهور حددوا آخر وقتها، وقال إبراهيم النخعي: كان يقال: «التوبة مبسوطة لأحدكم ما لم يؤخذ بكظمه» ، وروى بشير بن كعب والحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ويغلب على عقله».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لأن الرجاء فيه باق ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل في المستأنف، فإذا غلب تعذرت التوبة لعدم الندم والعزم على الترك، وقوله تعالى: {من قريبٍ } إنما معناه: «من قريب» إلى وقت الذنب، ومدة الحياة كلها قريب، والمبادر في الصحة أفضل، والحق لأمله من العمل الصالح، والبعد كل البعد الموت، ومنه قول مالك بن الريب: الطويل وأين مكان البعد إلّا مكانيا وقوله تعالى:{ وكان اللّه عليماً حكيماً } أي بمن يتوب وييسره هو للتوبة حكيما فيما ينفذه من ذلك، وفي تأخير من يؤخر حتى يهلك). [المحرر الوجيز: 2/493-496]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّما التّوبة على اللّه للّذين يعملون السّوء بجهالةٍ ثمّ يتوبون من قريبٍ فأولئك يتوب اللّه عليهم وكان اللّه عليمًا حكيمًا (17) وليست التّوبة للّذين يعملون السّيّئات حتّى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن ولا الّذين يموتون وهم كفّارٌ أولئك أعتدنا لهم عذابًا أليمًا (18) }.
يقول تعالى: {إنّما يتقبّل اللّه التّوبة ممّن عمل السّوء بجهالةٍ}، ثمّ يتوب ولو قبل معاينة الملك لقبض روحه قبل الغرغرة.
قال مجاهدٌ وغير واحدٍ: «كلّ من عصى اللّه خطأً أو عمدًا فهو جاهلٌ حتّى ينزع عن الذّنب».
وقال قتادة عن أبي العالية: «أنّه كان يحدّث أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: كلّ ذنبٍ أصابه عبدٌ فهو بجهالةٍ». رواه ابن جريرٍ.
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن قتادة قال: « اجتمع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فرأوا أنّ كلّ شيءٍ عصي به فهو جهالةٌ، عمدًا كان أو غيره ».
وقال ابن جريج: أخبرني عبد اللّه بن كثيرٍ، عن مجاهدٍ قال: «كلّ عاملٍ بمعصية اللّه فهو جاهلٌ حين عملها ». قال ابن جريجٍ: وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوه.
وقال أبو صالحٍ عن ابن عبّاسٍ: « من جهالته عمل السّوء».
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ {ثمّ يتوبون من قريبٍ} قال: « ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت»، وقال الضّحّاك: «ما كان دون الموت فهو قريبٌ ». وقال قتادة والسّدّيّ: «ما دام في صحّته ». وهو مرويٌ عن ابن عبّاسٍ. وقال الحسن البصريّ: {ثمّ يتوبون من قريبٍ} «ما لم يغرغر». وقال عكرمة: «الدّنيا كلّها قريبٌ ».
ذكر الأحاديث في ذلك:
قال الإمام أحمد: حدّثنا عليّ بن عيّاش وعصام بن خالدٍ، قالا حدّثنا ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحولٍ، عن جبير بن نفير عن ابن عمر، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّ اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ».
و رواه التّرمذيّ وابن ماجه من حديث عبد الرّحمن بن ثابت بن ثوبان، به وقال التّرمذيّ: حسنٌ غريبٌ. ووقع في سنن ابن ماجه: عن عبد اللّه بن عمرو. وهو وهم، إنّما هو عبد اللّه بن عمر بن الخطّاب.
حديثٌ آخر عن ابن عمر: قال أبو بكر بن مردويه: حدّثنا محمّد بن معمرٍ حدّثنا عبد اللّه بن الحسن الخراسانيّ، حدّثنا يحيى بن عبد اللّه البابلتّيّ حدّثنا أيّوب بن نهيك الحلبيّ قال: سمعت عطاء بن أبي رباحٍ قال: سمعت عبد اللّه بن عمر، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «ما من عبدٍ مؤمن يتوب قبل الموت بشهرٍ إلّا قبل اللّه منه، وأدنى من ذلك، وقبل موته بيومٍ وساعةٍ، يعلم اللّه منه التّوبة والإخلاص إليه إلّا قبل منه ».
حديثٌ آخر: قال أبو داود الطّيالسيّ: حدّثنا شعبة، أخبرنا إبراهيم بن ميمونٍ، أخبرني رجلٌ من ملحان يقال له: أيّوب -قال: سمعت عبد اللّه بن عمر يقول: « من تاب قبل موته بعامٍ تيب عليه، ومن تاب قبل موته بشهرٍ تيب عليه، ومن تاب قبل موته بجمعةٍ تيب عليه، ومن تاب قبل موته بيومٍ تيب عليه، ومن تاب قبل موته بساعةٍ تيب عليه. فقلت له: إنّما قال اللّه: {إنّما التّوبة على اللّه للّذين يعملون السّوء بجهالةٍ ثمّ يتوبون من قريبٍ} فقال: إنّما أحدّثك ما سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ».
وهكذا رواه أبو داود الطّيالسيّ، وأبو عمر الحوضي، وأبو عامرٍ العقدي، عن شعبة.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا حسين بن محمّدٍ، حدّثنا محمّد بن مطرّف، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرّحمن بن البيلماني قال: «اجتمع أربعةٌ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال أحدهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إنّ اللّه يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيومٍ ». فقال الآخر: أنت سمعت هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يومٍ»فقال الثّالث: أنت سمعت هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «إنّ اللّه يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحو ». قال الرّابع: أنت سمعت هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ قال: نعم. قال وأنا سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «إنّ اللّه تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه ». وقد رواه سعيد بن منصورٍ عن الدراوردي، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرّحمن بن البيلمانيّ فذكر قريبًا منه.
حديثٌ آخر: قال أبو بكر بن مردويه: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيدٍ، حدّثنا عمران بن عبد الرّحيم، حدّثنا عثمان بن الهيثم، حدّثنا عوف، عن محمّد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ اللّه يقبل توبة عبده ما لم يغرغر ».
أحاديث في ذلك مرسلةٌ:
قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن عوف، عن الحسن قال:بلغني أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: « إنّ اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر » هذا مرسلٌ حسنٌ. عن الحسن البصريّ، رحمه اللّه.
آخر: قال ابن جريرٍ أيضًا، رحمه اللّه: حدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا معاذ بن هشامٍ، حدّثني أبي، عن قتادة، عن العلاء بن زيادٍ، عن أبي أيّوب بشير بن كعبٍ؛ أنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّ اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ».
وحدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا عبد الأعلى، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن عبادة بن الصّامت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال، فذكر مثله.
أثرٌ آخر: قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا أبو داود، حدّثنا عمران، عن قتادة قال: كنا عند أنس بن مالكٍ وثمّ أبو قلابة، فحدّث أبو قلابة فقال: إنّ اللّه تعالى لمّا لعن إبليس سأله النّظرة فقال: وعزّتك وجلالك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الرّوح. فقال اللّه: «وعزّتي لا أمنعه التّوبة ما دام فيه الرّوح».
وقد ورد هذا في حديثٍ مرفوعٍ، رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرٍو وأبي الهيثم العتواري كلاهما عن أبي سعيدٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «قال إبليس: وعزّتك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال اللّه عزّ وجلّ: «وعزّتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني »».
فقد دلّت هذه الأحاديث على أنّ من تاب إلى اللّه عزّ وجلّ وهو يرجو الحياة، فإنّ توبته مقبولةٌ منه ؛ ولهذا قال تعالى: {فأولئك يتوب اللّه عليهم وكان اللّه عليمًا حكيمًا} فأمّا متى وقع الإياس من الحياة، وعاين الملك، وحشرجت الرّوح في الحلق، وضاق بها الصّدر، وبلغت الحلقوم، وغرغرت النّفس صاعدةً في الغلاصم -فلا توبة متقبّلةٌ حينئذٍ، ولات حين مناصٍ؛ ولهذا قال تعالى {وليست التّوبة للّذين يعملون السّيّئات حتّى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/235-238]
تفسير قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله: {وليست التّوبة للّذين يعملون السّيّئات حتّى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن ولا الّذين يموتون وهم كفّار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما}{حتّى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن} إنما لم تكن له التوبة، لأنه تاب في وقت لا يمكن الإقلاع بالتصرف فيما يحقق التوبة.
{أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما} أي: مؤلما موجعا، والمؤلم الذي يبلغ إيجاعه غاية البلوغ). [معاني القرآن: 2/29]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم نفى بقوله تعالى: {وليست التّوبة } الآية أن يدخل في حكم التائبين من حضره موته وصار في حيز اليأس، وحضور الموت هو غاية قربه، كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق، فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان، وبهذا قال ابن عباس وابن زيد وجماعة المفسرين، وقال الربيع: «الآية الأولى قوله: {إنّما التّوبة على اللّه هي في المؤمنين}، والآية الثانية قوله: {وليست التّوبة} الآية نزلت في المسلمين ثم نسخت بقوله تعالى: {إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فحتم أن لا يغفر للكافر وأرجأ المؤمنين إلى مشيئته لم ييئسهم من المغفرة ».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وطعن بعض الناس في هذا القول بأن خبر، والأخبار لا تنسخ». وهذا غير لازم، لأن الآية لفظها الخبر، ومعناه تقرير حكم شرعي، فهي نحو قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} ونحو قوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} وإنما يضعف القول بالنسخ من حيث تنبني الآيتان ولا يحتاج إلى تقرير نسخ، لأن هذه الآية لم تنف أن يغفر للعاصي الذي لم يتب من قريب، فنحتاج أن نقول، إن قوله: {ويغفر ما دون ذلك} نسخها وإنما نفت هذه الآية أن يكون تائبا من لم يتب إلا مع حضور الموت، فالعقيدة عندي في هذه الآيات: أن من تاب من قريب فله حكم التائب فيغلب الظن عليه أنه ينعم ولا يعذب، هذا مذهب أبي المعالي وغيره، وقال غيرهم: بل هو مغفور له قطعا، لإخبار الله تعالى بذلك، وأبو المعالي يجعل تلك الأخبار ظواهر مشروطة بالمشيئة، ومن لم يتب حتى حضره الموت فليس في حكم التائبين، فإن كان كافرا فهو يخلد، وإن كان مؤمنا فهو عاص في المشيئة، لكن يغلب الخوف عليه، ويقوي الظن في تعذيبه، ويقطع من جهة السمع أن من هذه الصنيفة من يغفر الله له تعالى تفضلا منه ولا يعذبه.
وأعلم الله تعالى أيضا أن الّذين يموتون وهم كفّارٌ فلا مستعتب لهم ولا توبة في الآخرة، وقوله تعالى:{ أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً} إن كانت الإشارة إلى الذين يموتون وهم كفار فقط، فالعذاب عذاب خلود، وإن كانت الإشارة إليهم وإلى من ينفذ عليه الوعيد، ممن لا يتوب إلا مع حضور الموت من العصاة فهو في جهة هؤلاء، عذاب ولا خلود معه، وأعتدنا معناه: يسرناه وأحضرناه، وظاهر هذه الآية أن النار مخلوقة بعد). [المحرر الوجيز: 2/496-497]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وليست التّوبة للّذين يعملون السّيّئات حتّى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن} وهذا كما قال تعالى: {فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنّا باللّه وحده وكفرنا بما كنّا به مشركين. فلم يك ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا بأسنا} الآيتين، وكما حكم تعالى بعدم توبة أهل الأرض إذا عاينوا الشّمس طالعةً من مغربها كما قال تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربّك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا}.
وقوله: {ولا الّذين يموتون وهم كفّارٌ} الآية يعني: أنّ الكافر إذا مات على كفره وشركه لا ينفعه ندمه ولا توبته، ولا يقبل منه فديةٌ ولو بملء الأرض ذهبًا.
قال ابن عبّاسٍ، وأبو العالية، والرّبيع بن أنسٍ: {ولا الّذين يموتون وهم كفّارٌ} قالوا: «نزلت في أهل الشّرك».
وقال الإمام أحمد: حدّثنا سليمان بن داود، حدّثنا عبد الرّحمن بن ثابت بن ثوبان، قال: حدّثني أبي، عن مكحولٍ: أنّ عمر بن نعيمٍ حدّثه عن أسامة بن سلمان: أنّ أبا ذرٍّ حدّثهم: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال:«إنّ اللّه يقبل توبة عبده -أو يغفر لعبده-ما لم يقع الحجاب». قيل: وما وقوع الحجاب؟ قال: «أن تخرج النّفس وهي مشركة » ؛ ولهذا قال تعالى: {أولئك أعتدنا لهم عذابًا أليمًا} أي: « موجعا شديدا مقيما »).[تفسير القرآن العظيم: 2/238]
* للاستزادة ينظر: هنا