حرّر القول في القراءات في قول الله تعالى: {وكأيّن من نبيّ قاتل معه ربيّون كثير} وإسناد الفعل في كل قراءة.
*المراجع:
-[سنن سعيد بن منصور: 3/1094-1097] ت227هـ.
-[جامع البيان للطبري: 6/109-116] ت310هـ.
- ]الحجة في القراءات السبع لابن خالويه: ج1/114, دار الشروق – بيروت, ط 4-1401هـ[ ت370هـ.
-[المحرر الوجيز لابن عطية: 2/375-382] ت546هـ.
-[الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ج4/229-230, دار الكتب المصرية, ط2-1384هـ]ـ ت671هـ.
*تنبيه:
لم يقتصر اطلاعنا على المراجع المذكورة أعلاه فقط, بل اطلعنا على كل ما ورد في جمهرة التفاسير, بالإضافة للكثير من الكتب المختصة بالقراءات, ولكننا لم نوثقها في المراجع لأننا لم نستفد منها إضافة لمعنى جديد, أو تقوية لإسناد, أو ترجيحا لرأي, أو استحسانا لتوجيه, فجل ما ورد فيها هو نفسه ما ورد في هذه المراجع, دون تبيين لقول أو توضيح له أو ترجيح, لذا اكتفينا بهذه المراجع لأهميتها وشموليتها وكفايتها عن غيرها:
*استخلاص الأقوال وتصنيفها ونسبتها وتخريجها وتوجيهها:
بسم الله الرحمن الرحيم, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, وبعد:
فإن القراءات في قوله تعالى :"وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير" اختلفت, واختلف معها إسناد الفعل في كل قراءة, وسنستعرض بإذن الله الاختلافات الواردة في قراءاتها, وتوجيه كل قراءة وتوضيح إسناد الفعل في كل منها:
-القراءة الأولى: "قاتل" بفتح القاف والألف. وهي قراءة ابن مسعود, وسعيد بن جبير, وإبراهيم, والحسن, كما روى ذلك سعيد بن منصور, وهي قراءة جماعةٍ من قرّاء الحجاز والكوفة, كما ذكر ذلك الطبري, وقرأ بها ابن عامر واختارها أبو عبيد, كما ذكر ذلك القرطبي.
*التخريج:
رواية ابن مسعود: رواها سعيد بن منصور في سننه عن عتّاب بن بشيرٍ، قال: نا خصيف، عن زياد بن أبي مريم، وأبي عبيدة، عن ابن مسعودٍ, وذكر قوله.
رواية سعيد بن جبير: رواها سعيد بن منصور عن عتّاب، عن خصيف، عن سعيد بن جبيرٍ, وذكر قوله.
رواية إبراهيم: رواها سعيد بن منصور في سننه عن عوفٌ، عن إبراهيم, وذكر قوله.
رواية الحسن: رواها سعيد بن منصور في سننه عن هشيمٌ، قال: نا عوفٌ، عن الحسن, وذكر قوله.
*توجيه من قرأ بهذه القراءة:
فأمّا من قرأ {قاتل} فإنّه اختار ذلك لأنّه قال: لو قتلوا لم يكن لقوله: {فما وهنوا} وجهٌ معروفٌ؛ لأنّه يستحيل أن يوصفوا بأنّهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا, كما قال بذلك ابن مسعود. ووجه ابن جبير اختياره بقوله: ما سمعنا قط أن نبيا قتل في القتال. روى الأقوال سعيد بن منصور في سننه, وذكرها الطبري. وعلل أبو عبيد اختياره لهذه القراءة بقوله: إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَمِدَ مَنْ قَاتَلَ كَانَ مَنْ قُتِلَ دَاخِلًا فِيهِ، وَإِذَا حَمِدَ مَنْ قُتِلَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ غَيْرُهُمْ، فَقَاتَلَ أَعَمُّ وَأَمْدَحُ. ذكره القرطبي.
*إسناد الفعل في هذه القراءة:
إسناد الفعل للربّيّين ، لأنه حديث عنهم. ذكره ابن خالويه, وابن عطية واستحسنه بناء على هذه القراءة.
-القراءة الثانية: "قتِل" بضم القاف, وكسر التاء المخففة, قرأ بها ابن كثير وأبو عمرو ونافع, كما ذكر ذلك ابن عطية, وقراءة يعقوب وابن عباس, واختارها أبو حاتم, كما ذكر ذلك القرطبي, وهي قراءة جماعة من قراء الحجاز والبصرة, كما ذكر ذلك الطبري ورأى أنها الأولى بالصواب, واستحسن رأيه ابن عطية.
*توجيه القراءة:
-أن المعني بالقتل هنا النبي, ويدخل معه بعض من قتل من الربيين دون جميعهم, ونفي الوهن والضعف هو عمن بقي منهم ممن لم يقتل, لأنّ اللّه عزّ وجلّ إنّما عاتب بهذه الآية، والآيات الّتي قبلها, كقوله: "وما محمد إلا رسول .... أفإن مات أو قتل", وقوله: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم اللّه الّذين جاهدوا منكم" الّذين انهزموا يوم أحدٍ، وتركوا القتال، ثمّ أخبرهم عمّا كان من فعل كثيرٍ من أتباع الأنبياء قبلهم من الصبر وعدم الوهن والضعف والبقاء على موقفهم حتى يحكم الله بينهم وبين القوم الظالمين. ذكر ذلك الطبري ورجحه, وأشار إلى نحوه ابن خالويه, وابن عطية واستحسنه.
-أن المعني بالقتل الربيون, وأن الكلام موجه لمن بقي منهم ممن لم يقتل, ويقال في الكلام الموجه لهم ما قيل فيما ذكرنا أعلاه, والذي ذكره الطبري, إلا أن القتل هنا مقصور على الربيين والكلام موجه للبقية منهم, بينما في القول الأول أن المعني بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين, والكلام موجه لمن بقي منهم. ذكر ذلك ابن خالويه, والقرطبي واستحسنه, لأنه أَشْبَهُ بِنُزُولِ الْآيَةِ وَأَنْسَبُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقْتَلْ، وَقُتِلَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ.
*إسناد الفعل:
-إسناد الفعل هنا للنبي. ذكر ذلك ابن خالويه, والقرطبي, واختاره الطبري, واستحسنه ابن عطية.
-إسناد الفعل هنا إلى من قتل من الربيين. ذكره ابن عطية, والقرطبي واستحسنه.
-القراءة الثالثة: "قتِّل" بضم القاف, وكسر التاء مشددة على التكثير, قرأها قتادة, وذكر ذلك ابن عطية.
*توجيه القراءة:
أن المراد كم من نبي قتل معه ربيون كثير, فالقتل هنا مسند للربيين, لأن الفعل جاء بالتشديد الذي يدل على الكثرة, وأن المراد بعدم الوهن والضعف هو البقية ممن لم يقتل.
*إسناد القراءة:
لا يحسن أن يسند الفعل إلا إلى الربيين، لما فيه من معنى التكثير الذي لا يجوز أن يستعمل في قتل شخص واحد. قال بذلك أبو الفتح, وذكره ابن عطية.
*دراسة الأقوال ونقدها وبيان الراجح:
ينبغي أن يعرف في تعاملنا مع القراءات أن المنهج الذي نعمل به, هو أن القراءات ما اختلفت إلا من باب الإعجاز البياني, الذي ينتج عنه تنوع المعاني دون تناقضها, بل بعضها يصدق بعضا, لذا فإن اختيار قول بأنه هو الصواب دون غيره, نرى برؤيتنا القاصرة أنه ليس هو الصواب, فما دامت القراءات وردت متنوعة, فإننا نأخذ بتنوعها وتنوع المعاني التي نتجت عنها, لذا فإننا نميل إلى أن المعنى يدخل فيه مدح من صبر من بقية الربيين الذين قتل نبيهم, أو قتل جلهم, أو مدح للصورة عامة, صورة النبي الذي يقاتل ومعه الربيون, ويصبرون على ما يعرض لهم من القتل والجراح, فيكون المدح لصورة القتال عامة, فكل هذه المعاني صحيحة وممدوحة بلا شك, فلماذا نقصر المعنى على أحدها ما دامت القراءات تنوعت؟.
بقي أن نشير إلى أنه من باب تقوية هذا الرأي, فإننا يجب أن نرد على من وجه قوله بما يمتنع مع قولنا, فدل كلامه على اقتصار المعنى على قوله دون غيره, فنقول:
-قول من قال: أن الصحيح "قاتل" وأن السبب أنهم لو قتلوا لم يكن لقوله "فما وهنوا" وجه معروف, فالرد عليه: أن قوله "فما وهنوا" موجه لمن بقي منهم.
-ومن قال: ما سمعنا قط أن نبيا قتل, نقول: أنها حجة غير مقبولة, وهل يشترط سماعنا بذلك حتى يصح المعنى؟ طبعا لا يشترط, ناهيك عن أن هذه الآية هي أصلا الخبر في ذلك, ناهيك عن أن كثيرا من الآيات التي وردت في بني إسرائيل ذكرت قتلهم للأنبياء, وقد يكون ذلك في صورة معركة, لا بالضرورة في أحداث فردية.
-ومن قال: أن قاتل أعم وأمدح, نقول: أن العمومية والشمول وكون الآية بهذا المعنى شاملة في مدحها قد لا تكون بالضرورة مقصدا مهما بقدر توضيح تعرض هؤلاء الأقوام للقتل, بل وأنبياؤهم, ومع ذلك صبروا, فانظروا إلى الحال الذي وصلوا إليه مما لم تصلوا إليه بعد! بل قد يكون تخصيص المدح لمن صبر مقصود, لغرض الآية بحثِّ من بقي ولم يقتل على الصبر وعدم الوهن, ويعلم بمفهوم الخطاب أن المدح يشمل من قتل من باب أولى, وإن كان في المقام الأول مدح لمن بقي وصبر, والسبب في مدحهم بالمقام الأول, هو لأن المخاطب في الآيات هم الصحابة الذين بقوا أحياء وشهدوا ما شهدوا, فشابهوا هؤلاء فيما تعرضوا له, لا من قتل واستشهد, فالخطاب لهم, وذكر المثال هو من باب رفع هممهم.
-وأما من استحسن وقوع معنى الآية على بعض الربيين دون نبيهم, وذلك لمشابهة هذا المشهد لمشهد الصحابة آنذاك, إذ قتل منهم جماعة وبقي منهم من بقي مع رسول الله, فإننا نقول: سياق الآيات هو من يرد عليك, فالقارئ للآيات التي تتحدث عن إمكانية قتل الرسول "وما محمد إلا رسول ... أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم", وأن الواجب في التعامل مع هذه المصيبة هو الصبر وتقبل موته إذ يجري عليه ما يجري على غيره, يبين لك أن المقام مقام وعظ وتذكير بحدوث ما خشي المؤمنون حدوثه مع الأقوام السابقة, ولا نقول بعدم وجاهة هذا الرأي أبدا, ولكننا نبين أننا كذلك نستطيع أن نثبت عكسه, مما يدل على قبولية الآية لتعدد المعاني.
*وردنا على هذه الأقوال لا يعني مخالفة قائليها في عدم صحة ما مالوا إليه, بل رد على حججهم التي بها قصروا المعنى على آرائهم, ولم يفسحوا مجالا لمعاني أخرى لتدخل تحت هذه الآية الكريمة.
هذا وعفا الله عن تقصيرنا, وغفر لنا زلاتنا, ورزقنا الهداية لمعرفة الحق, والقيام بأوامره, واجتناب نواهيه, لا مجرد العلم بلا عمل, والمعرفة بلا توفيق, ربنا اغفر لنا ذنوبنا, وإسرافنا في أمرنا, وثبت أقدامنا, وانصرنا على القوم الكافرين.. وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.