سيرة قتادة بن دعامة:
هو أبي الخطاب قتادة بن دعامة بن قتادة يبلغ نسبة إلى سدوس والذين يبلغ نسبهم إلى بني بكر، ثم إلى ربيعة بن نزار بن عدنان، فهو عربي صلباً عن صلب، وليس من الموالي، قيل إنه ولد سنة 60، وقيل: 61، وقد كان أكمه لا يبصر.
وأما بالنسبة لعلمه، فهو قد نشأ في البصرة وجالس فيها أنس بن مالك رضي الله عنه، ثم جالس الحسن البصري وأطال في مجالستهما حتى أخذ منهما علماً غزيراً، ثم انتقل إلى المدينة وجالس فيها سعيد بن مسيب ثمانية أياماً يسأله عما يشكل عليه، فأكثر السؤال حتى سأله سعيد بن مسيب: أكل ما سألتني عنه تحفظه؟ فقال: نعم وسرد عليه ما سأله وما أجاب به، فقال سعيد: (ما كنت أظن أن الله خلق مثلك)، وقد كان قد درس تلك المسائل سابقاً عند الحسن وغيره، وقد جاور بمكة وقد قرأت عليه صحيفة جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرة واحدة فحفظها وحدث بها، وهذا يقودنا إلى الحديث عن حفظه وضبطه الذي كان آية فيه، فقد كان لا يكاد ينسى ما سمع مع استيعابه وتفهمه، وقد قيل بأنه أحفظ من في زمانه، ولم يكتف قتادة بحفظ المرويات وروايتها، بل كان أيضاً مفسراً وفقيهاً ومفتياً وعالماً بالعربية والأنساب والتاريخ.
ومن مروياته في التفسير أنه قال سعيد عن قتادة: ((إني جاعلك للناس إماماً) قال: يقتدى بهداك وسنتك)، ومن أقواله التي قالها وشاعت بين الناس وتدل على فقهه وعلمه وسعة اطلاعه: (الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر)، وقوله: (ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الارجاء) كما رواه الاوزاعي عنه وعن يحيى بن أبي كثير.
ومما يدل على فقهه، أنه كان يقيس على قول سعيد بن مسيب ثم يرويه عنه، وهذا جائز بشرط أن تدل العبارة على أن القول مستخرج وليس منصوص، وهذا لا يعني بأنه كان يقول برأيه في المسائل التي تطرأ عليه، بل كان ورعاً كغيره من العلماء ولا يجد غضاضة من أن يقول: لا أدري لمسألة ليس لديه علم فيها.
وكان قتادة عالماً بالقرآن وقد قال: (ما في القرآن آية إلا سمعت فيها بشيء)، وكان يدرس القرآن في رمضان، أما بالنسبة لورده فقد كان يختم القرآن في سبعة أيام، وفي رمضان في ثلاثة أيام، وفي العشر الأواخر في كل ليلة، وهو مع علمه الغزير ما زال متعلماً حتى مات.
مع ذلك هناك أمور انتقدها العلماء في قتادة مع علمه وفضله، وهي ثلاثة أمور:
الأمر الأول: هو قوله بالقدر، وذلك بسبب شبهة عرضت له في وقت انتشار القول به في البصرة، فقد قال: كل شيء بقدر الله إلا المعاصي، من غير أن ينفي علم الله بالمعصية قبل وقوعها كما يقول القدرية نفاة العلم، فقوله أخف مرتبة من قول أولئك، وقد كان يظهر قوله بالقدر ولا يخفيه، ومن أهل العلم كان يقول بأنه كان لا يدعو إليه، ومع ذلك أنكر عليه أهل العلم حتى هجره بعضهم كطاووس، وترك مالك لأحاديثه، ولكن الصحيح أن يأخذ بروايته ويحتج بها فهو غير متهم في روايته إذا صرح بالسماع، وهذا ما استقر إجماع الأئمة.
وقد قلت إذا صرح بالرواية لأن الأمر الثاني الذي استنكر عليه هو تدليسه: فهو قد يدلس ويسقط الواسطة بين المحدثين بصيغة ليس فيها تصريح بالسماع، وقد يكون الساقط ضعيفاً، وقد حدث عن 30 رجلاً لم يسمع منهم، وإن صرح بالسماع فهو ثقة.
الأمر الثالث: تحديثه عن الضعفاء، فقد كان بجانب تحديثه عن الكثير من الثقات يحدث عن بعض الضعفاء الذي لم يكد يسلم منه أحد إلا قلة من المحدثين، لخفاء حالهم.
وأما وفاته، فقد توفي بواسط في الطاعون، وقد كان عند خالد بن عبد الله القسري، وقد اختلف في سنة وفاته على قولين: إما 117ه، وإما 118ه، والأول هو الأرجح، فإن كان قد ولد سنة 60ه فله 57 سنة، وإن كان ولد سنة 61ه فله 56 سنة.
وقد روى عن أنس بن مالك وأبو الطفيل وأبو رافع وعبد الله بن سرجس من الصحابة، وأرسل عن علي وابن عباس وعمران بن حصين وأبي سعيد الخدري وغيرهم، وكذلك روى عن سعيد بن مسيب وأبو العالية والشعبي والحسن البصري وسعيد بن جبير وغيرهم من التابعين.
وروى عنه خلق كثير، وأشهرهم سعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائي وشعبة بن الحجاج وغيرهم.
الفوائد:
-أن العلم لا يؤخذ من مكان واحد ولا من شخص واحد.
-أن القول والاعتقاد بالفكر السائد في زمان ما قد يبرر لصاحبه قوله بذلك، إن كان من الأئمة وقد كثر صوابه وظهر تحريه للحق وعرف بصلاحه وورعه، ولا يمنعنا قوله هذا من الأخذ من علمه في غير بدعته وضلاله.
-أهمية التثبت عند الأخذ، فلا يؤخذ من كل أحد، بل لابد من السؤال عن حاله قبل الأخذ، وإن أخذنا عمن لا يؤخذ عنه ثم تبين لنا ذلك، توقفنا عن الأخذ عنه.
-أن الإعاقة الجسدية ليست عائقاً أمام الترقي في درجات العلم، بل الإعاقة الحقيقية هي الإعاقة العقلية.
-أن قول العالم الفقيه الجليل القدر ورفيع المنزلة لا أدري لا يعيبه بل يرفع من مكانته.