المجموعة الأولى:
س١:
قوله تعالى
(عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10))
في هذه الآيات يعاتب الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك بسبب أنه (عبَسَ وتولى) أي كَلَح بوجهه وتولى وأعرض ببدنه ، وذلك لأجل (أن جاءه الأعمى) وهو عبد الله بن أم مكتوم ، وكان رجلا أعمى، جاء مقبلا إلى النبي صلى الله عليها وسلم ليسأله، وعنده رجال من أشراف قريش يدعوهم طمعا في إسلامهم ، ورجاء ان يحصل الخير الكثير بهدايتهم، فكره أن يقطع عليه بن أم مكتوم كلامه فأعرض عنه .. فعاتبه ربه على ذلك ، وأخبره أنما العلم عند الله وحده فقال (وما يدريك لعله يزكى) أي ما يدريك يا محمد وما يعلمك، لعل هذا الأعمى الذي أعرضت عنه ، لعله بإقبالك عليه وتعليمك له، تزكو نفسه وتعلو وتتطهر بالعمل الصالح والأخلاق الحميدة والبعد عن السيئات
(أو يَذَّكَّرُ فتنفعه الذكرى) أو لعله يذكر وينتفع بتذكيرك له ويعمل بما علمته ، ويتعظ بهذه الذكرى فتكون زاجرة له وناهية عن الأخلاق السيئة وعن كل ما حرم الله ..
وذلك هو المقصود الأعظم من دعوة الأنبياء والرسل، وسبيل المصلحين ..
وقد قال الله تعالى (فذكر إن نفعت الذكرى * سيذكر من يخشى* ويتجنبها الأشقى)
فمن الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومن سلك نهجه من الدعاة والمصلحين ، أن يهتموا بمن جاء مقبلًا يريد الخير ، ويحرص على العلم أزيد من غيره، وألا يؤثروا عليه من أعرض أو رغب عن العلم أو استغنى وزهد فيه ...
واستفاد العلماء من هذه الآيات قاعدة مهمة ، وهي أنه (لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم، ولا مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة)
وما أحسن تأديب رب العالمين فيقول لنبيه معاتبا ومعلمًا (أما من استغنى* فأنت له تصدى )
أي تقبل على هؤلاء القوم ، أصحاب الغنى والثروة ، تقبل على الواحد منهم ببدنك ووجهك وحديثك، مع أنه يظهر الإعراض عنك ، والاستغناء عما جئت به والزهد فيه (وما عليك ألّا يزَّكّى) أي أنك غير مطالب بهدايتهم وتزكيتهم ، وإنما عليك البلاغ المبين (وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى )
وأما هذا الأعمى الذي جاءك مسرعًا ، مقبلًا إليك ، راغبًا أن تذكره بالله وتعلمه ما عندك من الخير ، وقلبه ممتلئ خشية وخوفا من الله تعالى (فأنت عنه تلهى)
فإنك تتشاغل عنه وتتغافل وتعرض ، وأنت لا تعلم ما كان يحصل له من الخير بتذكيرك إياه ، لذلك انشغل بتبليغ دعوتك بلاغا مبينا لكل أحد ، لا تفرق فيه بين قوي وضعيف، وعبد وسيد ، وغني وفقير ، ورجل وامرأة، والله وحده يعلم ما في قلوبهم وهو يهدي من يشاء إلى الصراط المستقيم
الفوائد السلوكية من الآيات :
1 - الاهتمام بمن جاء مقبلا إلى الله ، طالبًا للعلم والخير ، والإقبال عليه وتيسير ذلك له
٢- عدم ترك أمر معلوم لأمر موهوم ، ولا مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة
٣- الداعية ليس عليه إلا البلاغ المبين لكل أحد سواء في ذلك الغنى والفقير ، السيد والعبد ، مع عدم التفرقة في دعوته، على أساس مظهر من مظاهر الدنيا
٤ - ترك الحكم على الناس من ظواهرهم ، وإيكال هذا الأمر إلى الله وحده الذي يعلم الظاهر والباطن، فربَّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لا يؤبه له ، يكون خيرا عند الله من كثير من الشرفاء والملوك
س٢:
تحرير القول في المراد بالنازعات من قوله تعالى (والنازعات غرقًا) :
ورد في المراد بالنازعات أقوال :
القول الأول : الملائكة ، حين تنزع أرواح بني آدم، وهو قول ابن مسعود وابن عباس ومسروق وسعيد بن جبير وأبو صالح وأبو الضحى والسُدي ، ذكره عنهم ابن كثير وذكره أيضا السعدي والأشقر.
القول الثاني: هي أنفس الكفار، تنزع ، ثم تنشط، ثم تغرق في النار، وهو ابن أبي حاتم، ذكره ابن كثير .
القول الثالث : الموت ، وهو قول مجاهد، وذكره ابن كثير.
القول الرابع : النجوم ، وهو قول الحسن وقتادة، وذكره ابن كثير.
القول الخامس: هي القسيّ في القتال ، وهو قول عطاء بن أبي رباح ، وذكره ابن كثير.
والقول الأول هو الصحيح ، وعليه الأكثرون، ذكر ذلك ابن كثير.
س٣:
أ-صفات الملائكة التي أقسم الله بها في أول سورة النازعات :
1 - نزع أرواح العباد من أجسادهم، ويكون نزع أرواح الكفار بعسر وإغراق في النزع , وهو قوله تعالى ( والنازعات غرقًا) .
أما أرواح المؤمنين فتجذبها الملائكة بسهولة ورفق ونشاط , وهو قوله تعالى (والناشطات نشطًا)
وقال السعدي : أن النزع قد يكون لأرواح المؤمنين , والنشط لأرواح الكفار
٢- التردد في الهواء صعودا ونزولا لأمر الله (والسابحات سبحًا)
٣-السبق والمبادرة لأمر الله ، وسبق الشياطين في إيصال الوحي إلى الرسل ، أو السبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة (فالسابقات سبقًا)
٤- تدبيرهم الأمور التي وكلهم الله بها ، فإن الله وكلهم أن يدبروا كثيرا من أمور العالم العلوي والسفلي، من الأمطار، والنبات ، والرياح والبحار ، والأشجار ،والأجنة، والحيوانات والنار وغير ذلك من مصالح العباد,وأيضًا نزولها بالحلال والحرام وتفصيلهما (فالمدبرات أمرًا)
قِيلَ: وَتَدْبِيرُ أَمْرِ الدُّنْيَا إِلَى أَرْبَعَةٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ: جِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وعَزْرَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ.فَأَمَّا جِبْرِيلُ فَمُوَكَّلٌ بالرِّياحِ والجنودِ، وَأَمَّا مِيكَائِيلُ فَمُوَكَّلٌ بالقَطْرِ والنباتِ، وَأَمَّا عَزْرَائِيلُ فَمُوَكَّلٌ بِقَبْضِ الأَنْفُسِ، وَأَمَّا إِسْرافيلُ فَهُوَ يَنْزِلُ بالأَمْرِ عَلَيْهِمْ)
ب- المراد بالراجفة والرادفة:
الراجفة والرادفة هما النفختان الأولى والثانية .
قال تعالى :
(يوم ترجف الرّاجفة ) فالراجفة: هي النفخة الأولى، التي يموت بها جميع الخلائق
{تتبعها الرّادفة} والرادفة: هي الرجفة الثانية التي يكون عندها البعث ، فهي تردف الأولى وتتبعها.
وهذا حاصل كلام ابن كثير والسعدي والأشقر .
والدليل على هذا حديث الطّفيل بن أبيّ بن كعبٍ عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وآله وسلّم: (جاءت الرّاجفة تتبعها الرّادفة، جاء الموت بما فيه). فقال رجلٌ: يا رسول اللّه، أرأيت إن جعلت صلاتي كلّها عليك؟ قال: (إذن يكفيك اللّه ما أهمّك من دنياك وآخرتك).
وفي لفظ آخر: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا ذهب ثلثا اللّيل قام فقال: (يا أيّها النّاس اذكروا اللّه، جاءت الرّاجفة تتبعها الرّادفة، جاء الموت بما فيه)
ج-المراد بالسبيل في قوله تعالى (ثم السبيل يسره) :
أي : يسر له طريق الخروج من بطن أمه .
أو يسر له الأسباب الدينية والدنيوية , ويسر له الطريق إلى تحصيل الخير أو الشر وبينه له ووضحه , وهو في هذا ممتحن مختبر .
فهو كقوله تعالى (إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا) , وهذا القول قال ابن كثير أنه القول الأرجح