مُقَدِّمَةٌ
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِبُلُوغِ المَرَامِ مِنْ خِدْمَةِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَتَفَضَّلَ عَلَيْنَا بِتَيْسِيرِ الوُصُولِ إلَى مَطَالِبِهَا العَلِيَّةِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ شَهَادَةً تُنْزِلُ قَائِلَهَا الغُرَفَ الأُخْرَوِيَّةَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي بِاتِّبَاعِهِ يُرْجَى الفَوْزُ بِالمَوَاهِبِ اللَّدُنِّـيَّةِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ الَّذِينَ حُبُّهُمْ ذَخَائِرُ العُقْبَى وَهُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ.
وَبَعْدُ، فَهَذَا شَرْحٌ لَطِيفٌ عَلَى بُلُوغِ المَرَامِ، تَأْلِيفِ الشَّيْخِ العَلَّامَةِ القاضي شَيْخِ الإِسْلامِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَجَرٍ أَحَلَّهُ اللَّهُ دَارَ السَّلامِ، اخْتَصَرْته عَنْ شَرْحِ القَاضِي العَلَّامَةِ شَرَفِ الدِّينِ الحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ المَغْرِبِيِّ- أَعْلَى اللَّهُ دَرَجَاتِهِ فِي عِلِّيِّينَ- مُقْتَصِراً عَلَى حَلِّ أَلْفَاظِهِ وَبَيَانِ مَعَانِيهِ قَاصِداً بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، ثُمَّ التَّقْرِيبَ لِلطَّالِبِينَ فِيهِ وَالنَّاظِرِينَ، مُعْرِضاً عَنْ ذِكْرِ الخِلافَاتِ وَالأَقَاوِيلِ، إلَّا أَنْ يَدْعُوَ إلَيْهِ مَا يَرْتَبِطُ بِهِ الدَّلِيلُ، مُتَجَنِّباً لِلْإِيجَازِ المُخِلِّ وَالإِطْنَابِ المُمِلِّ.
وَقَدْ ضَمَمْتُ إلَيْهِ زِيَادَاتٍ جَمَّةً عَلَى مَا فِي الأَصْلِ مِن الفَوَائِدِ؛ وَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي المَعَادِ مِنْ خَيْرِ العَوَائِدِ، فَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الوَكِيلُ، وَعَلَيْهِ فِي البِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ التَّعْوِيلُ.
(الحَمْدُ لِلَّهِ) افْتَتَحَ كَلامَهُ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى امْتِثَالاً لِمَا وَرَدَ فِي البدايةِ بِهِ مِن الآثَارِ، وَرَجَاءً لِبَرَكَةِ تَأْلِيفِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ مَنْزُوعُ البَرَكَةِ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الأَخْبَارُ، وَاقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ المُبِينِ، وَسُلُوكَ مَسْالكِ العُلَمَاءِ المُؤَلِّفِينَ.
قَالَ المُنَاوِيُّ فِي (التَّعْرِيفَاتُ) فِي حَقِيقَةِ الحَمْدِ: إنَّ الحَمْدَ اللُّغَوِيَّ: الوَصْفُ بِفَضِيلَةٍ عَلَى فَضِيلَةٍ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ بِاللِّسَانِ. وَالحَمْدَ العُرْفِيَّ: فِعْلٌ يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِ المُنْعِمِ لِكَوْنِهِ مُنْعِماً. وَالحَمْدَ القَوْلِيَّ: حَمْدُ اللِّسَانِ وَثَنَاؤُهُ عَلَى الحَقِّ بِمَا أَثْنَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ. وَالحَمْدَ الفِعْلِيَّ: الإِتْيَانُ بِالأَعْمَالِ البَدَنِيَّةِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَذَكَرَ الشَّارِحُ التَّعْرِيفَ المَعْرُوفَ لِلْحَمْدِ بِأَنَّهُ لُغَةً: الوَصْفُ بِالجَمِيلِ عَلَى الجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ. وَاصْطِلاحاً: الفِعْلُ الدَّالُّ عَلَى تَعْظِيمِ المُنْعِمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُنْعِمٌ، وَاصِلَةٌ تِلْكَ النِّعْمَةُ أَوْ غَيْرُ وَاصِلَةٍ؛ وَاللَّهُ، هُوَ اسمٌ للذَّاتِ الوَاجِبُ الوُجُودِ المُسْتَحِقُّ لِجَمِيعِ المَحَامِدِ.
(عَلَى نِعَمِهِ) جَمْعُ: نِعْمَةٍ؛ قَالَ الرَّازِيُّ: النِّعْمَةُ: المَنْفَعَةُ المَفْعُولَةُ عَلَى جِهَةِ الإِحْسَانِ إلَى الغَيْرِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: النِّعْمَةُ مَا قَصَدْتَ بِهِ الإِحْسَانَ فِي النَّفْعِ؛ وَالإِنْعَامُ: إيصَالُ الإِحْسَانِ الظَّاهِرِ إلَى الغَيْرِ.
(الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ) مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِه تَعَالَى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}. وَقَدْ أَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبُ الإِيمَانِ) عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِه تَعَالَى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}، قَالَ: هَذَا مِنْ كُنُوزِ عِلْمِي؛ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ((أَمَّا الظَّاهِرَةُ فَمَا سَوَّى مِنْ خَلْقِك، وَأَمَّا البَاطِنَةُ فَمَا سَتَرَ مِنْ عَوْرَتِك، وَلَوْ أَبْدَاهَا لَقَلاَكَ أَهْلُكَ فَمَنْ سِوَاهُمْ)).
وَأَخْرَجَ أَيْضاً عَنْهُ وَالدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ النَّجَّارِ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقَالَ: ((أَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالإِسْلامُ وَمَا سَوَّى مِنْ خَلْقِكَ وَمَا أَسْبَغَ عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ، وَأَمَّا البَاطِنَةُ فَمَا سَتَرَ مِنْ عَمَلِك)).
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ مَوْقُوفَةٍ: النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ الإِسْلامُ، وَالبَاطِنَةُ كلُّ ما سَتَرَ عَلَيْك مِن الذُّنُوبِ وَالعُيُوبِ وَالحُدُودِ.
أَخْرَجَهَا ابْنُ مَرْدُويَهْ عَنْهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ مَوْقُوفَةٍ أَيْضاً: النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ وَالبَاطِنَةُ هِيَ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. أَخْرَجَهَا عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَتَفْسِيرُهُمَا مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ: {نِعَمَهُ ظَاهِرَةً}: هِيَ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَلَى اللِّسَانِ، {وَبَاطِنَةً}. قَالَ: فِي القَلْبِ. أَخْرَجَهَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَفَسَّرَهُمَا الشَّارِحُ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَرَأَيْنَا التَّفْسِيرَ المَرْفُوعَ, وَتَفْسِيرَ السَّلَفِ أَوْلَى بِالِاعْتِمَادِ.
(قَدِيماً وَحَدِيثاً) مَنْصُوبَانِ عَلَى أَنَّهُمَا حَالانِ مِنْ (نِعَمِهِ)، وَلَمْ يُؤَنَّثْ؛ لِأَنَّ الجَمْعَ لَمَّا أُضِيفَ صَارَ لِلْجِنْسِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَلَى جِنْسِ نِعَمِهِ. وَيَحْتَمِلُ النَّصْبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَأَنَّهُمَا صِفَةٌ لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: زَمَاناً قَدِيماً وَحَدِيثاً.
وَالقَدِيمُ: ما تَقَدَّمَ زَمَنُه على الزمنِ, والحديثُ: ما حَضَرَ مِنه, ونِعَمُ الربِّ تعالى قديمةٌ عَلَى عَبْدِهِ مِنْ حِينَ نَفَخَ فيه الرُّوحَ فِيهِ، ثُمَّ فِي كُلِّ آنٍ مِنْ آنَاتِ زَمَانِهِ، فَهِيَ مُسْبَغَةٌ عَلَيْهِ فِي قَدِيمِ زَمَانِهِ وَحَدِيثِهِ، وَحَالَ تَكَلُّمِهِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِقَدِيمِ النِّعَمِ: الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الآبَاءِ؛ فَإِنَّهَا نِعَمٌ عَلَى الأَبْنَاءِ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بَنِي إسْرَائِيلَ بِذِكْرِ نِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى آبَائِهِمْ فَقَالَ: {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} الآيَاتِ، فِي مَوَاضِعَ مِن القُرْآنِ.
أَشَارَ إلَيْهِ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ} الآيَةَ، وَالتِّلاوَةُ (نِعْمَتِي) فَكَأَنَّهُ سَبْقُ قَلَمٍ، وَيُرَادُ بِالحَدِيثِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ مِنْ حِينَ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، فَهِيَ حَادِثَةٌ نَظَراً إلَى النِّعْمَةِ عَلَى الآبَاءِ.
(وَالصَّلاةُ) عَطْفُ اسْمِيَّةٍ عَلَى اسْمِيَّةٍ، وَهَلْ هُمَا خَبَرِيَّتَانِ أَوْ إنْشَائِيَّتَانِ؟
فِيهِ خِلافٌ بَيْنَ المُحَقِّقِينَ، وَالحَقُّ أَنَّهُمَا خَبَرِيَّتَانِ لَفْظاً يُرَادُ بِها(1) الإِنْشَاءُ.
وَلَمَّا كَانَت الكمَالاتُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ وَمَا فِيهِ صَلاحُ المَعَاشِ وَالمَعَادِ فَائِضَةً مِن الجَنَابِ الأَقْدَسِ عَلَى العِبَادِ بِوَاسِطَةِ هَذَا الرَّسُولِ الكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، نَاسَبَ إرْدَافُ (الحَمْدُ لِلَّهِ) بِالصَّلاةِ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمِ لِذَلِكَ؛ وَامْتِثَالاً للِآيَةِ الكريمةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}؛ وَلِحَدِيثِ:((كُلُّ كَلامٍ لا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَلا يُصَلَّى فِيهِ عَلَيَّ فَهُوَ أَقْطَعُ أَكْتَعُ مَمْحُوقُ البَرَكَةِ)). ذَكَرَهُ فِي الشَّرْحِ وَلَمْ يُخَرِّجْهُ، وَفِي (الجَامِعُ الكَبِيرُ) أَنَّهُ أَخْرَجَهُ الدَّيْلَمِيُّ وَالحَافِظُ عَبْدُ القَادِرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّهَاوِيُّ فِي (الأَرْبَعِينَ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَالَ الرَّهَاوِيُّ: غَرِيبٌ تَفَرَّدَ بِذِكْرِ الصَّلاةِ فِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الشَّامِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا لا يُعْتَدُّ بِرِوَايَتِهِ وَلا بِزِيَادَتِهِ؛ انْتَهَى.
وَالصَّلاةُ مِن اللَّهِ لِرَسُولِهِ: تَشْرِيفُهُ وَزِيَادَةُ تَكْرِمَتِهِ، فَالقَائِلُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ. طَالِبٌ لَهُ زِيَادَةَ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِمَةِ. وَقِيلَ: المُرَادُ مِنْهَا: آتِهِ الوَسِيلَةَ، وَهِيَ الَّتِي طَلَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن العِبَادِ أَنْ يَسْأَلُوهَا لَهُ كَمَا يَأْتِي فِي الآذَانِ.
(وَالسَّلامُ) قَالَ الرَّاغِبُ: السَّلامُ وَالسَّلامَةُ: التَّعَرِّي مِن الآفَاتِ البَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، وَالسَّلامَةُ الحَقِيقِيَّةُ لا تَكُونُ إلَّا فِي الجَنَّةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا بَقَاءً بِلا فَنَاءٍ وَغَنَاءً بِلا فَقْرٍ، وَعِزًّا بِلا ذُلٍّ، وَصِحَّةً بِلا سَقَمٍ.
(عَلَى نَبِيِّهِ) يَتَنَازَعُ فِيهِ المَصْدَرَانِ قَبْلَهُ. وَالنَّبِيُّ: مِن النُّبُوَّةِ وَهِيَ الرِّفْعَةُ (فَعِيلٌ) بِمَعْنَى (مُفْعِلٌ)؛ أَي: المُنْبِئُ عَن اللَّهِ بِمَا تَسْكُنُ إلَيْهِ العُقُولُ الزَّاكِيَةُ. وَالنُّبُوَّةُ سِفَارَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ ذَوِي العُقُولِ مِنْ عِبَادِهِ؛ لِإِزَاحَةِ عِلَلِهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ.
(وَرَسُولِهِ) فِي الشَّرْحِ: النَّبِيُّ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ إنْسَانٍ أُنْزِلَ عَلَيْهِ شَرِيعَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِطَرِيقِ الوَحْيِ، فَإِذَا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهَا إلَى الغَيْرِ سُمِّيَ رَسُولاً. وَفِي أَنْوَارِ التَّنْزِيلِ: الرَّسُولُ مَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ بِشَرِيعَةٍ مُجَدِّدَةٍ يَدْعُو النَّاسَ إلَيْهَا، وَالنَّبِيُّ أَعَمُّ مِنْهُ، وَالإِضَافَةُ إلَى ضَمِيرِهِ تَعَالَى فِي (رَسُولِهِ) وَمَا قَبْلَهُ عَهْدِيَّةٌ؛ إذِ المَعْهُودُ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَزَادَهُ بَيَاناً بقَوْلِهِ: (مُحَمَّدٍ) فَإِنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ عَلَى (نَبِيِّهِ) وَهُوَ عَلَمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ (حَمِدَ) مَجْهُولٌ مُشَدَّدُ العَيْنِ، أَيْ: كَثِيرُ الخِصَالِ الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا، فهو يُحْمَدُ أَكْثَرُ مِمَّا يُحْمَدُ غَيْرُهُ مِن البَشَرِ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِن (مَحْمُودٍ)؛ لِأَنَّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِن المَزِيدِ وَذَاكَ مِن الثُّلاثِيِّ، وَأَبْلَغُ مِن (أَحْمَدَ)؛ لِأَنَّهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مُشْتَقٌّ مِن الحَمْدِ.
وَفِيهِ قَوْلانِ: هَلْ هُوَ أَكْثَرُ حَامِدِيَّةً لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ أَحْمَدُ الحَامِدِينَ لِلَّهِ؟ أَوْ هُوَ بِمَعْنَى: أَكْثَرُ مَحْمُودِيَّةً فَيَكُونَ كَمُحَمَّدٍ فِي مَعْنَاهُ؟
وَفِي المَسْأَلَةِ خِلافٌ وَجِدَالٌ، وَالمُخْتَارُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلاً وَقَرَّرَهُ المُحَقِّقُونَ وَأَطَالَ فِيهِ ابْنُ القَيِّمِ فِي أَوَائِلِ زَادِ المَعَادِ.
(وَآلِهِ) وَالدُّعَاءُ لِلْآلِ بَعْدَ الدُّعَاءِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ امْتِثَالاً لِحَدِيثِ التَّعْلِيمِ، وَسَيَأْتِي فِي الصَّلاةِ، وَلِلْوَجْهِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ قَرِيباً.
(وَصَحْبِهِ): اسْمُ جَمْعٍ لِصَاحِبٍ، وَفِي المُرَادِ بِهِمْ أَقْوَالٌ اخْتَارَ المُصَنِّفُ فِي نُخْبَةِ الفِكَرِ أَنَّ الصَّحَابِيَّ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ وَكَانَ مُؤْمِناً وَمَاتَ عَلَى الإِسْلامِ. وَوَجْهُ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الآلِ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ هُوَ الوَجْهُ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الثَّنَاءِ عَلَى الرَّبِّ؛ لِأَنَّهُم الوَاسِطَةُ فِي إبْلاغِ الشَّرَائِعِ إلَى العِبَادِ، فَاسْتَحَقُّوا الإِحْسَانَ إلَيْهِمْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ.
(الَّذِينَ سَارُوا فِي نُصْرَةِ دِينِهِ) هُوَ صِفَةٌ لِلْفَرِيقَيْنِ: الآلِ وَالأَصْحَابِ.
وَالسَّيْرُ هنا يُرَادُ بِهِ الجِدُّ وَالِاجْتِهَادُ والنَّصْرُ. وَالنُّصْرَةُ: العَوْنُ. وَالدِّينُ وَضْعٌ إلَهِيٌّ يَدْعُو أَصْحَابَ العُقُولِ إلَى القَبُولِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَالمُرَادُ أَنَّهُمْ أَعَانُوا صَاحِبَ الدِّينِ المُبَلِّغَ وَهُوَ الرَّسُولُ، وَفِي وَصْفِهِمْ بِهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُم اسْتَحَقُّوا الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ بِذَلِكَ.
(سَيْراً) مَصْدَرٌ نَوْعِيٌّ لِوَصْفِهِ بِقَوْلِهِ: (حَثِيثاً)؛ فَإِنَّ المَصْدَرَ إذَا أُضِيفَ أَوْ وُصِفَ كَانَ لِلنَّوْعِ، وَالحَثِيثُ السَّرِيعُ كَمَا فِي القَامُوسِ، وَفِي نُسْخَةٍ (فِي صُحْبَتِهِ) وَهي عِوَضٌ مِن قَوْلِهِ: فِي نُصْرَةِ دِينِهِ.
(وَعَلَى أَتْبَاعِهِمْ) أَتْبَاعُ الآلِ وَالأَصْحَابِ.
(الَّذِينَ وَرِثُوا عِلْمَهُمْ) وَهُوَ عِلْمُ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
(وَالعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)، وَهُوَ اقْتِبَاسٌ مِن حَدِيثِ: ((العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ)) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ ضُعِّفَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بعضُ عُلَمَاءِ الآلِ فقالَ:
العِلْمُ مِيرَاثُ النَّبِيِّ كَذَا أَتَى = فِي النَّصِّ وَالعُلَمَاءُ هُمْ وُرَّاثُـهُ
مَا خَلَّفَ المُخْتَارُ غَيْرَ حَدِيثِهِ = فِيـنَا فَذَاكَ مَتَاعُهُ وَأَثَاثُــهُ
(أَكْرِمْ) فِعْلُ تَعَجُّبٍ.
(بِهِمْ) فَاعِلُهُ، وَالبَاءُ زَائِدَةٌ، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ وَفِيهِ ضَمِيرُ فَاعِلِهِ.
(وَارِثاً) نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَهُوَ نَاظِرٌ إلَى الأَتْبَاعِ، (وَمَوْرُوثاً) نَاظِرٌ إلَى مَنْ تَقَدَّمَهُمْ، وَفِيهِ مِن البَدِيعِ اللَّفُّ وَالنَّشْرُ مُشَوَّشاً، وَيَحْتَمِلُ عَوْدُ الصِّفَتَيْنِ إلَى الكُلِّ مِن الآلِ وَالأَصْحَابِ وَالأَتْبَاعِ، فَإِنَّ الآلَ وَالأَصْحَابَ وَرِثُوا عِلْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَرَّثُوهُ الأَتْبَاعَ فَهُمْ وَارِثُونَ مُوَرِّثُونَ، وَكَذَلِكَ الأَتْبَاعُ وَرِثُوا عِلْمَ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ أَيْضاً وَوَرَّثُوا أَتْبَاعَ الأَتْبَاعِ، وَلَعَلَّ هَذَا أَوْلَى؛ لِعُمُومِهِ.
(أَمَّا) هِيَ حَرْفُ شَرْطٍ، وَقَوْلُهُ (بَعْدُ) قَائِمٌ مَقَامَ شَرْطِهَا، وَبَعْدُ ظَرْفٌ لَهُ ثَلاثُ حَالاتٍ: إضَافَتُهُ، فَيُعْرَبُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ}.
وَقَطْعُهُ عَن الإِضَافَةِ مَعَ نِيَّةِ المُضَافِ إلَيْهِ، فَيُبْنَى عَلَى الضَّمِّ نَحْوُ: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}.
وَقَطْعُهُ عن الإضافةِ مَعَ عَدَمِ نِيَّةِ المُضَافِ إلَيْهِ، فَيُعْرَبُ مُنَوَّناً كَقَوْلِهِ:
فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْت قَبْلاً = أَكَادُ أَغَصُّ بِالمَاءِ الفُرَاتِ
(فَهَذَا) الفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَاسْمُ الإِشَارَةِ لِمَا فِي الذِّهْنِ مِن الأَلْفَاظِ وَالمَعَانِي؛ (مُخْتَصَرٌ)، فِي القَامُوسِ: اخْتَصَرَ الكَلامَ: أَوْجَزَهُ،(يَشْتَمِلُ) يَحْتَوِي.
(عَلَى أُصُولِ) جَمْعُ: أَصْلٍ، وَهُوَ أَسْفَلُ الشَّيْءِ كَمَا فِي القَامُوسِ، وَفَسَّرَهُ فِي الشَّرْحِ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ: بِمَا يُبْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ، (الأَدِلَّةِ) جَمْعُ: دَلِيلٍ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: المُرْشِدُ إلَى المَطْلُوبِ.
وهو في عُرْفِ الأُصُولِيِّينَ: مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ فِيهِ إلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ. وَعِنْدَ أَهْلِ المِيزَانِ: مَا يَلْزَمُ مِن العِلْمِ بِهِ العِلْمُ بِشَيْءٍ آخَرَ. وَإِضَافَةُ الأُصُولِ إلَى الأَدِلَّةِ بَيَانِيَّةٌ؛ أَي: الأُصُولُ هِيَ الأَدِلَّةُ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ وَالقِيَاسُ.
(الحَدِيثِيَّةِ) صِفَةٌ لِلْأُصُولِ مُخَصِّصَةٌ عَنْ غَيْرِ الحَدِيثِيَّةِ، وَهِيَ نِسْبَةٌ إلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(لِلْأَحْكَامِ) جَمْعُ: حُكْمٍ. وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الأُصُولِ: خِطَابُ اللَّهِ تعالَى المُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ المُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُكَلَّفٌ، وَهِيَ خَمْسَةٌ: الوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ وَالنَّدْبُ وَالكَرَاهَةُ وَالإِبَاحَةُ.
(الشَّرْعِيَّةِ) وَصْفٌ لِلْأَحْكَامِ يُخَصِّصُهَا عَن العَقْلِيَّةِ، وَالشَّرْعُ: مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ كَمَا فِي القَامُوسِ. وَفِي غَيْرِهِ: الشَّرْعُ: نَهْجُ الطَّرِيقِ الوَاضِحِ، وَاسْتُعِيرَ لِلطَّرِيقَةِ الإِلَهِيَّةِ مِن الدِّينِ.
(حَرَّرْتُه) بِالمُهْمَلاتِ، وَالضَّمِيرُ لِلْمُخْتَصَرِ، فِي القَامُوسِ: تَحْرِيرُ الكَلامِ وَغَيْرِهِ: تَقْوِيمُهُ. وَهُوَ يُنَاسِبُ قَوْلَ الشَّارِحِ: تَهْذِيبُ الكَلامِ وَتَنْقِيحُهُ (تَحْرِيراً) مَصْدَرٌ نَوْعِيٌّ لِوَصْفِهِ بِقَوْلِهِ (بَالِغاً) بِالغَيْنِ المُعْجَمَةِ. فِي القَامُوسِ: البَالِغُ: الجَيِّدُ،(لِيَصِيرَ) عِلَّةٌ لَحَرَّرْتُه.
(مَنْ يَحْفَظُهُ مِنْ بَيْنِ أَقْرَانِهِ) جَمْعُ: قِرْنٍ بِكَسْرِ القَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَهُوَ: الكُفُوُ وَالمِثْلُ، (نَابِغاً) بِالنُّونِ وَمُوَحَّدَةٍ وَمُعْجَمَةٍ، مِنْ: نَبَغَ.
قَالَ فِي القَامُوسِ: النَّابِغَةُ: الرَّجُلُ العَظِيمُ الشَّأْنِ، (وَيَسْتَعِينَ) عَطْفٌ عَلَى: لِيَصِيرَ، (بِهِ الطَّالِبُ) لِأَدِلَّةِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الحَدِيثِيَّةِ، (المُبْتَدِئُ) فَإِنَّهُ قَدْ قَرَّبَ لَهُ الأَدِلَّةَ وَهَذَّبَهَا، (وَلا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الرَّاغِبُ) فِي العُلُومِ، (المُنْتَهِي) البَالِغُ نِهَايَةَ مَطْلُوبِهِ؛ لِأَنَّ رَغْبَتَهُ تَبْعَثُهُ عَلَى أَنْ لا يَسْتَغْنِيَ عَنْ شَيْءٍ فِيهِ، سِيَّمَا (1) مَا قَدْ هُذِّبَ وَقُرِّبَ.
(وَقَدْ بَيَّنْتُ عَقِبَ) مِنْ: عَقَبَهُ، إذَا خَلَفَهُ كَمَا فِي القَامُوسِ، أَيْ: فِي آخِرِ، (كُلِّ حَدِيثٍ مَنْ أَخْرَجَهُ مِن الأَئِمَّةِ) مَنْ ذَكَرَ إسْنَادَهُ وَسيَاقَ طُرُقِهِ (لِإِرَادَةِ نُصْحِ الأُمَّةِ) عِلَّةٌ لِذِكْرِهِ مَنْ خَرَّجَ الحَدِيثَ؛ وَذَلِكَ لأَنَّ فِي ذِكْرِ مَنْ أَخْرَجَهُ عِدَّةَ نَصَائِحَ لِلْأُمَّةِ:
مِنْهَا: بَيَانُ أَنَّ الحَدِيثَ ثَابِتٌ فِي دَوَاوِينِ الإِسْلامِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ تَدَاوَلَتْهُ الأَئِمَّةُ الأَعْلامُ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ تَتَبَّعَ طُرُقَهُ وَبَيَّنَ مَا فِيهَا مِنْ مَقَالٍ؛ مِنْ تَصْحِيحٍ وَتَحْسِينٍ وَإِعْلالٍ.
وَمِنْهَا: إرْشَادُ المُنْتَهِي أَنْ يُرَاجِعَ أُصُولَهَا الَّتِي مِنْهَا انْتَقَي هَذَا المُخْتَصَرَ. وَكَانَ يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ المُصَنِّفُ بَعْدَ قَوْلِهِ: (مَنْ أَخْرَجَهُ مِن الأَئِمَّةِ): وَمَا قِيلَ فِي الحَدِيثِ مِنْ تَصْحِيحٍ وَتَحْسِينٍ وَتَضْعِيفٍ. فَإِنَّهُ يَذْكُرُ ذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِ مَنْ خَرَّجَ الحَدِيثَ فِي غَالِبِ الأَحَادِيثِ كَمَا سَتَعْرِفُهُ.
(فَالمُرَادُ) أَيْ: مُرَادِي (بِالسَّبْعَةِ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُرَاداً لِكُلِّ مُصَنِّفٍ، وَلا هُوَ جِنْسُ المُرَادِ، بَل اللَّامُ عِوَضٌ عَن الإِضَافَةِ، وَالفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إذَا عَرَفْتَ مَا ذَكَرْتُه فَالمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ حَيْثُ يَقُولُ عَقِيبَ الحَدِيثِ: أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ. هُم الَّذِينَ بَيَّنَهُمْ بِالإِبْدَالِ مِنْ لَفْظِ العَدَدِ.
(أَحْمَدُ) هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بنُ محمدِ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَدْ وَسَّعَ الشَّارِحُ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي تَرَاجِمِ السَّبْعَةِ، فَنَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرٍ يُعْرَفُ بِهِ شَرِيفُ صِفَاتِهِمْ، وَأَزْمِنَةُ وِلادَتِهِمْ وَوَفَاتِهِمْ.
فَنَقُولُ: وُلِدَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَطَلَبَ هَذَا الشَّأْنَ صَغِيراً, وَرَحَلَ لِطَلَبِهِ إلَى الشَّامِ وَالحِجَازِ وَاليَمَنِ وَغَيْرِهَا, حَتَّى أُجْمِعَ عَلَى إمَامَتِهِ وَتَقْوَاهُ وَوَرَعِهِ وَزَهَادَتِهِ.
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: كَانَتْ كُتُبُهُ اثْنَيْ عَشَرَ حِمْلاً وَكَانَ يَحْفَظُهَا على ظَهْرِ قَلْبِهِ، وَكَانَ يَحْفَظُ أَلْفَ أَلْفِ حَدِيثٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: خَرَجْتُ مِنْ بَغْدَادَ وَمَا خَلَّفْتُ بِهَا أَتْقَى وَلا أَزْهَدَ وَلا أَوْرَعَ وَلا أَعْلَمَ مِنْهُ.
وَأَلَّفَ (المُسْنَدُ الكَبِيرُ) أَعْظَمَ المَسَانِيدِ وَأَحْسَنَهَا وَضْعاً وَانْتِقَاداً، فَإِنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ فِيهِ إلَّا مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ انْتَقَاهُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ بِبَغْدَادَ مَدِينَةِ السَّلامِ، وَقَبْرُهُ مَعْرُوفٌ مَزُورٌ. وَقَدْ أُلِّفَتْ فِي تَرْجَمَتِهِ كُتُبٌ بَسِيطَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ.
(وَالبُخَارِيُّ) هُوَ الإِمَامُ القُدْوَةُ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ البُخَارِيُّ، مَوْلِدُهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ.
طَلَبَ هَذَا الشَّأْنَ صَغِيراً، وَرَدَّ عَلَى بَعْضِ مَشَايِخِهِ غَلَطاً وَهُوَ فِي إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً فَأَصْلَحَ كِتَابَهُ مِنْ حِفْظِهِ، سَمِعَ الحَدِيثَ بِبَلْدَةِ بُخَارَى, ثُمَّ رَحَلَ إلَى عِدَّةِ أَمَاكِنَ، وَسَمِعَ الكَثِيرَ، وَأَلَّفَ الصَّحِيحَ مِنْهُ مِنْ زُهَاءِ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، أَلَّفَهُ بِمَكَّةَ وَقَالَ: مَا أَدْخَلْتُ فِيهِ إلَّا صَحِيحاً، وَأَحْفَظُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ صَحِيحٍ، وَمِائَتَيْ أَلْفِ حَدِيثٍ غَيْرِ صَحِيحٍ. وَقَدْ ذَكَرَ تَأْوِيلَ هَذِهِ العِدَّةِ فِي الشَّرْحِ.
وَقَدْ أُفْرِدَتْ تَرْجَمَتُهُ بِالتَّأْلِيفِ، وَذَكَرَ المُصَنِّفُ مِنْهَا شَطْراً صَالِحاً فِي مُقَدِّمَةِ (فَتْحُ البَارِي)، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِقَرْيَةِ سَمَرْقَنْدَ وَقْتَ العِشَاءِ لَيْلَةَ السَّبْتِ, لَيْلَةَ عِيدِ الفِطْرِ، سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، عَن اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً إلَّا ثَلاثَةَ عَشَرَ يَوْماً وَلَمْ يُخَلِّفْ وَلَداً.
(وَمُسْلِمٌ) هُوَ الإِمَامُ الشَّهِيرُ مُسْلِمُ بْنُ الحَجَّاجِ القُشَيْرِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ، وَطَلَبَ عِلْمَ الحَدِيثِ صَغِيراً، وَسَمِعَ مِنْ مَشَايِخِ البُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ؛ وَرَوَى عَنْهُ أَئِمَّةٌ مِنْ كِبَارِ عَصْرِهِ وَحُفَّاظِهِ، وَأَلَّفَ المُؤَلَّفَاتِ النَّافِعَةَ، وَأَنْفَعُهَا صَحِيحُهُ، الَّذِي فَاقَ بِحُسْنِ تَرْتِيبِهِ, وَحُسْنِ سِيَاقِهِ, وَبَدِيعِ طَرِيقَتِهِ، وَحَازَ نَفَائِسَ التَّحْقِيقِ.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي المُفَاضَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَحِيحِ البُخَارِيِّ خِلافٌ، وَأَنْصَفَ بَعْضُ العُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ:
تَشَاجَرَ قَوْمٌ فِي البُخَارِي وَمُسْلِمٍ = إلَيَّ وَقَالُوا أَيَّ ذَيْنِ تُقَدِّمُ
فَقُلْتُ لَقَدْ فَاقَ البُخَارِيُّ صِحَّةً = كَمَا فَاقَ فِي حُسْنِ الصِّنَاعَةِ مُسْلِمُ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ عَشِيَّةَ الأَحَدِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ سَنَةَ إحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَدُفِنَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ بِنَيْسَابُورَ، وَقَبْرُهُ بِهَا مَشْهُورٌ مَزُورٌ.
(وَأَبُو دَاوُدَ) هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ، مَوْلِدُهُ سنةَ اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ، سَمِعَ الحَدِيثَ مِنْ أَحْمَدَ وَالقَعْنَبِيِّ وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ خَلائِقُ كَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ. وَقَالَ: كَتَبْتُ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، انْتَخَبْتُ مِنْهَا مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ السُّنَنِ، وَأَحَادِيثُهُ أَرْبَعَةُ آلافِ حَدِيثٍ وَثَمَانِمِائَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِهِ، رَوَى سُنَنَهُ بِبَغْدَادَ وَأَخَذَهَا أَهْلُهَا عَنْهُ، وَعَرَضَهَا عَلَى أَحْمَدَ فَاسْتَجَادَهُ وَاسْتَحْسَنَه.
قَالَ الخَطَّابِيُّ: هِيَ أَحْسَنُ وَضْعاً وَأَكْثَرُ فِقْهاً مِن الصَّحِيحَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ: مَنْ عِنْدَهُ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَنُ أَبِي دَاوُدَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى شَيْءٍ مَعَهُمَا مِن العِلْمِ.
وَمِنْ ثَمَّ صَرَّحَ الغَزَالِيُّ بِأَنَّهَ يَكْفِي المُجْتَهِدَ فِي أَحَادِيثِ الأَحْكَامِ, وَتَبِعَهُ أَئِمَّةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَتْ وَفَاتُه بالبَصْرَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ.
(وَالتِّرْمِذِيُّ) هُوَ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ التِّرْمِذِيُّ, مُثَلَّثُ الفَوْقِيَّةِ، وَالمِيمُ مَكْسُورَةٌ وَمَضْمُومَةٌ، نِسْبَةً إلَى مَدِينَةٍ قَدِيمَةٍ عَلَى طَرَفِ جَيْحُونَ نَهْرِ بَلْخَ، لَمْ يَذْكُرِ الشَّارِحُ وَلا الذَّهَبِيُّ وَلا ابْنُ الأَثِيرِ وِلادَتَهُ، وَسَمِعَ الحَدِيثَ عَن البُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ شُيوخِ البُخَارِيِّ.
وَكَانَ إمَاماً ثَبَتاً حُجَّةً، وَأَلَّفَ كِتَابَ (السُّنَنُ) وَكِتَابَ (العِلَلُ) وَكَانَ ضَرِيراً, قَالَ: عَرَضْتُ كِتَابِي هَذَا- أَيْ كِتَابَ السُّنَنِ المُسَمَّى بِالجَامِعِ- عَلَى عُلَمَاءِ الحِجَازِ وَالعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ فَرَضُوا بِهِ. وَمَنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ فَكَأَنَّمَا فِي بَيْتِهِ نَبِيٌّ يَتَكَلَّمُ.
قَالَ الحَاكِمُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عِلْكٍ يَقُولُ: مَاتَ البُخَارِيُّ وَلَمْ يُخَلِّفْ بِخُرَاسَانَ مِثْلَ أَبِي عِيسَى فِي العِلْمِ وَالحِفْظِ وَالوَرَعِ وَالزُّهْدِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِتِرْمِذَ أَوَاخِرَ رَجَبٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ.
(وَالنَّسَائِيُّ) هُوَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ الخُرَاسَانِيُّ, ذَكَرَ الذَّهَبِيُّ أَنَّ مَوْلِدَهُ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ مِنْ قُتَيْبَةَ بنِ سَعِيدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهُويَهْ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ بِخُرَاسَانَ وَالحِجَازِ, وَالعِرَاقِ, وَمِصْرَ, وَالشَّامِ, وَالجَزِيرَةِ، وَبَرَعَ فِي هَذَا الشَّأْنِ, وَتَفَرَّدَ بِالمَعْرِفَةِ وَالإِتْقَانِ وَعُلُوِّ الإِسْنَادِ، وَاسْتَوْطَنَ مِصْرَ.
قَالَ أَئِمَّةُ الحَدِيثِ: إنَّهُ كَانَ أَحْفَظَ مِنْ مُسْلِمٍ صَاحِبِ الصَّحِيحِ. وَسُنَنُهُ أَقَلُّ السُّنَنِ بَعْدَ الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثاً ضَعِيفاً، وَاخْتَارَ مِنْ سُنَنِهِ كِتَابَ (المُجْتَبَى) لَمَّا طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يُفْرِدَ الصَّحِيحَ مِن السُّنَنِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثَلاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ صَفَرٍ, سَنَةَ ثَلاثٍ وَثَلاثِمِائَةٍ بِالرَّمْلَةِ، وَدُفِنَ بِبَيْتِ المَقْدِسِ، وَنِسْبَتُهُ إلَى نَسَاءَ بِفَتْحِ النُّونِ وَفَتْحِ السِّينِ المُهْمَلَةِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ، وَهِيَ مَدِينَةٌ بِخُرَاسَانَ خَرَجَ مِنْهَا جَمَاعَةٌ مِن الأَعْيَانِ.
(وَابْنُ مَاجَهْ) هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَاجَه القَزْوِينِيُّ؛ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَتَيْنِ، وَطَلَبَ هَذَا الشَّأْنَ وَرَحَلَ فِي طَلَبِهِ وَطَافَ البِلادَ حَتَّى سَمِعَ أَصْحَابَ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ، وَرَوَى عَنْهُ خَلائِقُ، وَكَانَ أَحَدَ الأَعْلامِ.
وَأَلَّفَ (السُّنَنُ)، وَلَيْسَتْ لَهَا رُتْبَةُ مَا أُلِّفَ مِنْ قَبْلِهِ؛ لِأَنَّ فِيهَا أَحَادِيثَ ضَعِيفَةً بَلْ مُنْكَرَةً، وَنُقِلَ عَن الحَافِظِ المِزِّيِّ أَنَّ غَالِبَ مَا انْفَرَدَ بِهِ الضعفُ، وَلِذَا جَرَى كَثِيرٌ مِن القُدَمَاءِ عَلَى إضَافَةِ المُوَطَّأِ إلَى الخَمْسَةِ.
قَالَ المُصَنِّفُ: وَأَوَّلُ مَنْ أَضَافَ ابْنَ مَاجَهْ إلَى الخَمْسَةِ أَبُو الفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ فِي الأَطْرَافِ، وكَذَا فِي شُرُوطِ الأَئِمَّةِ السِّتَّةِ، ثُمَّ الحَافِظُ عَبْدُ الغَنِيِّ، فِي كِتَابِهِ (أَسْمَاءُ الرِّجَالِ)، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلاثٍ، أَوْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ.
(وَبِالسِّتَّةِ) أَيْ: وَالمُرَادُ بِالسِّتَّةِ إذَا قَالَ: أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ (مَنْ عَدَا أَحْمَدَ) وَهُم المَعْرُوفُونَ بِأَهْلِ الأُمَّهَاتِ السِّتِّ (وَبِالخَمْسَةِ مَنْ عَدَا البُخَارِيَّ وَمُسْلِماً وَقَدْ أَقُولُ) عِوَضاً عَنْ قَوْلِهِ: الخَمْسَةُ (الأَرْبَعَةُ) وَهُمْ أَصْحَابُ السُّنَنِ إذَا قِيلَ: أَصْحَابُ السُّنَنِ (وَأَحْمَدُ، وَ) المُرَادُ (بِالأَرْبَعَةِ) عِنْدَ إطْلاقِهِ لَهُمْ (مَنْ عَدَا الثَّلاثَةَ الأُوَلَ) الشَّيْخَيْنِ وَأَحْمَدَ (وَ) المُرَادُ (بِالثَّلاثَةِ) عِنْدَ إطْلاقِهِ لَهُمْ (مَنْ عَدَاهُمْ) أَيْ: مَنْ عَدَا الشَّيْخَيْنِ وَأَحْمَدَ، والَّذِي عَدَاهُمْ هُم الأَرْبَعَةُ أَصْحَابُ السُّنَنِ (وَعَدَا الأَخِيرَ) وَهُوَ ابْنُ مَاجَهْ فَيُرَادُ بِالثَّلاثَةِ: أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ(وَ) المُرَادُ (بِالمُتَّفَقِ) إذَا قَالَ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ) فَإِنَّهُمَا إذَا أَخْرَجَا الحَدِيثَ جَمِيعاً مِنْ طَرِيقِ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ قِيلَ لَهُ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, أَيْ: بَيْنَ الشَّيْخَيْن.
(وَقَدْ لا أَذْكُرُ مَعَهُمَا) أَي الشَّيْخَيْنِ (غَيْرَهُمَا) كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ قَدْ يُخَرِّجُ الحَدِيثَ السَّبْعَةُ أَوْ أَقَلُّ، فَيَكْتَفِي بِنِسْبَتِهِ إلَى الشَّيْخَيْنِ, (وَمَا عَدَا ذَلِكَ) أَيْ: مَا أَخْرَجَهُ غَيْرُ مَنْ ذُكِرَ كَابْنِ خُزَيْمَةَ وَالبَيْهَقِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ(فَهُوَ مُبَيَّنٌ) بِذِكْرِهِ صَرِيحاً.
(وَسَمَّيْتُه) أَي: المُخْتَصَرَ (بُلُوغُ المَرَامِ) هُوَ مِنْ بَلَغَ المَكَانَ بُلُوغاً وَصَلَ إلَيْهِ، كَمَا فِي القَامُوسِ، وَالمَرَامُ: الطَّلَبُ، وَالمَعْنَى الإِضَافِيُّ: وُصُولُ الطَّلَبِ، بِمَعْنَى المَطْلُوبِ، أَيْ: فَالمُرَادُ وُصُولِي إلَى مَطْلُوبِي (مِنْ جَمعِ أَدِلَّةِ الأَحْكَامِ) ثُمَّ جَعَلَهُ اسْماً لِمُخْتَصَرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إضَافةُ إلَى مَفْعُولِ المَصْدَرِ، أَيْ: بُلُوغُ الطَّالِبِ مَطْلُوبَهُ مِنْ أَدِلَّةِ الأَحْكَامِ.
(وَاللَّهَ) بِالنَّصْبِ مَفْعُولُ (أَسْأَلُ) قُدِّمَ عَلَيْهِ لِإِفَادَةِ الحَصْرِ, أَيْ: لا أَسْأَلُ غَيْرَهُ (أَنْ لا يَجْعَلَ مَا عَلِمْنَا عَلَيْنَا وَبَالاً) بِفَتْحِ الوَاوِ: هُوَ الشِّدَّةُ وَالثِّقَلُ كَمَا فِي القَامُوسِ، أَيْ: لا يَجْعَلَهُ شِدَّةً فِي الحِسَابِ وَثِقَلاً مِنْ جُمْلَةِ الأَوْزَارِ؛ إذ الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ إذَا لَمْ تُخْلَصْ لِوَجْهِ اللَّهِ انْقَلَبَتْ أَوْزَاراً وَآثَاماً.
(وَأَنْ يَرْزُقَنَا العَمَلَ بِمَا يُرْضِيهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) أُنَزِّهُهُ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ، وَأُثْبِتُ لَهُ العُلُوَّ عَلَى كُلِّ عَالٍ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ، وَكَثِيراً مَا قُرِنَ التَّسْبِيحُ بِصِفَةِ العُلُوِّ؛ كَسُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى, و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}.
_______________________
(1) لعل الصواب: بهما.
(1) لعل الصواب: لا سيَّما.