بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
اللهم علمنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علما.
أولا: نقد مقدمة نظام القرآن للفراهي وبيان ما يمتاز به منهجه في التفسير وما يؤخذ عليه:
- يظهر من مقدمة نظام القرآن للفراهي علمه رحمه الله, وسعة اطلاعه, وطول باعه في العلوم, كما يظهر جليا عنايته الشديدة بالقرآن الكريم, وحرصه على تفسير كلام الله بكلام الله, وهذا من أعلى درجات التفسير, لكنه-رحمه الله-جعل تفسير القرآن بالسنة أمرا لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة, وبما يؤيد ما ذهب إليه-مع وحدة المصدر- ومثل هذا الاعتقاد قد يحمل المفسر على التكلف والتعسف في إلحاق الآية بالآية هربا من تفسيرها بما جاءت به السنة, إذا خالف ما سار عليه من قواعد.
وقد قال:( خذ من الأحاديث ما يؤيد نظام القرآن لا ما يبدد نظامه) والسنة الصحيحة لا يمكن أن تعارض القرآن بحال لوحدة المصدر.
ولعل ظاهر كلامه يوحي بوضعه-أحيانا- مرتبة الأحاديث في نفس مرتبة التوراة والإنجيل, وهذا خطأ فادح, فليزم التفريق هنا بين ما صح من السنة وما لم يصح, بل حتى الضعيف له مراتب, فلا يجعل جميعه في نفس الدرجة, فالضعيف لا يستوي مع الضعيف جدا, وكذا ما كان موضوعا أو متروكا.
ولعل هذا قاده إلى تحكيم العقل فيما يقبل أو يرد من أحاديث.
- كذلك يظهر من كلامه الحث الشديد على النظر في كتب أهل الكتاب, وهذا ينافي ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لعمر رضي الله عنه لما أتاه بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه على النبي ﷺ فغضب وقال : (أمُتهوِّكون فيها يا ابن الخطَّاب...). رواخ أحمد في منده.
وقد أجاز العلماء النظر فيها بضوابط ولحاجة, لا على إطلاقه.
- ومما يثنى عليه في تفسيره؛ عنايته بإظهار مقصد السورة العام, لتحصل للقارئ صورة ذهنية عامة عن السورة¸ كذلك حرصه على ربط آيات السورة بعضهما مع بعض ليظهر التناسب بينها, وليحصل التسلسل والتتابع للقارئ.
لكن نظرته-رحمه الله- في القرآن نظرة من قعّد قاعدة في ذهنه ثم نظر في الآيات ليثبتها ويسقطهها عليها, ومثل هذا الفعل لا يسلم صاحبه من الوقوع في الخطأ.
ومثاله ما ذكره من المناسبة بين الصلاة والنكاح, كذلك جعل حكم تعدد الأزواج خاص لحكم ذكرها: وهي القسط باليتامى والقسط بالزوج.
كذلك رده أن يكون نشر الدين سببا من أسباب الجهاد استدلالا بقوله تعالى:{لا إكراه في الدين}, مع كون الدافع الأول للجهاد هو نشر الدين, ولا تعارض بين نشره وبين نفي الإكراه عليه, فقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: (أمرت أن أقاتل الناس ، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة),
- وقد أبدى اهتماما ببيان الأخطاء التي وقع فيها من سبقه من المفسرين, حتى يتفاداها من أراد تفسير كلام الله سبحانه.
لكن غلب على كلامه-رحمه الله- التعميم, فجعل الجميع سواء, وعاب على كل من أدخل الإسرائيليات في تفسيره دون تفصيل, حتى من أدخلها بغرض التصنيف وجمع الروايات: المقل منهم والمستكثر.
وبالغ-رحمه الله- في ذم اختلاف المفسرين مطلقا دون التنبيه على أن جُلّ ما وقع الاختلاف فيه هو من قبيل اختلاف التنوع لا التضاد, وما ورد في الغالب من الأقوال؛ يشكل في مجموعها تفسيرا جامعا للآية.
- ويظهر جليا في مقدمته إتقانه للعربية والاهتمام بها, وحفظه لشعر العرب, فيستعين بشعر العرب لتفسير مفردات القرآن, كيف لا وهو ديوانهم, ولا يستغني عنه مفسر.
لكنه رحمه الله بالغ في الحمية لهم, فصحيح أن الله قد بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق, لكن لا يعني هذا عدم انتكاس فطرة العرب عند مبعثه عليه الصلاة والسلام؛ ديانة وخلقا, فقد شاع فيهم تعبد لله بالعري, فكانت النساء يطفن بالبيت عراة, وكذا فعل الرجال.
وتعددت أنكحة الجاهلية الباطلة والتي هدمها الإسلام, وفشى فيهم ظلم الضعفاء من النساء واليتامى والفقراء وسلب حقوقهم, لذا كثر التنبيه على ذلك في السور المكية, وذم ما كانوا عليه من فساد حكمهم على الناس بحسب النسب والحسب والجاه والمال.
كذلك لا يسلم له قوله بأن المراد بالمعروف ما اعتبرته العرب معروفا, بل المعروف ما تعارف عليه الناس وتتابع-سواء كانوا عربا أو عجما- مما لا يخالف ما جاءت به الشريعة.
- ومما يؤخذ على كلامه ما قاله عندما ذكر بعض الصفات الذاتية والفعلية للرب سبحانه والمذكورة في القرآن, فقال بعدها: (والذي قرأ الزبور وكتب الأنبياء علم أن المجاز له مجال وسيع في الوحي):
ويظهر من كلامه هذا-رحمه الله-ميله إلى المجاز لنفي المعنى الظاهر من الآيات؛ والذي يفهمه القارئ والأمي, والأعرابي والحضري, ومن قواعد التفسير المهمة: حمل الآيات على ظاهرها المراد, ما لم ترد قرينة بإرادة معنى آخر, أما المجاز فهو طاغوت المعطلة الذي استخدموه لنفي معاني أسماء الله الحسنى, ومن ثم نفي الصفات عنه سبحانه.
- كذلك من المآخذ عليه عدّه وحدة الوجود من التوحيد, وهذا قول الصوفية الذين جعلوا التوحيد على ثلاث منازل:
توحيد العامة الذي يصح بالشواهد.
وتوحيد الخاصة والذي يثبت بالحقائق.
وتوحيد خاصة الخاصة وهو توحيد قائم بالقديم.
ولعله رحمه الله نقله متأثرا بكلام الصوفية دون اعتقاد لمعناه, كما فعل ذلك صاحب المنازل والله أعلم.
--------------------------------------------------------------------------------------------------------
ثانيا: كتابة تقرير عن الأثر العلمي لقراءة كتاب تعقيب المعلمي على تفسير الفراهي لسورة الفيل يتضمن بيان المهارات النقدية لدى العلامة المعلّمي.
بسم الله الرحمن الرحيم
تميزت رسالة المعلمي-رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة- مع قلة عدد صفحاتها, لاشتمالها على فوائد عديدة, فيتنقل فيها القارئ بين علوم متعددة:
فيقرأ الشعر وأخبار العرب والأحاديث والآثار والمعاجم والأخبار العلمية وغيرها, ومع تعددها؛ يرى القارئ إتقان الكاتب لجميعها.
لكن أهم ما يميزها ويبدو جليا في سطورها؛ قدرة المعلمي رحمه الله- الفائقة على المحاججة والرد, فتراه يأخذ الأقوال وينشرها, ثم يطرح عليها الإيرادات, ثم يقوم بالرد عليها واحدا تلو الآخر بمنهجية علمية دقيقة, مستخدما جميع أنواع المهارات المختلفة, وهو مع هذا يسند أقواله إلى أدلة صحيحة متنوعة واضحة, فلا يستطيع القارئ إلا التسليم لما قاله بالصحة.
ومع تمكنه-رحمه الله- وعمق علمه؛ إلا إنه يفعل هذا كله مراعيا آداب الحوار والجدال, لا يخرج عن ضوابطه البتة, محافظا على مكانة المعلم-رحمه الله- العلمية, مبررا لأقواله عاذرا إياه.
ومثل هذه الرسائل الغنية بالفوائد العلمية؛ لا يستغني طالب العلم عن النظر فيها, والتعلم منها, والسير على خطى صاحبها رحمه الله تعالى.
وقد ظهرت مهارات المعلمي النقدية جلية في جميع سطور الرسالة, وفيما يلي سردا لبعض ما أحصيناه منها:
بداية حرص المعلمي-رحمه الله تعالى- على بيان الدافع الذي حمله على تأليف هذا الكتاب, وبيان مقصده من التعقيب على تفسير الفراهي رحمه الله لسورة الفيل.
فليس الغرض من ذلك النقد المجرد والتأليف؛ بل الغرض بيان الحق وتصحيح ما وقع فيه الفراهي رحمه الله تعالى من أخطاء لا يشك من فهم ظاهر السورة في عدم صحتها.
وقد اثني المعلمي رحمه الله تعالى على علم الفراهي ودينه وعقيدته وحسن مقصده, ولم يجد في ذلك غضاضة, وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على تواضعه رحمه الله تعالى وحسن أدبه في تعامله مع الآخرين, وعدله في إنزال الناس منازلهم, والاعتراف بمكانتهم العلمية, وإعطائهم حقوقهم المعنوية.
ومما يلاحظ عليه-رحمه الله- حرصه على عدم الخروج عن قول الجمهور, خاصة مع عدم وجود دليل يستند إليه المجتهد, فلا يخالف قول الجمهور فيما لم يعرف لهم مخالف فيه لمجرد الرأي والنظر.
قال رحمه الله: (غير أن الخلاف هنا ليس لقولٍ مشهورٍ، ولا لقول الجمهور، ولكنه لقولٍ صرّح به الجماهير، ولم ينقل خلافه عن كبير ولا صغير.).
- كذلك حرصه على بيان فضل السلف وحفظ مكانتهم في التفسير, وتقرير حقيقة أن أقوالهم مقدمة على أقوال غيرهم, بل اطراح الأقوال الشاذة ممن جاء بعدهم بحجة أنها لم تخطر عليهم, فهم أعلم الناس بكتاب الله, ولا يتصور أن يخفي الله فهم المراد من قصة وردت في سورة من سور القرآن عن أفضل الأمة وسلفها, ويظهرعلمه للخلف.
فقال في موضع: ( ويكفي في رده أن أهل العلم من لدن الصحابة إلى الآن لم يذكروه), وقال في موضع آخر:( وحسبك أنها لم تخطر ببال أحد من الصحابة والتابعين وسائر أهل العلم من جميع الفرق حتى أثيرت أخيرًا، على ما يأتي).
وقال في موضع آخر:( أن أهل العلم من الصحابة والتابعين، وهلم جرًّا إلى عهد المعلِّم لم يفهموا من قول الله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} إلا أن المعنى ترميهم الطير، فمخالفتهم كلهم في هذا الفهم إما أن لا تجوز ألبتة، وإما أن تجوز بشرط أن تقوم حجة قاهرة تلجئ إلى مخالفتهم. وليس للمعلم حجة إلا الشبهة التي سلف ذكرها).
- ومما يشاد به في طريقته رحمه الله تعالى تقسيمه الموضوع إلى أقسام, حتى يتابع القارئ الكلام بتسلسل, لذا قسم رسالته إلى قسمين كما أخبر هو فقال:(رأيت الأولى أن أسلك ترتيبًا آخر، فأبني رسالتي هذه على قسمين: الأول:فيما يتعلق بالقصة رواية ودراية. الثاني: في تفسير السورة).
- ابتدأ رحمه الله تعقيبه بذكر الروايات محل البحث(وهو القسم الأول), فأورد الرواية المتعلقة بذكر السبب الذي حمل أبرهة على التوجه لهدم الكعبة, ثم ذكر الأسباب التي حملت المعلم على ردها, وأوجزها في سببين:
الأول (من حيث الرواية): إن ابن إسحاق يأخذ عن اليهود وعمن لا يوثق به.
الثاني (اعتمد فيه على العقل والفكر) : قال بأن القصة من أكاذيب الأعداء، قصدوا بها عيب العرب، واختلاق عذر لأبرهة.
ورد المعلمي على إنكار المعلم بنفس طريقته:
فرد مقالته الأول بقوله :(قد جاء عن الواقدي وابن الكلبي ما يشهد لقضية تقذير الكنيسة).
ورد مقالته الثانية بقوله: (ليس في ذلك ما يعدّ عيبًا للعرب، ولا عذرًا لأبرهة؛ لأن فعل رجل واحد لعله لا يدري ما النصرانية، وإنما علم أن ذلك الحبشي بني بيتًا يضارّ به بيت الله عزَّ وجلَّ، لا يُعدّ ذنبًا لجميع العر).
وهذا من أحسن ما يكون من ترتيب الأقوال ثم الرد عليها بنفس طريقة قائلها.
ولإنصافه رحمه الله تعالى- قال: (ولكن القضية لم تثبت من جهة الرواية. فالله أعلم), وفيه هذا تلميح إلى جواز صواب ما ذهب إليه المعلم من رده قصة القعود من حيث السبب الأول لا الثاني.
- وقد فعل الأمر نفسه في تعقيبه ونقده لرد المعلم وإنكاره لما جاء في الروايات من ترك العرب قتال أبرهة وجيشه, فذكر الأوجه التي احتج بها المعلم لرده للرواية من جهة طعنه في ثبوتها, وزعمه مخالفتها لما هو أصح منها, ومن جهة نكارتها عقلا.
فتكلم بداية عما يشهد لهذه الرواية, ثم ثنى برد قول المعلم بوجود ما يخالفها, بل حكم على المخالف لها والموجود في السيرة الحلبية بقوله:(هو من وما أكثر ما في تلك السيرة من الأباطيل محكية ب "يقال"، و"قيل!), وفي هذا رد محكم, فكيف يستدل بروايات واهية لا تثبت وهو قد رد ما هو أصح منها!
فقال رحمه الله:( وأما ما روي أن القبائل قاتلت أبرهة في طريقه، فإنما جاء في تلك الروايات التي ينكرها المعلم),
فالناقل يطالب بإثبات صحة ما نقله, والمدعي يطالب بالدليل على دعواه.
وثلث بالتعقيب ونقد الأوجه العقلية بمثلها وأكثر؛
فاستعان بتفسير السلف وقدمه على غيره, واستعان بتفسير مفردات القرآن بالقرأن, كما فعل في تفسيره المراد بالكيد, ففسرها بما دلت عليه في سياق آيات أخرى, واستعان بالروايات, واستعان بالشعر, واستعان بالتاريخ, واستعان بالسير, فذكر وقائع العرب وأيامها, وذكر من أحوالهم ما يشير إلى سعة اطلاعه على ما كانوا عليه قبل البعثة وبعدها, بل وغيرهم من الأمم, فكان مما قال في ردوده: ( وقد كانت في الجاهلية والإِسلام وقائع عظيمة، هلك فيها ألوف من الناس), وقال:( واستعان بالمعاجم, واستعان بالاستنباط والعقل ليعضد كلامه, فكان مرتبا قويا مدعوما بأنواع شتى من الأدلة .
وهذا من أعظم ما يدل على سعة اطلاعه رحمه الله تعالى, وعلى امتلاكه للأودات العلمية التي جعلته مؤهلا للتكلم في القرآن, ونقد ما يقع فيه البعض من الخطا والوهم.
وهو على هذا لم يترك الأدب أو التواضع في طرحه ونقده, بل حتى مع تصويبه ما وقع فيه المعلم من الوهم, فبين سبب وقوع هذا الوهم له, وبين صوابه, وحفظ للمعلم مكانته, فكان مما قاله رحمه الله:( وأما ما ذكره من عيبهم ثقيفًا لفرارها عن حماية الكعبة، ورجمهم قبر رئيسها أبي رِغال، فلم يثبت عيب منهم لثقيف على ذلك. وإنما اغترّ المعلِّم ببيت ضِرار بن الخطّاب, وسبب اغتراره رحمه الله...).
- وسار على هذا المنوال في تعقيبه على ما ذهب إليه المعلم, ذكر رحمه الله رواية ذهاب عبد المطلب للمطالبة بإبله, ثم أعقبها برد المعلم لها لعدم قبول العقل له, "فكيف يترك عبد المطلب التكلم في أمر البيت بعد ما رأى وسمع من أبرهة ما يستيقن به أنه لو سأله الانصراف عن هدم البيت لفعل، ثم إنه لم يترفع عن المجيء إليه، والسؤال لإبله"!!؟
- وقد رد عليه المعلمي بنفس أسلوب المعلم العقلي, فأجابه بالمنع تارة, وبالتسليم تارة أخرى, فبدأ كلامه بقوله: (ليس في القصة ما يحصل به الاستيقان، بل ولا الظن...) ثم ساق رحمه الله ثلاثة احتمالات لعدم سؤال عبدالمطلب أبرهة ترك البيت وشانه وكل احتمال منها أقوى من الآخر, وهذا إن دل على شيء فيدل على سرعة بديهيته, وعمق فكره, وحسن تامله للمسائل, وحسن استنباطه لما فيها من فوائد, وحمله الكلام على الوجوه الصحيحة له.
- ولم يترك كلامه عاريا عن الاستدلال؛ فقد جاء بما يعضده من سياق القصة نفسها, بل جاء بما يدل على أن طلب عبد المطلب لإبله لم يكن بخلا منه, بل كانت غايته حماية بيت الله بما يقدر عليه, فقال المعلمي:( أما سؤال عبد المطلب ردَّ إبله، فلم يكن شحًّا بالمال، وإنما كان أراد أن يقلِّدها، ويجعلها هديًا), وحيث إن المقام مقام رد وبيان؛ أورد ما يثبت قوله من ألفاظ ذكرت في الروايات الأخرى, فقال:( ففي رواية الواقدي: "فلما قبضها قلَّدها النعال، وأشعرها، وجعلها هديًا، وبثّها في الحرم، لكي يصاب منها شيء، فيغضب ربّ الحرم").
ثم ساق رحمه الله الرويات ليعضد بها قوله, وجاء برواية ابن العباس-رضي الله عنهما-في المستدرك, وألحقها بحكم الحاكم على الرواية وموافقة الذهبي له فقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد"، وقال الذهبي في "تلخيص المستدرك": "صحيح".
- ومعرفة الروايات وطرقها وألفاظها من المهمات في التفسير, كذلك الحكم على أقوال المفسرين, حتى يتم له ذلك عن بينة لا عن هوى وتشهي.
وقد فعل هذا لما تحدث عن سبب سن سنة رمي الجمار, وساق من الروايات الصحيحة مايثبت عدم اطلاع المعلم-على ما يبدو- عليها, فقال رحمه الله:( وأما الروايات فإنه ذكر بعضها، وكأنه لم يقف على الروايات الجيدة. فمنها: ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن رمي الجمار فقال: "الله ربكم تكبرون، وملة أبيكم إبراهيم تتبعون، ووجه الشيطان ترمون").
ثم ساق باقي الروايات التي تقوي ما ذكره.
واستخدم الروايات لبيان ترتيب الأحداث التاريخي لبيان قدم سنة رمي الجمرات.
وحكم على الروايات التي استشهد بها, وبين ما في بعضها من خلل, كقوله في الرواية التي رواها أحمد من طريق حماد عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال "إن جبريل ذهب بإبراهيم إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات...) فقال فيها:(عطاء بن السائب اختلط بأخرة، وهذا من ذاك. فإنه جعل في الرواية الأولى الواقعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعروف أنها لإبراهيم عليه السلام. وذكر في الثانية أن الذبيح إسحاق، والصحيح أنه إسماعيل. وعكس فيهما ترتيب الجمرات، فبدأ بالقصوى، وبقية الروايات تعبداً بجمرة العقبة. فإنما يحتج من روايته بما يوافق بقية الروايات. والله أعلم).
وهنا أيضا ترك مجالا لما قد يحتمل الصواب في كلام المعلم, فقال:(ولا يبعد أنه وقع في حكاية القصة مبالغة في تصوير احترام أبرهة لعبد المطلب), وهذا من إنصاف الناقد وحرصه على بيان الحق وعدم رده الحق ولو كان جزء يسيرا, وكذلك فعل في قوله عما استشهد به المعلم من استحالة ترك العرب قتال أبرهة بشدة حميتهم ونجدتهم وشجاعتهم, فقال:( وأما نجدة العرب وحميتهم فحق، ولكن لكل شيء حد).
كذلك كان يبين -رحمه الله- ما في كلام المعلم من حق, فقال:( وأما النتيجة الثانية فحقٌّ، وهي ثابتة عن هؤلاء الثلاثة الذين جعلهم فريقًا أول...).
- وقد تكرر هذا في رسالته, وظهر جليا أدبه في الحوار والمناظرة, وإنصافه للمعلم وإعذاره له, وفي هذا دلالة على إخلاص قام في قلبه-نحسبه كذلك والله حسيبه- وعلى صدق إرادته الحق وظهوره, لذلك برر كلام المعلم في إصراره على أن العرب قاتلت أبرهة؛ بما حصل من البعض في نسبة الجبن إلى العرب في عدم قتالهم إياه, ومقصوده إثبات أنّ الإِسلام هو الذي أكسبهم الشجاعة. وهذا قد يؤدي في النهاية إلى عيب كل فرد في الأمة، فيجرُّ ذلك إلى عيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويتخذه الكفار والملحدون ذريعة إلى ذلك.
فقال رحمه الله:(فكأن المعلِّم رحمه الله حاول اقتلاع هذا الأمر من أصله).
وقال في موضع آخر:( لست أقول: إن المعلِّم رحمه الله تعالى ممن يمكن أن يختار تأويلاً يعلم ضعفه، ولكن قد لا يبعد أن تكون شدة غيرته على القرآن، وحرصه على دفع الطعن عنه، ممّا قرّب ذاك التأويل إلى فهمه).
ظهرت معرفته للغة العربية وعلومها جلية في رسالته, وهذا مما لا يشك فيه عاقل, في مثل قوله: (قلت: لا أعرف لهذا وجهًا، والشيء إذا كثر بالمكان إنما يشتق له اسم على وزن مَفْعَلَة، كما قالوا: مأسدة، ومسبعة، ومبطخة. بل وقالوا: أرض محصبة، أي كثيرة الحصباء. فأما أن يشتق له منه اسم بوزن مُفعَّل، فلا أعرفه
إلى أن قال:( فإن أبيت إلا اتباع من قال: إن الأبطح سمي محصبًا لكثرة الحصى فيه، فأنت وذلك، لكنه اشتقاق على خلاف القياس، فلا يجوز أن يحمل عليه تسمية موضع حصب الجمار، بل يتعين حمله على اسم المكان من التحصيب؛ لأن ذلك على وفق القياس).
عدا عما ذكره من من اشعار العرب, واستدلاله بعلماء اللغة.
- وقد ظهرت جليا معرفته بالشعر والشعراء والرجال والأسانيد؛ لما ردّ قول المعلم في زعمه قتال العرب لأبرهة بل وقتلهم إياه, فذكر الوجوه التي استدل بها المعلم على قوله, ثم ردها كالسابق, وأطال في رده لاستدلال المعلم بأبيات ذي الرمة؛
فذكر ما جاء من تفسير البيتين من بعض القدماء والملحق به ترجمة لأبرهة المذكور في البيتين ورد فيها: "أبرهة بن الصباح ملك من ملوك حمير"..
ثم ساق سند القصيدة وفيه ما يثبت أن هناك من تلقى القصيدة مع تفسيرها, فهو معتمد لديهم, وهذا فيه دليل على صحته, كما قال هو رحمه الله:(وذلك يدل أن التفسير متناقل، وفي أثناء التفسير ما يدل على ذلك), وقال:( والمذكورون في السند كلهم من أئمة اللغة والأدب، توجد تراجمهم في "بغية الوعاة"، وغيره).
هذا، وقصة الفيل مشهورة، وديوان ذي الرمة مشهور، وعامة علماء الأخبار علماء بالشعر، فلولا أنهم علموا أن أبرهة ذي الرمة غير صاحب الفيل، لما سكتوا عن بيانه.).
وكلامه يخاطب العقل يقينا, فعرض الدليل ثم حث العقل على التأمل فيه.
- وظهرت معرفته بأخبار التاريخ بعدها لما بين من أخبار أبرهة وأخبار من تسموا بهذا الاسم من ملوك حمير وغيرهم, وذكر من أخبار العرب وحروبها وأطال الكلام ليبين عناية العرب بحفظ أخبارها شعرا, فقال:( ومنها: أن كل من له إلمام بأخبار العرب يعرف شدة حرصهم على رواية أخبار أيامهم، وحفظها، وتردادها في الأسمار، وتقييدها بالأشعار...) إلى أن قال:( فكيف يعقل مع هذا أن يكونوا قاتلوا أبرهة، وقتلوه في المعركة، ثم لا يوجد لذلك في أخبارهم وأشعارهم أثرٌ؟...), ومثل هذا المقام يحتاج إلى مثل هذا التفصيل لبيان تغاير أبرهة الأشرم عن أبرهة المذكور في البيتين, وبيان استحالة قتل العرب لأبرهة دون حفظهم للواقعة شعرا, والشعر ديوانهم!
- وقد استخدم مع المعلم طريقة التسليم لما نقله ليبين ما فيه من خطأ, فقال ردا على ما ذكره المعلم من قتل العرب لأبرهة: ( فهب أن العرب تركوا عادتهم في نقل الأخبار، وتقييدها بالأشعار، وكثرة الافتخار؛ أفلم يكن لهم من غيرتهم وحميتهم، والحرص على ردِّ الباطل عنهم، ما يحملهم على أن يصرخوا في وجوه الحاكين لما تقدم عندهم، قائلين: كذبتم، بل قاتل العرب أبرهة, وقتلوه في المعركة، وجرى كيت وكيت),
وهذا من أحكم ما يكون, فالمعلم رحمه الله استند في دعواه قتال العرب لأبرهة على حميتهم وغيرتهم وشجاعتهم, فاستخدم المعلمي رحمه الله الحجة نفسها ليبين خطأ ما ذهب إليه.
- أما ما نقله المعلم وذكره من أقوال ينسبها للمفسرين من الصحابة وغيرهم: فكان لا يسلم بصحتخا ابتداء, بل يتأكد أولا من صحة النقولات, على قاعدة: (إن كنت ناقلا فالصحة), فيرجع إلى المصادر الأصلية ويقارن بينها وبين ما ذكره المعلم, ويبين الحكم على الروايات, ومعاني مفراداتها والمراد منها, وهذا من دقته وعدله رحمه الله, حتى يخرج كلامه على بصيرة, مستندا فيه إلى براهين وأدلة قواطع, لذا نجده قد قال :( تدبرت تلك الروايات والأشعار، وقابلتها بما ذكر المعلِّم أنه لخصه منها، فرأيت فرقًا كبيرًا. ولإيضاح ذلك أسوق الأمور التي ذكر المعلم، وأذكر مع كل أمر ما يوافقه من الروايات التي في "تفسير ابن جرير"، فإن ذكرتُ غيرها نبّهتُ عليه).
وقال أيضا:( والمعلِّم - عفا الله عنَّا وعنه - حكى رواية عكرمة، وحذف منها قوله: "كانت ترميهم ... ").
وقدتكرر رده بالمنع كقوله: ( أما الأمارة الأولى: فهي أمارة ضعيفة، لا تصلح لبناء هذا الأمر العظيم المخالف للحجج الواضحة).
- وظهرت مهارته رحمه الله ومعرفته بأصول الترجيح والجمع بين الروايات إن أمكن الجمع, وهذا لا يتقنه إلا من ألقى الله في قلبه فهما لآياته والله أعلم, لذا نجده يقول في الروايات التي جاءت عن السلف في وصف الطير الأبابيل (فعن ابن مسعود قال: "فِرَق"، وعن أبي سلمة: "الزُّمَر"، وعن إسحاق بن عبد الله: "الأقاطيع"، وعن مجاهد: "شتّى متتابعة مجتمعة"، وعن ابن زيد: "المختلفة تأتي من ها هنا، وتأتي من ها هنا، أتتهم من كل مكان" . فأخبر كلُّ واحد بما بلغه من صفاتها". فوصف كلُّ رجل الفرقة التي جاءت من ناحيته، وحكى كلُّ من الرواة ما سمعه ومع إمكان الجمع لا محلّ للترجيح),
وقال في موضع آخر:( رواية التجدير وما في معناه من الحصبة والحكّة والنفط أرجح. والجمع بينها وبين الهشم ممكن بأن يقال إنها كانت لشدّة وقعها تجرح الموضع الذي تقع فيه، فإن وقعت على الرأس هشمت، ثم يتقرّح ذلك الموضع، ويكون الجدري ونحوه، وهذا موافق للعادة في تلقيح الجدري ونحوه. فيقرب في النظر أن تكون تلك الحجارة ملطخة بمادة مَرَضيّة قوية، فكانت الحجارة تجرح، فتتصل المادة بالدم، فينشأ المرض. والله أعلم).
استخدامه لطريقة السبر والتقسيم, وإلزام القائل بلازم قوله, فيضع الاحتمالات ثم يردها واحدا تلو الآخر بشكل بارع متقن, كما فعل في تعقيبه على ما ذهب إليه المعلم من إن الطير أكلت الجثث ولم ترم بالحجاة, فقال:(وعلى هذا، فلا بد للمعلم من أحد أمرين: إمّا أن يقول: إن ابن عباس وعكرمة لم يفهما مما ذكروه من وصف الطير ما يقتضي أكلها للجثث.
وإمّا أن يقول: إنهما فهما ذلك، ولكن لم يريا فيه مخالفة لكون الطير رمت بالحجارة.
فإن اختار الأول، قيل له: كفى بذلك ردًّا لما زعمتَه من أن تلك الصفة تُشعر بالأكل. وإن اختار الثاني، بقي عليه أن يثبت الأكل بحجة واضحة، وأنى ذلك!).
وقال في موضع آخر:( وقد يلزم المعلِّم أن يقول: إن نفيلاً ممن اشتبه عليه الأمر، وإن لم يكن بعيدًا، بل كان مع أصحاب الفيل، ولهذا خاف أن يقع عليه بعض الحجارة).
وأحيانا يتراجع القائل عن مقالته إذا ظهر له فساد ما يلزم منها.
- وكان رحمه الله يكرر بعض النقاط بشكل مجمل بعد التفصيل فيها, فبعد أن يذكر أقوال المعلم ويرد عليها بالتفصيل ؛ يجمل الأسباب التي دعت المعلم إلى ما ذهب إليه, مثل قوله:( الباعث للمعلم - رحمه الله - على دعوى أن أهل مكة قاتلوا أهل الفيل أمران:).
وقوله:( والباعث له - فيما يظهر - على إنكار رمي الطير أمور:).
تأكيدا لما فيها من خطأ.
- واعتمد مذهب أهل السنة في نقده لكلام المعلم من عدة وجوه:
فقد سار على خطى السلف, وتمسكه بمذهب أهل السنة والجماعة في عدم محاربة البدعة بمثلها, لذا صرح في المقام بأهمية رد البدع والأقوال المحدثة بالحق المحض لا بالابتداع والاختلاق, فقال:( وأنا أقول: إن الحق أعز وأظهر من أن يضطرّ المنتصر له إلى الخروج عنه من جهة أخرى. وقد قدمت في فصل (ج) ما فيه أوضح العذر لأهل مكة في كفّهم عن قتال أبرهة. فمن تعامى عن ذلك وأبى إلا أن ينسبهم إلى الجبن، فهو وما اختار لنفسه!).
وهذا من أحكم ما يكون, فما انتشرت البدع وتفرعت وتعددت إلا بمحاربة الإحداث في الدين بمثله, ومن نظر في حال الفرق علم صدق هذا الكلام: فقد ظهرت المرجئة ردا على الخوارج, وظهرت القدرية المثبتة ردا على القدرية النفاة, لذا كان الإمام مالك رحمه الله تعالى يقول: بين السنة واسكت.
وظهر ذلك أيضا في اعتماده الكتاب والسنة كمصادر التلقي الوحيدة فيما يتعلق بالغيبيات ومنها باب القدر, أو ما لا تدركه العقول استقلالا, مثل الحكمة من الخلق, فقال:( تحقيق هذا البحث يستدعي النظر في حكمة الخلق، وقد أشار إليها الكتاب والسنة، وتكلم فيها أهل العلم..).
واعتمادا عليها كمصدر للتلفي الثابت الذي يجب أن ترد جميع الأمور إليه, وتقريره بأن الأنبياء هم الطريق الوحيدة التي تعرف بالله, وتبين الطريق الموصلة إليه, لذا قال في معرض كلامه عمن ترك اتباع الحق معرضا عما جاءت به الرسل:( وأين هو؟ فيتخبط في هذا العماء بدون اهتداء بالأدلاّء - وهم الأنبياء - لسابق سوء ظنه بهم، فلا يحصل إلا على الحيرة.).
وقرر بأن اتباع الآثار الثابتة أولى من اتباع أقوال الرجال التي قالوها عن محض استنباط ورأي, فقال عندم رد على المعلم في زعمه عدم ورود ما يثبت سبب سن سنة رمي الجمرات, فبعد أن ساق حديث ابن عباس عن تعليم جبريل عليه السلام لإبراهيم المناسك, ورمي إبراهيم عليه السلام إبليس بالجمرات بعد أن عرض عليه ليحول بينه وبين تعلمها, قال رحمه الله:(الحديث مصحح كما ترى، وله طرق وشواهد، وهو المشهور بين أهل العلم والعامة إلى زماننا هذا، والنظر لا يأباه على ما يأتي، فلا ينبغي الإعراض عن هذا كله إلى استنباط مدخول. والله أعلم).
عمله بقواعد التفسير كما جاءت عن السلف, مثل قاعدة حمل النص على ظاهره ما لم تأت قرينة يلزم منها صرفه عن الظاهر وتأويله, وقد رد الكثير من كلام المعلم بهذه القاعدة, فالقرآن نزل عربيا مبينا, وقد خاطب الله الناس بما يعقلونه من الخطاب, ومن زعم غير ذلك فقد زعم أن الله تعالى لم يبين مراده من كلامه, ولم يتم النصح المبين للخلق بنزول هذا القرآن.
فقال:(أن أهل العلم من الصحابة والتابعين، وهلم جرًّا إلى عهد المعلِّم لم يفهموا من قول الله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} إلا أن المعنى ترميهم الطير),
وبين خطأ ما ذهب إليه بعض علماء المسلمين من تأويل النصوص التي تتضمن ذكر الخوارق غيرة على الإسلام والقرآن, لأن بعض الفلاسفة والملاحدة سخروا من آيات القرآن وعدواّ ذكرها فيه برهانًا على اشتماله على الكذب, فقال رحمه الله:( ...إلا أن الحقَّ أحقُّ أن يتبع، وأعزُّ من أن يُضطرَّ المنتصر له إلى ترك بعضه. فالواجب على أهل العلم أن يبحثوا عن مستند القوم في إنكار الخوارق، فيهدموه بالحجة والبرهان, فأما ترضّيهم بتأويل بعض النصوص، فخطلٌ من الرأي).
- وطهرت براعته في علوم المنطق واستغلاله في صياغة الردود والحجج العقلية فيما لا يتعارض مع نصوص الكتاب والسنة, في مثل كلامه عن الاستدلال بالأثر على المؤثر, وكلامه عن الأسباب, فقال في كلامه عن تسلسل الأسباب:( ومنها: ما يتسلسل، فإذا مشينا مع سلسلته انتهينا إلى حلقة لا نجد بعده حلقة، إلا أن نربطها بإرادة الرب وقدرته، وهذه حجة. ), وقد قال تعالى:{ وأن إلى ريك المنتهى}).
- كذلك براعته في طرح الاستفاهم الاستنكاري لبيان مقصده وما ذهب إليه, وقد ظهر هذا جليا في عدة مناسبات في الرسالة, مثل قوله:( فكيف يعقل مع هذا أن يكون أهل مكة رموا الحبشة، فأمدّهم الله تعالى برمي من عنده، ثم يذكرهم بذلك بعد تكذيبهم لرسوله وكتابه، وفعلهم العظائم؛ فيذكر رميهم مثبتًا غير منفي، ويطوي ذكر رميه، فلا يصرح به؟ وهل هذا إلا عكس الحكمة؟),
وقوله: (فإن الفيل لم يدخل الحرم، وقد بركت ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية دون الحرم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "حبسها حابس الفيل". فمن الممتنع أن تحبس ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون الحرم، ويمكّن الفيل من دخول الحرم).
- استخدام الأقيسة وضرب الأمثلة, ومنها قياس الأولى, فقال:(ومنها: أن في ذلك ضرب مثل للعباد. يقال لهم: إذا كان ربكم أجرى العادة على أنه لا تُنال المنافع الدنيوية إلا بالسعي لها، هذا مع هوان الدنيا عليه، فمن باب أولى أن تكون المنافع الأخروية لا تُنال إلا بالسعي لها، فاجتهدوا في العمل، ولا تغرنّكم الأماني),
وأخيرا: مما يلفت النظر في رسالته؛ حرصه على أن يذبّ الغيبة عن نفسه, ويبعد سهام التهمة عنه, فبين حقيقة قصده مما ذكر, فلما تكلم عن مسألة صرف ألفاظ القرآن عن ظواهرها؛ نفى نيته في اتهام المعلم بتقصد صرف القرآن عن ظواهره المجمع عليها وتأويلها بالأبعد المرجوح, فقال:( فإن قلت: أما المعلِّم رحمه الله تعالى ففي كلامه ما يرد هذه التهمة، فإنه وإن أنكر رمي الطير، فقد أثبت ما هو أعظم، وهو الرمي من السماء. قلت: أنا لم أجزم باتهامه رحمه الله، وإنما مقصودي تحذير أهل العلم من التساهل في هذا المعنى).
وقوله هذا يقطع المجال أمام القارئ في اتخاذ كلامه للطعن في المعلم رحمه الله, أو في الطعن في المعلمي رحمه الله واتهامه برمي علماء المسلمين بالتهم جزافا.
فرحمه الله رحمة واسعة, ونفعنا بعلمه وأدبه.
هذا والله أعلم.