الاجتهاد في التفسير
تمهيد
من طرق التفسير التي يحتاج إليها المفسّر الاجتهاد في التفسير؛ وهو من الطرق المشروعة المعتبرة إذا قام به من هو أهل لذلك، ولم يتعدّ حدود الله تعالى في اجتهاده.
ويُرجى للمجتهد المتّقي التوفيق للصواب؛ ومضاعفة الثواب؛ فيثاب على اجتهاده، ويثاب على إصابته؛ وإن أخطأ من غير تعدٍّ ولا تفريط رُجيت له المغفرة والإثابة على اجتهاده لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر » متّفق عليه من حديث بسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فتبين أن المجتهد مع خطئه له أجر؛ وذلك لأجل اجتهاده، وخطؤه مغفور له؛ لأن دَرْكَ الصواب في جميع أعيان الأحكام؛ إمَّا متعذر أو متعسّر، وقد قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقال تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه عام الخندق: « لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة » فأدركتهم صلاة العصر في الطريق؛ فقال بعضهم: لا نصلي إلا في بني قريظة، وقال بعضهم: لم يُرِدْ منَّا هذا؛ فصَلَّوا في الطريق؛ فلم يعب واحدةً من الطائفتين)ا.هـ.
ومن حكمة الله تعالى أن فَسَح للاجتهاد مجالاً رحباً يحمل المجتهد على التفكّر والتدبّر، وإمعان النظر، لفهم المعنى، وإدراك المقصد، واستنباط الحكم.
وجعل له حدوداً من تعدّاها كان خاطئاً آثماً، ومن لم يتعدّ حدود الله من أهل الاجتهاد ولم يوفّق للإصابة كان مخطئاً معذوراً، ومن أصاب منهم كان موفّقاً مأجوراً.
والاجتهاد في التفسير مجال رحب للإبانة عن معاني القرآن، وذلك من دلائل بَرَكَةِ معاني القُرآن وكثرتها واتّساعها، فلا يحيط بها عِلْمُ عالم من البشر، بل ربما قرأ الآيةَ الواحدةَ جماعةٌ من العلماءِ الأذكياءِ فظهر لكل واحد منهم من المعاني ودلائلها ما خفي على غيره.
ومن دلائل ذلك كثرة المصنفات في التفسير والرسائل المفردة في بعض الآيات والمسائل، واستدراك العلماء بعضهم على بعض؛ حتى غدا التفاوتُ في معرفة معاني القرآن وسبل الاهتداء إليها تفاوتاً كبيراً بيّناً.
قال أبو جحيفة السَّوائيّ رضي الله عنه: قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟
قال: «لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة»، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: «العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر». رواه البخاري.
والفهم في القرآن من ثمرات الاجتهاد في تدبّر آياته والتفكّر في معانيه، والتبصّر بدلائله، واستعمال أدوات الاجتهاد الصحيحة للوصول إلى المعاني واستخراجها بأنواع من الدلالات المعتبرة لدى أهل العلم.
الاجتهاد سُنّة لمن تأهّل له
والاجتهاد في التفسير وفي غيره من مسائل الدين في موارده الصحيحة وبمراعاة حدوده وآدابه سنّة متّبعة؛ فقد اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في التفسير، وهو إمام المجتهدين صلى الله عليه وسلم، كما سبق بيانه، واجتهد من بعده خلفاؤه الراشدون المهديّون الذين أمرنا باتّباع سنّتهم، وجرى عليها عمل الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ فكانوا أئمة للمجتهدين، إذ رفعوا منار الاجتهاد، وبيّنوا حدوده وآدابه، ومداخله وموارده، وما يسوغ الاجتهاد فيه وما لا يسوغ.
والحاجة إلى الاجتهاد في التفسير قائمة في كلّ عصر من العصور، وأسئلة السائلين عن مسائل التفسير كثيرة متجددة، ونوازل مسائل التفسير في كلّ عصر تتطلّب من العلماء الاجتهاد في شأنها، وتبصير الناس بما يلزمهم من اتّباع الهدى في تلك النوازل.
وقد ورد في شأن الاجتهاد في مسائل الدين جملة من الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم تدلّ دلالة بيّنة على ترتيب طرق التفسير، وبيان مرتبة دلالة الاجتهاد من الدلائل المتحصّلة بتلك الطرق، ومن تلك الآثار:
1. ما رواه أبو الضحى عن مسروق، قال: كتب كاتب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "هذا ما أرى اللهُ أميرَ المؤمنين عمرَ"؛ فانتهره عمر رضي الله عنه، وقال: (لا، بل اكتب: " هذا ما رأى عمر؛ فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر). رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار والبيهقي في الكبرى.
2. وقال إدريس الأودي: أخرج إلينا سعيد بن أبي بردة كتابا فقال: هذا كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى رضي الله عنه؛ فذكر الحديث، وقال فيه: (الفهمَ الفهمَ فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في القرآن والسنة؛ فتعرَّف الأمثالَ والأشباهَ، ثم قِسِ الأمور عند ذلك، واعمد إلى أحبها إلى الله، وأشبهها فيما ترى). رواه البيهقي بهذا اللفظ، وكتاب عمر لأبي موسى مشهور روي من طرق متعددة.
3. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتاباً إلى شريح القاضي فكان فيه: (إذا جاءكم أمر في كتاب الله عز وجل فاقض به؛ ولا يلفتنَّك عنه الرجال؛ فإن أتاك ما ليس في كتاب الله، فانظر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، ولم يكن فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، ولم يكن فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم فيه أحد قبلك؛ فاختر أي الأمرين شئت: إن شئتَ أن تجتهد برأيك ثم تَقَدَّم فتَقَدَّم، وإن شئتَ أنْ تأخَّرَ فتأخَّرْ، ولا أرى التأخّر إلا خيرا لك). رواه ابن أبي شيبة والدارمي والبيهقي من طريق أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي عن شريح، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه؛ فذكره، وهذا إسناد صحيح.
4. وروى شعبة عن قتادة، عن أبي العالية، عن علي رضي الله عنه أنه قال: (القضاة ثلاثة: فاثنان في النار، وواحد في الجنة؛ فأما اللذان في النار: فرجل جار عن الحق متعمدا، ورجل اجتهد رأيه فأخطأ، وأما الذي في الجنة؛ فرجل اجتهد رأيه في الحق فأصاب).
قال قتادة: فقلت لأبي العالية: ما بال هذا الذي اجتهد رأيه في الحق فأخطأ؟
قال: (لو شاء لم يجلس يقضي، وهو لا يحسن يقضي). رواه البيهقي، وقال: (تفسير أبي العالية على من لم يحسن يقضي دليلٌ على أنَّ الخبر ورد فيمن اجتهد رأيه، وهو من غير أهل الاجتهاد؛ فإن كان من أهل الاجتهاد فأخطأ فيما يسوغ فيه الاجتهاد رُفع عنه خطؤه - إن شاء الله - بحكم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله عنهما).
5. وقال عبد الله بن مسعود: (أيها الناس! قد أتى علينا زمان لسنا نقضي، ولسنا هنالك؛ فإن الله عز وجل قد بلَّغنا ما ترون؛ فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم؛ فليقض فيه بما في كتاب الله عز وجل؛ فإن أتاه أمر ليس في كتاب الله عز وجل؛ فليقض فيه بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أتاه أمر ليس في كتاب الله عز وجل، ولم يقض به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فليقض بما قضى به الصالحون؛ فإن أتاه أمر ليس في كتاب الله، ولم يقض به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقض به الصالحون؛ فليجتهد رأيه، ولا يقولن أحدكم: إني أخاف وإني أرى؛ فإنَّ الحلال بيّن، والحرامَ بيّن، وبين ذلك أمور مشتبهة؛ فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك). رواه البيهقي.
6. وقال عبيد الله بن أبي يزيد: سمعت عبد الله بن عباس رضي الله عنهما إذا سئل عن شيء هو في كتاب الله قال به.
- وإذا لم يكن في كتاب الله وقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال به.
- وإن لم يكن في كتاب الله، ولم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاله أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قال به.
- وإلا اجتهد رأيه). رواه البيهقي وابن عبد البر من طرق عن سفيان بن عيينة عن عبيد الله به.
7. وروى الشعبي، عن مسروق أنه قال: سألت أبيَّ بن كعب عن شيء فقال: «أكان هذا؟» قلت: لا، قال: «فأجمَّنا حتى يكون؛ فإذا كان اجتهدنا رأينا» رواه ابن بطّة في الإبانة، وابن عبد البر في جامع بين العلم وفضله.
8. وقال إسماعيل بن أبى خالد: سمعت عامراً الشعبيّ يقول: استفتى رجل أبيَّ بن كعب فقال: يا أبا المنذر ما تقول في كذا وكذا؟
قال : «يا بني أكان الذي سألتني عنه؟».
قال : لا.
قال: «أما لا فأجّلني حتى يكون؛ فنعالج أنفسنا حتى نخبرك». رواه الدارمي.
9. وقال الزهري: بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول: إذا سُئِلَ عن الأمر: أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم قد كان، حدّث فيه بالذي يَعْلم والذي يَرى، وإن قالوا: لم يكن، قال: فذروه حتى يكون). رواه الدارمي.
10. وقال الشعبي: سُئِلَ عمار بن ياسر عن مسألة؟
فقال: هل كان هذا بعد؟
قالوا: لا
قال: (دعونا حتى تكون، فإذا كانت تجشَّمْناها لكم). رواه الدارمي.
وفي هذه الآثار ونحوها ما يدلّ دلالة بيّنة على أن الاجتهاد سنّة متّبعة بشروطه وآدابه.
مراتب دلالات طرق التفسير
والاجتهاد في التفسير ليس طريقاً مستقلا منفصلا عن سائر طرق التفسير؛ بل هو تابع لها ومترتّب عليها.
ولذلك ينبغي أن يُعلم أن طرق التفسير راجعة إلى أصول ومراتب ينبني بعضها على بعض.
فالأصل الأول: ما تحصل به الدلالة النصية من الكتاب والسنة على معاني الآيات؛ فدلالة النصّ الصحيح الصريح هي أصل الدلالات، والحاكمة عليها، والمبيّنة لحدودها.
وكل مسألة حَظِي المفسّر فيها بدلالة نصية صريحة لم يحتج معها إلى اجتهاد؛ إذ لا اجتهاد في موضع النص، بل كل اجتهاد خالف النصّ فهو مردود.
والأصل الثاني: دلالة الإجماع وهي من الدلائل المستفادة من التفسير بأقوال الصحابة والتابعين؛ فإذا أجمعوا على تفسير آية فإجماعهم حجّة لا تحلّ مخالفته.
وهذا الأصل ينبني على ما قبله؛ إذ لا يُمكن أن يقع الإجماع على مخالفة دليل صحيح غير منسوخ من الكتاب والسنة.
والأصل الثالث: دلالة الأثر، والمقصود بها ما تحصّل للمفسّر من أقوال الصحابة والتابعين في تفسير الآية مما لم يتحقق فيه الإجماع؛ فهذه الدلالة أقل مرتبة من سابقتيها، وهي مترتّبة عليهما؛ إذ كل قول خالف الأصل الأول أو الثاني فهو مردود.
غير أنّ مخالفة الصحابي إذا صحّ الإسناد إليه ولم يتبيّن لقوله علة يُعرف بها أنه أخطأ في ذلك القول أو أنه اعتمد على نصّ منسوخ ولم يقع إنكار من علماء الصحابة لقوله فإن تلك المخالفة ترفع دعوى الإجماع؛ فتكون المسألة مسألة خلاف وليست مسألة إجماع.
وأما مخالفة أحد التابعين لقول وقع الاتّفاق عليه فلا ترفع الإجماع على الصحيح بشرط أن لا يُتابَع على قوله؛ فإذا تابعه بعض العلماء على قوله كانت المسألة مسألة خلاف، وإما إذا هُجر قوله ولم يُتابعه عليه أحد لم تكن مخالفته قادحة في انعقاد الإجماع؛ لأن هجران العلماء لقوله دليل على إجماعهم على خطئه.
ومسائل الخلاف التي لا يمكن الجمع بين الأقوال فيها وإنما يُصار فيها إلى الترجيح على نوعين:
النوع الأول: مسائل الخلاف القوي.
والنوع الثاني: مسائل الخلاف الضعيف.
فأمّا مسائل الخلاف القويّ فهي المسائل التي يكون لأصحاب كلّ قول أدلّة لها حظّ كبير من النظر، ويكثر الاختلاف بين العلماء في الترجيح بينها.
وأما مسائل الخلاف الضعيف؛ فهي المسائل التي يكون القول المرجوح فيها بيّن الضعف، وإن قال به بعض العلماء لأسباب اقتضت منهم ذلك؛ كأن يعتقدوا صحة دليل ضعيف الإسناد، أو له علّة قادحة لم يتبيّنوها، أو كان قولهم مستنداً على نصّ منسوخ لم يبلغهم العلم بنسخه، إلى غير ذلك من الأسباب التي يتبيّن بها ضعف القول، وعامّة مسائل الخلاف الضعيف يكون قول الجمهور فيها هو الصواب، والقائلون بالقول الضعيف قلة.
والمقصود أن مسائل الخلاف الضعيف يستدلّ للقول الراجح فيها بدلالة الأثر؛ إذ أصحابه أوفر حظّا بهذه الدلالة من مخالفيهم.
وهذه الدلالة تنبني على ما قبلها؛ فلا تصحّ دلالة الأثر على ما يخالف النصّ أو الإجماع.
وكلّ من استدلّ بقول مأثور على ما يخالف النصّ أو الإجماع فاستدلاله باطل.
والأصل الرابع: دلالة اللغة، وذلك بتفسير الآية بما يحتمله السياق من المعاني اللغوية، وهذه الدلالة مترتّبة على ما قبلها؛ فيُشترط لقبولها أن لا تخالف النص ولا الإجماع ولا أقوال السلف.
وكل تفسير اعتمد فيه صاحبه على احتمالٍ لغويٍّ خالف فيه نصّا أو إجماعاً أو أقوال السلف في الآية فهو تفسير مردود.
والأصل الخامس: دلالة الاجتهاد، وهي دلالة مترتّبة على ما سبق من الأصول، لا يجوز أن تخرج عنها، فكلّ تفسير اعتمد فيه صاحبه على اجتهاد خالف فيه نصّاً أو إجماعاً أو أقوال السلف أو الدلالة اللغوية الصحيحة فهو تفسير مردود.
وبهذا يُعلم أن التفسير بالاجتهاد له حدود تضبطه، وهذه الحدود مبيَّنة بدلائل محكمة لا يُخالفها إلا متعدّ أو مفرّط.
ومن تلك الحدود: تحريم القول على الله تعالى بغير علم، ووجوب اتّباع الرسول صلى الله عليه وسلم وتحريم معصيته، ووجوب اتّباع سبيل المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسان، وتحريم مخالفة سبيلهم، وأنّ القرآن نزل بلسان عربيّ مبين لنعقل معانيه، ونتفكّر في آياته.
وهذه الجُمل العظيمة وما في حكمها دلائلها محكمة بيّنة في النصوص، ولا خلاف فيها، ومن تأمّلها حقّ التأمّل وجدها قد بيّنت حدود اجتهاد المجتهدين في التفسير وفي غيره من أمور الدين.
موارد الاجتهاد في التفسير
والاجتهاد في التفسير مع ما تقدّم من التنبيه على حدوده ومرتبته له مجال رحب فسيح؛ وهو داخل في جميع طرق التفسير غير مزايل لها، وفي كلّ طريق موارد للاجتهاد.
1. فأمّا طريق تفسير القرآن بالقرآن؛ فمنه ما تكون دلالته نصيّة ظاهرة، لا يُحتاج معها إلى اجتهاد، ومنه مسائل كثيرة هي محلّ اجتهاد ونظر كما تقدّم بيانه.
ويدخل الاجتهاد في عامّة أنواع تفسير القرآن بالقرآن، وأصل ذلك أن يستخرج المجتهد دلالةً من آية لتفسير آية أخرى أو لبيان معنى يتّصل بها يعين على معرفة تفسيرها أو ترجيح قول على قول من الأقوال المأثورة في تفسيرها.
ولهذا الاجتهاد موارد ومداخل منها:
أ: الاجتهاد في ثبوت أسانيد بعض القراءات التي يستفاد منها في التفسير وإن لم يكن يُقرأ بها.
ب: والاجتهاد في تفسير لفظة بلفظة أخرى كما تقدّم من تفسير السجّيل بالطين.
ج: والاجتهاد في بيان الإجمال وتقييد المطلق وتخصيص العام باستخراج ما يدلّ على ذلك من آيات أخرى، ولذلك أمثلة كثيرة تقدّم ذكر بعضها.
د: والاجتهاد في الجمع بين آيتين لاستخراج حكم شرعي؛ كما فعل عليّ وابن عباس في مسألة أقلّ مدّة الحمل.
هـ: والاجتهاد في تفصيل أمر مذكور في آية بذكر ما يتعلّق به من آية أخرى ليُستعان به على بيان بعض أوجه التفسير أو الترجيح بين الأقوال المأثورة في تفسيرها.
و: والاجتهاد في الاستدلال لبعض الأقوال التفسيرية بما يقوّيها بدلالة من آية أخرى,
ومن أمثلة ذلك: قول ابن كثير: (وقوله: {والقلم} الظّاهر أنّه جنس القلم الّذي يُكتَب به كقوله: {اقرأ وربّك الأكرم الّذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم} فهو قسمٌ منه تعالى، وتنبيهٌ لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة الّتي بها تنال العلوم)ا.هـ.
فهذا استدلال من ابن كثير لتقوية قول من فسّر القلم في هذه الآية بأنّه جنس الأقلام، في مقابل من فسّر القلم هنا بالقلم الذي كتب به في اللوح المحفوظ.
ز: والاجتهاد في إعلال بعض الأقوال التفسيرية المحكيّة في آية بما يبيّن ضعفها من الدلالات المستخرجة من آيات أخرى، وهو باب واسع يحتاج فيه المجتهد إلى حسن الاستحضار وقوّة الاستنباط.
ومن أمثلة ذلك قول الحسن البصري رحمه الله تعالى: (قاتل الله أقواماً يزعمون أنَّ إبليس كَانَ مِنْ ملائكة الله، والله تَعَالَى يَقُولُ: { كَانَ مِنَ الجِنّ} ). رواه ابن أبي حاتم.
2. وأما تفسير القرآن بالسنّة فمن موارد الاجتهاد فيه:
أ: الاجتهاد في ثبوت التفسير النبوي إسناداً ومتناً؛ بالتحقق من صحّة الإسناد، وسلامة المتن من العلّة القادحة.
ب: والاجتهاد في استخراج دلالة صحيحة بين آية وحديث نبويّ يفسّر تلك الآية أو يبيّن بعض معناها، أو يعين على معرفة تفسيرها.
ج: والاجتهاد في معرفة أسباب النزول وأحواله.
د: والاجتهاد في الاستدلال لبعض الأقوال المأثورة بما صحّ من الأحاديث.
هـ: والاجتهاد في إعلال بعض الأقوال التفسيرية بما صحّ من الأحاديث النبوية؛ فإنّ من المفسّرين من يجتهد في تفسير آية فيخرج بقول يعارض حديثاً صحيحاً وهو لا يعلم به أو عزب عنه عند اجتهاده؛ فيتعقّبه من يبيّن ذلك.
ومن أمثلة ذلك قول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تفسير قول الله تعالى: {يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم}: (وقول من قال: إن المراد بإمامهم كمحمد بن كعب «أمهاتهم» أي يقال: "يا فلان ابن فلانة" قول باطل بلا شك، وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر مرفوعا: «يرفع يوم القيامة لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان ابن فلان»)..
وهذا القول ذكره الثعلبي والبغوي عن محمد بن كعب القرظي من غير إسناد، ولا يصحّ عنه.
وإعلال بعض الأقوال التفسيرية بما صحّ من الأحاديث النبوية باب واسع يحتاج فيه المجتهد إلى سعة الاطّلاع وحسن الاستحضار، وقوّة انتزاع الحجج من الأحاديث، وهذه أمور يتفاضل العلماء فيها تفاضلاً كبيراً، وتتفاوت مراتبهم في الاجتهاد فيها.
ومن أعظم أبواب النفع في هذا الاجتهاد الذبّ عن سنّة النبي صلى الله عليه وسلم، وإقامة الحجّج والبراهين على إبطال التفاسير البدعية التي شاعت وراجت، وفُتن بها من فُتن، واغترّ بها من اغتر.
3. وأما تفسير القرآن بأقوال الصحابة.
وأما تفسير القرآن بأقوال الصحابة فيدخله اجتهاد المفسّر من أبواب:
أ: منها الاجتهاد في معرفة أقوال الصحابة في التفسير وهو باب واسع؛ فالتفاسير المسندة لم تحط بأقوال الصحابة في التفسير؛ فيحتاج إلى النظر في دواوين السنة والأجزاء الحديثية ومحاولة استخراج ما روي عن الصحابة في التفسير، وهذا أمر يتفاوت فيه المجتهدون تفاوتاً كبيراً.
ب: ومنها الاجتهاد في التحقق من ثبوت صحة الأسانيد المروية إلى الصحابة.
ج: ومنها الاجتهاد في فهم أقوال الصحابة، ومعرفة مآخذها، وتخريجها على أصول التفسير، وهذا باب واسع عظيم النفع للمفسّر.
د: الاجتهاد في التمييز بين ما يُحمل على الرفع من أقوال الصحابة وما لا يُحمل على الرفع مما أخذه بعض الصحابة عمّن قرأ كتب أهل الكتاب.
هـ: الاجتهاد في تحرير أقوال الصحابة في نزول الآيات وتمييز ما يحمل على بيان سبب النزول مما يُحمل على التفسير.
و: الاجتهاد في معرفة علل الأقوال الضعيفة المنسوبة إلى بعض الصحابة نصّاً أو استخراجاً.
ز: الاجتهاد في الجمع والترجيح بين أقوال الصحابة.
4. وأما تفسير القرآن بأقوال التابعين؛ فيدخله الاجتهاد من أكثر الأوجه المتقدّمة في تفسير القرآن بأقوال الصحابة إلا أنّ أقوال الصحابة التي تُحمل على الرفع يُحمل نظيرها في أقوال التابعين على الإرسال.
ويضاف إليها الاجتهاد في تمييز أحوال التابعين في العدالة والضبط، وتعرّف مراتبهم ودرجاتهم ليستفاد بهذا الاجتهاد في الترجيح بين أقوالهم عند التعارض.
ومن أبواب الاجتهاد في تفسير الصحابة والتابعين الاجتهاد في تقرير مسائل الإجماع، وتصنيف مسائل الخلاف، والتمييز بين الخلاف المعتبر وغير المعتبر، وخلاف التنوّع وخلاف التضاد، والتعرّف على الأقوال وأنواعها، وجوامعها وفوارقها ومآخذها وعللها، وللاجتهاد في هذه الأبواب مجال فسيح واسع لا يحيط به علم المجتهد الفرد.
5. وأما تفسير القرآن بلغة العرب؛ فقد مضى الحديث عن موارد الاجتهاد فيه، وأهمّها الاجتهاد في ثبوت ما يعرف بالنقل عن العرب، وتمييز صحيح الشواهد من منحولها، ومقبولها من مردودها، والاجتهاد في اكتشاف ما اعترى بعضها من اللحن والتغيير والتصحيف، وضبط الألفاظ العربية رواية ودراية، والتمييز بين لغات العرب، وتعرّف أوجه الاختلاف والتوافق بينها، ومعرفة الإعراب، وتلمّس العلل البيانية، وتوجيه القراءات، ومعرفة الاشتقاق والتصريف، والاجتهاد في تعيين معاني الحروف والمفردات والأساليب القرآنية إلى غير ذلك من الأبواب الواسعة للاجتهاد اللغوي في تفسير القرآن.
ومن موارد الاجتهاد في التفسير اللغوي أيضاً:
- الاجتهاد في الاستدلال لصحّة بعض الأقوال التفسيرية وإعلال بعضها.
- والاجتهاد في الجمع بين بعض الأقوال المأثورة بجامع لغوي يُعبّر عنه المجتهد عبارة حسنة تدلّ على مآخذ الأقوال المندرجة تحت تلك العبارة.
- والاجتهاد في معرفة التخريج اللغوي لأقوال المفسّرين، وهو باب واسع للاجتهاد، وله أمثلة كثيرة نافعة.
ومن أمثلته:
أ: اختلاف المفسّرين في معاني التعريف "بأل" في بعض الألفاظ القرآنية يما يخرّج على أحد معنيين: التعريف للجنس، أو التعريف للعهد.
ومن ذلك اختلاف المفسّرين في معاني الفلق، والوسواس، والقلم، والطور، والفجر، ونظائرها؛ على أقوال يمكن تخريجها على أصلين لغويين:
الأصل الأول: أن المراد بالتعريف في هذه الألفاظ الجنس، أي جنس الفلق؛ فيدخل في ذلك جميع ما يُفلق من الأمور الحسية والمعنوية، وجنس "الوسواس"، أي كل ما يوسوس؛ فيدخل في ذلك وسوسة الشيطان، ووسوسة النفس، وجنس الأقلام، وهكذا.
والأصل الثاني: أن المراد بها العهد الذهني.
والذين سلكوا هذا المسلك ذهبت كل طائفة منهم إلى ما تراه أولى بالعهد الذهني، ففسّر جماعة من المفسّرين الفلق بأنه فلق الصباح، وفسّر جماعة الوسواس بالشيطان الرجيم، وفسّر جماعة القلمَ بالقلم الذي كُتب به في اللوح المحفوظ، وفسّر جماعة الطور بالجبل الذي نادى الله فيه موسى.
وما قيل في معنى التعريف يقال نظيره في معاني الحروف والمفردات والأساليب.
والمقصود من كلّ ما تقدّم بيان سعة مجال الاجتهاد في التفسير، إلا أنّ له حدوداً تضبطه، وله شروط في كلّ نوع من أنواعه؛ فلا يجتهد في تفسير القرآن بالسنة من لا يميّز الصحيح من الضعيف، ولا يعرف أصول شرح الأحاديث، ولا يجتهد في التفسير اللغوي من لا يُحسن أدوات الاجتهاد فيه، وهكذا في كلّ نوع.
وهذا يدلّك على أنّ من تكلّم في التفسير عن غير تأهّل ولا معرفة بموارد الاجتهاد، وما يسوغ الاجتهاد فيه، وما لا يسوغ، ولا يعرف مواضع الإجماع والخلاف في الأبواب التي يحتاج فيها إلى الاجتهاد فإن كلامه في هذا الاجتهاد كلام عن غير تأهّل يفضي به إلى القول في القرآن بغير علم.
شروط الاجتهاد المعتبر في التفسير
ولذلك يُشترط للمفسّر المجتهد ثلاثة شروط:
الشرط الأول: التأهّل في العلوم التي يُحتاج إليها في الباب الذي يجتهد فيه، وهذا الاجتهاد يتجزّأ؛ إذ لكلّ باب ما يتطلّبه.
والشرط الثاني: أن يعرف موارد الاجتهاد، وما يسوغ أن يجتهد فيه مما لا يسوغ.
والشرط الثالث: أن لا يخرج باجتهاد يخالف أصلاً من الأصول التي تُبنى عليها دلالة الاجتهاد؛ فلا يخالف باجتهاده نصّا ولا إجماعاً، ولا قول السلف، ولا دلالة اللغة.
وكلّ اجتهاد خالف واحداً من هذه الأصول فهو اجتهاد مردود.
والقول الذي يخرج به صاحب الاجتهاد المعتبر في التفسير قول له حظّ من النظر، وهذا هو معنى الاعتبار.
ثم قد يكون هذا القول قولاً راجحاً يقيم له المجتهد أدلّة أو قرائن صحيحة ترجّحه، وقد يكون مرجوحاً عند مجتهدين آخرين بحسب ما يؤدّيهم إليه اجتهادُهم.
الاجتهاد غير المعتبر في التفسير
والاجتهاد غير المعتبر في التفسير؛ هو الذي لا يُعتدّ به في الموازنة بين الأقوال التفسيرية، ولا يحكى إلا على سبيل التنبيه أو التعجب.
أنواع التفسير بالرأي
اشتهر التعبير عن هذا الطريق عند جماعة من أهل التفسير باسم التفسير بالرأي، وقسّموه إلى قسمين:
القسم الأول: التفسير بالرأي المحمود، ويعنون به الاجتهاد المشروع المعتبر، على ما تقدّم وصفه.
والقسم الثاني: التفسير بالرأي المذموم ويعنون به تفاسير أهل البدع الذين يفسّرون القرآن بآرائهم المجرّدة، وبما يوافق أهواءهم ومذاهبهم.
وهذا التقسيم وإن بدا واضحاً من جهة التنظير المجرّد إلا أنَّ تنزيلَه على أحوال المفسّرين من أهل العلم يثير إشكالات لا بدّ من تبيينها، ومن ذلك:
1. أن المشتهر عند جماعة من السلف التحذير من التفسير بالرأي، ولا يعنون بذلك الاجتهاد في موارد الاجتهاد في التفسير على ما سبق شرحه؛ إذ كان كثير منهم أهل اجتهاد في التفسير مع تحذيرهم من التفسير بالرأي.
وإنما كانوا يعنون به القول في القرآن بالرأي المجرّد، والإعراض عن آثار من سلف، فإنّ من كان مقصّراً في تحصيل أقوال من مضى من الصحابة والتابعين في التفسير، واعتمد على رأيه ونظره مع ضعف أهليّته في الحديث وعلوم اللغة أوقعَه نظرُه ورأيه في أخطاء، إذ كان مثله كمثل السائر بغير نور ولا عدّة، ولا سيّما إذا صاحب ذلك الاجتهاد في غير موارد الاجتهاد، وإرادة الانتصار لمذهب أو رأي.
2. أن أهل الرأي المعروفين من أهل العراق أتباع حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل وغيرهم كان لهم اجتهاد في التفسير فمنه ما أحسنوا فيه وأصابوا، ومنه ما أخطأوا فيه وردّ عليهم من السلف من بيّن خطأهم مما يُعدّ من التفسير بالرأي المذموم كإنكارهم عليهم بدعة الإرجاء وما تأوّلوه من النصوص فيها، وأقوالهم فيما خالفوا فيه الأحاديث الصحيحة التي لم يكن لهم من العناية بجمعها ودراستها ما لأهل الحديث المعروفين به.
وهؤلاء الفقهاء من أهل الرأي كانوا معروفين بالعلم والالتزام بالسنة ولهم نصيب من العلم بالحديث والتفقّه فيه إلا أن منهم من وقع في أخطاء في جُمل من الاعتقاد، ومنهم من رجع عنها، ومنهم من امتحن فيها، ووقوعهم في تلك الأخطاء لم يخرجهم من دائرة السنة، ولا دائرة السلف؛ إذ كانوا في عامّة أمورهم من أهل السنة.
فاجتهادهم في التفسير في غير الأبواب التي أخطأوا فيها يقع منه صواب كثير جارٍ على أصول الاجتهاد المعروفة عند السلف، وإن أُخذ على بعضهم ضعف الآلة في الحديث وعلومه وإكثار الاعتماد على النظر والقياس والتعليل.
ومن كان ضعيف المعرفة بالحديث كثير الاعتماد على النظر لم يُستغرب وقوعه في أخطاء يؤدّيه إليها نظره وقياسه، ولذلك أمثلة كثيرة.
والمقصود أن تصنيف هؤلاء من أهل الرأي المذموم لا يصحّ؛ لأنهم جماعة من الأئمة المعروفين بالعلم والفقه في الدين.
ولا يصحّ إطلاق القول في تصنيفهم بأنّهم من أهل الرأي المحمود لما في ذلك من تزكية آرائهم التي أخطأوا فيها، وأنكرها عليهم السلف الصالح.
ولا يصحّ القول بتميّزهم عن السلف في التفسير بالرأي لاشتراكهم في كثير من موارد الاجتهاد، وتناولهم المسائل التي تناولها بقيّة الأئمة واتّفاقهم في كثير من المسائل، وما اختلفوا فيه كان له أسباب كثيرة لا تُقصر على اعتمادهم على النظر والقياس.
ولأجل هذا الالتباس عدلت عن الاعتماد على اسم الرأي في تسمية هذا الطريق من طرق التفسير إلى اختيار اسم الاجتهاد لأنه الأقرب إلى استعمال السلف، وما أصاب فيه من يُسمّون أهل الرأي المحمود فهو داخل في الاجتهاد المعتبر المشروع، وما أنكره عليهم السلف فلا يعدّ من الاجتهاد المعتبر.
والمراد بالاجتهاد اجتهاد الرأي، كما روي ذلك عن جماعة من الصحابة إلا أن لفظ الاجتهاد مع بيان موارده يدلّ على أن اعتماد صاحبه ليس على مجرّد نظره ورأيه، وإنما هو اجتهاد منضبط بحدود وآداب، وله موارد ودلالات.