فَصْلٌ
فِي أَحْكَامِ الاقتِدَاءِ
(يَصِحُّ اقتداءُ المأمومِ بالإمامِ) إِذَا كانَا (في المَسجدِ وإن لم يَرَهُ ولا مَن وَرَاءَهُ, إذا سَمِعَ التَّكْبِيرَ)؛ لأنَّهم في مَوْضِعِ الجَماعةِ ويُمْكِنُهم الاقتداءُ به بسماعِ التَّكْبيرِ شِبْهِ المُشَاهَدَةِ، (وكذا) يَصِحُّ الاقتداءُ إذا كانَ أَحَدُهُمَا (خَارِجَهُ)؛ أي: خَارِجَ المَسْجِدِ (إنْ رَأَى) المأمومُ (الإمامَ, أو) بَعْضَ (المَأْمُومِينَ) الذينَ وراءَ الإمامِ, ولو كانَتِ الرُّؤْيَةُ في بعضِ الصَّلاةِ أو مِن شُبَّاكٍ ونَحْوِه، وإنْ كَانَ بينَ الإمامِ والمأمومِ نَهَرٌ تَجْرِي فيه السُّفُنُ أو طَرِيقٌ ولم تَتَّصِلْ فيه الصُّفُوفُ حيثُ صَحَّت فيهِ، أو كانَ المأمومُ بسفينةٍ وإِمَامُه في أُخْرَى في غَيْرِ شِدَّةِ خَوْفٍ, لم يَصِحَّ الاقتِدَاءُ.
(وتَصِحُّ) صلاةُ المَأْمُومِينَ (خَلْفَ إمامٍ عالٍ عنهم)؛ لفِعْلِ حُذَيْفَةَ وعَمَّارٍ, رواهُ أَبُو دَاوُدَ.
(ويُكْرَهُ) عُلُوُّ الإمامِ عَن المأمومِ (إذا كانَ العُلُوُّ ذِرَاعاً فأَكْثَرَ)؛ لقَوْلِه صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّمَ: ((إِذَا أَمَّ الرَّجُلُ القَوْمَ فَلاَ يَقُومَنَّ فِي مَكَانٍ أَرْفَعَ مِن مَكَانِهِمْ)). فإنْ كَانَ العُلُوُّ يَسِيراً دونَ ذِرَاعٍ لم يُكْرَهْ: لصلاتِه صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّمَ على المِنْبَرِ في أَوَّلِ يَوْمٍ وُضِعَ، فالظَّاهِرُ أنَّهُ كانَ على الدَّرَجَةِ السُّفْلَى جَمْعاً بينَ الأخبارِ، ولا بَأْسَ بعُلُوِّ المأمومِ.
(كـ) ما تُكْرَهُ (إِمَامَتُه في الطَّاقِ)؛ أي: طَاقِ القِبْلَةِ, وهي المِحْرَابُ، رُوِيَ عَن ابنِ مَسْعُودٍ وغَيْرِه؛ لأنَّه يَسْتَتِرُ عَن بَعْضِ المَأْمُومِينَ, فإن لم يَمْنَعْ رُؤْيَتَهُ لم يُكْرَهْ.
(و) يُكْرَهُ (تَطَوُّعُه مَوْضِعَ المَكْتُوبَةِ) بعدَها؛ لقَوْلِه صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: ((لا يُصَلِّيَنَّ الإِمَامُ فِي مَقَامِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ المَكْتُوبَةَ حَتَّى يَتَنَحَّى عَنْهُ)). رواهُ أَبُو دَاوُدَ عَن المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ.
(إلاَّ مِن حَاجَةٍ) فِيهِمَا بأنْ لا يَجِدَ مَوْضِعاً خَالِياً غَيْرَ ذلكَ. (و) يُكْرَهُ للإمامِ (إِطَالَةُ قُعُودِه بَعْدَ الصَّلاةِ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ)؛ لقَوْلِ عَائِشَةَ: كانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّمَ إذا سَلَّمَ لم يَقْعُدْ إلا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ تَبَارَكْتَ يَاذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) رواهُ مُسْلِمٌ.
فيُسْتَحَبُّ له أنْ يَقُومَ أو يَنْحَرِفَ عَن قِبْلَتِه إلى مَأْمُومٍ جِهَةَ قَصْدِه، وإلا فعن يَمِينِه.
(فإن كانَ ثَمَّ)؛ أي: هناكَ (نِسَاءٌ, لَبِثَ) في مَكَانِه (قَلِيلاً, لِيَنْصَرِفَنَّ)؛ لأنَّه صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّمَ وأَصْحَابَهُ كانُوا يَفْعَلُونَ ذلكَ، ويُسْتَحَبُّ أن لا يَنْصَرِفَ المأمومُ قَبْلَ إِمَامِه؛ لقَوْلِه صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّمَ: ((لاَ تَسْبِقُونِي بِالانْصِرَافِ)). رواهُ مُسْلِمٌ.
قالَ في (المُغْنِي) و(الشَّرْحِ): إلاَّ أَنْ يُخَالِفَ الإمامُ السُّنَّةَ في إِطَالَةِ الجُلُوسِ, أو لم يَنْحَرِفْ, فلا بَأْسَ بذلكَ. (ويُكْرَهُ وُقُوفُهُم)؛ أي: المَأْمُومِينَ (بَيْنَ السَّوَارِي إذا قَطَعْنَ) الصُّفُوفَ عُرْفاً بلا حَاجَةٍ؛ لقَوْلِ أَنَسٍ: (كُنَّا نَتَّقِي هذا على عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). رواهُ أَحْمَدُ وأَبُو دَاوُدَ وإِسْنَادُه ثِقَاتٌ.
فإن كانَ الصَّفُّ صَغِيراً قَدْرَ ما بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ, فلا بَأْسَ، وحَرُمَ بِنَاءُ مَسْجِدٍ يُرَادُ به الضِّرَارُ لمَسْجِدٍ بقُرْبِه، فيُهْدَمُ مَسْجِدُ الضِّرَارِ, ويُبَاحُ اتِّخَاذُ المِحْرَابِ, وكُرِهَ حُضُورُ مَسْجِدٍ وجَمَاعَةٍ لِمَن أَكَلَ بَصَلاً ونَحْوَه حتَّى يَذْهَبَ رِيحُه.