دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > بيان المُستشكل > تفسير آيات أشكلت لابن تيمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15 ربيع الثاني 1432هـ/20-03-2011م, 11:54 AM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 7,079
افتراضي فصل في الربا

فصل في الربا

قد تدبرت الربا مرَّات عودًا على بدءٍ وما فيه من النصوص والمعاني والآثار فتبين لي ولا حول ولا قوة إلا بالله بعد استخارة الله أن أصل الربا هو الإنساء مثل أن يبيع الدراهم إلى أجل بأكثر منها.
ومنها أن يؤخر دينه ويزيد في المال وهذا هو الربا الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية وقد سئل أحمد بن حنبل عن الربا الذي لا شك فيه فذكر هذا وهو أن يكون له دين فيقول له أتقضي أم تربي فإن لم يقضه زاده في المال وزاده
[تفسير آيات أشكلت: 2/597]
هذا في الأجل فيربو المال على المحتاج من غير نفع حصل له ويزيد مال المربي من غير نفع حصل منه للمسلمين.
فهذا حرمه الله تعالى لأن فيه ضرارًا على المحاويج وفيه أكل المال بالباطل.
وقد كان من العلماء المشهورين في زماننا غير واحدٍ يقولون لا نعرف حِكم تحريم الربا وذلك أنهم نظروا في جملة ما يحرم فلم يروا فيه مفسدة ظاهرة.
والتحقيق أن الربا نوعان جلي وخفي.
فالجلي حرم لما فيه من الضرر والظلم.
والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلي فربا النَّسَاء من الجلي فإنه يضر بالمحاويج ضررًا عظيمًا ظاهرًا وهذا مجرب والغني يأكل أموال الناس بالباطل لأن ماله رَبَا من غير نفع حصل للخلق ولهذا جعل الله الربا ضد الصدقات فقال {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}.
وِقال {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}.
[تفسير آيات أشكلت: 2/598]
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم في أول ما أنزل عليه {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}.
وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} الآيات إلى قوله {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
فنهى عن الربا الذي فيه ظلم للناس وأمر بالإحسان إلى الناس المضاد للربا.
وفي الصحيحين عن ابن عباس عن أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما الربا في النسيئة وهذا الحصر يراد به حصول الكمال فإن الربا الكامل هو في النسيئة كما قال ابن مسعود إنما العالِم الذي يخشى الله
[تفسير آيات أشكلت: 2/599]
وكما قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية ومثل ذلك كثير.
فأما ربا الفضل فإنما نهي عنه لسد الذريعة كما في المسند مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سعد لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرَّمَاءَ والرَّمَاءُ هو الربا.
[تفسير آيات أشكلت: 2/600]
وقد تنازع السلف والخلف في ربا الفضل فطائفة من السلف أباحته ولم تحرم منه شيئًا وهذا مشهور عن ابن عباس وهو مروي عن ابن مسعود ومعاوية بل قد رُوي عنه أنه باع المصوغ إلى أجل
[تفسير آيات أشكلت: 2/603]
وبسبب ذلك فارقه عبادة بن الصامت وذهب إلى عمر رضي الله عنه شاكيًا منه.
ويروي عبادة حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الأصناف الستة وقد قيل كانوا في
[تفسير آيات أشكلت: 2/604]
غزوة قبرص وليس كذلك فإن قبرص إنما غزاها معاوية في خلافة عثمان باتفاق الناس وكانوا قد استأذنوا عمر فيها فنهى لأجل ركوب البحر ثم استأذنوا عثمان فأذن لهم فيها.
وفيها توفيت أم حرام بنت مِلحَان وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه
[تفسير آيات أشكلت: 2/605]
الغزوة وبها احتجوا على جواز الغزو في البحر مع ذكره غزو البحر في حديث.
[تفسير آيات أشكلت: 2/606]
لكن شكوى عبادة إلى عمر قد كان قبل ذلك في بعض المغازي فإن معاوية فتح قيسارية وكانت مدينة بالساحل عظيمة ولعل النزاع كان فيها وقد غنم
[تفسير آيات أشكلت: 2/607]
المسلمون آنية من ذهب وفضة فصار في الخمس منها ما صار فباعهم معاوية ذلك إلى العطاء.
فصار بيع الإناء الذي وزنه عشرون درهمًا بثلاثين درهمًا لأجل صيغته والناس رغبوا في ذلك لأنه إلى العطاء مؤخر عنهم ويأخذون ذلك الساعة وينتفعون بها فأنكر ذلك عبادة وتقاول هو ومعاوية في ذلك والقصة مشهورة.
ولما أنكر أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة ذلك على ابن عباس
[تفسير آيات أشكلت: 2/608]
روى أبو سعيد حديث خيبر لما قال له وكيله إنما نبتاع الصاع من التمر الجنيب وهو جيد التمر بالصاعين من الجمع وهو المخلوط فقال إنه عين الربا ولكن بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا وقال في الميزان مثل ذلك.
ثم اتفق الناس على تحريم ربا الفضل في الأعيان الستة التي جاءت بها الأحاديث وهي من أفراد مسلم من حديث عبادة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
[تفسير آيات أشكلت: 2/609]
الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مِثلًا بمثل سواءً بسواء يدًا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا حيث شئتم إذا كان يدًا بيد وتنازعوا فيما سوى ذلك على أقوال:
فطائفة لم تحرم ربا الفضل في غيرها وهذا مأثور عن قتادة وهو قول أهل الظاهر وابن عقيل في آخر مصنفاته رجح هذا القول مع كونه
[تفسير آيات أشكلت: 2/610]
يقول بالقياس قال لأن علل القياس في مسألة الربا علل ضعيفة وإذا لم يظهر فيه علة امتنع القياس.
وطائفة حَرَّمته في كل مكيل وموزون كما روي عن عمار بن ياسر وبه أخذ أحمد بن حنبل في المشهور عنه وهو قول أبي حنيفة وغيره.
وطائفة حرمته في الطعام وإن لم يكن مكيلًا وموزونًا كقول
[تفسير آيات أشكلت: 2/611]
الشافعي وأحمد في رواية.
وطائفة لم تحرمه إلا في المطعوم إذا كان مكيلًا أو موزونًا وهذا قول سعيد بن المسيب والشافعي في قول وأحمد في الرواية
[تفسير آيات أشكلت: 2/612]
الثالثة اختارها الشيخ أبو محمد وهو قريب من قول مالك القوت وما يُصلح القوت وهذا القول أرجح الأقوال.
وقد حكي عن بعض المتأخرين أنه يحرم في جميع الأموال لكن هذا ما علمت به قائلًا من المتقدمين.
[تفسير آيات أشكلت: 2/613]
فنقول أما الدراهم والدنانير فالعلة فيهما الثمن بدليل أنه يجوز إسلافهما في الموزونات من النحاس وغيره ولو كان الربا جاريًا في النحاس لم يبع موزون بموزون إلى أجل كما لا يباع تمر بحنطة ودراهم بدنانير إلى أجل وهم يسلمون أن هذا خلاف القياس والعلة إذا انتقضت من غير فرق علم أنها علة باطلة.
وأيضًا فالتعليل بكونه موزونًا أو مطعومًا علل ليس فيها ما يوجب الحكم بل طرد محض كما بسط في غير هذا الموضع.
ولكن الدراهم والدنانير هي أثمان المبيعات والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا لا ترفع قيمته ولا تنخفض إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به
[تفسير آيات أشكلت: 2/614]
المبيعات بل الجميع سلع والحاجة إلى أن يكون للناس ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة عامة فإنه قد يحتاج إلى بيع ثمن بغير إذن صاحبه فلا يباع إلا بثمن المثل كتقويم الشقص على من أعتق نصيبه.
والناس يشترون بالسعر شراءً عامًّا فإن لم يكن سعر لم يعرف ما لبعضهم عند بعض وقد يُقوِّمون بينهم عروضًا وغيرها ممن لا تعدل فيه الأنصباء إلا بالقيمة.
ففي الجملة الحاجة إلى التقويم في الأموال حاجة عامة وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة وذلك لا يكون إلا إذا كان هناك ثمن تقوَّم به الأشياء وتعتبر وذلك إنما يكون إذا كان ذلك الثمن باقيًا على حال واحدة لا تزداد فيه القيمة ولا تنقص.
وقد حرم فيهما ربا النَّسَاء لما فيه من الضرر كما تقدم ولو أبيح فيها ربا الفضل مثل أن يبيعوا دراهم بدراهم أكثر منها مثل أن يكون محتاجًا إلى دراهم خفافًا وأنصافًا ومكسرةً فيشتريهما فلا يبيعه الصيرفي إلا بفضل باق يأخذ منه من الصحاح أكثر من وزنها صار ذلك تجارة في الثمن ومتى اتجروا فيها نقدًا تذرعوا إلى التجارة فيها نسيئة.
ولو أبيحت التجارة في الأثمان مثل أن يبيع دراهم بدراهم إلى أجل لصارت الدراهم سلعة من السلع وخرجت عن أن تكون أثمانًا فحرم فيها ربا
[تفسير آيات أشكلت: 2/615]
الفضل لأنه يفضي إلى ربا النَّسَاء وربا النَّسَاء فيها يضر وإن اختلفت بالصفات لأنه يخرجها عن أن تكون أثمانًا.
وإذا وقعت فيها التجارة قصدت صفاتها فيقصد كل واحد ادخار ما يرتفع ثمنه في وقت كما يصنعون بالدراهم إذا كانت نقودًا ينقون خيارها وكما يصنعون بالفلوس أحيانًا.
وهذا كله مما نهي عنه في الأثمان فالأثمان المتساوية متى جعل بعضها أفضل من بعض حصل الفساد بل لا بد ألا تقصد لأعيانها بل يقصد التوسل بها إلى السلع.
والناس كلهم يشتركون في التوسل بها وهي دائرة بين الناس بمنزلة العلامة ولهذا في بعض البلاد يتخذون أثمانًا من نوع آخر وهذا معنى معقول في الأثمان مختص بها فلا يتعدى إلى النحاس والحديد والقطن والكتان فإنه لا فرق بين تلك وبين غيرها بل المطعومات أشرف منها.
وأما الأصناف الأربعة فالناس محتاجون إلى القوت كالأصناف الأربعة وكما يشابهها من المكيلات فمن تمام مصلحة الناس أن لا يتجر في بيع بعضها ببعض لأنه متى اتجر في ذلك خزنها الناس ومنعوا المحتاج منها فيفضي إلى أن يعز الطعام على الناس ويتضررون بتقليل الانتفاع به وهذا هو في بيع
[تفسير آيات أشكلت: 2/616]
بعضها ببعض إلى أجل.
فإنه متى بيعت الحنطة بالحنطة إلى أجل أو التمر بالتمر أو الشعير بالشعير ونحوه سمحت الأنفس ببيعها حالَّة طمعًا في الربح إذا بيعت إلى أجل وإذا لم تبع حالَّة تضرر الناس بل حينئذ لا تباع إلا بزيادة فيها فيضر الناس بخلاف بيعها بالدراهم فإن من عنده صنف منها هو محتاج إلى الصنف الآخر فيحتاج أن يبيعه بالدراهم ليشتري به الصنف الآخر أو يبيعه بذلك الصنف بلا ربح.
وعلى التقديرين يحتاج إلى بيعه حالًّا بخلاف ما لو أمكنه التأخر فإنه يمكنه أن يبيعه بفضل ويحتاج أن يشتري الصنف الآخر بفضل لأن صاحب ذلك الصنف يربي عليه كما أربى هو على غيره فيتضرر هذا ويتضرر هذا من تأخر هذا ومن تأخر هذا.
فكأن في التجارة فيها ضررًا عامًّا فنهي عن بيع بعضها ببعض نَساء وهذا من ربا النسيئة وهو أصل الربا لكن هنا النسيئة في صنفين مُعَللين وهو كبيع الدراهم بالدنانير نساء وهذا من ربا النسيئة وهو ما ثبت
[تفسير آيات أشكلت: 2/617]
تحريمه بالنص والإجماع.
فربا النسيئة يكون في الصنف الواحد وفي الصنفين اللذين مقصودهما واحد كالدراهم مع الدنانير وكالأصناف الأربعة التي هي قوت الناس.
وأما ربا الفضل فإذا باع حنطة بحنطةٍ خير منها مد بمدَّين كان هذا تجارة فيها ومن سوَّغ التجارة فيها نقدًا طلبت النفوس التجارة فيها نَساء كما تقدم في النقدين وإن لم يشترطوا ذلك بل قد يتعاقدان على الحلول.
والعادة جارية بأنك تصبر عليَّ كما هو الواقع في كثير من السلع وكما يفعل أرباب الحيل يطلقون العقد وقد تواطأوا على أمر آخر كما يطلقون عقد نكاح التحليل وقد اتفقوا على أنه يُطلق ويطلقون البيع على بيع الفضة بالفضة وقد اتفقوا على أنه باذل عنها ذهبًا واتفقوا على أنه يبيعه السلعة إلى أجل وقد اتفقوا على أنه يعيدها إليه بدون ذلك الثمن ومثل ذلك كثير.
كذلك يطلقون بيع الدراهم بالدراهم على أنها حالة ويؤخر الطلب لأجل الربح.
[تفسير آيات أشكلت: 2/618]
فكان يحرم ربا الفضل لأنه ذريعة إلى ربا النساء كما جاءت هذه العلة منصوصة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرَّماءَ والرَّماءُ هو الربا وإلا فمعلوم أنه مع استواء الصفات لا يبيع أحد مدّ حنطة أو تمر مُدًّا بُمدٍّ يدًا بيد هذا لا يفعله أحد.
وإنما يفعل هذا عند اختلاف الصفات مثل أن يكون هذا جيدًا وهذا رديئًا أو هذا جديدًا وهذا عتيقًا وإذا اختلفت الصفات فهي مقصودة ولهذا يجب له في القرض مثل ما أقرضه على صفته وكذلك في الإتلاف لأنه في القرض لم يقصد البيع وإنما قصد نفعه فهو بمنزلة العارية.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم منيحة الوَرِق ويقال فيه أعرني دراهمك
[تفسير آيات أشكلت: 2/619]
فهو يستعير تلك الدراهم ينتفع بها مدة ثم يردها وعينها ليست مقصودة ويرد جنسها كما في القراض يرد رأس المال ثم يقتسمان الربح وعين ما عطاه ليس مقصودًا بل المقصود الجنس فهذه أمور معقولة جاءت بها الشريعة في مصالح الناس.
ولما خفيت علة تحريم الربا أباحه مثل ابن عباس حبر الأمة ومثل ابن مسعود فإن الحنطة الجيدة والتمر الجيد يقال لصاحبه ألغ صفات مالك الجيدة لكن لما كان المقصود أنك لا تتجر فيها لجنسها بل إن بعتها لجنسها
[تفسير آيات أشكلت: 2/620]
فلتكن بلا ربح ولا إلى أجل ظهرت الحكمة فإن التجارة في بيعها لجنسها تفسد مقصود الأقوات على الناس.
وهذا المعنى ظاهر في بيع الدراهم بالدراهم وفي بيع التبر بالدراهم لأن التبر ليس فيه صنعة تقصد لأجلها فهو بمنزلة الدراهم التي قصد أن لا تفضل على جنسها ولهذا جاء في الحديث تبره وعينه سواء.
[تفسير آيات أشكلت: 2/621]


التوقيع :
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 15 ربيع الثاني 1432هـ/20-03-2011م, 11:56 AM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 7,079
افتراضي

فصل
وأما المصوغ من الدراهم والدنانير فإن كانت صياغة محرمة كالآنية فهذه تحرم بيع المصاغة لجنسها وغير جنسها وبيع هذه هو الذي أنكره عبادة على معاوية.
وأما إن كانت الصياغة مباحة كخواتيم الفضة وكحلية النساء وما أبيح من حلية السلاح وغيرها من الفضة وما أبيح من الذهب عند من يرى ذلك فهذه لا يبيعها عاقل بوزنها فإن هذا سفه وتضييع للصنعة والشارع أجل من أن يأمر بذلك ولا يفعل ذلك أحد البتة إلا إذا كان متبرعًا بدون القيمة.
وحاجة الناس ماسة إلى بيعها وشرائها فإن لم يُجَوِّز بيعها بالدراهم والدنانير فسدت مصلحة الناس.
[تفسير آيات أشكلت: 2/622]
والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما هو صريح في هذا فإن أكثرها إنما فيه الدراهم والدنانير وفي بعضها لفظ الذهب والفضة.
وجمهور العلماء يقولون هو لم يدخل في ذلك الحلية المباحة بل لا زكاة فيها فكذلك الحلية المباحة لم تدخل في نصوص الربا فإنها
[تفسير آيات أشكلت: 2/623]
بالصيغة المباحة صارت من جنس الثياب والسلع لا من جنس الأثمان فلهذا لم يجب فيها زكاة الدنانير والدراهم ولا يحرم بيعها بالدنانير والدراهم.
ومما يبين ذلك أن الناس كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يتخذون الحيلة وكن النساء يلبسن الحلية وقد أمرهن النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد أن يتصدقن وقال إنكن أكثر أهل النار فجعلت المرأة تلقي حليها وذلك مثل الخواتيم والقلائد.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي ذلك الفقراء والمساكين وكانوا يبيعون
[تفسير آيات أشكلت: 2/624]
ومعلوم بالضرورة أن مثل هذا لا بد أن يباع ويشترى ومعلوم بالضرورة أن أحدًا لا يبيع هذا بوزنه ومن فعل هذا فهو سفيه يستحق أن يحجر عليه.
كيف وقد كان بالمدينة صوَّاغون والصائغ قد أخذ أجرته فكيف يبيعه صاحبه ويخسر أجرة الصائغ هذا لا يفعله أحد ولا يأمر به صاحب شرع بل هو منزه عن مثل هذا.
ولا يعرف عن الصحابة أنهم أمروا في مثل هذا أن يباع بوزنه وإنما كان النزاع في الصرف والدرهم بالدرهمين فكان ابن عباس يبيح ذلك وأنكره عليه أبو سعيد وغيره والمنقول عن عمر إنما هو في الصرف.
وأيضًا فتحريم ربا الفضل إنما كان لسَدِّ الذريعة وما حرم لسَدِّ الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة كالصلاة بعد الفجر والعصر لما نهي عنه لئلا يتشبه بالكفار الذين يعبدون الشمس ويسجدون للشيطان أبيح للمصلحة
[تفسير آيات أشكلت: 2/625]
الراجحة فأبيح صلاة الجنازة والإعادة مع الإمام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى الفجر ورأى رجلين لم يصليا وقالا صلينا في رحالنا فقال إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة.
[تفسير آيات أشكلت: 2/626]
وكذلك ركعتا الطواف وكذلك على الصحيح ذوات الأسباب مثل تحية
[تفسير آيات أشكلت: 2/627]
المسجد وصلاة الكسوف وغير ذلك.
[تفسير آيات أشكلت: 2/628]
وكذلك النظر للأجنبية لما حرم سَدًّا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة كما أبيح للخطاب وغيره وكذلك بيع الربوي بجنسه لما أمر فيه بالكيل والوزن لسد الذريعة أبيح بالخرص عند الحاجة وغير ذلك كثير في الشريعة.
كذلك هنا بيع الفضة بالفضة متفاضلًا لما نهي عنه في الأثمان لئلا يفضي إلى ربا النَّسَاء الذي هو الربا فنهي عنه لسد الذريعة كان مباحًا إذا احتيج إليه للمصلحة الراجحة.
وبيع المصوغ مما يحتاج إليه ولا يمكن بيعه بوزنه من الأثمان فوجب أن يجوز بيعه بما يقوم به من الأثمان وإن كان الثمن أكثر منه تكون الزيادة في مقابلة الصنعة.
[تفسير آيات أشكلت: 2/629]
والزيادة هنا تعقل إذ من يأخذ لها أجرة بخلاف الزيادة في الأصناف الأربعة فإنها من نِعَم الله المخلوقة فجاز أن يؤمر ببذلها إذا بيعت بجنسها أحيانًا وأما هنا فهو ظلم لمن أعطى أجرة الصياغة أن يقال بعها واخسر الأجرة.
والدراهم والدنانير لا تتقوم فيها الصنعة وأما النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه فلم يضربوا درهمًا ولا دينارًا بل كانوا يتعاملون بضرب غيرهم وأول من ضربها في الإسلام عبد الملك بن مروان والسلطان إذا ضربهما ضربهما لمصلحة الناس وإن ضربها ضارب بأجر والضارب الآخر ضربها بأجر.
والمقصود أن كل معار للناس لا يتجرون فيها كما تقدم فلا يشبه بيع بعضها ببعض متساويًا ببيع المصوغ ولهذا مازال الناس يقابض بعضهم بعضًا
[تفسير آيات أشكلت: 2/630]
الدراهم مثل أن يكون عند هذا دراهم كاملة ثقيلة وهو يطلب خفافًا وأنصافًا فيطلب من يقابضه فيقابضه الناس ولا يرون أنهم خسروا شيئًا بخلاف ما لو طلب أن يبيعوه المصوغ بوزنه دراهم فإنهم يرونه ظالمًا لهم معتديًا ولا يجيبه إلى ذلك أحد.
وبالجملة فلا بد من أربعة أمور:
إما أن يقال هذه لا تباع بحال فهو ممتنع في الشرع.
أو يقال لا تباع إلا بوزنها ولا يحتال في بيعها بغير الوزن وأيضًا لا يفعله أحد.
أو يقال لا تباع إلا بوزنها ولكن احتالوا في ذلك حتى يبيعونها بوزنها فهذا مما لا فائدة فيه بل هو أيضًا إتعاب للناس وتضييع للزمان به وعيب ومكر وخداع لا يأمر الله به.
وإما أن يقال بل تباع بسعرها بالدراهم والدنانير وهذا هو الصواب وهذا القسم حاضر ثم إذا بيعت بالسعر فإنها تباع بالنقد وأما بيعها بالنَّسَاء فلا يحتاج إليه وهو محتمل وقد يحتاج إليه.
وهكذا سائر ما يدخل في الذهب والفضة في لباس كلباس النِّسَاء الذي فيه ذهب وفضة فإنه يباع بالذهب أو الفضة بسعره.
وأواني الذهب والفضة وصيغتها محرمة وأجرة ذلك محرمة فإذا
[تفسير آيات أشكلت: 2/631]
بيعت لم تحرم الزيادة لكونها ربا بل لكونها غير متقومة وهو كبيع الأصنام وآلات اللهو.
وهنا يتصدق بهذه الزيادة ولا تعاد إلى المشتري لأنه قد اعتاض عنها فلو جمع له بين العوض والمعوض لكان ذلك أبلغ في إعانته على المعصية وهكذا من باع خمرًا أو باع عصيرًا لمن يتخذه خمرًا فهنا يتصدق بالثمن وهكذا من كسب مالًا من غِناء أو فجور فإنه يتصدق به.
وكل موضع استوفى الآخر العوض المحرم وهو قاصد له غير مغرور فإنه يتصدق بالعوض ولا يجمع له بين هذا وهذا فإنه إذا حرم أن يعطاه بثمن يؤخذ منه فلأن يحرم أن يعطاه ويعطى الثمن أولى وأحرى اللهم إذا تاب أو كان في إعطائه مصلحة فيجوز لأجله.
وعلى هذا فتجوز التجارة في الحلي المباح بل ويجوز الأجل فيه إذا لم يقصد إلا الانتفاع بالحلية لم يقصد كونها ثمنًا كما يجوز بيع سائر السلع إلى أجل فإن هذه سلعة من السلع التي ليست ربوية.
[تفسير آيات أشكلت: 2/632]


التوقيع :
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 15 ربيع الثاني 1432هـ/20-03-2011م, 11:59 AM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 7,079
افتراضي

فصل
والذي يصنع من الأصناف الأربعة إن خرج عن كونه قوتًا كالنشا ونحوه لم يكن من الربويات وإن كان قوتًا كان جنسًا قائمًا بنفسه فلم يحرم بيع الخبز بالهريسة ولا بيع الناطب بالحَبِّ فإن هذه الصنعة لها قيمة فلا تضيع على صاحبها كالحلية ولم يحرم بيع بعض ذلك ببعض لا نصًّا ولا إجماعًا ولا قياسًا بل هذه الأجناس المختلفة يباع بعضها ببعض متفاضلًا.
والنزاع في مسألة بيع اللحم بالحيوان مشهور وحديثه من مراسيل سعيد
[تفسير آيات أشكلت: 2/633]
ابن المسيب وهو إذا ثبت فيما إذا كان الحيوان مقصود اللحم كشاة يريدون
[تفسير آيات أشكلت: 2/634]
ذبحها يبيعونها بلحم يكون قد باعوا لحمًا بلحم أكثر منه من جنس واحد واللحم قوت مطعوم يوزن فما كان مثله ألحق به.
ولا يلزم إذا حرم البيع لما فيه من الضرر أن يحرم ذلك في الاستيفاء مع أنه منفعة بلا ضرر مثال ذلك مسألة عَجِّلْ لي وأضع عنك مثل أن يكون له عند رجل مائة درهم مؤجلة فيقول له عجل لي تسعين وأضع عنك عشرة.
فقد قيل إن هذا لا يجوز لأنه بيع مائة مؤجلة بتسعين حالة.
[تفسير آيات أشكلت: 2/635]
وقيل يجوز كما نقل عن ابن عباس وغيره ورواية عن أحمد وهذا أقوى فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أذن في ذلك لما أراد إجلاء اليهود فقالوا لنا ديون على الناس فقال ضعوا عنهم وليعجلوا لكم ذلك.
وذلك أنه هناك حرم لما فيه من ضرر المحتاج وهو الذي يأخذ التسعين فإنه يأخذها ويبقى عليه مائة فيتضرر ببقاء الزيادة في ذمته وهنا المائة له فهو غني وهو يضع منها عشرة عن المدين والمدين هو المحتاج في العادة ففي هذا رفق
[تفسير آيات أشكلت: 2/636]
بالمدين بالوضع عنه وفيه منفعة للآخذ لحاجته إلى التعجيل والآخذ منها هو صاحب المائة فكأنه استأجر من المائة بعشرة دراهم من عجلها له بخلاف ما إذا بقيت المائة في ذمة المحتاج.
فيجب أن يفرق بين العوض الساقط من الذمة والعوض الواجب في الذمة فالعوض هنا ساقط من ذمة المدين لا واجب في ذمته ومما يشبه ذلك أنه روي حديث أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ أي المؤخر
[تفسير آيات أشكلت: 2/637]
بالمؤخر وإسناده ضعيف لكن العمل عليه مثل أن يسلم مائة مؤجلة في غِرارة قمح فلا هذا قبض شيئًا ولا هذا قبض شيئًا بل اشتغلت ذمة كل منهما بما عليه من غير منفعة.
والمقصود هنا بالبيع قبض المبيع.
وأما بيع التأجيل إذا كان فيه قبض أحد العوضين بمصلحة القابض في ذلك فاحتمل بقاء العوض الآخر في الذمة لمصلحة هذا وإلا فالواجب تفريغ الذمم بحسب الإمكان وهنا اشتغلت ذمة كل منهما بغير منفعة فهذا متفق على المنع منه.
[تفسير آيات أشكلت: 2/638]
وقد اشتهر أنه نهى عن بيع الدين بالدين لكن هذا اللفظ لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الدين المطلق هو المؤخر فيكون هو بيع الكالئ بالكالئ.
وأما بيع دين موصوف حال بموصوف وقبضهما قبل التفرق مثل بيع مائة مُدٍّ بمائة درهم فهذا جائز بلا خلاف وإذا تفرقا قبل التقابض لم يجز في الربويات عند الجمهور ولو عَيَّن وعند أبي حنيفة التعيين كالمقبوض.
وإذا بيع ساقط بساقط مثل أن يكون لهذا على هذا دراهم ولهذا على هذا دنانير فيقول بعت هذا بهذا وتبرأ الذمتان فهذا فيه قولان والأظهر جواز هذا لأنه برئت ذمة كل منهما فهو خلاف ما يشغل ذمة كل منهما.
[تفسير آيات أشكلت: 2/639]
وكونه يشمله لفظ بيع دين بدين ولو كان هذا لفظ صاحب الشرع لم يتناول هذا فإنه إنما يراد بذلك إذا جعل على هذا دين بدين يجعل على هذا وهنا لم يبق على هذا دين ولا على هذا دين فأي محذور في هذا؟
بل هذا خير من أن يُؤمر كل واحد منهما بإعطاء ما عليه ثم استيفاء ما لَهُ على الآخر فإن في هذا ضررًا على هذا وعلى هذا وتضييع ما لهما لو كان معهما ما يوفيان فكيف إذا لم يكن معهما ذلك ينزه الشرع عن تحريمه فإن الشارع حكيم لا يحرم ما ينفع ولا يضر.
والشارع يحرم أشياء لما فيها من المفاسد فيغلط كثير من الناس فيدخلون في لفظه ما لم يقصده أو يُقوِّلونه أحاديث باطلة لم يَقلها مثل نقل بعضهم أنه نهى عن بيع وشرط
[تفسير آيات أشكلت: 2/640]
ونقل بعضهم أنه نهى عن قفيز الطحان ونحو ذلك من الأحاديث الموضوعة.
[تفسير آيات أشكلت: 2/641]
وقد يفهمون من كلامه معنى عامًّا يحرمون به فيفضي ذلك إلى تحريم أشياء لم يحرمها الله ورسوله كما يفضي مثل ذلك فيما ذكره من نصوص تحريم الأعيان وتنجيسها.
وهذا قد دخل فيه على الأمة يحرمون شيئًا من الأعيان والعقود والأعمال لم يحرمها الشارع وقد ظن كثير من الناس أنه حَرَّمها ثم إما أن يستحلوها بنوع من الحيل أو يقولون بألسنتهم هي حرام وعملهم وعمل الناس بخلافه أو يَلزمون ويُلزمون أحيانًا ما فيه ضرر عظيم.
[تفسير آيات أشكلت: 2/643]
فصل
قد ثبت في الصحاح بل تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام حتى يقبض وقال من ابتاع طعامًا فلا يبيعه حتى يستوفيه وكانوا يتبايعون الطعام صبرة فنهوا بأن يبيعوه في موضعه حتى ينقلوه كما رواه البخاري عن ابن عمر.
[تفسير آيات أشكلت: 2/644]
واضطرب العلماء هنا في تعليل هذا النهي ثم في تعميمه وتخصيصه وإذا خص بماذا يخص ثم هل حكم سائر المعاوضات كالبيع أم لا؟
فمنهم من قال العلة في ذلك توالي الضمانين أنه قبل القبض من ضمان البائع فإذا باعه صار مضمونًا على البائع الثاني وهو المشتري فإذا تلف قبل القبض ضمن البائع الأول للمشتري الأول قيمته والمشتري وهو البائع الثاني للمشتري الثاني قيمته وقد يكون أقل أو أكثر.
وهذا يعلل به من يقول به من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وتنازعوا في العقار.
وأصحاب مالك وأحمد وغيرهما يبطلون هذا التعليل من وجهين من جهة
[تفسير آيات أشكلت: 2/645]
منع الوصف ومنع التأثير.
أما الوصف فيقولون لا نسَلم أن كل مبيع قبل قبضه يكون مضمونًا على البائع بل هذا خلاف السنة الثابتة فقد قال ابن عمر مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حَيًّا مجموعًا فضمانه على المشتري.
وهذا هو الحق فإن المشتري قد ملكه وزيادته له والخراج بالضمان
[تفسير آيات أشكلت: 2/646]
فإذا كان خراجه له كان ضمانه عليه لكن إذا أمكنه البائع من قبضه ولم يقبضه.
فإذا لم يمكنه كان البائع غير فاعل ما أوجبه العقد إما لظلمه وإما لكونه لم يتمكن من قبض الثمن فيكون العقد لم يتم بعد فيكون من ضمان البائع.
وأما منع التأثير فهب أنه يتوالى فيه الضمانان فأي محذور في هذا حتى يكون موجبًا للنهي ولو اشتره مائة واحد من واحد رجع كل واحد على الآخر بما قبَّضه إياه من الثمن ولو ظهر المبيع مستحقًّا لرجعوا بذلك وفي الشقص المشفوع لو تبايعه عشرة ثم أخذه الشفيع من المشتري الأول رجع كل واحد بما أعطاه.
ومن علل بوصفٍ فعليه أن يبين تأثير ذلك الوصف إما لكون الشرع جعل مثله مقتضيًا للحكم وإما لمناسبةٍ تقتضي ترتيب الحكم على الوصف فإن لم يظهر التأثير لا شرعيًّا ولا عقليًّا كان الوصف طرديًّا عديم التأثير.
[تفسير آيات أشكلت: 2/647]
وآخرون قالوا المنع يختص بالطعام لشرفه كما اختص به الربا.
وقيل هو مختص بما يقدر بالكيل أو الوزن وقيل أو العدد أو الذرع لكونه لا يدخل في ضمان المشتري حتى يُقدَّر بذلك وهو يعود إلى توالي الضمانين.
وهذه الأقوال وغيرها في مذهب أحمد وغيره.
ولقائل أن يقول إنما نهى عن ذلك لأن المبيع قبل القبض غرَرٌ قد
[تفسير آيات أشكلت: 2/648]
يسلمه البائع وقد لا يسلمه لا سيما إذا رأى المشتري قد ربح فيه فيختار أن يكون الربح له وهذا واقع كثير يبيع الرجل البيع فإذا رأى السعر قد ارتفع سعى في رد المبيع إما بجحده وإما باحتيال في الفسخ بأن يطلب فيه عيبًا ويدَّعي عيبًا أو غرورًا.
ومن اعتبر أحوال الناس وجد كثيرًا منهم يندم على المبيع وكثيرًا ما يكون لارتفاع السعر فيسعى في الفسخ إن لم يتمكن من المنع بيده وإلا فإذا تمكن من ذلك فهنا إذا باع قبل القبض فإنه كثيرًا ما يفضي إلى ندم البائع فيكون قد باع ما ليس عنده ويحصل الضرر للمشتري الثاني بأن يشتري ما يظن أنه يتمكن من قبضه فيحال بينه وبينه وهذا من بيع الغرر وهذا بخلاف ما لو كان بيده ودفعه له فإنه لا يطمع أن يكون الربح له وكذلك الموروث لا حَق فيه لغير الوارث.
وعلى هذا فالأقوى أنه يجوز فيه التولية والشركة كما قال مالك وغيره لأن المحذور إنما يقع إذا كان هناك ربح ولا ربح في التولية والشركة.
[تفسير آيات أشكلت: 2/649]
وكذلك يجوز بَيْعُهُ مِن بَائِعِهِ لأنه لا محذور فيه وقد قال ابن عباس لا أحسب كل شيء إلا بمنزلة الطعام وروي عنه أنه نهى عن بيع ما لم يقبض ولا ريب أن الضرر يقع في الطعام أكثر ويقع أيضًا في غيره فلا ينبغي أن يباع شيء حتى يقبض وإن كان مضمونًا على المشتري كالصبرة من
[تفسير آيات أشكلت: 2/650]
الطعام وقد يكون مضمونًا على البائع ويحوز بيعه كالتمر إذا بدا صلاحه ولم يتم فكونه مضمونًا على هذا أو على هذا غير لازم لجواز بيعه والتصرف فيه.
وهذه طريقة الخِرَقِي وغيره وهي أصح الطرق فالصبرة من الطعام قد ثبت عن ابن عمر أنه من ضمان المشتري وأنهم كانوا يُنهون عن بيعها حتى ينقلونها والثمر على الشجر قد ثبت أنه ضمان البائع حتى يكمل صلاحه لأن المشتري لم يتمكن من جذاذه.
ومع هذا فالصحيح أنه يجوز بيعه لأن فبضه غير ممكن إلا بالتخلية وقد خلي بينه وبينه كالعقار إذا خلي بينه وبينه وكمال الصلاح إلى الله تعالى لا إلى الناس ولأنه في هذه الحالة كالمنفعة في الإجارة قبضت من وجهٍ دون وجهٍ
[تفسير آيات أشكلت: 2/651]
قبضت العين وما استوفيت المنفعة كذلك هنا خلي بينه وبينه بحيث لو أراد المشتري أن يأخذه حِصْرمًا وبَلَحًا كان له ذلك.
وليست الهبة وغيرها كالبيع فإنه لا ربح هناك فيجوز فيه وما ملك بغير البيع فلا يقصد به الربح فيجوز التصرف فيه قبل قبضه إذ ليس ذلك بمنصوص ولا في معنى المنصوص فلا يجوز منع الإنسان من التصرف في ملكه بغير حجة شرعية فهذا هذا والله أعلم.
[تفسير آيات أشكلت: 2/652]


التوقيع :
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 15 ربيع الثاني 1432هـ/20-03-2011م, 12:03 PM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 7,079
افتراضي

فصل
والربا البين الذي لا ريب فيه هو ربا النسيئة في الجنس الواحد وكذلك قال الإمام أحمد لما سئل عن الربا الذي لا شك فيه فقال مثل ربا الجاهلية يقول له عند محل الأجل تقضي أو تربي فإن قضاه وإلا زاده في الأجل وزاده الآخر في الدين.
فإذا بيع دراهم معينة أو في الذمة بأكثر منها إلى أجل فهذا من الربا العاصر المتفق عليه الذي نزل القرآن بسببه فإنه ضرر محض بالمحتاج وزيادة المال من غير عمل من صاحبه ولا نفع للناس فإن المعاوضة ثلاثة أنواع:
أحدها أن يشتري السلعة لينتفع بها بالأكل والشرب واللباس والركوب والسكنى فهذا هو البيع الذي أحله الله ولا بد منه لأهل الأرض.
والثاني التجارة وهو أن يشتريها لينقلها إلى مكان آخر ويحبسها إلى وقت فيبيعها بربح وهذه التجارة التي أحلها الله بقوله تعالى {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فإن المشتري من صاحب التجارة يعلم أنه قد ربح عليه وأن رأس المال مثلًا كان مائة وقد باعها بمائة وعشرة أو أقل أو
[تفسير آيات أشكلت: 2/653]
أكثر ولهذا يطلب المشتري من التاجر إخباره برأس المال لينظر كم يربح عليه وهذا بخلاف البائع الذي ليس بتاجر كالذي حدثت على ملكه أو ورثها أو وهبت له أو نحو ذلك.
وقد ثبت في الصحيح أنهم كانوا إذا اشتروا الصبرة من الطعام نهوا أن يبيعوها في موضعها حتى ينقلوها أن هذا المشتري تاجر إنما اشتراها ليربح فيها فلا بد أن يعمل فيها عمل التاجر من نقلها من مكان إلى مكان أو حبسها إلى حين يرتفع السعر وإن اشتريَ جملة وبيع مفرقًا ونحو ذلك.
فأما إذا اشتراها وباعها في مكانها بربح من غير أن يعمل فيها شيئًا فليس هذا بتاجر وإن كانت صارت في ضمانه بتخلية البائع بينه وبينها.
فليس كل مضمون يباح ربحه ولكن ما ليس بمضمون لا يباح ربحه فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يُضمَن والبائع قبل التمكن من القبض هو
[تفسير آيات أشكلت: 2/654]
ضامن للمبيع ولا يحل له ربحه ولا نماؤه بل ذلك للمشتري وكذلك المشتري قبل كمال القبض وبعد التمكن منه هو ضامن ولا يباح له ربحه.
وقوله صلى الله عليه وسلم من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه هو نهي للتاجر الذي يشتري الطعام ثم يبيعه فهذا ليس له أن يبيعه حتى يستوفيه إن كان معينًا مضمونًا عليه بالتعيين وابن عمر رضي الله عنهما روى هذا وروى هذا.
قال ابن عمر مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيًّا مجموعًا فهو من ضمان المشتري وهذا احتج به مالك وأحمد وغيرهما أن ما كان معينًا ولم يمنعه البائع فهو يكون مضمونًا على المشتري وإن لم يقبضه.
وروى ابن عمر أنهم كانوا يُضرَبون إذا اشتروا الصبرة جزافًا أن يبيعوها في
[تفسير آيات أشكلت: 2/655]
موضعها حتى ينقلوها وإذا اشترى الصبرة جزافًا دخلت في ضمانه أيضًا ومتى خلي بينه وبينها كانت مضمونة على المشتري لكن نهي أن يبيعوها في موضعها وقد قال ابن عباس لا أحسب كل شيءٍ إلا بمنزلة الطعام وفي السنن أنه نهى عن بيع ما لم يقبض وهذا خطاب للتجار فإنهم إذا اشتروا شيئًا باعوه بربح فلا يبيعوه حتى يقبضوه.
وأيضًا فإذا باعوه قبل القبض بربح فقد يندم البائع أو يستقيل أو يسعى في فسخ العقد فإذا صار في قبضة التاجر أمن من ذلك ولم يكتف في الصبرة إلا بنقلها إلى رحالهم وأما غير التاجر فإنه إنما يشتري الشيء لينتفع به لا يشتريه للتجارة وإن بدا له فيما بعد أن يبيعه لم يقصد أن يبيعه بربح وإن قصد ذلك فهو تاجر والنهي إنما كان لمن يربح في السلعة وهو التاجر في أحد القولين.
ولهذا جوَّز مالك فيه الشركة والتولية قبل القبض فإنه لا ربح فيه بل هو يبيعه بمثل الثمن كأخذ الشفيع الشفعة بمثل الثمن وكذلك جَوَّز بيعه من صاحبه بمثل الثمن قبل القبض وهذا هو الصحيح فإن النهي إنما كان للتاجر الذي يربح فلا يبيع بربح حتى يصير في حوزته ويعمل فيها عملًا من أعمال التجارة إما بنقلها إلى مكان آخر كالذي يشتري في بلدٍ ويبيع في آخر وإما حبسُها إلى وقتٍ آخر.
[تفسير آيات أشكلت: 2/656]
وأقل ما يكون قبضها فإن القبض عمل وأما مجرد التخلية في المنقول فليس فيها عمل وهل تكون التخلية قبضًا في المنقول فيه روايتان عن أحمد إحداهما قبضًا كقول أبي حنيفة.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن ولا تبع ما ليس عندك قال الترمذي حديث صحيح.
ولما سأله ابن عمر أنهم كانوا يبيعون بالبقيع بالذهب ويقبضون
[تفسير آيات أشكلت: 2/657]
الوَرِق ويبيعون بالوَرِق ويقبضون الذهب فقال لا بأس إذا كان بسعر يومه
[تفسير آيات أشكلت: 2/658]
فلم يُجوِّز بيع الدَّين ممن هو عليه بربح فإنه ربح فيما لم يضمن فإنه لم يقبضه ولم يصر في ضمانه والربح إنما يكون للتاجر الذي نفع الناس بتجارته فأخذ الربح بإزاء نفعه فلم يأكل أموال الناس بالباطل ولهذا لما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.
[تفسير آيات أشكلت: 2/659]
وهذا استثناء منقطع فإن ربح التجارة ليس أكلًا بالباطل بل بحق وهو نفع التاجر للناس فإذا كان له دين وباعه من المدين بربح فقد أكل هذا الربح بالباطل إذا كان لم يضمن الدَّين ولم يعمل فيه عملًا.
ولما جَوَّز النبي صلى الله عليه وسلم اقتضاء الذهب من الوَرِق من الذهب بالسعر مع أن الثمن دين في الذمة لم يقبض دل على جواز بيع الدين ممن هو عليه بالسعر فجوز ذلك في جميع الديون دين السَّلم وغيره كما جوَّزه ابن عباس وأحمد في إحدى الروايتين ومالك على تفصيل له.
[تفسير آيات أشكلت: 2/660]
والذين قالوا لا يجوز كأبي حنيفة والشافعي والمشهور عن أحمد عند أصحابه قالوا لأنه بيع غير مقبوض فلا يجوز بيعه قبل القبض وإن باعه ممن هو عليه كما قالوا مثل ذلك في بيع الأعيان.
وقد تقدم أن المحذور هو الربح فإذا باعه ممن هو عليه بلا ربح جاز ذلك كما قاله مالك وغيره وَجَوَّز التولية فيه.
وإذا كان أحمد في إحدى الروايتين يُجَوِّز بيع دين السَّلم ممن هو عليه بالسعر فكذلك يقال في بيع الأعيان قبل القبض ممن هو عليه بطريق الأولى.
وابن عباس جَوَّزه بالسِّعر وقال لا يربح مرتين.
كذلك يخرج في التولية والشركة إذ لا ربح هناك وأي فرق بين دين السلم والثمن وكلاهما عوض في الذمة وقد جوَّز النبي صلى الله عليه وسلم الاعتياض عنه بسعر يومه.
وأحمد يعتبر هذا الشرط هو ومالك وغيرهما وأبو حنيفة لا يعتبره.
والحديث يدل على الأصلين على بيع الدين ممن هو عليه وإن كان عوضًا
[تفسير آيات أشكلت: 2/661]
وعلى أنه لا يبيعه بربح وكذلك سائر الديون كبَدل القرض وغيره.
وقد اضطرب الناس في بيع ما لم يقبض في حكم النهي في مورده وما يقاس بالطعام وعن أحمد فيه عدة روايات.
من يجعل العلة توالي الضمانين كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في قول ويقولون إن السلعة مضمونة على البائع قبل القبض فإذا باعها المشتري صارت مضمونة للمشتري الثاني على المشتري الأول فتوالى الضمانان وهذه علة ضعيفة فإنه إذا تلف انفسخ العقدان ورجع كل واحد بثمنه.
وأبو حنيفة استثنى العقار لأنه مضمون عنده بالعقد إذا كان لا ينقل ويحول ولو باع الشقص المشفوع من شخص ثم باعه من شخص آخر جاز وإن أخذه الشريك بالشفعة انفسخت تلك العقود وهذا فيه توالي ضمانات متعددة.
ومالك وأحمد في رواية يخص النهي بالطعام لشرفه لكن إذا كانت العلة أنه ربح من غير تجارة فجميع السلع سواء.
[تفسير آيات أشكلت: 2/662]
وأحمد في المشهور عنه يقول إن المعين يدخل في ضمان المشتري بتمكنه من قبضه سواء قبضه أو لم يقبضه ومع هذا يقول في إحدى الروايتين وهي التي اختارها الخرقي أنه لا يبيعه حتى ينقله فالقبض عنده قبضان قبض ينقل الضمان وقبض يبيح البيع فالصبرة إذا لم ينقلها هي من ضمانه لأنها معينة ولا يربح فيها حتى ينقلها.
وغلة الثمار هي مضمونة على البائع إذا أصابتها جائحة ويجوز للمشتري أن يبيعها على الشجر في ظاهر مذهبه إذا خلي بينه وبينها.
فهنا قبضان قبض لا يبيح البيع والربح وقبض ينقل الضمان.
وهذا كالمنافع في الإجارة هي مضمونة على المؤجر حتى يستوفي وإن
[تفسير آيات أشكلت: 2/663]
خلي بين المؤجر وبين المستأجر فإذا قبض المستأجر العين كان كقبض الشجرة التي عليها ثمرة ثم كلاهما إذا تلف قبل التمكن من الانتفاع فهي من ضمان البائع والمؤجر فالموجب لانتقال الضمان هو تمكن المشتري من الانتفاع وأما البيع فيجوز إذا أخذها لأنه عمل على التاجر بقبضها وحفظها كما يحفظ التاجر سلعته فهذا المعنى إذا فهم انكشف به مقصود هذا الباب فإنه قد أشكل على كثير من الفقهاء أولي الألباب.
وبهذا يتبين أن أظهر القولين أنه يجوز أن يقول عَجِّل لي وأضع عنك كما نقل عن ابن عباس وغيره وقد روي أن اليهود لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم إجلاءهم من المدينة قالوا إن لنا ديونًا فقال يعجلونها لكم وضعوا عنهم البعض وهذا لأن صاحب المال هنا لم يربح كما إذا قال أجعل المائة بمائة وعشرين إلى سنة بل نقص ماله لأجل تعجيل القبض والمدين ما ربح شيئًا بل سقط عن ذمته فهذا مقصوده استيفاء الدين لا بيع الدين ولهذا جازت الحوالة لأنها إيفاء.
ولهذا جَوَّز مالك
[تفسير آيات أشكلت: 2/664]
وأبو حنيفة وغيرهما بيع الدين السَّاقط بالسَّاقط إذا كان لهذا على هذا دراهم وللآخر ذهب فقال أسقط هذا بهذا فهذا يجوز في أظهر القولين فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عن بيع الدين بالدين ولكن روي أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ مع ضعف الحديث لكن بيع المؤخر بالمؤخر مثل أن يسلم شيئًا مؤخرًا في الذمة في شيء في الذمة لا يجوز باتفاقهم إذا كان كل منهما شغل ذمته بما للآخر من غير منفعة حصلت لأحدهما.
والمقصود بالبيع النفع فهذا يكون أحدهما قد أكل مال الآخر بالباطل إذا قال أسلمت إليك مائة درهم إلى سنة في وسق حنطة ولم يعطه شيئًا فإن هذه المعاملة ليس فيها منفعة بل مضرة هذا يطلب هذا بالحنطة وهذا يطلب هذا بالدراهم ولم ينتفع واحد منهما بل أكل مال الآخر بالباطل من غير نفع نفعه به وهذا بخلاف بيع الساقط بالساقط فإن براءة ذمة كل منهما منفعة له.
وكذلك إذا قال عَجِّل لي وأضع عنك فالمعجل برئت ذمته بإقباض البعض فأبرأه من الباقي وهذا منفعة له بخلاف ما إذا زيد عليه في الدين فذاك يضره وصاحب الدين انتفع بتعجيل القبض وكل منهما انتفع وهنا
[تفسير آيات أشكلت: 2/665]
المؤجل صار حالًّا بل ساقطًا ليس مثله أن يبيعه دراهم إلى أجل بدراهم معجلة فإنه هنا أجَّلَ عليه ما لم يكن مؤجلًا فشغل ذمته بغير منفعة وهذا ضرر وأمر الشارع عدل وحكمة ورحمة وهو إنما ينهى الناس عما يضرهم لا عما ينفعهم.
ولما نهى عن بعض الرُّقى نهى عما فيه شرك وقال من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل وقال لا بأس بالرقى ما لم يكن شركًا.
[تفسير آيات أشكلت: 2/666]
وأكلُ المال بالباطل إضرار وظلم وذلك نوعان ربا وميسر والقرآن حَرَّم هذا وهذا فالربا فيه زيادة قبض بلا معنى والميسر فيه أخذ المال على باطل ومخاطرة يتضمن أكل المال بلا منفعة.
فهذان نوعان مباحان اشتراء السلعة لينتفع بها أو ليتجر فيها بقصد الربح فيها وكلاهما مباح بنص القرآن والسنة وإجماع الأمة.
والثالث الربا وهو أخذ مال زائد بلا عوض يقابله بل أكل له بالباطل مثل مائة بمائة وعشرين إلى أجل وهذا بين في النَّسَاء في الجنس وهو متفق على تحريمه في النقدين وفي الصنف الربوي كالأعيان الستة لا يبيع
[تفسير آيات أشكلت: 2/667]
حنطة بأكثر منها إلى أجل ولا شعيرًا ولا تمرًا ولا زبيبًا ولا ملحًا.
وهو أيضًا متفق عليه بين المسلمين في القرض من سائر الأجناس فإذا أقرض ما يكال وما يوزن وشرط أكثر منه لا يجوز ذلك باتفاقهم.
ولو أقرضه ما يوزن كالقطن والكتان والحديد وغيره وشرط أكثر لم يجز بالاتفاق وكذلك لو أقرضه ما يكال ولا يؤكل كالسدر والخطمِي والأشنان وغير ذلك وشرط أكثر منه لم يجز باتفاقهم.
[تفسير آيات أشكلت: 2/668]
وهذا من أقوى الحجج على أن الجنس الواحد إذا اجتمع فيه نوعا الربا التفاضل والنَّسَاء لم يجز ذلك وإن كان لا يجري فيه ربا الفضل فإنهم متفقون على هذا في القرض لو أقرضه ما يوزن لم تجز الزيادة.
وإن قيل ليس فيه ربا الفضل فيجب أن يكون إذا قال بعتك هذا الرطل برطلين من جنسه إلى شهر وهذا الكيل بكيلين إلى شهر لم يجز وهذا مذهب مالك وأحمد في رواية لأنه لو جاز ذلك لجاز أن يجعل ذلك قرضًا بزيادة إذ الاعتبار بالمقاصد لا بالألفاظ.
[تفسير آيات أشكلت: 2/669]
ولو قال أقرضتك هذا الرطل على أن ترد رطلين لم يجز سواء أجَّلَ القرض أو أطلقه وكان حالًّا فيجب إذا قال بعتك هذا الرطل برطلين إلى أجل أن لا يجوز لأن هذا هو معنى القرض بزيادة.
وكل قرض جَرَّ زيادة بالشرط لم يجز باتفاقهم وهو الربا الذي يجمع فيه الفضل والنَّسَاء كبيع دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل فهذا الذي لا ريب في تحريمه وإن احتال عليه بأي حيلةٍ كانت متى كان المقصود أخذ الدراهم بأكثر منها إلى أجل فهو ربا.
ولهذا قال ابن عباس وهو لا يحرم ربا الفضل يدًا بيدٍ قال إذا استقمت بنقدٍ ثم بعت بنقدٍ فلا بأس وإذا استقمت بنقدٍ ثم بعت بنسيئة فتلك دراهم بدراهم واستقمت بمعنى قوَّمت بمعنى قوَّم السلعة بنقدٍ
[تفسير آيات أشكلت: 2/670]
وابتاعها بأكثر إلى أجل كان مقصوده القيمة وهو بيع دراهم بدراهم.
فإن قيل فلو باع رطلًا برطلين جاز ولا يجوز مثل هذا في القرض.
قيل القرض لا يكون قط مع تعجيل الوفاء بل لا بد فيه من تأخير الوفاء وإلا فلا يقول أقرضنِي هذه الدراهم وأعطيك مثلها الساعة فإن هذا لا يفعله عاقل إذ لا فائدة فيه بل هو كبيع الشيء بنفسه.
فإن قيل تلك الدراهم تقوم مقامها فلا تباع بمثلها إلا مع التأخير ولا تباع بدراهم معجلة إلا لاختلاف الصفة والقرض إنما يجب فيه المثل فلا يبيع أحد رطلين برطلين كل منهما مثل ذلك الرطل هذا لا يفعله أحد عاقل ولا يقع مثل هذا في القرض إذ كان القرض لا بد فيه من تأخير الإيفاء وذلك واجب فيه في أحد قولي العلماء ولو أجله بأجل كمذهب مالك وقول في مذهب أحمد.
[تفسير آيات أشكلت: 2/671]
ومن قال إن له المطالبة في الحال ولا يتأجل قالوا لأن هذا تبرع والتبرع لا يلزم إلا بالقبض لا يلزم بالعقد كما قالوا مثل ذلك في الهبة والعارية وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وأما أهل المدينة فعندهم يلزم بالعقد وعليه يدل نصوص الكتاب والسنة.
فالقرض من أقوى الحجج على أنه إذا اجتمع ربا الفضل والنَّسَاء من جنس واحد حرم وإن لم يكن مما يجري فيه ربا الفضل وحده وهذه حجة لمالك وأحمد في إحدى الروايتين وهو حجة على الشافعي وأحمد في رواية إذ كانوا يجوزون بيع غير الربوي كالموزون غير النقدين بجنسه متفاضلًا ويحرمون ذلك بلفظ القرض.
وهؤلاء يجعلون الأحكام تختلف بمجرد اللفظ مع اتحاد المقصود وهذا يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وبعض أصحاب أحمد يقولون هذا في مواضع كما جَوَّز القاضي أبو يعلى وغيره السَّلم الحال بلفظ البيع دون
[تفسير آيات أشكلت: 2/672]
السَّلم وكما جَوَّز أن يكون البذر من العامل إذا كان بلفظ الإجارة دون لفظ المزارعة.
وأبو محمد المقدسي عكس ذلك فجَوَّزه بلفظ المزارعة دون الإجارة وأبو الخطاب جَوَّزه بلفظهما وهو الصواب وعليه تدل نصوص أحمد فإنه جَوَّز أن تؤجر الأرض بجزءٍ من الخارج منها واحتج على ذلك بمزارعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر.
[تفسير آيات أشكلت: 2/673]
ولو كان الحكم يختلف باللفظ لم تصح هذه الحجة وإنما تصح هذه الحجة إذا كان البذر من أهل خيبر فإن المستأجر للأرض هو الذي يبذر فيها لا يبذر رب الأرض ولهذا قال أبو الخطاب هذه النصوص الكثيرة عن أحمد تدل على أنه جَوَّز المزارعة ببذرٍ من العامل كما ثبت في الصحيح أنه عاملهم على أن يعمروها من أموالهم وحينئذٍ فكيف يجوز إلحاق فرع بهذا الأصل مع مخالفته؟
ودل ذلك على أن الرواية التي اشترط فيها أن يكون البذر من المالك قياسًا على المضاربة قالها موافقة لمن قال ذلك وهي مخالفة لهذه السُّنة التي قاس عليها وأحمد أصوله توجب اعتبار المقاصد والمعاني دون مجرد اللفظ كما يعتبرها مالك رحمه الله وغير مالك من أهل المدينة.
[تفسير آيات أشكلت: 2/674]
وفقهاء الحديث وفقهاء المدينة متفقون على هذا الأصل وهو رعاية المقاصد في العقود.
وأبو حنيفة يقول الجنس بانفراده يحرم فيه النَّسَاء وهو الرواية الأخرى عن أحمد واختيار الخِرَقي فلا يجوز بيع الشيء بمثله نَسَاء والقرض حجة على هذا القول فإنه يجوز القرض قرض الشيء بمثله مع التأخير.
لكن أبا حنيفة يقول أنا لا أجيز القرض إلا في المثليات لا
[تفسير آيات أشكلت: 2/675]
أجيزه إلا في المكيل والموزون ومالك ليس عنده ربا الفضل بل فيها ربا النساء فهذا يجيب عن القرض.
لكن الأكثرون يجوزون قرض الحيوان استدلالًا بالسنة وأن النبي صلى الله عليها وسلم اقترض بعيرًا وَرَدَّ خيرًا منه فقد ثبت أخذ الحيوان بمثله مع التأخير وذلك مبطل لقول من يقول الجنس بانفراده يحرم النَّسَاء فإنه لو جاز ذلك لم يجز قرض بعير ببعير مع التأخير.
لكن أبا حنيفة لا يجوز قرض غير المكيل والموزون فلا يجوز بعير ببعير إلى أجل لا قرضًا ولا بيعًا وأحمد يجوزه قرضًا بخلاف
[تفسير آيات أشكلت: 2/676]
البيع وهل الواجب في الرَّد الجنس أو القيمة على وجهين والجنس هو المنصوص ولا يجوِّزه بيعًا في إحدى الروايات لأن البيع يجب فيه الأجل وأما القرض فإنه بذل المنفعة بلا عوض ولهذا لا يجوز فيه التأجيل عنده.
[تفسير آيات أشكلت: 2/677]
وكذلك أبو حنيفة لا يُجَوِّز التأجيل في القرض فإنه إذا جاز التأجيل فيه كان معنى بيع الشيء بجنسه نَسَاء وذلك لا يجوز عند أبي حنيفة وأحمد في رواية بل كلما يجب وفاء القرض وحده يحرم ربا النَّسَاء وحده.
والشافعي وأحمد في رواية ومن وافقهما يُجَوِّزون في غير الشيء الربوي كالحيوان يبيع بعضه بجنسه حالًّا وإلى أجل متماثلًا ومتفاضلًا ولا يُجوِّزون أن يقرضه ويشترط أكثر منه وهذا تناقض فإنه إذا جاز معاوضة بعضه ببعض حالًّا ومؤجلًا فالقرض لا يخرج عن هذا وهذا كما تقدم.
وإذا أراد أن يقرضه بعيرًا ويشترط بعيرين قال بعني بعيرًا ببعيرين ولكن هنا يشترط يعني الحلول أو التأجيل بخلاف القرض وليس هذا فرقًا فإن الناس مع القرض قد يتفقون على أنه يوفيه في وقتٍ معين فلا
[تفسير آيات أشكلت: 2/678]
يخرج هذا عما يقصده الناس بالقرض.
فتبين أن أظهر الأقوال قول مالك وأحمد في رواية أنه إذا جمع النوعان حرم فإذا باع الشيء بجنسه متفاضلًا إلى أجل لم يجز كما لا يجوز مثل ذلك في القرض وإن تباعدت المقاصد ففيه نزاع.
فقد تبين أنه إذا اجتمع ربا الفضل والنَّسَاء حرم بالإجماع مما فيه ربا الفضل وفي غير ذلك عند أكثر العلماء وأما إذا لم يكن إلا النَّسَاء فقط في غير الربوي فهذا يباح عند أكثر العلماء كالبعير بالبعيرين إلى أجل.
[تفسير آيات أشكلت: 2/679]


التوقيع :
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 15 ربيع الثاني 1432هـ/20-03-2011م, 12:06 PM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 7,079
افتراضي

فصل
وأما ربا الفضل بلا نَسَاء فقد أشكل على السلف والخلف فروي عن ابن عباس وابن مسعود ومعاوية أنه لا ربا إلا في النَّسَاء كما ثبت في الحديث الصحيح عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا ربا إلا في النسيئة» وبإزاء هؤلاء بعض المتأخرين الذي قال إنه يجري في كل مال وهذا خلاف إجماع السلف ولا معنى فيه يحكى هذا عن أبي طاهر الرياشي.
وقالت طائفة إنه يحرم في الأصناف المنصوصة الستة وهو قول قتادة وداود وأصحابه وابن عقيل قد رجح في آخر عمره في
[تفسير آيات أشكلت: 2/680]
كتابه في الخلاف هذا وضعَّف ما عُللت به الأصناف الستة كلها وقد بَسَط القول عليه وبَيَّن أنه إنما حرم لسدِّ الذريعة فقط كما قال صلى الله عليه وسلم «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرَّمَاء».
فربا النسيئة حرم لما فيه من الفساد والظلم وأما ربا الفضل فإنما حرم لسد الذريعة.
فأقرب الأقوال قول من قال لا يحرم إلا في المطعوم المماثل المكيل والموزون وهو قول سعيد بن المسيب والشافعي في قول وأحمد في أحد الروايات اختارها أبو محمد ومذهب مالك قريب من ذلك بل هو أرجح في ربا الفضل وربا النسيئة وفي اعتبار المقاصد لكنه بالغ في سد الذريعة حتى حَرَّمها مع صحة القصد ورجحان المصلحة وأحمد يوافقه على بطلان الحيل وعلى سد الذرائع إلا إذا ترجحت المصلحة وهذا أعدل الأقوال.
والفرق بين الحيل وسد الذرائع أن الحيلة تكون مع قصد
[تفسير آيات أشكلت: 2/681]
صاحبها ما هو محرم في الشرع فهذا يجب أن يُمنع من قصده الفاسد وأما سد الذرائع فيكون مع صحة القصد خوفًا أن يفضي ذلك إلى الحيلة.
والشارع قد سد الذرائع في مواضع كما بسطت ذلك في كتاب بيان الدليل على بطلان التحليل لكن يشترط ألا يفوت مصلحة راجحة فيكون النهي عمَّا فيه مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة فأما إذا كان فيه مصلحة راجحة كان ذلك مباحًا فإن هذه المصلحة راجحة على ما قد يخاف من المفسدة ولهذا يجوز النظر إلى الأجنبية للخطبة لرجحان المصلحة وإن كان النظر لغير حاجة لم يجز.
وكذلك سفر المرأة مع غير ذي محرم منهي عنه ويجوز لرجحان
[تفسير آيات أشكلت: 2/682]
المصلحة كسفر عائشة مع صفوان بن المُعَطل لما كانت وحدها وكان سفرها معه خيرًا من أن تبقى ضائعة.
[تفسير آيات أشكلت: 2/683]
وكذلك هجرتها بلا محرم كهجرة أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط بلا محرم وزينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم أرسل لها رجالًا جاءوا بها.
[تفسير آيات أشكلت: 2/684]
وقد تنازع الفقهاء في الحج والأقوى أنه إذا تعذر حجها مع المحرم أن تحج إذا أمنت لأن حجها مع من تأمنه أرجح من تفويت الحج وقوله «حُجَّ مع امرأتك» دليل على أنه إذا أمكن سفرها مع محرم لم تخرج وحدها جمعًا بين المصلحتين.
وأما إذا دار الأمر بين تفويت الحج وبين سفرها بلا محرم سفرًا آمنًا كان حصول الحج أصلح لها فإن حصول الفساد في دينها إذا سافرت وحدها وهذا
[تفسير آيات أشكلت: 2/685]
في طريق الحاج نادر ومع من تأمنه معدوم بخلاف سفرها بلا محرم لتجارةٍ وزيارةٍ فإن هذه مظنة فساد دينها كخلوة الأجنبي بها وخلوته بها لرجحان المصلحة جائز.
وأحمد في رواية المرُّوذي قد جَوَّز السفر للكبيرة التي لا محرم لها وقد يئست من الزوج فإنها من القواعد.
وكذلك سفرها إلى المساجد الثلاثة هو طاعة وقربة تفوتها فإذا أمنت لم يبعد جوازه بخلاف السفر الذي ليس بواجب ولا مستحب فإن هذا ليس فيه مصلحة راجحة في دينها وفيه مفسدة في دينها فإن انفرادها عن الزوج والمحرم مظنة حصول الشر في دينها فإذا فوت السفر الذي هو في نفسه طاعة والسفر غير الطاعة واعتبر في سفر الطاعة أن تكون آمنة فهذا قول متوجِّه كما قال كثير من العلماء.
[تفسير آيات أشكلت: 2/686]
وهم متفقون على أن قوله «لا تسافر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم» ليس على عمومه فإنه يجوز لها سفر الضرورة كسفر الهجرة وكسفر زينب وأم كلثوم بلا زوج ولا ذي محرم.
والنظر إلى الأجنبية منع منه لأنه داعية للمحرم يجوز للخاطب بالنص والإجماع للحاجة وَجُوِّز للشاهد والعامل وَجَوَّزه أصحابنا وغيرهم بشرط عدم الشهوة وجوَّزه أصحاب أبي حنيفة مع الشهوة وإذا كان بلا شهوة يجوز عندهم مطلقًا إلى الوجه واليدين وهو إحدى الروايتين عن أحمد
[تفسير آيات أشكلت: 2/687]
وأحد قول الشافعي.
ومن ذلك الصلاة وقت الطلوع والغروب نهي عنه لسد الذريعة لئلا يشبه عُبَّاد الشمس فيجوز للمصلحة الراجحة مثل قضاء الفوائت وغيرها والصحيح أنه يجوز في ذوات الأسباب مطلقًا كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين.
[تفسير آيات أشكلت: 2/688]


التوقيع :
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 15 ربيع الثاني 1432هـ/20-03-2011م, 12:08 PM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 7,079
افتراضي

فصل
قال النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام «لا تبع ما ليس عندك» لما قال له يأتيني الرجل فيطلب مني البيع ليس عندي فأبيعه منه ثم أذهب إلى السوق فأبتاعه فقال «لا تبع ما ليس عندك» وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يُضمن ولا تبع ما ليس عندك»
[تفسير آيات أشكلت: 2/689]
وللناس في هذا الحديث أقوال:
قيل المراد بذلك أن يبيع السلعة المعينة التي هي مال الغير يبيعها إن ملكها فقال «لا تبع ما ليس عندك» أي لا تبع ما لا تملكه من الأعيان ونقل هذا التفسير عن الشافعي أنه يجوز السَّلَم الحال وقد لا يكون عند المستسلف ما باعه فحمله على الأعيان ليكون بيع ما في الذمة جائزًا سواء كان حالًّا أو مؤجلًا.
وقال آخرون هذا ضعيف جدًّا فإن حكيم بن حزام ما كان يبيع شيئًا معينًا هو ملك لغيره ثم ينطلق فيشتريه منه ولا كان الذين يأتونه يقولون نطلب عبد فلان أو دار فلان وإنما الذي يفعله الناس أن يأتيه الطالب فيقول أريد طعامًا كذا وكذا أو ثوبًا كذا وكذا وغير ذلك فيقول نعم أعطيك فيبيعه منه ثم يذهب فيحصله من عند غيره إذا لم يكن عنده.
هذا هو الذي يفعله من يفعله من الناس ولهذا قال يأتيني فيطلب مني البيع ليس عندي لم يقل يطلب مني ما هو مملوك لغيري.
[تفسير آيات أشكلت: 2/690]
فالطالب طلب الجنس لم يطلب شيئًا معينًا كما جرت عادة الطالب لما يؤكل ويلبس ويركب إنما يطلب جنس ذلك ليس له غرض في ملك شخص بعينه دون ما سواه مما هو مثله أو خير منه.
ولهذا صار أحمد بن حنبل وطائفة إلى القول الثاني فقالوا الحديث على عمومه يقتضي النهي عن بيع ما في الذمة إذا لم يكن عنده وهو يتناول النهي عن السَّلَم إذا لم يكن عنده لكن جاءت الأحاديث في جواز السَّلَم المؤجل فبقي هذا في السَّلَم الحال.
والقول الثالث وهو أظهر الأقوال أن الحديث لم يرد به النهي عن السَّلَم المؤجل ولا الحال مطلقًا وإنما أريد به أن يبيع في الذمة ما ليس هو مملوكًا له ولا يقدر على تسليمه ويربح فيه قبل أن يملكه ويقدر على تسليمه وتضمنه.
فهو نهي عن السَّلَم الحال إذا لم يكن عند المستسلف ما باعه فيلزم ذمته بشيء حال ويربح فيه وليس هو قادرًا على إعطائه وإذا ذهب يشتريه قد يحصل وقد لا يحصل فهو من نوع الغرور والمخاطرة وهو إذا كان السَّلَم حالًّا وجب تسليمه عليه في الحال وليس هو بقادر على ذلك ويربح فيه على أن
[تفسير آيات أشكلت: 2/691]
يملكه فيضمنه وربما أحاله على الذي ابتاع منه فلا يكون قد عمل شيئًا بل أكل المال بالباطل.
وعلى هذا فالسَّلَم الحال إذا كان المسلم إليه قادرًا على الإعطاء هو جائز وهو كما قال الشافعي إذا جاز المؤجل فالحال أولى بالجواز.
ومما يبين أن هذا مراد النبي صلى الله عليه وسلم أن السائل إنما سأله عن بيع شيءٍ مطلق في الذمة كما تقدم لكن إذا لم يجوز بيع ذلك فبيع المعين الذي لم يملكه أولى بالمنع.
وإذا كان إنما سأله عن بيع شيءٍ في الذمة وإنما سأله عن بيعه حالًّا فإنه قال أبيعه ثم أذهب فأبتاعه فقال له لا «تبع ما ليس عندك» فلو كان السَّلف الحال لا يجوز مطلقًا لقال له ابتداءً لا تبع هذا سواء كان عنده أو ليس عنده فإن صاحب هذا القول يقول بيع ما في الذمة حالًّا لا يجوز ولو كان عنده ما يسلمه بل إذا كان عنده فإنه لا يبيع إلا معينًا لا يبيع شيئًا في الذمة.
فلما لم ينهه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك مطلقًا بل قال «لا تبع ما ليس عندك» علم أنه صلى الله عليه وسلم فرَّق بين ما هو عنده ويملكه ويقدر على تسليمه وما ليس كذلك وإن كان كلاهما في الذمة.
[تفسير آيات أشكلت: 2/692]
ومن تدبر هذا تبين له أن القول الثالث هو الصواب.
وإذا قيل المؤخر جائز للضرورة وهو بيع المفاليس لأن البائع احتاج إلى أن يبيع إلى أجل وليس عنده ما يبيعه الآن وأما الحال فيمكنه أن يحضر المبيع فيراه فلا حاجة لبيع موصوف في الذمة أو بيع عين موصوفةٍ غائبةٍ لا يبيع شيئًا مطلقًا بل هذا ممنوع فلا نسلم على خلاف الأصل بل تأجيل المبيع كتأجيل الثمن كلاهما من مصالح العالم.
والناس لهم في المبيع الحال والغائب ثلاثة أقوال:
منهم من يجوزه مطلقًا ولا يجوزه معينًا موصوفًا كالشافعي في المشهور عنه والظهر جواز هذا وهذا.
ويقال للشافعي مثل ما قال هو لغيره إذا جاز بيع المطلق الموصوف
[تفسير آيات أشكلت: 2/693]
فالمعين الموصوف أولى بالجواز فإن المطلق فيه غرر وخطر وجهل أكثر من المعين فإذا باع حنطة مطلقة بالصفة أولى بل ولو بيع المعين بلا صفة وللمشتري الخيار إذا رآه جاز أيضًا كما نقل مثل ذلك عن الصحابة وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه.
وقد جَوَّز القاضي وغيره من أصحاب أحمد السَّلَم الحال بلفظ البيع.
والتحقيق أنه لا فرق بين لفظ ولفظ ونفس بيع الأعيان الحاضرة التي يتأخر قبضها يُسمَّى سلفًا إذا عجل له الثمن كما في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى أن يُسلم في حائطٍ بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحه» فهو إذا بدا صلاحه وقال أسلمت إليك في عشرة أوسق من تمر هذا الحائط جاز.
كما يجوز أن يقول ابتعت عشرة أوسق من هذه الصبرة ولكن التمر يتأخر قبضه إلى كمال صلاحه فإذا عجل له الثمن قيل له سلف لأن السلف هو الذي تقدم والسالف المتقدم قال الله تعالى {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ}.
[تفسير آيات أشكلت: 2/694]
والعرب تسمي أول الرواحل السالفة ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «الحقي سلفنا الخيْر عثمان بن مظعون» وقوله «حتى تنفرد سالفتي»
[تفسير آيات أشكلت: 2/695]
وهي العنق.
ولفظ السَّلف يتناول القرض والسَّلَم لأن المقرض أيضًا سلَّف القرض أي قدَّمه وَعَجَّله لكن هذا تبرع بالمنفعة وفيه حديث عبد الله
[تفسير آيات أشكلت: 2/696]
ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يحل سلف وبيع وشرطان في بيع ولا ربح ما لم يُضمَن ولا بيع ما ليس عندك» ومنه الحديث «أن النبي صلى الله عليه وسلم استلف بكرًا وقضى جَملًا رَبَاعيًا».
والذي يبيع ما ليس عنده لا يقصد إلا الربح وهو تاجر فيستلف بسعر ثم يذهب فيشتري بأرخص منه بمثل ذلك الثمن فإنه قد يكون أتعب نفسه لغيره بلا فائدة وإنما يفعل هذا من يتوكل لغيره فيقول أعطني فأنا أشتري لك هذه السلعة فيكون أمينًا أما أنه يبيعها بثمن معين يقبضه ثم يذهب فيشتريها بمثل ذلك الثمن من غير فائدة في الحال فهذا لا يفعله عاقل.
نعم إذا كان هناك تأخير فقد يكون محتاجًا إلى الثمن فيتسلفه وينتفع به
[تفسير آيات أشكلت: 2/697]
مدة إلى أن يحصل تلك السلفة فهذا يقع في السَّلَم المؤجل وهو الذي يسمى بيع المفاليس فإنه يكون محتاجًا إلى الثمن وهو مفلس وليس عنده في الحال ما يبيعه ولكن له مال يأتي من بعده من تمر أو مَغلٍّ أو غير ذلك فيبيعه في الذمة فهذا يفعله مع الحاجة ولا يفعله بدون الحاجة إلا أن يقصد أن يتجر بالثمن في الحال ويرى أنه يحصل به من الربح أكثر مما يفوت بالسَّلَم.
فإن المتسلف يبيع السلعة في الحال بدون ما يساوي نقدًا والمسلف يرى أنه يشتري بها إلى أجل بأرخص مما يكون عند حصولها وإلا فلو علم أنها عند الأجل كحصول الحنطة في البيدر تباع بالسَّلَم لم يسلم فيها فيذهب نفع ماله بلا فائدة وإذا قصد الآخر قرضه ذلك قرضًا ولا يجعل ذلك
[تفسير آيات أشكلت: 2/698]
سَلَمًا إلا إذا ظن أنه أرخص في الحال وقت الأجل.
فالسَّلَم المؤجل في الغالب لا يكون إلا مع حاجة المستسلف إلى الثمن.
وأما الحال إن كان عنده فقد يكون محتاجًا إلى الثمن فيبيع ما عنده معينًا تارة وموصوفًا أخرى.
وأما إذا لم يكن عنده فإنه لا يفعله إلا إذا قصد التجارة والربح فيبيعه بسعر ويشتري بأرخص منه ثم يذهب هذا الذي قدَّره قد يحصَّل كما قدَّره وقد لا يحصل بل قد لا تحصل له تلك السلعة التي تسلف فيها وقد لا يحصل له إلا بثمن أعلى مما تسلفه فيندم.
وإن حصله بسعر أرخص من ذلك ندم المسلف إذا كان يمكنه أن يشتريه هو بذلك الرخص فصار هذا من نوع الميسر والقمار والمخاطرة كبيع العبد الآبق والبعير الشارد يباع بدون ثمنه فإن حصل ندم البائع وإن لم يحصل ندم المشتري.
[تفسير آيات أشكلت: 2/699]
وكذلك بيع حَبَل الحبلة وبيع الملاقيح والمضامين ونحو ذلك مما قد يحصل وقد لا يحصل وهو من جنس صاحب القمار والميسر.
والخطر خطران:
خطر التجارة وهو أن يشتري السلعة يقصد أن يبيعها بربح ويتوكل على الله في ذلك فهذا لا بد منه للتجار والتاجر يتوكل على الله يطلب منه أن يأتي من يشتري السلعة وأن يبيعها بربح وإن كان قد يخسر أحيانًا فالتجارة لا تكون إلا كذلك.
والخطر الثاني الميسر الذي يتضمن أكل مال الناس بالباطل فهذا الذي
[تفسير آيات أشكلت: 2/700]
حرمه الله ورسوله مثل بيع الملامسة والمنابذة وحبل الحبلة والملاقيح والمضامين وبيع الثمار قبل بُدُوِّ صلاحها.
وفي هذا يكون أحد الرجلين قد قمر الآخر وظلمه وفي هذا يذم المظلوم للظالم بخلاف التاجر الذي اشترى السلعة ثم بعد هذا نقص سعرها فهذا من الله ليس لأحدٍ فيه حيلة ولا يتظلم مثل هذا من البائع وبيع ما ليس عنده.
والمشتري لا يعلم أنه يبيعه ثم يشتري من غيره وأكثر الناس لو علموا لم يشتروا منه بل يذهبون هم فيشترون من حيث اشترى هو وإن قدِّرَ أن منهم من يعلم ويشتري كما لو كانت عنده لكونه يشتريها من مكان بعيد أو يشتري جملة ونحو ذلك مما قد يتعسر على المشتري منه وإنما يفعل ذلك إذا ظن أن هذا الربح هو الربح لو كانت عنده.
[تفسير آيات أشكلت: 2/701]
فلو قدر أن السلعة رخيصة أرخص من العادة وأن هذا قد أربحه ما لا يصلح في مثلها ندم فهو يشتمل كثيرًا على ندم هذا وهذا كما يشتمل على مثل ذلك سائر أنواع بيع الغرر.
وليست هذه المخاطرة مخاطرة التجارة بل مخاطرة المستعجل بالبيع قبل القدرة على التسليم كبيع الثمار قبل بدوِّ صلاحها وبيع حبل الحبلة وبيع الملاقيح وبيع المضامين وبيع العبد الآبق والبعير الشارد ونحو ذلك فإذا اشترى التاجر السلعة وصارت عنده مُلكًا وقبضها فحينئذٍ دخل في خطر التجارة وباع بيع التجارة كما أحلها الله تعالى بقوله {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.
وقوله صلى الله عليه وسلم «ولا شرطان في بيع» هو كنية عن بيعتين في بيعة مثل أن يتفقا على أن يبيعه بمائة نسيئة ويبتاعه بثمانين نقدًا وهو بيع العينة وأما
[تفسير آيات أشكلت: 2/702]
من فسَّرَه بأنهما يشترطان في العقد الواحد أكثر من شرط واحد ثم منهم من نهى عن هذا مطلقًا كما نقل عن أحمد ومنهم من قال هذا في نوع من الشروط وهو ما ليس من مصلحة العقد فهي أقوال مرجوحة وليس في ذلك ما يقتضي النهي.
والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق الأمور.
[تفسير آيات أشكلت: 2/703]


التوقيع :
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
في, فصل

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:29 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir