فصل في الربا
قد تدبرت الربا مرَّات عودًا على بدءٍ وما فيه من النصوص والمعاني والآثار فتبين لي ولا حول ولا قوة إلا بالله بعد استخارة الله أن أصل الربا هو الإنساء مثل أن يبيع الدراهم إلى أجل بأكثر منها.
ومنها أن يؤخر دينه ويزيد في المال وهذا هو الربا الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية وقد سئل أحمد بن حنبل عن الربا الذي لا شك فيه فذكر هذا وهو أن يكون له دين فيقول له أتقضي أم تربي فإن لم يقضه زاده في المال وزاده
[تفسير آيات أشكلت: 2/597]
هذا في الأجل فيربو المال على المحتاج من غير نفع حصل له ويزيد مال المربي من غير نفع حصل منه للمسلمين.
فهذا حرمه الله تعالى لأن فيه ضرارًا على المحاويج وفيه أكل المال بالباطل.
وقد كان من العلماء المشهورين في زماننا غير واحدٍ يقولون لا نعرف حِكم تحريم الربا وذلك أنهم نظروا في جملة ما يحرم فلم يروا فيه مفسدة ظاهرة.
والتحقيق أن الربا نوعان جلي وخفي.
فالجلي حرم لما فيه من الضرر والظلم.
والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلي فربا النَّسَاء من الجلي فإنه يضر بالمحاويج ضررًا عظيمًا ظاهرًا وهذا مجرب والغني يأكل أموال الناس بالباطل لأن ماله رَبَا من غير نفع حصل للخلق ولهذا جعل الله الربا ضد الصدقات فقال {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}.
وِقال {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}.
[تفسير آيات أشكلت: 2/598]
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم في أول ما أنزل عليه {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}.
وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} الآيات إلى قوله {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
فنهى عن الربا الذي فيه ظلم للناس وأمر بالإحسان إلى الناس المضاد للربا.
وفي الصحيحين عن ابن عباس عن أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما الربا في النسيئة وهذا الحصر يراد به حصول الكمال فإن الربا الكامل هو في النسيئة كما قال ابن مسعود إنما العالِم الذي يخشى الله
[تفسير آيات أشكلت: 2/599]
وكما قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية ومثل ذلك كثير.
فأما ربا الفضل فإنما نهي عنه لسد الذريعة كما في المسند مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سعد لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرَّمَاءَ والرَّمَاءُ هو الربا.
[تفسير آيات أشكلت: 2/600]
وقد تنازع السلف والخلف في ربا الفضل فطائفة من السلف أباحته ولم تحرم منه شيئًا وهذا مشهور عن ابن عباس وهو مروي عن ابن مسعود ومعاوية بل قد رُوي عنه أنه باع المصوغ إلى أجل
[تفسير آيات أشكلت: 2/603]
وبسبب ذلك فارقه عبادة بن الصامت وذهب إلى عمر رضي الله عنه شاكيًا منه.
ويروي عبادة حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الأصناف الستة وقد قيل كانوا في
[تفسير آيات أشكلت: 2/604]
غزوة قبرص وليس كذلك فإن قبرص إنما غزاها معاوية في خلافة عثمان باتفاق الناس وكانوا قد استأذنوا عمر فيها فنهى لأجل ركوب البحر ثم استأذنوا عثمان فأذن لهم فيها.
وفيها توفيت أم حرام بنت مِلحَان وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه
[تفسير آيات أشكلت: 2/605]
الغزوة وبها احتجوا على جواز الغزو في البحر مع ذكره غزو البحر في حديث.
[تفسير آيات أشكلت: 2/606]
لكن شكوى عبادة إلى عمر قد كان قبل ذلك في بعض المغازي فإن معاوية فتح قيسارية وكانت مدينة بالساحل عظيمة ولعل النزاع كان فيها وقد غنم
[تفسير آيات أشكلت: 2/607]
المسلمون آنية من ذهب وفضة فصار في الخمس منها ما صار فباعهم معاوية ذلك إلى العطاء.
فصار بيع الإناء الذي وزنه عشرون درهمًا بثلاثين درهمًا لأجل صيغته والناس رغبوا في ذلك لأنه إلى العطاء مؤخر عنهم ويأخذون ذلك الساعة وينتفعون بها فأنكر ذلك عبادة وتقاول هو ومعاوية في ذلك والقصة مشهورة.
ولما أنكر أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة ذلك على ابن عباس
[تفسير آيات أشكلت: 2/608]
روى أبو سعيد حديث خيبر لما قال له وكيله إنما نبتاع الصاع من التمر الجنيب وهو جيد التمر بالصاعين من الجمع وهو المخلوط فقال إنه عين الربا ولكن بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا وقال في الميزان مثل ذلك.
ثم اتفق الناس على تحريم ربا الفضل في الأعيان الستة التي جاءت بها الأحاديث وهي من أفراد مسلم من حديث عبادة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
[تفسير آيات أشكلت: 2/609]
الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مِثلًا بمثل سواءً بسواء يدًا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا حيث شئتم إذا كان يدًا بيد وتنازعوا فيما سوى ذلك على أقوال:
فطائفة لم تحرم ربا الفضل في غيرها وهذا مأثور عن قتادة وهو قول أهل الظاهر وابن عقيل في آخر مصنفاته رجح هذا القول مع كونه
[تفسير آيات أشكلت: 2/610]
يقول بالقياس قال لأن علل القياس في مسألة الربا علل ضعيفة وإذا لم يظهر فيه علة امتنع القياس.
وطائفة حَرَّمته في كل مكيل وموزون كما روي عن عمار بن ياسر وبه أخذ أحمد بن حنبل في المشهور عنه وهو قول أبي حنيفة وغيره.
وطائفة حرمته في الطعام وإن لم يكن مكيلًا وموزونًا كقول
[تفسير آيات أشكلت: 2/611]
الشافعي وأحمد في رواية.
وطائفة لم تحرمه إلا في المطعوم إذا كان مكيلًا أو موزونًا وهذا قول سعيد بن المسيب والشافعي في قول وأحمد في الرواية
[تفسير آيات أشكلت: 2/612]
الثالثة اختارها الشيخ أبو محمد وهو قريب من قول مالك القوت وما يُصلح القوت وهذا القول أرجح الأقوال.
وقد حكي عن بعض المتأخرين أنه يحرم في جميع الأموال لكن هذا ما علمت به قائلًا من المتقدمين.
[تفسير آيات أشكلت: 2/613]
فنقول أما الدراهم والدنانير فالعلة فيهما الثمن بدليل أنه يجوز إسلافهما في الموزونات من النحاس وغيره ولو كان الربا جاريًا في النحاس لم يبع موزون بموزون إلى أجل كما لا يباع تمر بحنطة ودراهم بدنانير إلى أجل وهم يسلمون أن هذا خلاف القياس والعلة إذا انتقضت من غير فرق علم أنها علة باطلة.
وأيضًا فالتعليل بكونه موزونًا أو مطعومًا علل ليس فيها ما يوجب الحكم بل طرد محض كما بسط في غير هذا الموضع.
ولكن الدراهم والدنانير هي أثمان المبيعات والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا لا ترفع قيمته ولا تنخفض إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به
[تفسير آيات أشكلت: 2/614]
المبيعات بل الجميع سلع والحاجة إلى أن يكون للناس ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة عامة فإنه قد يحتاج إلى بيع ثمن بغير إذن صاحبه فلا يباع إلا بثمن المثل كتقويم الشقص على من أعتق نصيبه.
والناس يشترون بالسعر شراءً عامًّا فإن لم يكن سعر لم يعرف ما لبعضهم عند بعض وقد يُقوِّمون بينهم عروضًا وغيرها ممن لا تعدل فيه الأنصباء إلا بالقيمة.
ففي الجملة الحاجة إلى التقويم في الأموال حاجة عامة وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة وذلك لا يكون إلا إذا كان هناك ثمن تقوَّم به الأشياء وتعتبر وذلك إنما يكون إذا كان ذلك الثمن باقيًا على حال واحدة لا تزداد فيه القيمة ولا تنقص.
وقد حرم فيهما ربا النَّسَاء لما فيه من الضرر كما تقدم ولو أبيح فيها ربا الفضل مثل أن يبيعوا دراهم بدراهم أكثر منها مثل أن يكون محتاجًا إلى دراهم خفافًا وأنصافًا ومكسرةً فيشتريهما فلا يبيعه الصيرفي إلا بفضل باق يأخذ منه من الصحاح أكثر من وزنها صار ذلك تجارة في الثمن ومتى اتجروا فيها نقدًا تذرعوا إلى التجارة فيها نسيئة.
ولو أبيحت التجارة في الأثمان مثل أن يبيع دراهم بدراهم إلى أجل لصارت الدراهم سلعة من السلع وخرجت عن أن تكون أثمانًا فحرم فيها ربا
[تفسير آيات أشكلت: 2/615]
الفضل لأنه يفضي إلى ربا النَّسَاء وربا النَّسَاء فيها يضر وإن اختلفت بالصفات لأنه يخرجها عن أن تكون أثمانًا.
وإذا وقعت فيها التجارة قصدت صفاتها فيقصد كل واحد ادخار ما يرتفع ثمنه في وقت كما يصنعون بالدراهم إذا كانت نقودًا ينقون خيارها وكما يصنعون بالفلوس أحيانًا.
وهذا كله مما نهي عنه في الأثمان فالأثمان المتساوية متى جعل بعضها أفضل من بعض حصل الفساد بل لا بد ألا تقصد لأعيانها بل يقصد التوسل بها إلى السلع.
والناس كلهم يشتركون في التوسل بها وهي دائرة بين الناس بمنزلة العلامة ولهذا في بعض البلاد يتخذون أثمانًا من نوع آخر وهذا معنى معقول في الأثمان مختص بها فلا يتعدى إلى النحاس والحديد والقطن والكتان فإنه لا فرق بين تلك وبين غيرها بل المطعومات أشرف منها.
وأما الأصناف الأربعة فالناس محتاجون إلى القوت كالأصناف الأربعة وكما يشابهها من المكيلات فمن تمام مصلحة الناس أن لا يتجر في بيع بعضها ببعض لأنه متى اتجر في ذلك خزنها الناس ومنعوا المحتاج منها فيفضي إلى أن يعز الطعام على الناس ويتضررون بتقليل الانتفاع به وهذا هو في بيع
[تفسير آيات أشكلت: 2/616]
بعضها ببعض إلى أجل.
فإنه متى بيعت الحنطة بالحنطة إلى أجل أو التمر بالتمر أو الشعير بالشعير ونحوه سمحت الأنفس ببيعها حالَّة طمعًا في الربح إذا بيعت إلى أجل وإذا لم تبع حالَّة تضرر الناس بل حينئذ لا تباع إلا بزيادة فيها فيضر الناس بخلاف بيعها بالدراهم فإن من عنده صنف منها هو محتاج إلى الصنف الآخر فيحتاج أن يبيعه بالدراهم ليشتري به الصنف الآخر أو يبيعه بذلك الصنف بلا ربح.
وعلى التقديرين يحتاج إلى بيعه حالًّا بخلاف ما لو أمكنه التأخر فإنه يمكنه أن يبيعه بفضل ويحتاج أن يشتري الصنف الآخر بفضل لأن صاحب ذلك الصنف يربي عليه كما أربى هو على غيره فيتضرر هذا ويتضرر هذا من تأخر هذا ومن تأخر هذا.
فكأن في التجارة فيها ضررًا عامًّا فنهي عن بيع بعضها ببعض نَساء وهذا من ربا النسيئة وهو أصل الربا لكن هنا النسيئة في صنفين مُعَللين وهو كبيع الدراهم بالدنانير نساء وهذا من ربا النسيئة وهو ما ثبت
[تفسير آيات أشكلت: 2/617]
تحريمه بالنص والإجماع.
فربا النسيئة يكون في الصنف الواحد وفي الصنفين اللذين مقصودهما واحد كالدراهم مع الدنانير وكالأصناف الأربعة التي هي قوت الناس.
وأما ربا الفضل فإذا باع حنطة بحنطةٍ خير منها مد بمدَّين كان هذا تجارة فيها ومن سوَّغ التجارة فيها نقدًا طلبت النفوس التجارة فيها نَساء كما تقدم في النقدين وإن لم يشترطوا ذلك بل قد يتعاقدان على الحلول.
والعادة جارية بأنك تصبر عليَّ كما هو الواقع في كثير من السلع وكما يفعل أرباب الحيل يطلقون العقد وقد تواطأوا على أمر آخر كما يطلقون عقد نكاح التحليل وقد اتفقوا على أنه يُطلق ويطلقون البيع على بيع الفضة بالفضة وقد اتفقوا على أنه باذل عنها ذهبًا واتفقوا على أنه يبيعه السلعة إلى أجل وقد اتفقوا على أنه يعيدها إليه بدون ذلك الثمن ومثل ذلك كثير.
كذلك يطلقون بيع الدراهم بالدراهم على أنها حالة ويؤخر الطلب لأجل الربح.
[تفسير آيات أشكلت: 2/618]
فكان يحرم ربا الفضل لأنه ذريعة إلى ربا النساء كما جاءت هذه العلة منصوصة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرَّماءَ والرَّماءُ هو الربا وإلا فمعلوم أنه مع استواء الصفات لا يبيع أحد مدّ حنطة أو تمر مُدًّا بُمدٍّ يدًا بيد هذا لا يفعله أحد.
وإنما يفعل هذا عند اختلاف الصفات مثل أن يكون هذا جيدًا وهذا رديئًا أو هذا جديدًا وهذا عتيقًا وإذا اختلفت الصفات فهي مقصودة ولهذا يجب له في القرض مثل ما أقرضه على صفته وكذلك في الإتلاف لأنه في القرض لم يقصد البيع وإنما قصد نفعه فهو بمنزلة العارية.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم منيحة الوَرِق ويقال فيه أعرني دراهمك
[تفسير آيات أشكلت: 2/619]
فهو يستعير تلك الدراهم ينتفع بها مدة ثم يردها وعينها ليست مقصودة ويرد جنسها كما في القراض يرد رأس المال ثم يقتسمان الربح وعين ما عطاه ليس مقصودًا بل المقصود الجنس فهذه أمور معقولة جاءت بها الشريعة في مصالح الناس.
ولما خفيت علة تحريم الربا أباحه مثل ابن عباس حبر الأمة ومثل ابن مسعود فإن الحنطة الجيدة والتمر الجيد يقال لصاحبه ألغ صفات مالك الجيدة لكن لما كان المقصود أنك لا تتجر فيها لجنسها بل إن بعتها لجنسها
[تفسير آيات أشكلت: 2/620]
فلتكن بلا ربح ولا إلى أجل ظهرت الحكمة فإن التجارة في بيعها لجنسها تفسد مقصود الأقوات على الناس.
وهذا المعنى ظاهر في بيع الدراهم بالدراهم وفي بيع التبر بالدراهم لأن التبر ليس فيه صنعة تقصد لأجلها فهو بمنزلة الدراهم التي قصد أن لا تفضل على جنسها ولهذا جاء في الحديث تبره وعينه سواء.
[تفسير آيات أشكلت: 2/621]