قولُه: ( . . . وَمِنْ هَؤُلاَءِ مَنْ يَكُونُ حَسَنَ العِبَارةِ فَصِيحًا يَدُسُّ البِدَعَ في كَلامِهِ - وأَكْثَرُ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ - كَصَاحِبِ الكَشَّافِ وَنَحْوِِهِ، حَتَّى إِنَّهُ يَرُوجُ عَلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِمَّنْ لاَ يَعْتَقِدُ البَاطِلَ مِنْ تَفَاسِيرِهِم البَاطِلَةِ مَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ رَأَيْتُ مِن العُلَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ وَكَلامِهِ مِنْ تَفْسِيرِهِم مَا يُوافِقُ أُصولهَمُ الَّتِي يَعْلَمُ أَوْ يَعْتَقِدُ فَسَادَهَا، وَلا يَهْتَدِي لِذَلِِكَ).
الزَّمَخْشَريُّ كان صاحبَ بلاغةٍ وعِلمٍ باللغةِ، فلهذا كانتْ طريقَتُه في عرضِ معتقداتِ المعتزلةِ، تختلِفُ عن طريقةِ عَرْضِ الرمانيِّ لهذه المعتقداتِ مثلًا، فالزمخشريُّ أَوْرَدَ اعتزاليَّاتِه بصورةٍ خفيَّةٍ لا يُدرِكُها القارئُ العادِيُّ، فهو لا يقولُ مثلًا: هذه الآيةُ تدلُّ على نفيِ الرُّؤيةِ أو هذه تدلُّ على خَلقِ القرآنِ مثلًا؛ لأن هذا يكونُ واضحًا.
ولكنه في صياغَتِه لعباراتِ الكتابِ أدْخَلَ فيها الاعتقادَ الذي إذا قَرأَهُ المعتزليُّ يَفهَمُ منه اعتزالِيَّتَه، وإذا قرَأَهُ غيرُه يقولُ: هذا كلامٌ عادِيٌّ، وفيما يلي أَذكُرُ مثالَين من كتابِه:
قال: قال أبو القاسمِ: الحمدُ للهِ الذي أنزلَ القرآنَ كلامًا مؤلَّفًا مُنَظَّمًا، ونزَّلَه بحسبِ المصالِحِ مُنجَّمًا. هذا كلامٌ صحيحٌ من حيث العبارةُ، لكنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ يُبطِنُ فيه عقيدةً من عقائِدِه، وهي أنَّ القرآنَ مخلوقٌ؛ لأنَّ هذه الأوصافَ التي ذَكرَها هنا للقرآنِ هي عندَه من أوصافِ المُحْدَثاتِ، فالإنزالُ والكلامُ والتأليفُ والتنظيمُ كلُّها من سِماتِ المحدَثين عندَه، ومِن ثَمَّ يكونُ القرآنُ مخلوقًا.
فإذا جاء معتزليٌّ وقرأَ هذه العبارةَ , وهو عندَه أنَّ هذه المصطلحاتِ من سِماتِ المحدَثين عَرَفَ أنَّ هذا الكلامَ يُرادُ به أنَّ القرآنَ مخلوقٌ، وإذا قَرأَهُ الإنسانُ العاديُّ فإنه لا يَنتَبِهُ لذلك.
نأخُذُ مثالًا آخَرَ، قال في قولِه تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَومَ القِيامَةِ فمَنْ زُحْزِحَ عَن النَّارِ وأُدْخِلَ الجَنَّةَ فقد فَازَ}. قال: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} قلتُ: اتِّصالُه به على أنَّ كُلَّكم تَموتون , ولا بدَّ لكم مِن الموتِ، ولا تُوَفَّوْن أجورَكم على طاعَتِكم ومعاصِيكم عَقِبَ موتِكم , وإنما تُوفَّوْن أجورَكم يومَ القيامةِ.. فإن قلتَ: فهل يُوهِمُ نَفيَ ما يُروَى أنَّ القبرَ روضةٌ من رياضِ الجنَّةِ أو حفرةٌ مِن حُفرِ النارِ؟ قلتُ: كلمةُ التوفيةِ تُزيلُ هذا الوَهْمَ؛ لأنَّ المعنى أنَّ توفيةَ الأجورِ وتَكميلَها يكونُ في ذلك اليومِ، وما يكونُ قبلَ ذلك فبَعضُ الأجورِ.
فهنا يُثبِتُ عذابَ القبرِ خلافًا لمتقدِّمِي المعتزلةِ، ثم قال بعدَ ذلك: والزَّحزَحةُ التَّنحِيةُ والابتعادُ، تكريرُ الزَّحِّ وهو الجذبُ بعَجلَةٍ، (فقد فاز) فقد حَصلَ له الفوزُ المُطلَقُ المتناوِلُ لكُلِّ ما يُفازُ به، ولا غايةَ للفوزِ وراءَ النَّجاةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ والعذابِ السَّرمدِيِّ ونَيلِ رضوانِ اللَّهِ والنَّعيمِ المُخلَّدِ، اللَّهم وَفِّقْنَا لما نُدرِكُ به عندَكَ الفوزَ في المآبِ.
وهو هنا يقولُ: لا غايةَ للفوزِ وراءَ النَّجاةِ من سَخطِ اللَّهِ والعذابِ السَّرمدِيِّ. وفي هذا نفيٌ مُبطَنٌ للرُّؤيةِ؛ لأنَّ رؤيةَ اللَّهِ تعالى تُعتبرُ غايةً وراءَ النجاةِ مِن سَخطِ اللَّهِ والنجاةِ من النارِ.
وظاهِرُ هذا الكلامِ صحيحٌ وباطِنُه يتضمَّنُ نفيَ رؤيةِ اللَّهِ تعالى. وقد لا يَنتَبِهُ القارئُ العاديُّ إلى ذلك، ولهذا قال العلماءُ: إنَّ مِثلَ هذا الكتابِ لا تَحِلُّ قراءَتُه لمَن لا يَعرِفُ معتقدَ المعتزلَةِ؛ لأنه يُورِدُ الاعتزالَ بطريقةٍ خفيَّةٍ لا يَنتَبِهُ إليها كثيرٌ من الناسِ، وذلك لقُدرَتِه اللغويةِ وتحَكُّمِه في صياغةِ العباراتِ على حسَبِ ما يُريدُ.
إذًا يُعلمَ أنَّ طريقةَ الزمخشريِّ في إثباتِ بدعةِ المعتزلةِ ليست بطريقةِ المتقدِّمين من المعتزلةِ الذين يقولون: هذه الآيةُ تدلُّ على كذا مثلًا. ولكنه يأتي بعبارةٍ ظاهِرُها السلامةُ وباطِنُها مشتملٌ على ما يُريدُ ذِكرَه من البِدَعِ التي تخْفَى على غيرِ المتخصِّصِ.