القارئ: بِسْمِ اللهِ الرَّحَمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال العلامة أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى:
"خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقدارا، وضرب لهم آجالا، ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، فمشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي فضلا، ويضل من يشاء، ويخذل ويبتلي عدلا، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله" ـ
الشيخ: سبحانه ـ وهو متعال عن الأضداد والأنداد، لا رادَّ لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلا من عنده.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد..,
فأسأل الله جل وعلا أن يعيذني وإياك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعوة لا يستجاب لها، اللهم إنا نعوذ بك أن نَزل أو نُزل، أو نَضل أو نُضل، أو نجهل أو يجهل علينا، اللهم فأعذنا.
شرع الطحاوي رحمه الله في ذكر بعض صفة الرب جل وعلا المتعلقة بقدره السابق وبمشيئته العامة، وأنه سبحانه ذو العلم الكامل المطلق، الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه، وأنه سبحانه الذي أجرى كل شيء على وفق ما أراد، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
وهذه المسائل التي سمعتم والجمل متصلة ببحث القدر. والمؤلف الطحاوي لم يجمع الكلام في القدر في موضع واحد، بل فرقه في نحو ثلاثة مواضع، ولهذا كان من عيوب هذه الرسالةِ، أنَّها جرت على وفق ما تيسر لمؤلفها. والترتيب ينفع المتلقي، لكن بالنسبة لنا سنجري على وفق ما جرى هو عليه، ونذكر ما يفيد إِنْ شَاءَ اللَّهُ في كل موضع بحسبه.
قال هنا: "خلقَ الخلقَ بعلمِه، وقدر لهم أقدارا، وضرب لهم آجالا"
ردا على مداخلة غير مسموعة: لا شرحناه.
ـ.......................
ـ (اللي) هي (إيش؟)
ـ.......................
ـ لا، هذه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} تكلمنا عنها في أول المقام، "وكل أمر عليه يسير" لا يحتاج إلى شيء، يعني واضحة مع سبق إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قال: "خلق الخلق بعلمه"، هو سبحانه خلق المخلوقات عالماً بها غير جاهل بما هي عليه، وما سيؤول إليه امرها، وأورد هذه الجملة الطحاوي مخالفاً أهل الاعتزال، الذين لا يجعلون العلم مصاحبا لصفات الله جل وعلا ولأفعاله، وعلْمُ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صفة ملازمة، هو سبحانه وتعالى عالم بعلم، وخالق بعلم، وقادر بعلم، ورحيم بعلم، يرحم من يشاء عن علم، وهذا العلم هو صفته جل وعلا الملازمة له، لا تنفك عنه، وعلمه سُبْحَانَهُ أول، قبل خلق الخلق كان عالماً بما يصلح لهم وما تقتضيه حكمته فيهم.
لهذا قال: "خلق الخلق بعلمه" ففي هذا رد على المعتزلةِ مِن جهةِ الصفات، وفيه رد أيضاً على القدرية، أعني بهم الذين ينفون علم الله السابق، القدرية الغلاة نفاة القدر، الذين يقولون: إن العلم حدث بعد وجود الأشياء، فهو سبحانه علم بعد وقوع الأشياء، فخلق الخلق، ففعل الناس فعلم جل وعلا ذلك.
واستدلوا على هذه النحلَةِ بقوله جل وعلا: {لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} وبقوله جل وعلا في تحويل القبلة: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ} ونحو ذلك من الآيات، التي فيها تعليل بعض الأحكام الكونية، أو الأحكام الشرعيَّة، وحصول الأشياء بأن يعلم الله جل وعلا ذلك، {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ}، قال جل وعلا في هذه الآية: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ } فزعموا أن هذه الآيات، وأشباه هذه الآيات تدل على أنه جل وعلا لا يعلم الأشياء إلا بعد أن تقع.
وأهل السنة مثبتون لعلم الله جل وعلا الكلي بالأشياء، ولعلم الله جل وعلا التفصيلي بأجزاء الأشياء، وحوادثها المفردة، وإذا عُلل شيء في الْقُرْآنِ أو في السنة بكي يعلم الله جل وعلا ذلك الشيء، فإن معناه عندهم بما دلت عليه الأدلة، معناه: حتى يظهر علم الله في الأشياء في هذه الأمور؛ ليقع حسابه، وليقع تعذيبه أو تنعيمه أو نحو ذلك، يعني: إظهار ما تنقطع به الحجة، فقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ} يعني: إلا ليظهر علمنا فيمَن اتبع الرسول ممن انقلب على عقبيه؛ لأن الله جل وعلا لو آخذ العباد، وآخذهم وحاسبهم على علمه السابق فيهم، لكان لهم حجة، فهو سبحانه جعل هذه الأشياء مع علمه السابق بما سيفعله العباد؛ لكي يظهر علمه فيهم، فجاء إذن هنا (لكي) في قوله: {لِنَعْلَمَ} حتى يظهر العلم، فيكون ذلك حجة على الناس، وهذا ظاهر بين؛ لأن علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالأشياء قبل وقوعها، قال سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ} وهذا.. وفي الآية الأخرى: {مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ}.
وهذا يدلك على أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علم قبلَ الكتابة، والكتابة متأخرة على العلم، وهذا الذي يجعلنا نقول: إن علم الله جل وعلا أول بالأشياء، وهنا يقيد ذلك بعلم الله جل وعلا بما أراده سبحانه، فإذا أراد الله جل وعلا شيئاً علم تفصيلاته، وخلق الشيء، خلق المخلوقات، وخلق الأشياء بعلمه، يعني: على وفق علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها، وهو عالم بها غير جاهل بها.
ولهذا قرأتم ما في.. أو قرأ بعضكم ما في مناظرات المعتزلة مع أهل السنة، في أن المعتزلة يقولون في أسماء الله جل وعلا: إنه سبحانه مثلاً عالم بغير علم، وخالق بغير خلق، وحي بغير حياة وهكذا. يجعلون الصفات مخلوقات منفصلة، فعندهم العلم هو المعلومات، فتعلقت الصفات التي يثبتونها بالمعلوم، فصار عالماً لا لعلم حدث فيه؛ وذلك فراراً منهم من مسألة حدوث مفردات العلم؛ لأن العلم له مفردات، وإذا حلَّت المفردات، يعني علم هذه معناه أنه حل به علم بهذا الشيء، الذي حصل، أو تعلق به خلق هذا الشيء، فكأنه جل وعلا صارت له صفة لم تكن له من قبل، وهذا يستلزم التركيب، والتركيب يستلزم الجسمية، والجسمية تنافي ألوهية الرب جل وعلا، كما هو مقرر في موضعه.
المقصود أن قوله: "خلق الخلق بعلمه" ظاهر معناه أنه خلق سبحانه المخلوقات، وهو عالم بها، وهو جل وعلا علم قبل خلقها، وأيضاً يعلمها بعد خلقها.
ثم قال رحمه الله تعالى: "وقدَّر لهم أقدارا" يعني قدر للخلق أقدارا؛ وذلك لقول الله جل وعلا: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، ولقوله سبحانه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}، وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضًا: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}.
والإيمان بقدر الله جل وعلا هذا ركن من أركان صحة الإيمان، فهو واجب؛ لأن التكذيب به باطل، كما سيأتي مفصلاً في موضعه، فقول المؤلف: "وقدر لهم أقدارا" يعني أنه جعل للمخلوقات أقداراً، لا تُحصِّل المخلوقات ما هي عليه بلا ترتيب سابق، بلا تقدير سابق، وهذا يشمل أشياء: الأول.. يعني تقدير الأقدار لهم يشمل أشياء:
الأولُ: تقدير ما به تمام خلقهم؛ فإنَّ الله جل وعلا قدر لكل مخلوق خِلقه، يكون عليها، ووصوله إلى غاية هذه الخلقة أيضاً يحتاج إلى تقدير، فالجنين لا يخرج من بطن أمه إلا وقد سبقه تقدير تفصيلي لكل المراحل، التي سيمر بها، وما يعرض له من كمال أو نقص، كما قال جل وعلا: {اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَار}،{وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَار}.
الثاني: أن مقادير المخلوقات مقدرة في الصفات، التي تكون عليها المخلوقات من الغرائز والأحوال، التي يسميها الآخرون الأعراض، فكل الأعراض التي تعرض على الذوات الله جل وعلا قدرها، فقدر الألوان بتفصيلاتها، وقدر الصفات من الحرارة واليبوسة، وقدر الذكاء، وقدر تفصيلات الحياة التي في المخلوق بجميع الأحوال، سواء في ذلك المخلوقات التي حياتها بالروح، أو المخلوقات التي حياتها بالنماء، أو المخلوقات الجامدة عن الحركة الظاهرة.
الثالث: قدر الله جل وعلا على المكلفين من مخلوقاته ما هم عليه من الشقاوة، ومن السعادة، ومن الهدى، ومن الضلال، ولهذا قال: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}،{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} فرتب الهداية بعد التقدير؛ لأنه عنى بالتقدير هنا المرتبتين الأوليين؛ لأنه جعلها بعد قوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} يعني: جعل الخلق على نهايته، يعني سواه، يعني جعله على نهايته المقدرة له، ثم قال: {وَالَّذِي قَدَّرَ} يعني: على.. لما خلق الأشياء الغريزية والخلقية، فهدى للطريقين.
إذا تبين لك ذلك، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدر للأشياء المقادير. وتعبير المؤلف بقوله: "قدر لهم" هذا مناسب من لو قال: "قدر عليهم أقدارا"؛ لأن التقدير لهم يشمل ما سيكونون عليه من خير أو شر، إذا تبين هذا ففي قوله: "قدر لهم أقدارا" مسائل:
الأولى: القدر معناه في اللغة: تهيئة الشيء لما يصلُحُ له، فإذا هيأت شيئاً لما يصلح له فقد قدرته، وتقول: أقدر أن يكون كذا وكذا، يعني هيأت هذا الأمر على أن يكون كذا، فتكون داخلاً في هذا الأمر بتقدير، إذا دخلت فيه بتهيئة، وهذا هو المعنى اللغوي العام، كما قال سبحانه: {فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} والآيات في هذا كثيرة، {وكُلُّ شَىءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} ونحو ذلك.
أما في الشرع فالقدر سر الله جل وعلا، الذي لم يُطلع عليه أحدا، لا ملكا، لم يطلع عليه ملكاً مقرباً، ولم يطلع عليه نبياً مرسلاً، بل هو سر الله جل وعلا الذي لا يعلمه على وجه الكمال أحد.
وتعريف القدر اختلف فيه الناس، وحتى تعريفه عند المنتسبين للسنة مختلف، لكنه عُرِّف بتعريف أُخذ من مراتب القدر، التي جاءت الأدلةُ على مفرداتها، فقيل في تعريف القدر عند أهل السنة: إنَّه علم الله السابق بالأشياء قبل وقوعها، وكتابتُه لذلك في اللوح المحفوظ قبل خلقها وإيجادها، ومشيئتُه النافذة الشاملة، وخلقه جل وعلا لكلِّ ما قدر، أو خلقه جل وعلا لكل شيء، وهذا يشمل المراتب جميعاً، وسيأتي ذكر مراتب القدر ودرجاته في موضعه، فيما نستقبل من هذه الرسالة.
المسألة الثانية: أن القدر، لما كان هذا أول موضع فيه، يجب أن يبحث من جهة النصوص فقط؛ لأن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صح عنه أنه قال: ((إذا ذكر القدر فأمسكوا)) يعني: فأمسكوا عن الخوض فيه بما لم يدلكم عليه كلام الله جل وعلا أو كلام نبيكم عليه الصلاة والسلام، فإذا تكلمنا في القدر أو خاض المرء فيه بعقله وفهمه، فيجب ألا يتعدى ما دلت عليه النصوص؛ وذلك لأن تجاوز ما دلت عليه النصوص في باب القدر، بسببه ضل الناس.
وهذا الخوض يسبب الضلال إذا تعرض لأمور، يعني: إذا تعرض الناظر لأمور تسبب له الضلال في القدر:
الأمر الأول: الخوض في أفعال الله جل وعلا بالتعليل: إذا خاض في أفعال الله جل وعلا بالتعليل الذي يظهر له دون حجة فإنه يضل؛ لأن أفعال الله جل وعلا صفاته سبحانه وتعالى وهي مرتبطة عندنا بعلل توافق حكمة الرب جل وعلا، والمخلوق لا يفهم من تعليل الأفعال إلا بما أدركه، أو بما يصل إليه إدراكه، بما أدركه يعني يرى مثيله، علل هذا بهذا؛ لأنه مر عليه، أو أدركه بما شاهد، أو يصل أنه [حوار غير مسموع مع أحد الطلبة] بما أدركه بما شاهد أو يصل إليه إدراكه بالمعلومات المختلفة، التي يقدرها.
وقد قدمنا لكم أن الأساس في صفات الله جل وعلا أنه لا يدرك كيفية الاتصاف بالصفات، كما لا يدرك كمال معرفة حكمةِ الله، ولا كمال التعليل، ولهذا مَن خاض في التعليلات في الأفعالِ بالعللِ، فإنه لابد أن يخطئ، إذا تجاوز ما دل عليه الدليل.
والعلل قسمان: علل كونيَّة، وعلل شرعية. وأفعال الله معللة، لا شك أفعال الله في ملكوته معللة، وأفعال الله في شرعه، يعني: أحكام الله جل وعلا الشرعية معللة، يعني في الغالب، الشرعيات في الغالب معللة.
إذا تبين لك ذلك فإن الخوضَ في التعليلات في الأفعال بالعلل هو سبب ضلال الفرق المختلفة في باب القدر، هو سبب ضلال القدرية المشركية، وهو سبب ضلال القدرية الغلاة النافية للعلم، وهو سبب ضلال القدريَّة المتوسطون أو المعتزلة؛ لأن الفرق الرئيسية في القدر ثلاث كما سيأتي بيانه: قدرية مشركية {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} وقدرية غلاة، نفاة العلم، الذين قالوا: إن الأمر أُنف، ولا يعلم الأشياء. وقدرية متوسطة وهم المعتزلة في باب القدر، والذين لم ينفوا كل مراتب القدر، لم ينفوا العلم السابق، كما سيأتي تفصيله في موضعه.
وكل هذه الفرق خاضوا في مشيئة الله وإرادته، والتعليلات بعقولهم، فلما لم يفهموا التعليل ضلوا، كما قال شيخ الاسلام في تائيته القدرية:
وأصل ضلال الخلق من كل فرقة = هو الخوض في فعل الإلـه بعلة
فإنهم لم يفهمـوا حكـمة لـه = فصاروا على نوع من الجاهلية
فإذن الأمر الأول من أسباب الضلال في هذا الباب: الخوض في الأفعال، لم أغنى؟ ولم أفقر؟ لم أصح؟ ولم؟ لم خلق هذا الشيء على هذا النحو؟ لم أعطى؟ لم شرع؟ لم جعل هذه الأمة كذا، وهذه الأمة كذا؟ لم جعل الأرض كذا؟ لم جعل الجنة كذا؟ لم جعل مصير هذا كذا؟ إلى آخره، كل هذا إذا خاض فيه العبد، فإنه باب ضلال؛ لأن القدر سر الله جل وعلا.
الأمر الثاني مما لا يخاض فيه في باب القدر: قياس أفعالِ الله جل وعلا على أفعالِ المخلوقين، أو جعْل ميزان تقدير الله على وجه الكمالِ والصحة هو ميزان تقدير المخلوقين؛ فإنَّ العباد إذا نظروا في فعل المخلوقِ، في تقديره وتصرفاته، فإنهم يجعلون الصواب والكمالَ في حق المخلوق على نحو ما، فإذا نقلوا هذا الذي أدركوه في المخلوقِ إلى فعْلِ الله جل وعلا فإنه أتى باب كبير من أبواب الضلال، يعني: حصل باب كبير من أبواب الضلال، كما حصل للقدرية من المعتزلة وأشباههم؛ فإنهم قاسوا أفعال الله بأفعال خلقه، فأوجبوا على الله جل وعلا فعل الأصلح، بما عهدوه من فعل الإنسان، وأوجبوا على الله جل وعلا العدل، ونفوا عنه الظلم بما عهدوه من فعل الإنسان، ولهذا قالوا: إن الله جل وعلا يجب عليه فعل الأصلح، وأنه يحسن في فعل الله كذا، ويقبح كذا، فما حسنته عقولهم بما رأوه في البشر حسنوه في فعل الله، وما قبحته عقولهم من أفعال المخلوقين قبحوه في فعل الله، فنفوا أشياء عن الله جل وعلا ثابتة له؛ لأجل هذه المسائل الثلاث التي ذكرتها لكم:
مسألة التحسين والتقبيح، مسألة الصالح والأصلح، ومسألة الظلم والعدل.
فهذه المسائل الثلاث هي أعظم أبواب الضلال القدرية، ولهذا يجب ألا يدخل فيها المكلَّف إلا بما دلت عليه النصوص، والأصل في هذا أن الله سبحانه لا يشبه بخلقه في أفعاله ولا في صفاته، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}
الأمر الثالث مما ينبغي مراعاته في بحث القدر، وإذا قرأت في هذا الباب: أن العلماء الذين تكلموا في مسائل القدر من المتقدمين من علماء السلف، فصنفوا فيه كابن أبي داود، بل قبله ابن المبارك، ومن كتب في ذلك في مصنفات مستقلة، أو ضمن كتب السنة الأخرى، أو من صنف من المتأخرين في هذا الأمر، يجب أن تنظر إلى كلامه على أنه قابل للأخذ والرد، إذا دخل في أمر عقلي لا دليل عليه، إذا دخلَ في أمر عقلي لا دليل عليه من كلامِ الله جل وعلا، أو كلام رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتوقف؛ لأننا وجدنا أن طائفة من الناس أخذوا كلام من وثقوا به من أهل العلم في مسائل القدر، على أنه مسلَّم، لما كان منتسباً إلى السنة، لكنه خاض باجتهاده في بعض المسائل من جهة العقل، فيأتي الناظر فلا يدرك كلامه على وجه التمام، أو يكون ذاك مخطئاً فيتابعه هذا وينسبه إلى السنة، والسنة في باب القدر هي ما دل عليه الْقُرْآن وحديث المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحسب، وما زاد عنه فيجب الإمساك عنه.
قد يحتاج طالب العلم إلى التفصيل العقلي، بما دلت عليه النصوص والإلزامات بما علم من النصوص في مقام الرد على المخالفين، لا في مقام التقرير.
فإذن ينبغي أن يفهم كلام أهل العلم على مرتبتين:
المرتبة الأولى: مقام تقرير مسائل القدر، هذا واحد،
والثاني مقام الرد على الخصوم في القدر، فإذا كان المقام مقام تقرير للاعتقاد الصحيح في القدر فلا يجوز أن يتجاوز الْقُرْآن والسنة، لا يجوز أن يتجاوز كلام الله جل وعلا وحديث المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن القدر سر الله جل وعلا.
المسألة الثالثة: أن الفِرَقَ في باب القدر.. قبل أن نخوض فيه أو نبحث هذا الموضوع نعطيك تصورا عاما، وسيأتي له تفصيل.
فالفرق في هذا الباب المنتسبة للأمة ثلاث فرق:
الفرقة الأولى: القدرية،
والفرقة الثانية: الجبرية،
والفرقة الثالثة: أهل السنة والجماعة.
والقدرية طوائف كثيرة؛ منهم الغلاة، ومنهم المتوسطون. وقولنا عنهم: قدرية نعني به نفاة القدر، ننسبهم للقدر؛ لأنهم نفوه، قال أهل العلم عنهم: قدرية؛ لأنهم نفوا القدر، منهم من نفى العلم، ومنهم من نفى عموم المشيئة، أو عموم خلق الله جل وعلا لكل شيء.
ومنهم الجبرية الذين قالوا: إن العبد مجبور، وهؤلاء الذين قالوا: إن العبد مجبور، منهم الغلاة كالجهمية، وغلاة الصوفية الذين يقولون: هو كالريشة في مهب الريح، ومنهم المتوسطون الذين قالوا: هو مجبور في الباطن، ومختار في الظاهر، وهم الماتريدية والأشاعرة.
والمؤلف الطحاوي ينتمي في الجملة، في الجملة في المسائل المشكلة إلى الماتريدية، ولهذا ينبغي أن ينتبه لكلامه في المواطن ذات الزلل كمسألة القدر، هل قررها على وجه الجبر أم على وجه كلام أهل السنة والجماعة؟ كما سيأتي.
المسألة الرابعة: نختم بها قوله: "قدر لهم أقدارا" أن هناك ألفاظاً تستعملها الطوائف جميعا في مبحث القدر، ولكل طائفة قصد ومصطلح في استعمالها، وهذه يجب عليك أن تنتبه لها، مثال ذلك.. ستأتي مفصلة في موضعها إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، مثال ذلك مسألة الكسب؛ فإن الكسب عند أهل السنَّة له معنى، وعند الأشاعرة والماتريدية له معنى، وعند المعتزلة له معنى، فلفظ واحد يَرِد في كتب أهل السنة، ويرد في كتب الأشاعرة والماتريدية، ويرد في كتب المعتزلة، وكل له في هذا المقام اصطلاحه ومعناه.
كذلك نفوذ المشيئة، مشيئته نافذة، هذا عند المعتزلة له معنى، وعند الأشاعرة والماتريدية له معنى، وعند أهل السنة له معنى، نفوذ المشيئة، عموم المشيئة، شمول المشيئة؛ فالقدرية يعنون بذلك معنى، يعني المعتزلة ومن نفوا القدر، والجبرية يصرفونه لمعتقدهم، وأهل السنة يستدلون أو يذكرونه على ما دلت عليه النصوص.
المقصود من هذا ها المقدمات دخول لك في هذه المباحث المهمة؛ لأننا في تقرير هذه العقيدةِ الطحاويَّةِ، نريد أن ننتقل بك من سرد المعلومات التفصيلية فقط في معتقد أهل السنة إلى ما يفتح لك آفاقاً في رؤية كتبِ أهل العلمِ في اعتقاد بعامة؛ لأننا الأصل أن الذين يحضرون معنا سبق أن حضروا كتباً كثيرة، يعني كالواسطية وما قبلها في تقرير عقيدة أهل السنة والجماعة.
فتنتبه إلى أن الألفاظ في باب القدر متشابهة، لكن المعاني مختلفة. إذا قرأت كتاباً من كتب التفسير في الآيات التي فيها عموم المشيئة في الهدى والضلال، في عموم خلق الله جل وعلا {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، في التفضيل، إذا قرأت كلاماً لمفسر سلفي قد يستعمل العبارات التي يستعملها الأشعري، أو يستعملها المعتزلي، وكل له اصطلاحه، ولهذا قال من قال عن كتاب الكشاف للزمخشري: إنه دس فيه مذهب المعتزلة في الصفات وفي القدر، وهو أعظم بحيث لا يدركه إلا الناقد البصير.
هذه المسائل بتفصيلاتها تأتي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في مواضعها.
قال رَحمَهُ اللَّهُ بعد ذلك: "وضرب لهم آجالا" ضرب لهم آجالا الأجل. الآجال: جمع أجل، وضرب الآجال معناه أنه جل وعلا جعل لكل شيء أجلا ينتهي إليه، فما من شيء إلا وله أجل ينتهي إليه المراد من خلقه، فالسماوات لها أجل، والأرض لها أجل تنتهي إليه، وهكذا مخلوقات الله جل وعلا، ومنها ما جعله الله جل وعلا.. ما جعل الله جل وعلا له أجلا يعلمه سبحانه، ولا يعلمه العباد، قد يطول جداً، وقد لا يكون له نهاية بعلم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له.
الآجال غير الأعمار؛ فالعمر أخص من الأجل، ولهذا قال من قال من أهل العلم: إن الأجل في الْقُرْآنِ لا يقبل التغييرات {جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}،{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ}، هذا في الأمم، وقال جل وعلا في العمر: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ}، وهذا يدلك على أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ضرب آجالا، وجعل أعمارا، والجمع بين هذا وهذا عند طائفة من المحققين من أهل العلم: أن الأجل لا يقبل التعديل، ولا التغيير، وأما الأعمار فهي قابلة لذلك بأسباب أناط الله جل وعلا بها التغيير في قدره السابق كما قال سبحانه: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}.
فإذن أجل العباد، أجل المخلوقات، أجل الأمم، هذا هو الذي في اللوح المحفوظ لا يقبل التغيير، ولا يقبل التبديل، جعله الله جل وعلا على هذا النحو، على ما اقتضته حكمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأما الأعمار فإنها تقبل التغيير، وقبولها للتغيير بما في التقدير السنوي للعباد؛ لأن القدر منه قدر عام، وهو الأصل العظيم، وهو ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: ((قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)) هذا التقدير العام في اللوح المحفوظ، ومنه تقدير خاص، التقدير الخاص يختلف، فيه تقدير لكل مخلوق في رحم أمه. وثَم تقدير سنوي في ليلة القدر، وثم تقدير يومي أيضاً بما يفعله العباد.
إذا تبين ذلك فإن التقدير الذي يقبل التغيير هو ما في صحف الملائكة، وهذا الذي يحمل على قول الله جل وعلا: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ}، بعض أهل العلم بالتفسير فهم الآية أن معناها: وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمر معمر آخر إلا في كتاب، وأن تعمير المعمر يكون بسبب قد قُدر، هو والتعمير معاً، فيكونا قد عمرا، لا بالنسبة إلى أنه كان عمره ليس بطويل فأطيل فيه.
وهذا يخالف ما جاءت به السنة الصحيحة من قول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((من سره أن يبسط له في رزقه, وينسأ له في أثره فليصل رَحِمَهُ))، وبقوله عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: ((ولا يزيد العمر إلا البر))، ((ما يزيد العمر إلا البر)).
قال هنا: ((من سرَّه أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره)) يعني: أن زيادة الأرزاق منوطة بسبب، وأن تعمير المعمَّر زيادة في عمره، نسء الأثر هذا مربوط بسبب، وهذا هو الذي ارتبط بالأعمار، بالآثار، أما الآجال فلا، الآجال لا تقبل تغييرات؛ لأنها هي الموافقة لما في اللوح المحفوظ، يعني: الأجل الذي إليه النهاية، أما العمر فهذا يقبل التغيير.
ولهذا صح عن أبن عباس رَضِي اللهُ عَنْهُما أنه قال في قوله تعالى في سورة الرعد: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ}: إنه في صحف الملائكة، {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} يعني: اللوح المحفوظ. وهذا واضح.
فقول المؤلف رَحِمَهُ اللَّهُ: "وضرب لهم آجالا" يعني: ما كان من التقدير السابق قبل خلق السماوات والأرض.
قال: "لم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم"، لم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، هذا عام، يعني من الطاعات ومن المعاصي، من الخير ومن الشر، من ما سيعملون ومما لم يعملوا، لو عملوه كيف يكون؛ فإنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلم أحوال الخلق على وجه التفصيل، فيما سيعملون وفيما لم يعملوه، ومثاله قول الله جل وعلا: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا
خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}
إذن فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تعلق علمه بكل شيء، قال: "لم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم" لم؟ لأنه سبحانه بكل شيء عليم، كما قال جل وعلا: {وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.