القسم الثاني عشر:
المجموعة الثالثة:
1: فسّر قول الله تعالى:
{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}.
يصف الله حال المشركين به يوم القيامة بعد معاينتهم لتبرؤ من كانوا يعبدونهم في الدنيا من دون الله و يحبونهم كحب الله،( من سادة و أشراف أو ملائكة، أو شياطين)، تبرءوا منهم تبرؤ العبد الذي يعرف قدر نفسه، حال النادمين على فعلهم،الحسرة قامت في قلوبهم جعلتهم يقولون بألسنتهم( لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤا منا) لو يتاح لنا العودة للحياة الدنيا لنعلن تبرؤنا منهم، و عودتنا للحق و توحيد الله المعبود بحق، كما فعلت هذه الآلهة و تبرأت منا، و الفرق بينهم كبير، فهم إن عادوا كانوا على ديدنهم من الشرك، قلوبهم مغلقة على الكفر بالله، ليس لهم عهد و لا ذمة، لو عادوا لردوا لما نهوا عنه، ( كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ) و مشاهدتهم للعذاب مشاهدة العين و القلب تملأ قلوبهم حسرة و ندامة على أعمالهم السيئة التي عملوها و وجبت لهم النار بسببها، و حسرة على ما فوتوا على أنفسهم من أعمال صالحة كانت تنجيهم من هذا العذاب، أعمال صالحة أمروا بها فلم يعملوها و أعرضوا بكبرهم و عنادهم و حبهم للدنيا عن الحق، و اتباعه، فنهجهم كان عليهم لا لهم، استحقوا به العذاب الأليم و الوعيد (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}.بأنهم لن يخرجوا من النار، يدخلوها، و يثبتوا بها، يقيموا بها إقامة دائمة، خالدين فيها ابدًا، يقاسون حرها و يذوقون عذابها، لا منجى و لا ملجأ لهم منها.
2: حرّر القول في كل من:
أ: معنى قوله تعالى: {أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين}.
اختلفت الأقوال في الآية على حسب زمن هذا القول:
1- يكون ذلك يوم القيامة، و تكون اللعنة من الناس أجمعين: قاله أبو العالية، ذكر ذلك عنه ابن عطية و ابن كير، و قاله قتادة كما ذكر ابن كثير، و قاله الزجاج.
و استدل الزجاج على سؤال كيف يلعن الكافرين بعضهم بالآية : قال عزّ وجلّ ( ثمّ يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً)
و استدل بن كثير بالاثر عن أبو العالية وقتادة: «إنّ الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه اللّه، ثمّ تلعنه الملائكة، ثمّ يلعنه النّاس أجمعون
2- يكون ذلك في الدنيا، و قيل في الناس قولين:
1- الناس تعود على المؤمنون خاصة، قاله قتادة و الربيع، ذكر ذلك عنهم ابن عطية.
2- الناس تعود على المؤمنين و الكافرين، ذكره ابن عطية، و نقل بن عطية عن فرقة: معنى ذلك أن الكفرة يقولون في الدنيا: لعن الله الكافرين، فيلعنون أنفسهم من حيث لا يشعرون،
و بالنظر للأقوال يجوز الجمع بينها و الله أعلم، فالمؤمنون يلعنون الكافرين في الدنيا و الآخرة، و الكافرون يلعنون أنفسهم في الدنيا جهلأً منهم، و في الآخرة يلعنهم الجميع، و يلعنوا أنفسهم.
ب: معنى قوله تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}.
اختلفت الأقوال في معنى الأية إلى:
1- القول الأأول: ما تعجب؛ أظهر التعجب من صبرهم على النار لما عملوا عمل من وطن نفسه عليها، وتقديره: ما أجرأهم على النار إذ يعملون عملا يودي إليها، ذكره أبو علي، وقاله كلًأ من قتادة والحسن وابن جبير والربيع ذكر ذلك عنهم ابن عطية، و نسبه لجمهور المفسرين، و ذكره الزجاج، و هو ما ذكره ابن كثير فقط.
قال الزجاج تعقيب على سبب التعجب: لأن هؤلاء كانوا علماء بأن من عاند النبي صلى الله عليه وسلم صار إلى النار.
قال ابن عطية: قال جمهور المفسرين: «ما» تعجب، وهو في حيز المخاطبين، أي هم أهل أن تعجبوا منهم، ومما يطول مكثهم في النار، وفي التنزيل: {قتل الإنسان ما أكفره}[عبس: 17]،{وأسمع بهم وأبصر}[مريم: 38]،
2- القول الثاني: «ما» استفهام معناه أي شيء أصبرهم على النار، قاله معمر بن المثنى ذكر ذلك عن ابن عطية، و ذكره الزجاج و نسبه إلى بعضهم.
قال ابن عطية: ومعنى أصبرهم في اللغة أمرهم بالصبر، ومعناه أيضا جعلهم ذوي صبر، وكلا المعنيين متجه في الآية على القول بالاستفهام
و ذكر ابن عطية أن المبرد قال أن هذه الآية تقرير واستفهام لا تعجب، وأن لفظة «أصبر» بمعنى اضطر وحبس، كما تقول أصبرت زيدا على القتل، ومنه نهي النبي عليه السلام أن يصبر الروح.
و الرأي الأول أظهر كما قال ابن عطية، و هو ما اختاره ابن كثير، و ذلك لمناسبة سياق لآية.
3: بيّن ما يلي:
أ: متعلّق البيان في قوله تعالى: {إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم}.
(وبيّنوا)، متعلقها مربط بتفسيرها:
1- من فسر الآية على العموم: معناه بينوا توبتهم بإظهار العمل واتقانه فيه.
2- ومن فسرها على أنها فيمن كتم أمر محمد؛ كان المعنى بينوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم( فالحديث في الآية عمن أسلم من اليهود والنصارى).
ب: سبب نزول قوله تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر} الآية.
نزلت هذه الآية بعد نزول قوله تعالى﴿وَإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ لا إلَهٌ إلا هُوَ﴾، اثباتًا لوحدانية الله و عظمته الظاهرة في عظيم خلقه، و ذكرت قصتين بروايات متعددة في ذلك :
1- نزلت في طلب المشركين آية دليلًا على وحدانية الله
الدليل:
ما قاله عطاء: «لما نزلت هذه الآية بالمدينة قال كفار قريش بمكة: ما الدليل على هذا؟ وما آيته وعلامته؟» وقال سعيد بن المسيب: «قالوا: إن كان هذا يا محمد فائتنا بآية من عنده تكون علامة الصدق، حتى قالوا: اجعل لنا الصفا ذهبا، فقيل لهم: ذلك لكم، ولكن إن كفرتم بعد ذلك عذبتم، فأشفق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «دعني أدعهم يوما بيوم»، فنزل عند ذلك قوله تعالى: {إنّ في خلق السّماوات والأرض}الآية »
و ذكر ابن كثير رواية بألفاظ مقاربة لابن مردويه عن ابن عبّاسٍ ، و ذكر أن ابن أبي حاتم رواه من وجهٍ آخر، عن جعفر بن أبي المغيرة، به. وزاد في آخره: «وكيف يسألونك عن الصّفا وهم يرون من الآيات ما هو أعظم من الصّفا».
2- نزلت بسبب تعجب المشركين، كيف يسعهم إله واحد.
ذكر ابن كثير ما رواه ابن أبي حاتمٍ عن عطاءٍ، قال: «نزلت على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة: {وإلهكم إلهٌ واحدٌ لا إله إلا هو الرّحمن الرّحيم} فقال كفّار قريشٍ بمكّة: «كيف يسع النّاس إلهٌ واحدٌ؟ فأنزل اللّه تعالى: {إنّ في خلق السّماوات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار والفلك الّتي تجري في البحر بما ينفع النّاس}إلى قوله: {لآياتٍ لقومٍ يعقلون}»
فبهذا يعلمون أنّه إلهٌ واحدٌ، وأنّه إله كلّ شيءٍ وخالق كلّ شيءٍ.
و روى آدم بن أبي إياسٍ عن أبي الضّحى قال: «لمّا نزلت:{وإلهكم إلهٌ واحدٌ}إلى آخر الآية، قال المشركون: «إن كان هكذا فليأتنا بآيةٍ». فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {إنّ في خلق السّماوات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار}إلى قوله: {يعقلون}»
عقب ابن جرير على ما ذكر من أسباب ؛ قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك, أنّ الله تعالى ذكره نَبَّه عباده على الدلالة على وَحدانيته وتفرده بالألوهية، دون كل ما سواه من الأشياء بهذه الآية.
و أنه لا يوجد ما يرجح قول على قول، فأي القولين كان صحيحًا فالمراد من الآية واحد.