قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون (17) صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون (18)}
«المثل والمثل والمثيل» واحد، معناه الشبه، هكذا نص أهل اللغة والمتماثلان المتشابهان، وقد يكون مثل الشيء جرما مثله، وقد يكون ما تعقل النفس وتتوهمه من الشيء مثلا له، فقوله تعالى: {مثلهم كمثل}معناه: أن الذي يتحصل في نفس الناظر في أمرهم كمثل الذي يتحصل في نفس الناظر في أمر المستوقد، وبهذا يزول الإشكال الذي في تفسير قوله تعالى: {مثل الجنّة} [الرعد: 35، محمد: 15] وفي تفسير قوله تعالى: {ليسكمثله شيءٌ} [الشورى: 11]؛ لأن ما يتحصل للعقل من وحدانيته وأزليته ونفي ما لا يجوز عليه ليس يماثله فيه شيء، وذلك المتحصل هو المثل الأعلى الذي في قوله عز وجل: {وللّه المثل الأعلى} [النحل: 6]. وقد جاء في تفسيره أنه لا إله إلا الله ففسر بجهة الوحدانية.
وقوله: مثلهم رفع بالابتداء والخبر في الكاف، وهي على هذا اسم كما هي في قول الأعشى:
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط .......كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
ويجوز أن يكون الخبر محذوفا تقديره مثلهم مستقر كمثل، فالكاف على هذا حرف، ولا يجوز ذلك في بيت الأعشى لأن المحذوف فاعل تقديره شيء كالطعن، والفاعل لا يجوز حذفه عند جمهور البصريين، ويجوز حذف خبر الابتداء إذا كان الكلام دالا عليه، وجوز الأخفش حذف الفاعل، وأن يكون الكاف في بيت الأعشى حرفا ووحد الذي لأنه لم يقصد تشبيه الجماعة بالجماعة، وإنما المقصد أن كل واحد من المنافقين فعله كفعل المستوقد، والّذي أيضا ليس بإشارة إلى واحد ولا بد، بل إلى هذا الفعل: وقع من واحد أو من جماعة.
قال النحويون: الذي اسم مبهم يقع للواحد والجميع. واستوقد قيل معناه أوقد، فذلك بمنزلة عجب واستعجب بمعنى.
قال أبو علي: وبمنزلة هزىء واستهزأ وسخر واستسخر، وقر واستقر وعلا قرنه واستعلاه، وقد جاء استفعل بمعنى أفعل أجاب واستجاب ومنه قول الشاعر [كعب بن سعد الغنوي]:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى .......فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وأخلف لأهل واستخلف إذا جلب لهم الماء، ومنه قول الشاعر:
ومستخلفات من بلاد تنوفة .......لمصفرة الأشداق حمر الحواصل
ومنه قول الآخر:
... ... ... ... ....... سقاها فروّاها من الماء مخلف
ومنه أوقد واستوقد قاله أبو زيد، وقيل استوقد يراد به طلب من غيره أن يوقد له على المشهور من باب استفعل، وذلك يقتضي حاجته إلى النار، فانطفاؤها مع حاجته إليها أنكى له. واختلف في أضاءت فقيل يتعدى لأنه نقل بالهمزة من ضاء، ومنه قول العباس بن عبد المطلب في النبي صلى الله عليه وسلم:
وأنت لما ولدت أشرقت ال ....... أرض وضاءت بنورك الطرق
وعلى هذا، ف (ما) في قوله: ما حوله مفعولة، وقيل (أضاءت) لا تتعدى، لأنه يقال ضاء وأضاء بمعنى، ف (ما) زائدة، وحوله ظرف. واختلف المتأولون في فعل المنافقين الذي يشبه فعل (الذي استوقد نارا).
فقالت طائفة:هي فيمن آمن ثم كفر بالنفاق، فإيمانه بمنزلة النار إذا أضاءت، وكفره بعد بمنزلة انطفائها وذهاب النور.
وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: «إن ما يظهر المنافق في الدنيا من الإيمان فيحقن به دمه ويحرز ماله ويناكح ويخالط كالنار التي أضاءت ما حوله، فإذا مات صار إلى العذاب الأليم، فذلك بمنزلة انطفائها وبقائه في الظلمات».
وقالت فرقة:إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار وانصرافهم إلى مردتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها.
وقالت فرقة:إن المنافقين كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في منزلة بما أظهروه، فلما فضحهم الله وأعلم بنفاقهم سقطت المنزلة، فكان ذلك كله بمنزلة النار وانطفائها.
وقالت فرقة منهم قتادة:نطقهم بــ «لا إله إلا الله» والقرآن كإضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها.
قال جمهور النحاة: جواب «لما» ذهب، ويعود الضمير من «نورهم» في هذا القول على (الذي)، ويصح شبه الآية بقول الشاعر: [الأشهب بن رميلة]:
وإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم .......هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد
وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق على الاختلاف المتقدم.
وقال قوم: جواب «لما» مضمر، وهو طفئت، والضمير في «نورهم» على هذا للمنافقين والإخبار بهذا هو عن حال تكون في الآخرة وهو قوله تعالى: {فضرب بينهم بسورٍ له بابٌ} [الحديد: 13].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا القول غير قوي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو السمال «في ظلمات» بسكون اللام، وقرأ قوم «ظلمات» بفتح اللام.
قال أبو الفتح: في ظلمات وكسرات ثلاث لغات: اتباع الضم الضم والكسر الكسر أو التخفيف بأن يعدل إلى الفتح في الثاني أو التخفيف بأن يسكن الثاني، وكل ذلك جائز حسن، فأما فعلة بالفتح فلا بد فيه من التثقيل اتباعا فتقول ثمرة وثمرات). [المحرر الوجيز: 1/ 132-136]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون (17) صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون (18) }
[يقال: مثلٌ ومثلٌ ومثيلٌ -أيضًا-والجمع أمثالٌ، قال اللّه تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للنّاس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43].
وتقدير هذا المثل:أنّ اللّه سبحانه، شبّههم في اشترائهم الضّلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد التّبصرة إلى العمى، بمن استوقد نارًا، فلمّا أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتأنّس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، وصار في ظلامٍ شديدٍ، لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع ذلك أصمّ لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياءً لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضّلالة عوضًا عن الهدى، واستحبابهم الغيّ على الرّشد. وفي هذا المثل دلالةٌ على أنّهم آمنوا ثمّ كفروا، كما أخبر عنهم تعالى في غير هذا الموضع، واللّه أعلم.
وقد حكى هذا الّذي قلناه فخر الدّين الرّازيّ في تفسيره عن السّدّيّ ثمّ قال: والتّشبيه هاهنا في غاية الصّحّة؛ لأنّهم بإيمانهم اكتسبوا أوّلًا نورًا ثمّ بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك النّور فوقعوا في حيرةٍ عظيمةٍ فإنّه لا حيرة أعظم من حيرة الدّين.
وزعم ابن جريرٍ أنّ المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقتٍ من الأوقات، واحتجّ بقوله تعالى: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} [البقرة: 8].
والصّواب: أنّ هذا إخبارٌ عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنّه كان حصل لهم إيمانٌ قبل ذلك، ثمّ سلبوه وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جريرٍ، رحمه اللّه، هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى: {ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} [المنافقون: 3]؛ فلهذا وجّه [ابن جريرٍ] هذا المثل بأنّهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي في الدّنيا، ثمّ أعقبهم ظلماتٌ يوم القيامة.
قال: وصحّ ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال: {رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالّذي يغشى عليه من الموت} [الأحزاب: 19] أي: كدوران عيني الّذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفسٍ واحدةٍ} [لقمان: 28] وقال تعالى: {مثل الّذين حمّلواالتّوراة ثمّ لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا} [الجمعة: 5]، وقال بعضهم: تقدير الكلام: مثل قصّتهم كقصّة الّذي استوقد نارًا. وقال بعضهم: المستوقد واحدٌ لجماعةٍ معه. وقال آخرون: الّذي هاهنا بمعنى الّذين كما قال الشّاعر:
وإنّ الّذي حانت بفلجٍ دماؤهم .......هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد
قلت: وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع، في قوله تعالى: {فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون * صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}وهذا أفصح في الكلام، وأبلغ في النّظام، وقوله تعالى: {ذهب اللّه بنورهم}أي: ذهب عنهم ما ينفعهم، وهو النّور، وأبقى لهم ما يضرّهم، وهو الإحراق والدّخان {وتركهم في ظلماتٍ}وهو ما هم فيه من الشّكّ والكفر والنّفاق، {لا يبصرون}لا يهتدون إلى سبل خيرٍ ولا يعرفونها، وهم مع ذلك {صمٌّ}لا يسمعون خيرًا {بكمٌ}لا يتكلّمون بما ينفعهم {عميٌ}في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى: {فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الّتي في الصّدور} [الحجّ: 46] فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية الّتي باعوها بالضّلالة.
ذكر أقوال المفسّرين من السّلف بنحو ما ذكرناه:
قال السّدّيّ في تفسيره، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة، في قوله تعالى: {فلمّا أضاءت ما حوله}زعم أنّ ناسًا دخلوا في الإسلام مقدم نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة، ثمّ إنّهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمةٍ، فأوقد نارًا، فأضاءت ما حوله من قذى، أو أذى، فأبصره حتّى عرف ما يتّقي منه فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتّقي من أذى، فكذلك المنافق: كان في ظلمة الشّرك فأسلم، فعرف الحلال والحرام، و [عرف] الخير والشّرّ، فبينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشّرّ.
وقال مجاهدٌ: {فلمّا أضاءت ما حوله} « أمّا إضاءة النّار فإقبالهم إلى المؤمنين، والهدى».
وقال عطاء الخرساني في قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}قال: «هذا مثل المنافق، يبصر أحيانًا ويعرف أحيانًا، ثمّ يدركه عمى القلب».
وقال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن عكرمة، والحسن والسّدّيّ، والرّبيع بن أنس نحو قول عطاء الخرساني.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}إلى آخر الآية، قال: «هذه صفة المنافقين». كانوا قد آمنوا حتّى أضاء الإيمان في قلوبهم، كما أضاءت النّار لهؤلاء الّذين استوقدوا ثمّ كفروا فذهب اللّه بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النّار فتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ، في هذه الآية، قال: « أمّا النّور: فهو إيمانهم الّذي كانوا يتكلّمون به، وأمّا الظّلمة: فهي ضلالتهم وكفرهم الّذي كانوا يتكلّمون به، وهم قومٌ كانوا على هدًى، ثمّ نزع منهم، فعتوا بعد ذلك».
وأمّا قول ابن جريرٍ فيشبه ما رواه عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}قال: « هذا مثلٌ ضربه اللّه للمنافقين أنّهم كانوا يعتزّون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلمّا ماتوا سلبهم اللّه ذلك العزّ، كما سلب صاحب النّار ضوءه».
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}«فإنّما ضوء النّار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق، كلّما تكلّم بكلمة الإخلاص، بلا إله إلّا اللّه، أضاء له، فإذا شكّ وقع في الظّلمة».
وقال الضّحّاك [في قوله] {ذهب اللّه بنورهم}«أمّا نورهم فهو إيمانهم الّذي تكلّموا به».
وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله}«فهي لا إله إلّا اللّه؛ أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدّنيا، ونكحوا النّساء، وحقنوا دماءهم، حتّى إذا ماتوا ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون».
وقال سعيدٌ، عن قتادة في هذه الآية: «إنّ المعنى: أنّ المنافق تكلّم بلا إله إلّا اللّه فأضاءت له الدّنيا، فناكح بها المسلمين، وغازاهم بها، ووارثهم بها، وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت، سلبها المنافق؛ لأنّه لم يكن لها أصلٌ في قلبه، ولا حقيقةٌ في عمله».
{وتركهم في ظلماتٍ}قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {وتركهم في ظلماتٍ}يقول: «في عذابٍ إذا ماتوا».
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ: {وتركهم في ظلماتٍ} « أي يبصرون الحقّ ويقولون به، حتّى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم اللّه في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدًى، ولا يستقيمون على حقٍّ».
وقال السّدّيّ في تفسيره بسنده: {وتركهم في ظلماتٍ}فكانت الظّلمة نفاقهم.
وقال الحسن البصريّ: {وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} « فذلك حين يموت المنافق، فيظلم عليه عمله عمل السّوء، فلا يجد له عملًا من خير عملٍ به يصدّق به قول: لا إله إلّا اللّه». ). [تفسير ابن كثير: 1/ 186 -189]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والأصم الذي لا يسمع، والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس، وقيل الأبكم والأخرس واحد، ووصفهم بهذه الصفات إذ أعمالهم من الخطأ وقلة الإجابة كأعمال من هذه صفته، وصم رفع على خبر ابتداء فإما أن يكون ذلك على تقدير تكرار أولئك، وإما على إضمار هم.
وقرأ عبد الله بن مسعود وحفصة أم المؤمنين رضي الله عنهما. «صما، بكما، عميا» بالنصب، ونصبه على الحال من الضمير في مهتدين، وقيل هو نصب على الذم، وفيه ضعف، وأما من جعل الضمير في «نورهم» للمنافقين لا للمستوقدين فنصب هذه الصفات على قوله على الحال من الضمير في تركهم.
قال بعض المفسرين قوله تعالى: {فهم لا يرجعون}إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون بوجه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وإنما كان يصح هذا إن لو كانت الآية في معينين، وقال غيره: معناه فهم لا يرجعون ما داموا على الحال التي وصفهم بها، وهذا هو الصحيح، لأن الآية لم تعين، وكلهم معرض للرجوع مدعو إليه). [المحرر الوجيز: 1/ 136]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({صمٌّ بكمٌ عميٌ}قال السّدّيّ بسنده: {صمٌّ بكمٌ عميٌ}فهم خرسٌ عميٌ.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {صمٌّ بكمٌ عميٌ}يقول: «لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه»، وكذا قال أبو العالية، وقتادة بن دعامة.
{فهم لا يرجعون}قال ابن عبّاسٍ: «أي لا يرجعون إلى هدًى»، وكذلك قال الرّبيع بن أنسٍ.
وقال السّدّيّ بسنده: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}إلى الإسلام.
وقال قتادة: {فهم لا يرجعون} «أي لا يتوبون ولا هم يذكرون». ). [تفسير ابن كثير: 1/ 189]
1.تنبيه المؤمنين لكشف حال المنافقين:
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (...واختلف المتأولون في فعل المنافقين الذي يشبه فعل (الذي استوقد نارا).
فقالت طائفة:هي فيمن آمن ثم كفر بالنفاق، فإيمانه بمنزلة النار إذا أضاءت، وكفره بعد بمنزلة انطفائها وذهاب النور.
وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: «إن ما يظهر المنافق في الدنيا من الإيمان فيحقن به دمه ويحرز ماله ويناكح ويخالط كالنار التي أضاءت ما حوله، فإذا مات صار إلى العذاب الأليم، فذلك بمنزلة انطفائها وبقائه في الظلمات».
وقالت فرقة:إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار وانصرافهم إلى مردتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها.
وقالت فرقة:إن المنافقين كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في منزلة بما أظهروه، فلما فضحهم الله وأعلم بنفاقهم سقطت المنزلة، فكان ذلك كله بمنزلة النار وانطفائها.
وقالت فرقة منهم قتادة:نطقهم بــ «لا إله إلا الله» والقرآن كإضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها.
قال جمهور النحاة: جواب «لما» ذهب، ويعود الضمير من «نورهم» في هذا القول على (الذي)، ويصح شبه الآية بقول الشاعر: [الأشهب بن رميلة]:
وإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم .......هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد
وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق على الاختلاف المتقدم.
وقال قوم: جواب «لما» مضمر، وهو طفئت، والضمير في «نورهم» على هذا للمنافقين والإخبار بهذا هو عن حال تكون في الآخرة وهو قوله تعالى: {فضرب بينهم بسورٍ له بابٌ} [الحديد: 13].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا القول غير قوي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو السمال «في ظلمات» بسكون اللام، وقرأ قوم «ظلمات» بفتح اللام.
قال أبو الفتح: في ظلمات وكسرات ثلاث لغات: اتباع الضم الضم والكسر الكسر أو التخفيف بأن يعدل إلى الفتح في الثاني أو التخفيف بأن يسكن الثاني، وكل ذلك جائز حسن، فأما فعلة بالفتح فلا بد فيه من التثقيل اتباعا فتقول ثمرة وثمرات). [المحرر الوجيز: 1/ 132-136]
2.إزالة إشكال عقدي في لفظ"المماثلة" عند قوله تعالى (مثلهم كمثل):
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون (17) صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون (18)}
«المثل والمثل والمثيل» واحد، معناه الشبه، هكذا نص أهل اللغة والمتماثلان المتشابهان، وقد يكون مثل الشيء جرما مثله، وقد يكون ما تعقل النفس وتتوهمه من الشيء مثلا له، فقوله تعالى: {مثلهم كمثل}معناه: أن الذي يتحصل في نفس الناظر في أمرهم كمثل الذي يتحصل في نفس الناظر في أمر المستوقد، وبهذا يزول الإشكال الذي في تفسير قوله تعالى: {مثل الجنّة} [الرعد: 35، محمد: 15] وفي تفسير قوله تعالى: {ليسكمثله شيءٌ} [الشورى: 11]؛ لأن ما يتحصل للعقل من وحدانيته وأزليته ونفي ما لا يجوز عليه ليس يماثله فيه شيء، وذلك المتحصل هو المثل الأعلى الذي في قوله عز وجل: {وللّه المثل الأعلى} [النحل: 6]. وقد جاء في تفسيره أنه لا إله إلا الله ففسر بجهة الوحدانية...). ). [المحرر الوجيز: 1/ 132-136]