من الدرس السابع عشر: بيان الأصل الثالث من أصول الدين
وهو معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم (2/2)
قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ
(7)} [المدثر:1-7]
هذه الآيات هي أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فترة الوحي الأولى، كما تقدم بيانه.
والمدَّثر : أصله: (المتدثّر) ثم أدغمت التاء في الدال وشدِّدَت.
والمدثر هو المتغطي بالدِّثَار وهو لباس يكون فوق الشعار ؛ فالشعار هو اللباس الذي يلي الجسد ، والدّثار لباس فوقه .
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الأنصار شعار والناس دثار)) متفق عليه من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
قال الفراء وأبو معمر وابن قتيبة وابن جرير وغيرهم: المدثر هو المتدثر بثيابه إذا نام.
وقال إبراهيم النخعي: كان متدثراً بقطيفة.
قوله: (وَمَعْنَى: {قمْ فَأَنْذِرْ} يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ).
قال ابن جرير: (وقوله:(قُمْ فَأَنْذِرْ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قم من نومك فأنذر عذابَ الله قومك الذين أشركوا بالله، وعبدوا غيره).
والإنذار يكون من العذاب وسببه؛ فالشرك سبب للعذاب، والنار وما يعاقب الله به المشكرين عذاب، ويقع الإنذار من هذا وهذا.
قوله: ({وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أَيْ: عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ).
قال ابن جرير: ({وَرَبَّكَ} يا محمد فعظم بعبادته، والرغبة إليه في حاجاتك دون غيره من الآلهة والأنداد).
فالتكبير هو التعظيم كما قال الله تعالى: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}
قال الشنقيطي: ({وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} أي: عظمه تعظيماً شديداً، ويظهر تعظيم الله في شدة المحافظة على امتثال أمره واجتناب نهيه، والمسارعة إلى كل ما يرضيه: كقوله تعالى:{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ، ونحوها من الآيات).
قوله: ({وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أَيْ: طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عَنِ الشِّرْكِ).
هذا أحد الأقوال في تفسير هذه الآية، أن الطهارة فيه معنوية، والعرب تسمي الرجل الذي يتعفف ويتنزه عن المعايب والفواحش والمكاسب المحرمة نقي الثياب، وطاهر الثياب، وطيب الأردان
ومنه قول امرئ القيس:
ثِيابُ بَني عَوفٍ طَهارى نَقِيَّةٌ = وَأَوجُهُهُم عِندَ المُشاهدِ غِرّان
كما يسمون الفاجر والغادر والفاحش وآكل السحت دنس الثياب، ومنه قول الشاعر فيما أورده ابن قتيبة:
لاهمَّ إن عامر بن جهم = أوذمَ حجاً في ثياب دُسْمِ
أوذم : أي عزم .
والثياب الدسم هي المتسخة .
وقد روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قال: لا تلبسها على معصية ولا على غدرة
ثم أنشد قول غيلان الثقفي:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر = لبست ولا من غدرة أتقنع
والمقصود أن تطهير الثياب يراد به تطهير النفس من النجاسات المعنوية، وأشدها الشرك.
قوله: ({وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرُّجْزُ: الأَصْنَامُ، وَهَجْرُهَا: تَرْكُهَا وَأَهْلِهَا، وَالبَرَاءَةُ مِنْهَا وَأَهْلِهَا، وَعَدَاوَتُها وَأَهْلِهَا، وَفِرَاقُهَا وَأَهْلِهَا).
والرّجز: الأوثان، تضم الراء وتكسر، وهما قراءتان.
وقد قال الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}
قال ابن المبارك اليزيدي: (الرجز والرجس واحد).
وقد قيل في اشتقاق هذه العبارة أن هذا الأصل الذي هو الـراء والجيم والزاي (ر ج ز) يفيد الاضطراب, ويفيد المهانة أيضا, فيه معنى الاضطراب وفيه معنى الامتهان, لأن أصل الرجز في اللغة هو داءٌ يصيب أعجاز الإبل فتضطرب منه أي: تتحرك حركة مضطربة
قال ابن فارس: (الراء والجيم والزاء أصلٌ يدلُّ على اضطرابٍ. من ذلك الرِّجَزُ: داءٌ يصيبُ الإبلَ في أعجازِها، فإذا ثارت النّاقةُ ارتعشَتْ فَخِذاها.
ومن هذا اشتقاق الرِّجَزِ من الشِّعر؛ لأنه مقطوع مضطرب).
والشرك فيه اضطراب لأنه على غير قرار ولا يستند لحجة ولا يطمئن قلب صاحبه، بل هو مضطرب في اعتقاده، مضطرب في سلوكه، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}
وقال: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}.
وفيه أيضاً معنى الامتهان: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}
ولا يسلم العبد من هذا الاضطراب والامتهان إلا بالتوحيد.
فإنه بالتوحيد يتطهر ويزكو ويطمئن ، فيكون طيباً مباركاً ثابتاً على يقين وبينة من أمره، يمشي سوياً على صراط مستقيم.