بسم الله الرحمن الرحيم
شرح مقدمة الكتاب
قال المصنف رحمه الله :( الحَمْدُ للهِ حَمْداً لا يَنْفدُ أَفضَلَ ما ينْبغي أَنْ يُحْمَد ، وصلّى اللهُ ، وسَلّمَ على أفضلِ المُصْطَفين مُحمَّدٍ ) :
الشرح :-
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله ، وسلم ، وبارك على خير خلق الله أجمعين وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وأصحابه أجمعين ، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين ، أما بعد :
فهذه مقدمة المصنف-رحمه الله- لهذا الكتاب المبارك ( أعني زاد المستقنع ) إبتدأها رحمه الله بقوله : [ الحمد لله ] .
وهـذه البدآءة من عادة أهل العلم-رحمهم الله- فإذا أرادوا التصنيف ، أو الخطابة ، أو الكتابة ، صدّروها بحمد الله-جلّ وعلا- .
ودليلهم في ذلك الكتاب ، والسُّنة ، والإجماع .
أما دليل الكتاب : فإن الله-تبارك وتعالى- إستفتح كتابه المبين بقوله :{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }(1) فاستفتح أفضل الكتب ، وأشرفها ، وأجلَّها على الإطلاق ، وهو القرآن بقوله سبحانه وتعالى :{ الحَمْدُ للهِ } .
قال بعض العلماء : في هذا دليل على أنَّه يُشرع إِستفتاح كتب العلم بحمد الله-جل وعلا- .
وأما دليل السُّنة : فإن النبي-r- إستفتح خطبه بقوله : ( الحمدُ لله ) وثبت ذلك عنه-عليه الصلاة والسلام- في مواعظه المشهورة : كما في حديث عائشة رضي الله عنها في قصة بريرة رضي الله عنها حيث قالت :" فحَمِد الله ، وأثنى عليه ، ثمَّ قال " .
فقولها : " فحمد الله " أي : استفتح كلامه ، وخطابه للناس بحمد الله .
وأجمع العلماء-رحمهم الله- على مشروعية إِستفتاح الكتب ، ونحوها بحمد الله-جل وعلا- .
والمناسبة في ذلك : أن الله-جل وعلا- هو المستحق للثّناء ، وما كان العبد ليعلَم ، أو يتعلّم لولا أنّ الله علّمه ، وما كان ليفهم لولا أن الله فهّمه .
فاستفتح بحمد الله الذي شرّفه ، وكرّمه بالعلم كما قال سبحانه وتعالى :{ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(2) .
وقالوا : كما أن النبي-r- إستفتح الخطبَ بالحمد ، فإنه يشرع استفتاح الكتب به ؛ لأنّ الخطبة ، والكتاب كلّ منهما هدفه واحد ؛ وهو الدعوة إلى الله ، فكما أنّ المراد من خُطبِه - عليه الصلاة والسلام - توجيه الناس ، ودلالتهم على الخير ، فكذلك المراد من كتابة الكتب ، وتأليف المؤلفات توجيه الناس ، ودلالتهم على الخير ، فلهذا كلّه شُرع استفتاح كتب العلم ، ورسائله ، والخطب ، والندوات ، ونحوها مما فيه تعليم ، وتوجيه بحمد الله ؛ لما فيه من تعظيم الله-جلّ وعلا- ، ولما فيه من الاعتراف بالجميل ، والثّناء على الله العظيم الجليل .
قال المصنف رحمه الله :[ الحَمْدُ للهِ ] : الحمد في اللغة : الثَّناء ، وقد أطبق على ذلك الأئمة ، والعلماء في تعريفه اللغوي ، ولذلك يقولون : حمدَ الشَّيءَ ؛ إذا أثنى عليه .
والمراد بالحمد في إصطلاح العلماء : ( الوصفُ بالجميلِ الاختياريّ على المنعم ، بسبب كونه منعماً على الحامد ، أو غيره ) .
فقولهم : ( الوصف بالجميل الاختياريّ ) : المراد به : أن تذكر الصِّفة الجميلة في الإنسان ، فإذا قلت مثلاً : محمد كريم ، أو شجاع ، أو فاضل فإنك تكون قد وصفته بالجميل فأنت حامد له ، ومُثْنٍ عليه ، وقولهم : ( على المنعم ) أي الذي أعطى النعمة ، وهو الله تعالى وحده ، والمخلوق بإذن الله تعالى ، وبفضله .
فالصفات الجميلة تكون لله تعالى ، فكلُّ صفاته جميلة جليلة سبحانه ، وتكون للمخلوق بفضله سبحانه فإذا وصَفَ اللهَ تعالى ، وأثنى عليه بما هو أهله فقد حمده ، وإذا وصَفَ المخلوقَ بما فيه من الصفات الحميدة ، وأثنى عليه بها فقد حمده .
وقولهم : ( بسبب كونه منعماً على الحامد ، أو غيره ) أي : أن الحمد لا يتوقف على وجود إحسان ، وإنعام من الشخص المحمود على الحامد ، ومن هنا خالف الحمدُ الشكرَ لأن الشكر ينشأ بسبب الإحسان ، والنعمة ، وصار الحمد أعمَّ ، فأنت تحمد من إتّصف بالصفات الجميلة بغضِّ النظر عن كونه أحسن إليك ، أو أحسن إلى غيرك .
فأصبح الفرق بين الحمد ، والشكر :
أنّ الشُّكر أعمُّ بالوسيلة التي يُعبّر بها ، وأخصُّ من جهة السبب الباعث عليه .
والحمد أعمُّ من جهة السبب الباعث عليه ، وأخصّ من جهة الوسيلة التي يُعبّر بها عنه .
فالحمد إنما يكون باللسان فهو أخصّ بالوسيلة التي يعبر بها عنه ، والشُّكر أعمُّ منه ؛ لأن الشكر يقع باللسان ، وبالجنان ، وبالجوارح .
أما باللسان فمنه قوله تعالى :{ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }(1) لأنّ الحديث عن النِّعمِ شكرٌ للمُنعِمِ .
كذلك أيضاً يقع بالجنان : ومنه قوله تعالى :{ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ }(2) أي : إعتقدوا أنها من الله ، فمِنْ شُكْرك لنعمة الله أن تعتقد في قرارة قلبك أنّ الله أنعم بها عليك ؛ وحده لا شريك له .
ويكون الشكر بالجوارح ، والأركان فتشكره سبحانه بالعمل في طاعته ، ومرضاته ، ومنه قوله تعالى :{ إِعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً }(3) ، وتشكر المخلوق بالجوارح أيضاً ؛ حينما تردُّ جميله بخدمته ، وعمل ما يُحِبُّ .
فهذه ثلاثة أنواع من الشُّكر : الشكر بالجَنان ، وباللِّسانِ ، وبالجوارحِ .
فتشكر بلسانك ؛ فتثني على الإنسان الذي أسدى إليك النّعمة بعد الله ، وتشكر بجنانك ، فتعتقد فضله ، وتشكر بجوارحك ، وأركانك بردّ الجميل إليه ، أو فعل ما يردّ إحسانه إليه ، وقد جمعها الشاعر بقوله :
أفادَتْكُمُ النَّعْماءُ منّي ثَلاثةً يَدِي ولِسَاني والضَّميرَ المُحَجَّبا
فقوله : ( يدي ) أي : أشكركم بيدي ، فأعمل في خدمتكم .
وقوله : ( ولساني ) أي : أشكركم بلساني ، فأتحدّث بفضلكم .
وقوله : ( والضَّميرَ المُحَجّبا ) أي : أشكركم بقلبي ، فأعتقد فضلكم .
أما بالنسبة للحمد فلا يكون إلا باللسان ، ولكن من جهة السبب الحمد أعمّ من الشكر ، فتحمد الإنسان سواء أنعم عليك بعد الله ، أو لم ينعم تقول : فلان كريم ، ولم يعطك شيئاً ، ولكن رأيت فيه هذه الخصلة الطّيبة فأثنيتَ عليه ، وحمِدتَه ، إذاً فالحمد لا يستلزم وجود فضلٍ للمحمود على الحامد ؛ ولكن الشكر إنما يكون بعد جميل ، ونعمةٍ من المشكور ، فلا تشكر إلا من أحسن ، وأسدى إليك المعروف .
إذاً فالفرق بينهما أنّ بينهما العُموم ، والخُصوص .
قوله رحمه الله :[ الحمدُ للهِ حمداً لا يَنْفدُ ] : أي أحمد الله-تبارك وتعالى- حمداً لا ينتهي .
قوله رحمه الله :[ الحمد لله ] : العلماء يقولون استفتح الله كتابه بالحمد لله ؛ فاختار اسم الله ، ولم يقل الحمد للكريم ، أو للعظيم ، مع أنه سبحانه عظيم ، وكريم بلا شكٍ ، ولكن تخصيص الاسم الدّال على الذّات أبلغ في الحمد ، والثناء من ذكر الوصف ؛ لأنك لو قلت الحمد للكريم ؛ لأشعر أنك حمدته من أجل أنه كريم ، ولكن لما قلت الحمد لله ، أثبت له الحمد لذاته-I- فكان أبلغ .
قوله رحمه الله :[ حَمْداً لا يَنْفدُ ] : أي أحمده حمداً لا ينتهي ، ولا ينقطع فالله هو المستحق للحمد الذي لا ينفد ؛ لأن نعمه لا تنقطع ، ولا تنتهي على العبد ، وهو لا يستطيع عدّها فضلاً عن شكرها ، والثناء على الله-U- بما هو أهله .
قال رحمه الله :[ أفضلَ ما يَنْبغي أنْ يُحمد ] : قوله [ أَفضلَ ] : على وزن أفعل ، والعرب تأتي بهذه الصيغة ، وهي صيغة أفعل التفضيل ، لتدلّ على أن شيئين ، فأكثر إشتركا في شيء ، وأن أحدهما أفضل من غيره فيه ، والفضل في اللغة أصله الزيادة أي : أن هذا الحمد مع كونه لا ينقطع ، ولا ينتهي كذلك هو بأفضل ، وأحسن ما ينبغي أن يكون عليه حمده سبحانه .
قال رحمه الله :[ وصلّى اللهُ ، وسلّم على أفضلِ المُصْطَفِينَ مُحمَّدْ ] : قوله رحمه الله :[ وصلّى الله ]: الصلاة تطلق في اللغة بمعانٍ :
منها : الصلاة بمعنى الدعاء ، ومنه قول الشاعر :
تَقُـولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبْتُ مُـَرتحلاً يَاربِّ جَنِّب أَبِي الأَوصَابَ وَالوَجَعَا
عَلَيكِ مَثْلُ الذِي صَلِّيتِ فَاغْتمِضِي عَيْنَاً فَإِنَّ لجِنْبِ المَرْءِ مُـضْـطَجَعَا
يقول الشاعر : إن إبنتي حينما هيأتُ رحلي للسفر قالت هذا الدعاء :- ( يا ربِّ جنِّب أبي الأوصابَ والوجعا ) أي : أنها دعت له بالسلامة ، فقال ذلك الأب يجيبها : ( عليك مثلُ الذي صلّيتِ ) ، أي : عليك مثل الذي دعوت به فقوله :- " مثل الذي صليت " أي : دعوت ، وهو موضع الشاهد من البيت ؛ أنه استعمل الصلاة بمعنى الدعاء ، ومنه قول الحق تبارك وتعالى :{ خُذْ مِنْ أمْوالهمْ صَدَقةً تُطَهرُهمْ وتُزَكِّيهمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ }(1) أي إذا أعطوا الزكاة لك يا رسولنا فصلِّ على من أعطاها لك ، ولذلك قال العلماء : يسن للإمام ، أو نائبه الذي يلي أخذ الزكاة من الناس إذا أخذها منهم أن يدعو لهم بالبركة ، والخير في أموالهم فقوله :{ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } أي : اُدعُ لهم ؛ فالصلاة استعملت هنا بمعنى الدعاء .
ومن معاني الصلاة الرحمة ، وهي من الله لعبده ، ومنه قـوله تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ }(2) .
وصلاة الله على العبد رحمته ، فالصلاة تطلق بمعنى الرحمة ، ومنه قول الشاعر :
صَلَّى المَليْكُ عَلَى اْمرِئٍ وَدَّعتُهُ وَأَتمَّ نِعْمَتَهُ عَلِيهِ وَزَادَهَا
أي : رحم الله ذلك العبد ، أو ذلك الأخ الذي ودَّعتُه .
ومن معاني الصلاة في لغة العرب : البركة ، والزيادة ، وفُسّر به قوله عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري ، وغيره :[ اللهمَّ صَلِّ على آل أبي أوفى ] قيل معناه : بارك لهم .
فهذه ثلاثة معانٍ للصلاة الدعاء ، والرحمة ، والبركة .
وقوله [ وصلّى الله ] : المراد به الرحمة ، أي : رحم الله .
قوله رحمه الله :[ وسلم على أفضل المصطفين محمد ] : قوله رحمه الله :[ وسلم ] السلام : إما مأخوذ من السلامة من الآفات .
وإما أن يراد به التحية ، قال بعض العلماء قول الإنسان : السلام عليكم ؛ أي سلّمكم الله من الآفات ، والشرور ، وهي التحية ، والسلام من السلامة ، وهو إسم من أسماء الله جل وعلا قال تعالى :{ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ } .
وجمع المصنف بين الصلاة على النبي-r- ، والسلام عليه ؛ لأنّ ذلك أكمل .
قال بعض العلماء : ( أدب الصلاة على النبي-r- أن يُجْمَع فيها بين الصلاة ، والسلام عليه ، عليه أفضل الصلاة والسلام ) اهـ .
والدليل على ذلك قوله تعالى :{ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } فجمع له بين الصلاة ، والسلام عليه أفضل الصلاة ، والتسليم .
قوله رحمه الله :[ وعَلى آلهِ ، وأصْحابِه ] قوله :[ وعلى آله ] : ( الآل ) تطلق بمعنيين : آل الرجل بمعني قرابته ؛ قالوا : لأن أصل آل أهل ، وهو قول سيبويه ، وأن الهاء في أهل أبدلت همزة ؛ فقيل آل .
وتطلق بمعنى الأنصار ، والأعوان ، والأتباع ، وشيعة الإنسان تقول : آل فلان : بمعنى أتباعه .
وهذا هو المراد بقول العلماء : ( وعلى آله ) أي : الذين آمنوا به ، واتبعوه عليه الصلاة ، والسلام ، وليس المراد به خصوص قرابته ، وهذا هو الصحيح ونصَّ عليه الإمام أحمد-رحمه الله- ، وإختاره جمع من العلماء أن المراد بآل النبي-r- الذين يُصلّى ، ويسلم عليهم تبعاً للنبي-r- أتباعه في كل زمان ، ومكان .
قوله رحمه الله :[ وأصحابه ] : جمع صاحب ، وهو من الصُحبة بمعنى الملازمة ، والرفقة ، وفي الإصطلاح : ( كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته ، وآمن به ) ، وخصّهم رحمه الله بالذكر لشرفهم ، وحقهم في الإسلام حيث آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وصدّقوه ، وإتبعوه ، وناصروه ، رضي الله عنهم ، وأرضاهم أجمعين .
وقوله :[ ومَنْ تَعَبّدَ ] : من باب عطف الخاص على العام أي : أنه خصّ المتعبّدين أي : الذين هم أكثر عبادة ، وصلاحاً أي خصَّ أهل الالتزام ، والطاعة الأكثر ، وهذا من باب التشريف ، والتكريم .
وقوله :[ تعبَّد ] : تفعّلٌ من العبادة ، والتَّفعل زيادة في المبنى تدلّ على زيادة المعنى ، والتعبّد : مأخوذ من العبادة ، والعبادة مأخوذة من قولهم : طريقٌ مُعَبّدٌ أي : مذلّل ؛ لأن أصل العبودية : الذِّلة ؛ فإن الإنسان إذا عبد ربه تذلّل له سبحانه .
أما حقيقة العبادة في الاصطلاح فمن أجمع التعاريف لها ما اختاره بعض الأئمة رحمهم الله :[ أنها اسم جامع لكلِّ ما يُحبه اللهُ ، ويرضاهُ من الأقوال ، والأفعال الظاهرة ، والباطنة ] أي سواء : كانت متعلقة باعتقاد كالإيمان بالله ، والخوف منه ، والرجاء فيما عنده ، فهذه كلها عبادات من أعمال القلوب الباطنة ، وكذلك تطلق العبادة على الأقوال الظاهرة التي يحبها الله تعالى ، مثل : التَّسبيحِ ، والتَّهليلِ ، والتَّكبيرِ ، والتَّحميدِ .
وكذلك تُطلق على الأفعال الظاهرة التي يحبها الله تعالى مثل : الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج .
فالعبادة تشمل الإعتقادات ، والأقوال ، والأفعال ؛ لكن بشرط أن تكون مما يحبه الله ، ويرضاه ، وشرط ما يحبه الله ، ويرضاه : أن يكون مشروعاً ؛ فلا يُعبد الله إلا بما شرع ، ودلَّ على كونه مشروعاً منه سبحانه دليل الكتاب ، أو السنة ، أو الإجماع قولاً كان ، أو فعلاً ، أو إعتقاداً .
وقوله رحمه الله :[ أما بعد ] : كلمة يُؤْتى بها للفصل بين المقدمة ، والمضمون ، فالكلام إذا خاطب به الإنسان غيره سواء كان مكتوباً ، أو مسموعاً جرت عادة العلماء أنهم يصدرونه بالثّناء على الله-جل وعلا- ، والصلاة ، والسلام على نبيِّه ، وآله على السُّنة التي ذكرناها ، هذه الكلمات التي يُصدَّر بها الكلام تُوصف بكونها مقدمة ، ثم بعد هذه المقدمة يُشرع في المقصود أي الأمر الذي يُرادُ بيانه ، وهو الهدف من إلقاء الكلمة ، أو كتابة الكتاب ، ولابد أن تَفْصِل بينه ، وبين المقدمة ، ولذلك قال بعض العلماء : إن كلمة ( أمـا بعد ) : هي فصل الخطاب ، قيل : إن أول من تكلم بها داود عليه السلام ، وحملوا عليه قوله تعالى :{ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ }(1) قالوا بدليل قَرنها بالحكمة ، فيكون قوله سبحانه :{ وفَصْلَ الخِطَابِ } : أي الفصل بين مقدمته ، ومضمونه ، وذلك أبلغ في نفع الناس ، وتوجيههم حتى لا يختلط الكلام بعضه ببعض ، وهذا قول الشعبي ، وطائفة من المفسرين ، والذي يظهر ، والعلم عند الله أن فصل الخطاب هو علم القضاء ، والفصل بين الناس في الخصومات ، والنـزاعات .
فقوله تعالى :{ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } ليس المراد بقوله :{ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } أمابعد التي معنا ، وإنما المراد به كما قال طائفة من العلماء معرفة الطريقة التي يُفْصَلُ بها بين خطاب الخصوم إذا تخاصموا ؛ لأن الخصوم إذا تخاصموا إختلفت أقوالهم ، وتباينت حججهم فيكثر كلامهم ، وخطابهم ولغطهم ؛ فيحتاجون إلى فصلٍ بينهم ، فقوله سبحانه :{ فَصْلَ الخِطَابِ } المراد به : علم الفصل في الخصومات ، ومن ذلك قولهم ( البيّنةُ على المُدَّعِي ، واليمينُ على من أَنْكر ) ، ومن فصل الخطاب أيضاً : أنه يترك المُدَّعِي حتى يُكمل دعواه ، ثم يسأل المُدَّعى عليه ، ولذلك لما لم يفعله داود-u- ، وحكم على الخصم قبل سماع جواب خصمه عن دعواه ، فقال :{ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ }(2) عاتبه الله ، ولذلك كان هذا من تعليم فصل الخطاب ، فدلّ سياق الآية على أن المراد بفصل الخطاب ليس أما بعد التي معنا ؛ وإنما المراد بها فصل الخطاب بين الخصوم ، وهو الذي إمتن الله-U- به على داود ، وعلّمه إياه ، فالحاصل أن الصحيح في الآية أنها لا يراد بها كلمة : أما بعد ، وهذا لا يعني عدم مشروعيتها ، بل إنها مشروعة ، حيث ثبتت هذه الكلمة في الأحاديث الصحيحة عن النبي-r- ومنها ما في الصحيح عنه-عليه الصلاة والسلام- من قوله :[ أمّا بَعدُ : فَما بالُ أقوامٍ يَشترطونَ شروطاً ليستْ في كتابِ اللهِ ؟ ] فكان يقول هذه الجملة ، ولذلك من السُّنة أن تُقالَ بعد المقدمة .
وقد يُكرِّرها البعضُ فيقول : أما بعد ، ثم يأتي بكلمة ، ثم يقول " ثم أما بعد " والذي يظهر الاقتصار على السُّنة أن يُثنى على الله ، ويحمده فإذا انتهى من الثَّناءِ ، والحمدِ قال : أمّا بَعدُ ، ودخل في المقصود ، فتكرارها لا يحفظ له أصل ؛ خاصة في خطب الجمع ، ونحوها يقتصر على قوله : أمَّا بَعدُ مرةً واحدةً ؛ لأنه هديه عليه الصلاة ، والسلام ، وسنته .
قال المصنف رحمه الله :[ فهذا مُخْتَصرٌ ] : قوله رحمه الله ( هذا ) إسم إشارة ، وهناك حالتان :
الحالة الأولى : أن يُشار إلى شيءٍ موجود ، فحينئذ لا إشكال ؛ لأنه الأصل فيها أنها اسم إشارة تدل على شيء موجود ، فتقول : هذا البيت ، فإذا كان المصنف رحمه الله قد كتب هذه المقدمة بعد فراغه من الكتاب ، فحينئذ لا إشكال في إشارته بقوله ( هَذا مُخْتَصرٌ ) ؛ لأنه موجود مكتوب .
والحالة الثانية : أن يشار بها إلى شيءٍ غير موجود من باب تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، فإذا كان المصنف رحمه الله كتب هذه المقدمة عند إبتدائه لتصنيف الكتاب ؛ فإنه يكون قد نزّلَ المعدومَ منزلةَ الموجودِ ، وقد درج كثير من العلماء رحمهم الله على ذلك أعني كتابة المقدمة عند إبتداء التصنيف والتأليف ؛ لا بعد الفراغ منه ، وقد يصرح بعضهم بذلك فيقول : ( هذا أوان الشروع فيه ) ومنهم من يفهم منه ذلك حينما يقول في مقدمته ( وأسأل الله أن يعين على إتمامه ) ، وهذه الطريقة هي الغالبة بدليل أن الكتب ، والشروح التي لم يتمُّها مؤلفوها كلها وجدت بمقدماتها .
وعليه فإن إشارته لكتابه على هذا الوجه بقوله ( فهذا مختصر ) يكون من باب تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، لأن الإختصار لم يحصل بعد ، ولكنه قصد حصوله ، واحتاج للتنبيه عليه ؛ فنزّلة منزلة الموجود أي هذا الكتاب الذي سأكتبه مختصر في الفقه .
قوله رحمه الله :[ مختصر ] : الاختصار ضد الإسهاب ، وإذا خاطبت النّاس في خطبة ، أو كتبت لهم كتاباً ، أو أردت أن تتحدث في موضوع ، فلك ثلاث حالات :
الحالة الأولى : أن يكون كلامك أكثر من المعنى ، فالمعنى قليل ، ولكن الكلام كثير .
الحالة الثانية : أن يكون كلامك أقلّ من المعنى ، فالمعنى كثير ، ولكن تأتي بكلمات قليلة تحتها معان كثيرة ، وهذه الحالة عكس الحالة الأولى .
الحالة الثالثة : أن تأتي بكلام على قدر معناه .
هذه ثلاث حالات : إما أن تخاطب بكلام ، ويكون معناه مساوياً ، أو أكثر ، أو أقل .
فإن كان الكلام كثيراً ، والمعنى قليلاً ؛ فإنه يُوصف بكونه إطناباً ، ولذلك يقولون أطنب في الأمر ، وهذا مذموم ؛ إلا في حالات خاصة ، فلا يكون إلا في خطاب ضعاف الفهم من الجهلة ، والعوام الذين يحتاجون إلى شرح ، فتكون المعاني قليلة ، ولكنها تُشْرح بكلامٍ كثيرٍ ، أما إذا خاطب علماء ، أو طلاب علم فالمنبغي أن يكون على إحدى حالتين :
الحالة الأولى : أن يخاطبهم بكلام مساوٍ لمعناه ، وهو ما يسمونه بالمساواة .
والحالة الثانية : أن يخاطبهم بكلام مختصر دالٍ على معانٍ كثيرة ، وهو ما يسمى بالإيجاز ، والإختصار وهذه الحالة هي الأفضل إن ناسبت المقام ، وقد عُدَّت من دلائل الإعجاز في كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حيث إنَّ الله خصَّ نبيَّه عليه الصلاة ، والسلام بها كما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام :[ أُوتِيتُ خَمْساً لم يُعْطَهنَّ أحدٌ قبلي ] ، وذكر منها جوامع الكلم ، وأنّه اختُصر له الكلام إختصاراً .
فكم من آيات قليلة الكلمات ، وتحتها من المعاني ، والدلالات الكثير ، كما في آية الوضوء التي ذكر الإمام ابن العربي رحمه الله في تفسيرها في كتابه أحكام القرآن أن من العلماء من إستنبط منها ثمانمائة مسألة ، وهكذا في أحاديثه عليه الصلاة والسلام التي جعلت أصولاً ، فجمعت مسائل كثيرة في كلمات قليلة يسيرة ؛ كقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين :[ إِنّما الأعمالُ بالنّياتِ ] ، ونحوه .
فقوله رحمه الله : ( إِخْتَصرتُه ) محمولٌ على الإيجاز ، وأن الكلام قليل ، والمعنى كثير ، ومن عادة الفقهاء رحمهم الله في تصنيفهم للمتون الفقهية أن يراعوا فيها الإختصار ، والإيجاز ، بخلاف الشروح ، والحواشي ، والمطولات .
قوله رحمه الله :[ في الفقه ] بيان للعلم الذي ينسب إليه هذا المختصر ، لأن المختصرات منها ما هو في علم العقيدة ، ومنها ما هو في علم الفقه ، ومنها ما هو في علم الأصول ، أو اللغة ، أو غيرها ، فلما قال في الفقه بيّن العلم المصنّف فيه ، وهو العلم الذي يريد إختصاره .
وقوله رحمه الله :( الفقه ) الفقه لغة : الفهم ، ومنه قوله تعالى حكاية عن نبيه موسى عليه السلام : { واحْلُلْ عُقْدةً منْ لِساني يَفْقَهوا قَوْلي } أي : يفهموا ما أقوله ، ثم هذا الإستعمال للفقه بمعنى الفهم لغة فيه قولان : فقيل : إنّه الفهم عموماً ، وقيل : إنّه الفهم للأمور الدقيقة التي تحتاج إلى إعمال فكر ، وعناء ، فلا يطلق على فهم الأمور الواضحة ، وعلى هذا القول ، فلا يصح أن تقول : فقهت أن الواحد نصف الإثنين ، لأنه أمر واضح لا يحتاج إلى كبير عناء .
وعلى هذا يكون القول الأول : عاماً شاملاً لكل فهم ، وعلى الثاني : يكون الفقه خاصاً بالفهم الذي يحتاج إلى إعمال فكر ، وبذل جهد .
أما الفقه في الاصطلاح : فهو ( العلم بالأحكام الشرعية ، العملية ، المكتسبة من أدلتها التفصيلية ) .
فقولهم : ( العلم بالأحكام الشرعية ) ، العلم ضد الجهل ، وحقيقته : إدراك الشيءِ على ما هو عليه ، فإذا أدركت الشيء على حقيقته التي هو عليها ؛ فقد علمته ، أما لو أدركته ناقصاً عن حقيقته فإنك لم تعلمه .
و( الأحكام ) جمع حكم ، وهو في اللغة : المنع ، والقضاء ، والحكم : إثبات أمر لأمر ، أو نفيه عنه ، وله عدة تعاريف تختلف بحسب إختلاف أنواعه .
وقولهم : " إثبات أمر لأمر " مثاله : أن تقول زيد قائم أثبتَّ القيام لزيد هذا حكم حكمت عليه بالقيام ، وقولهم : " أو نفيه عنه " أي تنفيه عنه فتقول مثلاً : زيد ليس بقائم ؛ هذا حكم حكمت عليه بأنه ليس بقائم .
والحكم الشرعي في اصطلاح علماء الأصول : هو ( خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على جهة الاقتضاء ، أو التخيير ، أو الوضع ) .
وقولهم ( الشّرعية ) قيد يخرج الأحكام غير الشرعية كاللغوية ، والعادية ، والمنطقية ، وغيرها فهو يدل على أنها مختصة بالأحكام إذا كانت من الشرع فقط .
وقولهم ( العملية ) قيد يخرج بقيّة الأحكام الشرعية كالعقائدية ، لأن العملية مختصة بالعبادات والمعاملات ، فلا يدخل فيها ما كان متعلقاً بالعقائد ؛ لأنه يبحث في كتبه المتخصصة فيه ككتب التوحيد والعقيدة .
وقولهم : ( المكتسبة ) أي : المستفادة التي حُصِّلت ، واستفيدت .
وقولهم : ( من الأدلة الشرعية ) بيان لأصل الحكم ، والأدلة الشرعية هنا عامة شاملة للأدلة النقلية ، وهي : دليل الكتاب ، والسُّنة ، والإجماع ، والأدلة العقلية كالقياس ، والنظر الصحيح .
قوله رحمه الله :[ منْ مُقْنِع الإمامِ الموفّق أَبي مُحمّدٍ ] : قوله :[ من ] : للتبعيض ، أي : أنه جعل كتاب المقنع للإمام الموفق أبي محمد رحمه الله أصلاً لكتابه هذا ، فاختصره منه .
والمقنع : كتاب للإمام الموفق أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي-رحمة الله عليه- المتوفى عام 620هـ في يوم عيد الفطر هذا الإمام الجليل ألّف كتاباً إسمه : عمدة الفقه ، وهذا الكتاب صاغ فيه الفقه بأخصر عبارة ، واعتبره الدرجة الأولى لطالب الفقه ، ثم ألّف بعده كتاباً إعتبره درجة ثانية فوقه ، وهو المقنع ، وتوسّع فيه قليلاً عن العمدة .
ثم وضع كتاباً ثالثاً وهو الكافي ، وذكر فيه الخلاف مختصراً للخلاف في داخل مذهب الحنابلة ، وهو فوق كتاب المقنع .
ثم وضع كتابه المغني ذكر فيه خلاف الروايات ، واختلاف الفقهاء ، فجمع بين الخلاف داخل المذهب ، وخارجه ، وهو كتابه لمن أراد أن يتأهل لدرجة الاجتهاد ، فهذه درجات وضعها هذا الإمام الموفق-رحمة الله عليه- في دراسة الفقه ، وهذه عادة المتقدمين أنهم يضعون الفقه على مراتب ، ولا يمكن لطالب العلم أن يضبط علم الفقه ، ويكون فقيهاً بمعنى الكلمة إلا إذا ضبطه بهذه الطريقة ، وهي التدرج في دراسته .
فالكتاب الذي معنا هو الدرجة الثانية ، وهو كتاب المقنع ، ويعتبر درجة ثانية بعد العمدة فليس من الصواب أن الشخص يبدأ بالمغني أولاً ، دون أن يتأهل بدراسة ما قبله حتى يتسنى له ضبطه ، وفهمه .
فالإمام الحجاوي-رحمة الله عليه- إختصر المقنع ؛ فألغى منه مسائل ، وأضاف مسائل ، فسماه زاد المستقنع ، فالأصل في هذا الكتاب أنه كتاب المقنع ، أُضيفت إليه مسائل ، وحُذفت منه أخرى .
قوله رحمه الله :[ على قولٍ واحدٍ ، وهُو الرَّاجِحُ في مذهبِ أحمدَ ] قوله :[ على قول واحد ] : الفقهاء-رحمة الله عليهم- كانوا يكتبون الفقه على طريقتين :
الأولى : طريقة المذهب .
والثانية : وطريقة الخلاف بين المذاهب .
أما طريقة المذهب : فهي طريقة يُعتنى فيها ببيان المذهب على إحدى صورتين :
الصورة الأولى : تكون ببيان خلاصة المذهب ، دون تعرض لخلافه ، وهذه طريقة المتون ، وهذا هو منهج الكتاب الذي معنا .
والصورة الثانية : أن يذكر الخلاف في المذهب فيقول : في المذهب ثلاث روايات ، أو أربع ، وهكذا فإذا ذكر الخلاف في المذهب : فإما أن يذكره عن الإمام بالروايات ، والأقوال ، وإما أن يذكره عن أصحاب الإمام بالأوجه .
إذاً فكتب المذهب إما أن تعتني بحسم المذهب ، بذكر الخلاصة ؛ وإما أن تعتني ببيان الخلاف داخل المذهب ، فالمصنف رحمه الله بيّن خلاصة المذهب ، واختياره في كتابيه العمدة ، والمقنع ، وذكر الخلاف في الكافي ، وذكره بإسهاب مقارناً بين المذاهب في المغني .
فإذا عرفنا أن هناك خلافاً في المذهب ، وخلافاً بين العلماء-رحمهم الله- خارج المذهب ، فبيّن رحمه الله أنه في هذا الكتاب المختصر لا يذكر الخلاف داخل المذهب ، ولا خارجه ، وأنه سيذكر الخلاصة للمذهب فقط .
قوله رحمه الله :[ ورُبّما حَذفتُ منه مسائلَ نادرةَ الوقوعِ ] : قوله :[ ربَّ ] : للتقليل ، وقد تستعمل بمعنى التكثير ، ولكن الأصل فيها التقليل ، والحذف : يكون بقصد الاختصار ، وقد يحذف لعدم وجود الحاجة الماسة للمسائل المحذوفة ، فلذلك قال رحمه الله :
[ ورُبّما حَذفتُ منه مسائلَ نادرةَ الوقوعِ ] : النادر ضد الغالب ، والنادر هو الأمر قليل الحدوث ، والغالب عكسه ؛ كثير الحدوث .
قوله رحمه الله :[ وزدتُ ما على مثله يُعْتَمد ] : أي أنني سأزيد بدل هذه المسائل التي حذفتها مسائل تشتد الحاجة إليها لكثرة وقوعها ، أو أهمية دراستها .
وهذا الحذف ، والزيادة من الإمام الحجّاوي رحمه الله ، إختصاراً منه لمقنع الإمام الموفق أبي محمد رحمهما الله برحمته الواسعة .
قوله رحمه الله :[ إذ الهِمَمْ قَدْ قَصُرت ، والأَسْبابُ المثبّطةُ عن نَيْلِ المُرادِ قد كَثُرتْ ] قوله :[ إذ الهِمَمْ ] : جمع همة ، وهي إحدى مراتب الأمر إذا وقع في نفس الإنسان ، ولا يمكن أن يقع الاهتمام بالأمر إلا بعد أن يحدّث نفسه به ، فأولاً يكون الشيء في قلب الإنسان حديثاً ، ووسواساً يخطر بالإنسان ، وتُحدِّثه به نفسه فإذا حَدّثتهُ نفسه إهتم به ، فإذاً الهمُّ يكون بعد الخاطر ، والهاجس ، ويكون بمعنى تهيئ النفس للعزم على الشيء ، ثم بعد ذلك يكون عزمها عليه ، فبيّن رحمه الله أن الهمم في زمانه قد ضعفت حتى إحتيج إلى المختصرات ، تخفيفاً في الطلب ، وتيسيراً للعلم ، بعد أن كانت الهمّة في طلب العلم قويّة متعدية ، لا تقف عند حدٍ ، فأصبحت قاصرة ضعيفة تحتاج إلى ما يناسبها .
قوله رحمه الله :[ والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت ] : الأسباب : جمع سبب ، وهو في الأصل ما يتوصل به إلى الشيء ، كالحبل ، ونحوه .
والتَّثْبِيطُ : هو التخذيل عن الشيء ، والمراد : ما يقصده الإنسان ويطلبه .
والمعنى : أن المصنف رحمه الله أراد أن يبين ضعف الحال في طلب العلم فبعد أن كانت الهمم في الطّلب عالية ، والأسباب المعينة عليه متوفرة تغيّر الحال ، وإختلف ، فأصبح على عكس ذلك ، مما إقتضى وضع ما يناسب حال الناس من مختصرات تقرّب العلم ، وتسهّل الوصول إليه ؛ مراعاة لضعف حال الناس في طلب العلم ، ثم إن الإنسان يضعف عن الخير بأمرين :
الأمر الأول : من نفسه .
والأمر الثاني : خارج عن نفسه .
فأشار إلى الأمر الأول بقوله : ( إذِ الهِمَمْ قَدْ قَصُرتْ ) وأشار إلى الثاني بقوله : ( والأسبابُ المثبّطةُ عن نيلِ المرادِ قدْ كَثُرتْ ) .
قوله رحمه الله :[ ومع صِغرِ حَجْمهِ حَوى ما يُغنيِ عَنِ التَّطْويل ]: قوله [ حوى ما يغني عن التطويل ] والغناء المراد به الكفاية هذا يغنيني أي : يكفيني ، وقد تستعمل مادته بمعنى حسن الصوت ، ومنه التغني وحمل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : ( مَنْ لم يَتَغَنّ بالقرآنِ فَليسَ منّا ) ، وقد تستعمل بمعنى الإقامة : ومنه قوله تعالى :{ كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ }(2) أي : لم تقم بمكانها .
والتطويل المراد به هنا كما ذكرنا الإسهاب ، ومراده رحمه الله أن يبيّن أن إختصاره لم يكن مُخِلاً بالكتاب ، بل كان مناسباً .
ويرد هنا إشكال ، وهو أن : العلماء-رحمهم الله- في بعض الأحيان يذكرون عبارات فيها ثناء على كتبهم ، أو بيان لفضل هذه الكتب ، والمؤلفات ، وهذا يتضمن التزكية ، والمدح للنفس ، وقد ثبت في الشرع النهي عن تزكية النفس أليس ثناؤه على كتابه من باب التزكية ، والمدح ؟ هذا إشكال ، ويحتاج إلى جواب ؟
والجواب: أن التزكية ، والثناء على النفس لها حالتان :
الحالة الأولى : أن تتضمن الإدلاء على الله ، والعُجْبَ بالنفس ، والإغترار بها ، والعياذ بالله فهذا نسأل الله السلامة ، والعافية هو المحرّم ، ولا يجوز ؛ كأن يُثني الإنسان على نفسه بكثرة علم ، وعبادة مغتراً ، ومتعالياً ، وقد عاتب الله-جل وعلا- موسى-u- لما ذكر علمه ، وهو عالم ، ولم يكن ذلك منه تفاخراً كما ثبت في الصحيح ، فكيف بمن فعل ذلك تفاخراً ، وبيّن الله في كتابه أنّ الذين عذّبهم ، وأهلكهم من شأنهم أنهم فرحوا بماعندهم من العلم ، حتى حاق بهم ما كانوا به يستهزؤن .
الحالة الثانية : التَّزكية على سبيل معرفة الحق ، والترغيب فيه ، فمثلاً يقول : تعلمت هذا العلم من العلماء ، أو أفتيتك بهذه الفتوى من العلماء ، أو هذا الأمر الذي ذكرته لك من الكتاب ، والسُّنة ، فتثني على علمك حينما ترى إستخفاف الناس به ، أو تريد حملهم على العمل بالحقِّ ، والسُّنة ، فهذا فَعَلَهُ الصحابة رضي الله عنهم ، كما قال أنس رضي الله عنه في الحديث الصحيح :[ ما تعدُّوننا إلا صبياناً ، لقد كنت تحت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يمسُّني لعابها أسمعه يقول : لبيك عمرةً ، وحجةً] وقال أبو العباس سهل بن سعد الساعدي-t- كما في صحيح البخاري : [ ما بقي أحدٌ أعلمَ بمنْبرِ النبي-r- منّي ] فهذا نوع من الثناء على نفسه بالعلم حتى يُقدَّر قدرُه .
فأجاز العلماء أن يثني الإنسان على نفسه لمعرفة قدره ؛ كما قال سبحانه حكاية عن نبيِّه يوسف عليه السلام :{ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }(1) فإذاً إذا كان الإنسان عنده حقٌّ وعلم فبيّن نعمة الله عليه من باب معرفة قدره فإنه لا حرج عليه ، فهذا من باب الترغيب في قبول الحق ، والعمل به ، ونرجو ألا يكون من باب التزكية ، والثّناء المذموم شرعاً .
قوله رحمه الله :[ ولا حول ولا قوة إلا بالله ] : للعلماء فيها وجهان :
الوجه الأول : منهم من يقول لا حول : أي لا تَحوُّل من حالٍ إلى حالٍ ، ولا قوة على ذلك التحول ولا بلاغ إلا بالله ، فأصل الحول من التغيّر ، والتبدل ، ولذلك يطلق على السَّنة ؛ لأن الغالب أن الإنسان إذا مرّتْ عليه سنة كاملة تحوّل حاله ، وتغيّر فيمرض ، ويصح ، ويغنى ، ويفتقر ، ويهلك ماله ، ويزيد إلى غير ذلك من العوارض ، فالحول مدة ليست يسيرة .
وعلى هذا المعنى يكون قولهم لا حول أي : لا تحوّل من حال شر إلى حال خير إلا بالله العلي العظيم .
الوجه الثاني : لا حول في دفع ضُرٍّ ، ولا قوة في بلوغ خير إلا بالله ، فالله-جل وعلا- منه الحول ، والطول ، والقوة ، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي-r- أنّه لما سمعَ المؤذنَ يقولُ : حيَّ على الصلاةِ ، حيّ على الفلاحِ قال :[ لا حَوْلَ ، ولا قُوةَ إِلا باللهِ ] قال بعض العلماء : مناسبته أنه بَرِأَ من الحول ، والقوة في إجابة داعي الله ؛ إلا بعد توفيق الله-جل وعلا- ومعونته ، فقد يكون الإنسان راغباً في حضور الصلاة ، وأدائها ، ولكن يُحالُ بينه ، وبينها بسقمٍ ، أو مرضٍ ، وقد يحال بينه ، وبينها بتأخرٍ ، أو تقاعسٍ فلا حول للإنسان ، ولا قوة في بلوغ الخير إلا بالله-جل وعلا- ، وهكذا في دفع الشَّر ، وهذه الكلمة كنزٌ من كنوز الجنة كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام .
قوله رحمه الله :[ وهو حَسْبُنا ] : وهو : أي الله ، الحسب : الكفاية ، حسبي : كفايتي ، حسبنا : جاء بصيغة الجمع التي تشمله ، وتشمل السامع ، والقارئ ، والمؤمنين المتوكلين عليه سبحانه ، وهو حسبنا أي : كافينا .
قوله رحمه الله :[ ونِعْمَ الوكيلُ ] : ثناء على الله-جل وعلا- ، والوكيل : هو القائم على الشيء ، المتوكل عنه ، والله خالق كل شيء ، وهو على كل شيء وكيل ، فهو القائم على كل نفس ، وهو المتوكل بكل نفس-I- ، وبكل شيء ، فهو حسبنا في بلوغ هذا الأمر الذي رسمناه ، والمنهج الذي ذكرناه .
قوله رحمه الله :[ ونِعْمَ الوكيلُ ] : أي نعم من يُتَوكّلُ عليه ، أو يُوْكَل إليه الأمر .
وهذه المقدمة فيها فوائد : نجملها فيما يلي :
أولاً : الثناء على الله-U- ، واستفتاح الكتب بذلك ، وفي حكمها الخطب ، والمواعظ ونحوها .
ثانياً : الفصل بين مقدماتها ، ومضامينها .
ثالثاً : أن تكون هذه المقدمة مشتملة على التعريف بالكتاب ، وبيان منهج المؤلف فيه ، وفي تقسيم مادته ، وترتيبها .
هذه فوائد يستفيد منها طالب العلم في البحث ، وكتابة رسالة ، أو موضوع ، ثم خَتْمُ ذلك بالثناء على الله-جل وعلا- وسؤاله المددَ ، والعونَ .
فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يستفتح مقدمته بالثناء على الله-U- ، ويختمها أيضاً بسؤال الله-U- المعونة ، والتوفيق .
ونسأل الله العظيم ، رب العرش الكريم ، أن يجزي هؤلاء الأئمة ، وإخوانهم من علمائنا خير ما جزى عالماً عن علمه ، اللهم أسبغ عليهم واسع الرحمات ، وإجعل لهم جزيل المغفرات ، وعلو الدرجات ، وألحقنا بهم على أحسن ما تكون عليه الخاتمة ، والممات ؛ إنك عل كل شيء قدير ، وبالإجابة جدير ، والله تعالى أعلم .
--------------------------------------------------------------------------------
(1) / الفاتحة ، آية : 1 .
(2) / العلق ، آية : 5 .
(1) / الضحى ، آية : 11 .
(2) / النحل ، آية : 53 .
(3) / سبأ ، آية : 13 .
(1) / التوبة ، آية : 103 .
(2) / الأحزاب ، آية : 56 .
(1) / ص ، آية : 20 .
(2) / ص ، آية : 24 .
(2) / يونس ، آية : 24 .
(1) / يوسف ، آية : 55 .