(1) بعوث الخلفاء الراشدين إلى الأمصار لتعليم القرآن
كان الخلفاء الراشدون أفضل الصحابة رضي الله عنهم، وأعلمهم بالقرآن ومعانيه، وأعرفهم بهدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد اتبعوا هَدْيَه في بعث القراء إلى الأمصار لتعليمهم القرآن، وتأديبهم بآدابه، وتفقيههم في الدين، فما إن فرغوا من حروب الردّة واستوسق الأمر في جزيرة العرب كافة حتى بادروا إلى فتح فارس والروم؛ فكانوا كلما فتحوا بلادا جعلوا في أكابر مدنها من يقرئ القرآن ويعلّم شرائع الدين، ويقضي بين الناس، وقد كان القرّاء والمفسرون في الصدر الأول من أهل العلم بالأحكام والقضاء، فمنهم من تولى الإمارة، ومنهم من تولى القضاء مع عنايتهم بالإقراء والتفسير.
وكان منهم من يكتب المصاحف ومنهم من يمليها، فظهرت أنواع من علوم القرآن بسبب العناية بتلاوته وتدارسه وروايته مسموعاً ومكتوباً، وبسبب إقبال الجمع الغفير من أهل العلم وطلابه على القرآن الكريم تعلّماً وتعليماً، وتدبّراً وتفقّها، وإفتاء فيما يُسألون عنه من مسائله.
والأخبار في معلّمي القرآن في الأمصار على عهد الخلفاء الراشدين كثيرة، وسأذكر بعضها مفرّقة على تراجم أصحابها بإذن الله تعالى.
1. قال محمد بن كعب القرظي: جمع القرآن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل وعبادة بن صامت وأبيّ بن كعب وأبو أيوب وأبو الدرداء؛ فلما كان زمن عمر بن الخطاب كتب إليه يزيد بن أبي سفيان: إنَّ أهل الشام قد كثروا وملأوا المدائن واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم؛ فأعِنّي يا أميرَ المؤمنين برجالٍ يعلمونهم؛ فدعا عمرُ أولئك الخمسة فقال لهم: إنَّ إخوانكم من أهل الشام قد استعانوني بمن يعلّمهم القرآن ويفقههم في الدين؛ فأعينوني رحمكم الله بثلاثة منكم، إن أحببتم فاستهموا وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا؛ فقالوا: ما كنا لنتساهم؛ هذا شيخ كبير لأبي أيوب، وأمَّا هذا فسقيم لأبيّ بن كعب؛ فخرج معاذ وعبادة وأبو الدرداء.
فقال عمر: (ابدأوا بحمص؛ فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، منهم من يلقن فإذا رأيتم ذلك فوجهوا إليه طائفة من الناس؛ فإذا رضيتم منهم فليقم بها واحد، وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين، وقدموا حمص فكانوا بها حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين فمات بها، وأما أبو الدرداء فلم يزل بدمشق حتى مات). رواه ابن سعد في الطبقات وهذا سياقه وهو أتمّ، ورواه البخاري في التاريخ الأوسط باختصار فيه وزاد: (وخرج أبو الدرداء إلى دمشق ومعاذ إلى فلسطين فمات بها، ولم يزل معاذ بها حتى مات عام طاعون عمواس، وصار عبادة بعدُ إلى فلسطين فمات بها، ولم يزل أبو الدرداء بدمشق حتى مات).
2. وقال هشام الدستوائي عن قتادة عن أنس قال: بعثني الأشعري إلى عمر فقال لي عمر: كيف تركت الأشعري؟
فقلت له: تركته يعلم الناس القرآن.
فقال: أما إنه كيس ولا تُسْمِعْها إياه). رواه ابن سعد في الطبقات.
3. وقال حارثة بن مضرب العبدي: قرئ علينا كتاب عمر ههنا [يريد بالكوفة]: « إني بعثتُ إليكم عمارا أميراً، وبعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب محمد من أهل بدر فاسمعوا لهما وأطيعوا، وآثرتكم بابن أم عبد على نفسي، وجعلته على بيت مالكم». رواه أحمد في فضائل الصحابة وابن أبي شيبة في المصنف من طريق سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن حارثة.
4. وقال مجالد عن الشعبي عن قرظة بن كعب الأنصاري رضي الله عنه قال: بعثني عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والأنصار فمشى معنا حتى بلغ مكانا قد سماه ثم قال: (هل تدرون لم مشيت معكم؟)
قالوا: لحقّ صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق الأنصار.
قال: (لا، ولكن مشيت معكم لحديث أردت أن أحدّثكموه؛ فأردت أن تحفظوه لممشاي معكم، إنكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم دويّ كدويّ النحل؛ فإذا رأوكم مدُّوا إليكم أعناقهم، وقالوا: أصحاب محمد؛ فأقلّوا الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا شريككم). رواه أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة من طريق عبيد الله بن عمر القواريري: أخبرنا حماد بن زيد عن مجالد به، ورواه ابن قانع من طريق شعبة عن بيان عن الشعبي ، عن قرظة بن كعب قال: شيَّع عمرُ الأنصارَ وقال: « إنكم تأتون أرضا أو قوما ألسنتهم بالقرآن، فلا تصدوهم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم؛ فلم أحدّث بشيء بعد، ولقد سمعت كما سمع أصحابي »
5. وقال الحسن البصري: (كان عبد الله بن مغفل أحد العشرة الذين بعثهم إلينا عمر يفقهون الناس، وكان من نقباء أصحابه، وكان له سبعة أولاد). ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب.
6. وقال حفص بن عمر عن عاصم بن بهدلة، وعطاء بن السائب، ومحمد بن أبي أيوب الثقفي، وعبد الله بن عيسى بن أبي ليلى، أنهم قرأوا على أبي عبد الرحمن، وذكروا أنه أخبرهم أنه قرأ على عثمان رضي الله عنه عامَّة القرآن، وكان يسأله عن القرآن، وكان وَلِيَ الأمر فشقَّ عليه وكان يسأله عن القرآن فيقول: « إنك تشغلني عن أمر الناس؛ فعليك بزيد بن ثابت؛ فإنه يجلس للناس ويتفرغ لهم، ولستُ أخالفه في شيء من القرآن ».
قال: (وكنت ألقى علياً رضي الله عنه فأسأله فيخبرني، ويقول: « عليك بزيد بن ثابت » ..
فأقبلت على زيد فقرأتُ عليه القرآن ثلاث عشرة سنة). رواه أبو طاهر البغدادي كما في "معرفة القراء الكبار" للذهبي.
7. وقال الليث بن سعد في رسالته المشهورة إلى الإمام مالك: (وأما ما ذكرت من قول الله عز وجل: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} فإنَّ كثيرا من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله؛ فجنَّدوا الأجنادَ، واجتمع إليهم الناس؛ فأظهروا بين ظهرانيهم كتابَ الله وسنة نبيهم، ولم يكتموهم شيئاً علموه، وكان في كلّ جند منهم طائفة يعلّمون لله كتابَ الله وسنة نبيه، ويجتهدون برأيهم فيما لم يفسره لهم القرآن والسنة، ويقومهم عليه أبو بكر وعمر وعثمان الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم، ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لأجناد المسلمين ولا غافلين عنهم، بل كانوا يكتبون في الأمر اليسير لإقامة الدين والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فلم يتركوا أمرا فسَّره القرآن أو عمل به النبيّ صلى الله عليه وسلم أو ائتمروا فيه بعده إلا أعلموهموه). رواه الفسوي.