وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
قال شيخنا وسيدنا شيخ شيوخ الأنام، مؤيد الإسلام، مقتدى الأئمة الأعلام، عمدة العلماء الراسخين، قدوة الفقهاء والقرَّاء والمفسرين، خاتمة المجتهدين، وارث علوم الأنبياء والمرسلين، شمس الشريعة والتقوى والدين، محمد بن محمد بن محمد بن الجزري أبو الخير العربي الشافعي، خلد الله تعالى ظلال إفادته وإفاضته على المسلمين:
قال محمد بن محمد بن الجَزَري (ت: 833هـ): ( {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا} [الكهف: 18/ 1-2] ولم يعجل على عباده ليكون بين يدي نذره مقدمًا. نزله معجزًا مفحمًا، وفصله متشابهًا ومحكمًا، وفضله على الكتب، فجاء به آخرًا، أوجب له تقدمًا، منع سور سوره أن يستباح له حماه، وسطح نور آياته فلم يدع مظلمًا، فأنطق من خَرسَ، وأسمع من صَمِم وبصر من عمى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يقر بها من كان مسلمًا ويقر بها الإيمان، وأصله في الأرض وفرعه في السماء قد سما. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أفضل من تلقى عن ربه كتابًا محكمًا. أعجز الإنس والجن، فلم يقدروا على أن يأتوا بعشر كلمات مثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، محكمًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، صلاة تزيد على السحاب إذا همى، والبحر إذا طما، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فبينا نحن في مجلس حافل اجتمع فيه زمرة من الأماثل، سلطان كامل، وجمع من العلماء والفضلاء، وطائفة من الأمراء والوزراء، أعز الله تعالى بهم الإسلام، وجمل بوجودهم الأيام، ونفع بسبب وجودهم الأنام.
مجلس حافلٌ بليل بهيم *** نورهم فاق فيه ضوء النهار
كيف والملك ذو العلم والفهـ *** ـم وحسن الإدراك والإدراك
فانجر الكلام إلى إعجاز كتاب الله العزيز، وما ذكر فيه من وجوه البلاغة والتعجيز، فذكر بعض الحاضرين قوله تعالى:
{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ...} [هود 11/ 44] الآية وأن الإمام السكاكي بلغ فيها الغاية. فأشير إلي بالكلام عليها، فذكرت حينئذ ما فيه كفاية. وربما كثر البحث عن ذلك وطال، وكاد المجلس أن ينكد بالملال. قلت: نأتي غدًا إن شاء الله بتتمة المقال.
ثم بدا لي أن أكتب على هذه الآية الكريمة ما فتح الله تعالى عليَّ فيه من الفوائد، وما ادخر لي من الفرائد، التي يردى الصدر منها ألف وزائد، من نكت لا تعد، ولطائف لا تحصى كثرة ولا تحد.
فإن القرآن العظيم بحر محيط لا يدرك قراره، وبر بسيط لا يلحق غباره، لا تنقضي عجائبه، ولا تفنى غرائبه. كما في الحديث الذي أخبرنا به الشيخ الصالح السند أبو المحاسن يوسف بن محمد بن علي الدمشقي، قرأت عليه أنبأنا عيسى بن عبد الرحمن الصالحي، أنبأنا عبد الله بن عمر بن اللتي أنبأنا عبد الأول بن عيسى بن عمران السمرقندي، أنبأنا عبد الله بن عبد الرحمن الحافظ، أنبأنا محمد بن يزيد الرفاعي، حدثنا حسين الجعفي عن حمزة الزيات عن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث عن الحارث.
قال: دخلت المسجد فإذا الناس يخوضون في أحاديث فدخلت على علي –رضي الله عنه-، وذكر الحديث وفيه:
«أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق الحديث وفيه: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله (ومن) ابتغى الهدى في غيره أضله الله. وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، (ولا تفنى غرائبه، وهو الذكر الحكيم، والصراط المستقيم) الحديث بتمامه.
وهذا حديث جليل رواه الأئمة في كتبهم: الترمذي، وعبد بن حميد، والدارمي وغيرهم، وقد ذكرناه، وتكلمنا عليه في أول ما كتبنا من التفسير.
وذكرت أولًا كلام أكابر العلماء عليها، ثم أتبعته بما فتح الله عليّ من بديع معان أوصلني بفضله إليها لئلا نغترّ بقول القائل: ما ترك الأول (للآخر) بل القول الصحيح الظاهر: (كم ترك الأول للآخر),
ولله در الإمام أبي عبد الله محمد بن مالك حيث قال: «وإذا كانت العلوم منحًا إلهية ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين».
وسميتها (كفاية الألمعي في آية يا أرض ابلعي).
ولما تم تأليفها، وانتهى تصنيفها وترصيفها. نظرت في من يصلح أن تكون باسمه، وتهدى إلى خزانته العالية برسمه، من ملوك زماننا العلماء، وسلاطين أواننا الفضلاء، فلم أجد مثل السلطان الأعلم الأكمل الأكرم، عالم ملوك عصره، وأفضل سلاطين وقته في دهره، السيد الحسيب النسيب/ سيد رضاكيا ابن السلطان الأعظم المرحوم سيد علي الحسيني أيّد الله تعالى به الدين، وأبد ملكه في العالمين وأباد بسيفه الملحدين، ونصر أنصاره، وقدر اقتداره. وإن كنت لم أره فقد سمعت صفاته الجميلة وخبره.
وإني امرؤٌ أحببته لفضائل *** سمعت بها والأذن كالعين تعشق
وقالت لي الآمال إن رضاكيا *** إن رمت مغناه فأنت الموفق
فأقول: قوله تبارك وتعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود 11/ 44].
قال العلامة الزمخشري في كشافه، الذي أخبرني به شيخي وأستاذي الإمام قاضي المسلمين، شرف الدين، أبو العباس أحمد بن الإمام المرحوم القاضي شهاب الدين الحسين بن سليمان بن فزاره الكفري، رحمه الله، مشافهة بعد أن قرأت عليه القرآن العظيم من أوله إلى آخره بالقراءات السبع، في سنة ثلاث وسبعين وأربع وسبعين وسبع مائة، بدمشق المحروسة، عن الشيخ الصالح المسند الأصيل أبي الفضل أحمد بن هبة الله بن أحمد بن عساكر الدمشقي. قال: أخبرتنا الشيخة الصالحة المسندة أم المؤيد زينب ابنة عبد الرحمن بن الحسين الشعرية في كتابها إلينا من نيسابور عن الإمام العلامة أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري: في قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} نداء الأرض والسماء بما ينادى به الحيوان المميز على لفظ التخصيص والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات، وهو قوله: (يا أرض) (ويا سماء) ثم أمرهما بما يؤمر (به) أهل التمييز والعقل في قوله: ابلعي ماءك وأقلعي -من الدلالة على الاقتدار العظيم- وأن السماوات والأضر وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوين فيها ما يشاء، غير ممتنعة عليه كأنها عقلاء مميزون قد عرفوا عظمته، وجلاله وثوابه وعقابه وقدرته على كل مقدور. وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له، وهم يهابونه، ويفزعون من التوقف دون الامتثال والنزول على مشيئته على الفور من غير (ريث) وكما ردّ عليهم أمره كان المأمور به (مفعولًا لا حبس ولا إبطاء).
والبلع عبارة عن النشف. والإقلاع الإمساك، يقال أقلع المطر وأقلعت الحمى.
«وغيض الماء»: من غاضه إذا نقصه.
وقضي الأمر: وأنجز ما وعد الله نوحًا من هلاك قومه.
واستوت: واستقرَّت السفينة.
(على الجودي): وهو جبلٌ بالموصل.
{وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يقال: بَعُدَ بُعْدًا، وبعدًا إذا أرادوا البُعد البَعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك، ولذلك اختص بدعاء السوء ومجيء أخباره على الفعل المبني للمفعول، للدلالة على الجلالة والكبرياء، وأن تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر وتكوين مكون قاهر، وأن فاعلها فاعل واحد لا يشارك في أفعاله، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره: يا أرض ابلعي ويا سماء أقلعي، ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل غيره، ولا أن تستوي السفينة على متن الجودي وتستقر عليه غلا بتسويته وإقراره.
ولما ذكرنا من المعاني والنكت، استفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤوسهم لا لتجانس الكلمتين وهما قوله «ابلعي» و«أقلعي» وذلك وإن كان لا يخلى الكلام من حسن فهو كغير المتلفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب وما عداها قشور.
وعن قتادة: استقلت بهم السفينة لعشر خلون من رجب وكانت في الماء خمسين ومائة يوم. واستقرت بهم على الجودي شهرًا. وهبط بهم يوم عاشوراء.
وروي: أنها مرت بالبيت فطافت به سبعًا، وقد أعتقه الله من الغرق.
وروي: أن نوحًا عليه السلام صام يوم عاشورا الهبوط وأمر من معه فصاموا شكرًا لله تعالى» انتهى كلامه.
وفيه ما لا يخفى مما نبينه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقد خالفه صاحب المفتاح، رحمه الله، في كونه جعل الماء في قوله: «وغيض الماء» يعمّ الماءين كما سيأتي. واختلف شرَّاح كلامه في أي القولين أصح. فرجَّح الطبي كلام صاحب المفتاح، ورجَّح صاحب الكشف قول الزمخشري، وسنذكر كلام كل منهما ونبين ما يظهر لنا من الصواب مع ما يتعقب على كلِّ منهما إن شاء الله تعالى.
قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير الذي أخبرنا به شيخنا العلامة جمال الدين أبو بكر محمد ابن الإمام كمال الدين أحمد ابن الإمام جمال الدين محمد (الشريشي) مشافهة بالمدرسة الإقبالية داخل دمشق المحروسة سنة ست وستين وسبع مائة عن الإمام العلامة قاضي القضاة شهاب الدين محمد ابن الإمام العلامة قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن الخليل الخوبي قال: أخبرنا والدي قال: أخبرنا الشيخ الإمام العلامة فخر الدين أبو الفضل محمد بن عمر بن الحسين الرازي بعد ذكر الآية أي قوله: «وقيل يا أرض ابلعي ...».
«اعلم أن المقصود من هذا الكلام وصف آخر واقعة الطوفان، وكان التقدير أنه لما انتهى أمر الطوفان قيل: كذا وكذا.
{يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ}، يقال: (بلع الماء يبلعه بلعًا إذا شربه) وابتلع الطعام وابتلاعًا إذا لم يمضغه.
وقال أهل اللغة: الصحيح بلع الماء بكسر اللام يبلع بفتحها.
{وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي}، يقال: أقلع الرجل عن علمه إذا كف عنه وأقلعت السماء بعد ما مطرت، إذا أمسكت.
{وَغِيضَ الْمَاءُ} يقال غاض الماء يغيض غيضًا ومغاضًا إذا نقص. وغضته أنا، وهذا من باب: فعل الشيء وفعلته أنا، ومثل جبر العظيم وجبرته أنا، وفغر الفم وفغرته أنا، ودلع اللسان ودلعته، ونقص الشيء ونقصته. (وقوله) «وغيض الماء» أي نقص وما بقي منه شيء.
واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ كثيرة، كل واحد (منها) دالٌ على عظمة الله (تعالى) وعلو كبريائه.
فأولها: قوله: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} وذلك لأن هذا يدل على أنه سبحانه في الجلال والعلو والعظمة (بحيث) أنه متى قيل «قيل» لم ينصرف العقل إلا إليه، ولم (يتوجه) الفكر إلا إلى ذلك القائل، (وذلك الآمر) هو هو. وهذا تنبيه من هذا الوجه على أنه تقرر في العقول أنه لا حاكم في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي (والعالم) السفلي إلا هو.
وثانيها قوله: (يا أرض ابلعي ماءك) و«يا سماء أقلعي» فإن الحس يدل على عظمة هذه الأجسام، وشدتها وقوتها، فإذا (شعر) العقل بوجود موجود قاهر لهذه الأجسام مستولٍ عليها، متصرف فيها كيف شاء وأراد، صار ذلك سببًا لوقوف القوَّة العقلية على كمال جلال الله (تعالى) وعلو قهره، (وكمال) قدرته ومشيئته.
وثالثها: أن السماء والأرض من الجمادات. فقوله: يا أرض ويا سماء، مشعر بحسب الظاهر (على) أن أمره وتكليفه نافذ في الجمادات، فعند هذا يحكم الوهم بأنه لما كان الأمر كذلك فلأن يكون أمره نافذًا في العقلاء كان أولى. وليس مرادي منه أنه (تعالى) يأمر (الجمادات) فإن ذلك باطل، بل المراد أن توجيه صيغة الأمر بحسب الظاهر على هذه الجمادات القوية الشديدة يقرر في الوهم نوع (عظمته) وجلاله تقريرًا كاملًا.
وأما قوله: «وقضي الأمر» فالمراد أن الذي قضى به وقدَّره في الأزل قضاءٌ جزمًا حتمًا فقد وقع، تنبيهًا على أن كل ما قضى به الله فهو واقع في وقته، وأنه لا دافع لقضائه ولا مانع من نفاذ حكمه (في أرضه) وسمائه فإن قيل: كيف يليق بحكمة الله (تعالى أن يغرق) الأطفال بسبب جرم الكفار؟ قلنا: الجواب عنه من (وجهين): الأول: (قال كثير من المفسِّرين) إن الله تعالى أعقم أرحام نسائهم (بأربعين سنة قبل الغرق) فلم يغرق إلا من بلغ سنه إلى الأربعين. ولقائل أن يقول: لو كان (الأمر) على ما ذكرتم لكان ذلك آية عجيبة قاهرة، ويبعد مع ظهورها استمرارهم على الكفر.؟ وأيضًا فهب أنكم ذكرتم ما ذكرتم فيما قولكم في إهلاك الطير والوحش مع أنه لا تكليف عليها (البتة).
والجواب الثاني: وهو الحق أنه لا اعتراض على الله تعالى في أفعاله {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ...}.
وأما المعتزلة فهم يقولون: إنه تعالى (أغرق) الأطفال والحيوان، وذلك يجري مجرى إذنه تعالى في ذبح هذه البهائم وفي استعمالها في الأعمال الشاقة الشديدة.
وأما قوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}، فالمعنى: استوت السفينة على جبل بالجزيرة يقال له الجُودي وكان ذلك الجبل جبلًا منخفضًا، فكان استواء السفينة عليه دليلًا على انقطاع مادَّة الماء وكان ذلك الاستواء يوم عاشوراء.
وأما قوله تعالى: {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ففيه وجهان: الأول: أنه من كلام الله تعالى قال لهم ذلك على سبيل اللعن والطرد. والثاني: أن يكون ذلك القول من كلام نوح –عليه السلام- وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع قوم من الظلمة فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام لأنه جار مجرى الدعاء عليهم. فجعله من كلام البشر أليق، والله تعالى أعلم». انتهى كلامه.
وفيه أيضًا تعقيبات ومواضع يحتاج إلى التنبيه عليها نذكرها إن شاء الله تعالى.
وقال الأستاذ السكاكي: والنظر في هذه الآية من أربع جهات، (من جهة) علم البيان (و) من جهة علم المعاني، وهما مرجعا البلاغة ومن جهة الفصاحة المعنويَّة، ومن جهة الفصاحة اللفظية.
أما النظر فيها من جهة علم البيان، وهو النظر ما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها، فنقول: إنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى: أردنا أن نرد ما انفرج من الأرض إلى بطنها فارتدّ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن يغيض الماء النازل من السماء، فغاض، وأن نقضي أمر نوح وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه فقضي، وأن نُسوِّي السَّفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظَّلمة غرقى، بنى الكلام على تشبيه المراد بالمأمور الذي لا يتأتى منه لكمال هيبته العصيان، وتشبيه تكوينه المراد بالأمر الجزم النافذ في (تكوُّن) المقصود تصوريًا لاقتداره العظيم، وأن السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته إيجادًا وإعدامًا، ولمشيئته فيها تغييرًا وتبديلًا وكأنَّها عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته وأحاطوا علمًا بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، (وتصوروا) مزيد اقتداره، فعظُمتْ مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته كان المشار إليه مقدمًا، وكما يرد عليهم أمره كان المأمور متممًا لا تلقى فشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال، ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام، فقال جلّ وعلا: «قيل» على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهي: يا أرض ويا سماء، مخاطبًا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، ثم استعار لغور الماء في الأرض (البلع) الذي هو إعمالُ الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما، وهو الذهاب إلى مقرٍّ خفي، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيهًا له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تَقَوِّي الأكل بالطعام.
وجعل قرينة الاستعارة لفظة (ابْلعي) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء، ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره وخاطب في الأمر ترشحًا لاستعارة النداء.
ثم قال: «ماءك» بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيهًا لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك. واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح.
ثم استعار لاحتباس المطر (الإقلاع) الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان.
ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر قائلًا «أقلعي» لمثل ما تقدم في «ابلعي».
ثم قال: {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا} فلم يصرح بمن غاض الماء، وبمن قضى الأمر وسوى السفينة، وقال (بُعْدًا) كما (لم) يصرح بقائل يا أرض ويا سماء في صدر الآية، سلوكًا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية. إن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة لا يكتنه، قهار لا يغالب، فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائل: يا أرض ويا سماء، ولا غائض (مثل) ما غاض، ولا قاضٍ مثل ذلك الأمر الهائل أو أن (تكون) تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره.
ثم ختم الكلام بالتعريض تنبيهًا لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلمًا لأنفسهم لا غير، ختم إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه، وأن قيامه الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت غلا لظلمهم.
وأما النظر فيها من جهة علم المعاني، وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها فذلك أنه اختير (يا) دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال، وأنها دالة على بعد المنادي الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة، وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادي المؤذن بالتهاون به. ولم يقل: (يا أرض) –بالكسر- لإمداد التهاون. ولم يقل (يا أيتها الأرض) لقصد الاختصار، مع الاحتراز عما في «أيتها» من تكلف التنبيه غير المناسب للمقام واختير لفظ الأرض دون سائر أسمائها لكونه أخف وأدور، واختير لفظ السماء لمثل ما تقدم في الأضر، مع قصد المطابقة وستعرضها. واختير (لفظ) ابلعي) على (ابتلعي) لكونه أخصر، ولمجيء خط التجانس بينه وبين (اقلعي) أوفر. وقيل (ماءك) بالإفراد دون الجمع لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأتي عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت، وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء. وإنما لم يقل –ابلعي- بدون المفعول أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار، وساكنات الماء، بأسرهن نظرًا إلى مقام عظمة وكبرياء. ثم إذا بين المراد اختصر الكلام مع أقلعي احتراز عن الحشو المستغنى عنه، وهو الوجه في أن لم يقل: قيل يا أرض ابلعي ماءك، فبلعت ويا سماء اقلعي فأقلعت. واختير غيض على غيض –المشدد- لكونه أخصر، وقيل الماء (دون أني قال: ماء طوفان السماء، وكذا الأمر) دون أن يقال أمر نوح، وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحًا من إهلاك قومه لقصد الاختصار، والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك، ولم يقل سُوَيت على الجودي بمعنى أُقرَّت على نحو: قيل وغيض وقضي في البناء للمفعول، اعتبارًا لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} [هود/ 42] مع قصد الاختصار في اللفظ. ثم قيل بعد للقوم دون أن يقال: ليبعد القوم طلبًا للتأكيد مع الاختصار، وهو نزل بعدًا منزلة (ليبعدوا بعدًا)، مع فائدة أخرى وهي استعمال –اللام- مع بعدًا الدال على معنى أن البعد حقٌّ لهم ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع، حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل، هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم.
وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذلك أنه قدم النداء على الأمر فقيل {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} دون أن يقال –ابلعي يا أرض وأقلعي يا سماء- جريًا على مقتضى اللازم في من كان مأمورًا حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادي، قصدًا بذلك لمعنى الترشيح.
ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء، وابتدئ (به) لابتداء الطوفان منها ونزولها (لذلك في القصة) منزلة الأصل والأصل بالتقديم أولى.
ثم أتبعهما قوله: «وغيض الماء» لاتصاله بقصة الماء وأخذه بحجزتها، ألا ترى أن أصل الكلام (قيل يا أرض ابلعي ماءك» فبلعت ماءها، «ويا سماء أقلعي» (عن) إرسال الماء فأقلعت عن إرساله»، وغيض الماء النازل من السماء فغاض.
ثم أتبعه ما هو المقصود من القصة وهو قوله: «وقضي الأمر» أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة، وإنجاء نوح ومن معه في السفينة.
ثم أتبعه حديث السفينة وهو قوله: «واستوت على الجودي» ثم ختمت القصة بما ختمت. هذا كله نظر في الآية من جانب البلاغة.
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي –كما ترى- نظم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخصة مبينة (لا تعقيد يعثر) الفكر في طلب المراد، ولا التواء (يشيك) الطريق إلى (المرتاد).
بل إذا جرَّبت نفسك عند استماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها، ومعانيها تسابق ألفاظها فما من لفظة (في) تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك إلا ومعناها أسبق إلى قلبك.
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية، فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة، جارية على قوانين اللغة، سليمة عن التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذبات سلسلة على الأسلات. ولله درّ شأن التنزيل لا يتأمل العالم آية من آياته إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر. ولا تَظُنَنَّ الآية مقصورة على ما ذكرت فلعلَّ ما تركت أكثر مما ذكرت. لأن المقصود لم يكن إلا مجرد الإرشاد لكيفية اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان» انتهى.
وهو –كما ترى- كلام في غاية المتانة، وقول في غاية التحقيق والرصانة، اشتمل على أجوبة أسئلة مقدَّرة، وبيان وجوه من الإعجاز مقرَّرة، ولطائف من أسرار التنزيل محرّرة.
رحمه الله تعالى وضاعف غفرانه عليه ووالى، فلقد أحسن الصنيع وترك لنا كثيرًا مما نبيِّنه من المعاني والبيان وأنواع البديع ونكتًا لا بدَّ من ذكرها، ومطوي أسرار يجب التعريف بنشرها.
فنقول وبالله التوفيق: الكلام على هذه الآية ينحصر في أربعة أوجه:
الأول: على تفسيرها من حيث الجملة وما يتعلق به وينضم إليه، والتنبيه على ما ذكره الأئمة الثلاثة المتقدِّمون فيها وغيرهم، وبيان الصحيح من ذلك.
الثاني: في معاني كلماتها كلمة كلمة من حيث التفصيل في اللغة والإعراب.
الثالث: فيما ظهر لنا ولهم من الأسئلة الواردة عليها والأجوبة عن واحدٍ منها.
الرابع: فيما ظهر لنا فيها من المعاني والبيان وأنواع البديع سوى ما ذكره هؤلاء فيها.
وختمت ذلك بفصل في وجوه إعجاز القرآن العظيم). [كفاية الألمعي: 71-89]