فَصْلٌ في الجَمْعِ
(يجُوزُ الجَمْعُ بينَ الظُّهْرَيْنِ)؛ أي: الظُّهْرِ والعَصْرِ في وَقْتِ إِحْدَاهُمَا. (و) يَجُوزُ الجَمْعُ (بينَ العِشَاءَيْنِ)؛ أي: المَغْرِبِ والعِشَاءِ (في وَقْتِ إِحْدَاهُمَا في سَفَرِ قَصْرٍ)؛ لمَا رَوَى مُعَاذٌ, (أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّمَ كانَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ, إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ زَيْغِ الشَّمْسِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حتَّى يَجْمَعَهَا إِلَى العَصْرِ, يُصَلِّيهُمَا جَمِيعاً، وإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ صَلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ جَمِيعاً, ثُمَّ سَارَ، وكَانَ يَفْعَلُ مِثْلَ ذلكَ في المَغْرِبِ والعِشَاءِ). رواهُ أَبُو دَاوُدَ والتِّرْمِذِيُّ, وقالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وعَن أَنَسٍ بمَعْنَاهُ مُتَّفَقٌ علَيْهِ.
(و) يُبَاحُ الجَمْعُ بينَ ما ذُكِرَ (لمَرِيضٍ يَلْحَقُه بتَرْكِه)؛ أي: تَرْكِ الجَمْعِ (مَشَقَّةٌ)؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّمَ جَمَعَ مِن غَيرِ خَوْفٍ ولا مَطَرٍ. وفي رِوَايَةٍ: (مِن غَيْرِ خَوْفٍ ولا سَفَرٍ) رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ مِن حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ. ولا عُذْرَ بعد ذلك إلاَّ المَرَضَ.
وقد ثبتَ جوازُ الجَمْعِ للمُسْتَحَاضَةِ, وهي نَوْعُ مَرَضٍ، ويجوزُ أَيْضاً لمُرْضِعٍ؛ لمَشَقَّةِ كَثْرَةِ نَجَاسَةٍ، ونَحْوِ مُسْتَحَاضَةٍ وعَاجِزٍ عَن طَهَارَةٍ أو تَيَمُّمٍ لكُلِّ صَلاةٍ, أو عن مَعْرِفَةِ وَقْتٍ؛ كأَعْمَى ونَحْوِه، ولعُذْرٍ أو شُغْلٍ يُبِيحُ تَرْكَ جُمُعَةٍ وجَمَاعَةٍ.
(و) يُبَاحُ الجَمْعُ (بينَ العِشَاءَيْنِ) خَاصَّةً (لمَطَرٍ,يَبُلُّ الثِّيَابَ), وتُوجَدُ معَهُ مَشَقَّةٌ، والثَّلْجُ والبَرَدُ والجَلِيدُ مِثْلُه، (ولوَحَلٍ ورِيحٍ شَدِيدَةٍ بَارِدَةٍ)؛ لأنَّه عليه السَّلامُ (جَمَعَ بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشَاءِ في لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ). رواهُ البُخَارِيُّ بإسنادِه. وفعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمَانُ، وله الجَمْعُ لذلكَ.
(ولو صَلَّى في بَيْتِه أو في مَسْجِدٍ طَرِيقُهُ تَحْتَ سَابَاطٍ) ونَحْوِه؛ لأنَّ الرُّخْصَةَ العَامَّةَ يَسْتَوِي فيها حَالُ وُجُودِ المَشَقَّةِ وعَدَمِهَا؛ كالسَّفَرِ. (والأَفْضَلُ) لمَن له الجَمْعُ (فِعْلُ الأَرْفَقِ بهِ مِن) جَمْعِ (تَأْخِيرٍ)؛ بأَنْ يُؤَخِّرَ الأُولَى إلى الثَّانِيَةِ, (و) جَمْعِ (تَقْدِيمٍ؛ بأَنْ) يُقَدِّمَ الثَّانِيَةَ, فيُصَلِّيهَا معَ الأُولَى؛ لحديثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ. فإذا استوَيَا فالتَّأْخِيرُ أَفْضَلُ, والأَفْضَلُ بعَرَفَةَ التَّقْدِيمُ, وبمُزْدَلِفَةَ التَّأْخِيرُ مُطْلَقاً، وتَرْكُ الجَمْعِ في سِوَاهُمَا أَفْضَلُ.
ويُشْتَرَطُ للجَمْعِ تَرْتِيبٌ مُطْلَقاً، (فإن جمَعَ في وقتِ الأُولَى اشتُرِطَ) له ثَلاثَةُ شُرُوطٍ: (نِيَّةُ الجَمْعِ عندَ إِحْرَامِهَا)؛ أي: إحرامِ الأُولَى دونَ الثَّانِيَةِ.
(و) الشَّرْطُ الثَّانِي: المُوَالاةُ بَيْنَهُمَا, (لا يَفْرُقُ بَيْنَهُمَا إلاَّ بمِقْدَارِ إِقَامَةِ) صَلاةٍ ووُضُوءٍ خَفِيفٍ)؛ لأنَّ مَعْنَى الجَمْعِ: المُتَابَعَةُ والمُقَارَنَةُ، ولا يَحْصُلُ ذلكَ معَ التَّفْرِيقِ الطَّوِيلِ, بخلافِ اليَسِيرِ؛ فإنُّه مَعْفُوٌّ عنه.
(ويَبْطُلُ) الجَمْعُ (برَاتِبَةٍ) يُصَلِّيهَا (بَيْنَهُمَا)؛ أي: بينَ المَجْمُوعَتَيَنْ؛ِ لأنَّه فَرَقَ بَيْنَهَما بصَلاةٍ, فتَبْطُلُ, كما لو قضَى فَائِتَةً, وإن تَكَلَّمَ بكَلِمَةٍ أو كَلِمَتَيْنِ, جَازَ.
(و) الثَّالِثُ: (أن يَكُونَ العُذْرُ) المُبِيحُ (مَوْجُوداً عندَ افتِتَاحِهِمَا وسلامِ الأُولَى)؛ لأنَّ افتِتَاحَ الأُولَى مَوْضِعُ النِّيَّةِ وفَرَاغِهَا، وافتِتَاحَ الثَّانِيَةِ مَوْضِعُ الجَمْعِ، ولا يُشْتَرَطُ دَوَامُ العُذْرِ إلى فَرَاغِ الثَّانِيَةِ في جَمِيعِ المَطَرِ ونَحْوِه بخِلافِ غَيْرِه.
وإنِ انقَطَعَ السَّفَرُ في الأُولَى, بَطَلَ الجَمْعُ والقَصْرُ مُطْلَقاً, فيُتِمُّهَا, وتَصِحُّ فَرْضاً، وفي الثَّانِيَةِ يُتِمُّهَا نَفْلاً, وتَصِحُّ الأُولَى فَرْضاً.
(وإن جَمَعَ في وَقْتِ الثَّانِيَةِ اشتُرِطَ) له شَرْطَانِ:
(نِيَّةُ الجَمْعِ في وَقْتِ الأُولَى)؛ لأنَّه متَى أَخَّرَها عَن ذلكَ بغَيْرِ نِيَّةٍ صَارَتْ قَضَاءً, لا جَمْعاً, (إن لم يَضِقْ) وَقْتُهَا (عَن فِعْلِهَا)؛ لأنَّ تَأْخِيرَهَا إلى ما يَضِيقُ عَن فِعْلِهَا, حَرَامٌ، وهو يُنَافِي الرُّخْصَةَ.
(و) الثَّانِي: (استِمْرَارُ العُذْرِ) المُبِيحِ (إلى دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ), فإنْ زالَ العُذْرُ قَبْلَهُ لم يَجُزِ الجَمْعُ؛ لزَوَالِ مُقْتَضِيهِ، كالمَرِيضِ يَبْرَأُ, والمُسَافِرُ يَقْدَمُ, والمَطَرُ يَنْقَطِعُ، ولا بَأْسَ بالتَّطَوُّعِ بَيْنَهُمَا، ولو صَلَّى الأُولَى وَحْدَهُ ثُمَّ الثَّانِيَةَ إِمَاماً أو مَأْمُوماً أو صَلاَّهُمَا خَلْفَ إِمَامَيْنِ أو مَن لم يَجْمَعْ صح.