وقوله -جل وعلا-: {غَسَّاقاً}
الغساق: قال بعض العلماء:
هو ما يجتمع من قيح وصديد أهل النار.
وقال بعض العلماء:
هي بعض الأشياء المنتنة من قيح وصديد، مع برودة ذلك
بحيث لا يستطيعون شربه، فهو يجمع بين شيئين نتن الرائحة كما أنه بارد جداً لا يستطيعون أن يشربوه.
وقد جاء في تفسير الغساق حديثٌ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لو أن دلواً من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا)) وهذا الحديث ضعيف لا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن فيه دراجاً أبا السمح وقد
ضعفه جمهور العلماء رحمهم الله، فالحديث بهذا ضعيف، ولا يحتمل من دراج مثل هذا الحديث، وعلى ذلك لا يكون قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تفسير الغساق شيء، ولكن هذا مستفاد من كلام العلماء.
وقد أكد الله -جل وعلا- هذه الآية في سورة ص فقال -جل وعلا-: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}.
ثم قال -جل وعلا-: {جَزَاءً وِفَاقاً} يعني: أن الله جل وعلا جازى أولئك الكفار على وفق أعمالهم؛ لأن الله -جل وعلا- لا يظلم احداً:
- كما قال تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ}.
-{وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ}.
- {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}.
فأخبر -جل وعلا- أنه يجزيهم على أعمالهم على وفقها؛ لا يظلمهم جل وعلا.
وهذه الآية تدل على كمال عدل الله جل وعلا، وأنه سبحانه وتعالى لا يظلم الخلق، وأن رحمته -جل وعلا- قد سبقت غضبه؛ لأنه في المؤمنين يجزيهم ويعظم لهم الجزاء.
وأما الكافرون فمع كفرهم وشركهم بالله -جل وعلا- وطغيانهم وتكبرهم؛ فإن الله -جل وعلا- بعدله لا يظلمهم ولا يعذبهم بما لم يصنعوه، وإنما يعذبهم على أعمالهم، والتعذيب على الأعمال هذا من العدل وليس من الظلم في شيء، فقال الله -جل وعلا- في
هذه الآية: {جَزَاءً وِفَاقاً} يعني: موافقا لأعمالهم، لا يزيد رب العالمين الكافرين عذاباً إلا بما قدمته أيديهم، وأما ما لم تفعله أيديهم وتعمله فإن الله -جل وعلا- لا يعذبهم عليه.
ثم قال الله -جل وعلا-: {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً} يعني: أن الكفار كانوا لا يؤمنون بيوم البعث والنشور، ولا يظنون أن هناك يوما يجمعهم الله -جل وعلا- فيه فيحاسبهم على أعمالهم؛ ولهذا كانو يفعلون الشرك بالله وسيئ الأعمال؛ لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالبعث والنشور كما أخبر الله -جل وعلا- عنهم في آيات كثيرة كما تقدم، فلكونهم لا يؤمنون بأن هناك جزاءً ولا حساباً كانوا ظالمين طاغين مشركين بالله جل وعلا.
ثم قال -جل وعلا-: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً} يعني: أن هؤلاء المشركين كانوا يكذبون بآيات الله، والله -جل وعلا- له آيات كونية في مخلوقاته، وله آيات شرعية وهي هذا القران العظيم الذي يتلى، وبكلا النوعين كذب المشركون، لما جاءهم -صلى الله عليه وسلم- من عند الله يخبرهم بألوهية الله وبالبعث
والنشور قالوا:
{إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} يعني: إن هذا إلا خرافات من خرافات الأولين لا حقيقة له وإنما هي أساطير تقال هكذا، وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} يعني: أن ما جاء به إنما هو كذب مفترى.
ووصفوه -صلى الله عليه وسلم- بأنه ساحر وشاعر وكاهن، إلى غيرها من أوصاف، ووصفوا ما جاء به -صلى الله عليه وسلم- بأنه سحر.
وكل ذلك تكذيب بهذا القران العظيم، وهو داخل في هذه الآية: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً}.
وأما تكذيبهم بآيات الله الكونية فهو كثير جداً، ولهذا الله -جل وعلا- أمرهم بأن ينظرو فيها، وأن يتفكروا فيها، وأن يعقلوها ويتدبروها، ومن ذلك ما ذكره الله -جل وعلا- في أوائل هذه السورة: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} إلى آخر الآيات؛ لأن تدبر مثل هذه الآيات الكونية والشرعية مما يزيد المؤمن إيمانا بربه -جل وعلا- كما قال الله -جل وعلا- في آخر التوبة: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} فآيات الله - وهي القرآن - تزيد المؤمنين إيماناً، والتفكر في آيات الله الكونية تزيد الناس ايماناً بالله جل وعلا، وإيماناً بعظيم قدرته، وإيماناً بألوهيته، وإيماناً بقدرته -جل وعلا- على البعث والنشور والجزاء والحساب، وقد نبه الله -جل وعلا- عباده إلى ذلك في آيات كثيرة من كتابه العظيم.
ثم قال -جل وعلا-:
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} يعني: أن الله -جل وعلا- قد أحصى كل شيء وضبطه من أعمال العباد، فلا ينسى الله شيئاً، ولا يضل، ولا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، بل هو -جل وعلا- قد علمها وضبطها وأحصاها، ويقيم -جل وعلا- عليهم الحجة بها، كما قال الله -جل وعلا-: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}وقد أكد الله -جل وعلا- وبين معنى هذه الآية في آيات كثيرة:
- كما قال -جل وعلا- في سورة يس: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}.
-وقال -جل وعلا- في سورة ق: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.
- وقال في سورة الكهف: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}.
فكل شيء قد أحصاه الله -جل وعلا
- كما في آخر سورة الجن: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}.
فالله -جل وعلا- قد أحصى أعمال العباد وإن نسوها؛ كما قال تعالى في سورة قد سمع:
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فكل شيء مضبوط ومحصى بعدد لا يزاد فيه ولا ينقص؛ لأنه محفوظ بعلم الله جل وعلا، ولهذا قال الله تعالى في آخر سورة القمر: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} يعني: أن كل شيءٍ فعلوه فهو مكتوب في صحف الملائكة، وكل شيء فعلوه من صغير أو كبير كذلك فهو مسطور في كتب بني آدم؛ حتى إذا جاء يوم القيامة قال الله -جل وعلا-: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}.
وله -جل وعلا-:
{فَذُوقُوا فَلَن نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} يعني: أن الله -جل وعلا- لما ذكر في هذه الآية أصنافاً من العذاب، بين بالآية الأخرى أن هناك أصنافاً من العذاب يعذب بها أعداء الله -جل وعلا- في النار، وليس معنى ذلك: أن الله تعالى يزيدهم على أعمالهم، أو أنه يعذبهم بشيء لم يقترفوه، هذا ينافي عدل الله جل وعلا.
وإنما المراد أن الله لما ذكر في هذه الآية أنواعاً وأصنافاً من العذاب، ذكر أن للكفار أنواعاً من العذاب أخرى؛ كما قال الله -جل وعلا-: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} وقال الله -جل وعلا- في بيان شيءٍ من أنواع العذاب يوم القيامة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}.
-وقال -جل وعلا-: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ}.
-وقال -جل وعلا-: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً}.
-وقال -جل وعلا-: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً}.
فجميع أنواع العذاب التي في القرآن أو ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- هي التي أراد الله -جل وعلا- بقوله: {فَذُوقُوا فَلَن نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} والله تعالى أعلم.
هذا سائل يقول: هل في القرآن مبالغة؟
إن كان يريد (صيغ المبالغة واردة في القرآن) هذه واردة
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} غفار: هذه صيغة مبالغة، فهناك صيغ مبالغة تدل على كثرة الشيء وعلى عظمه وهذه صفات مدح.
أو تكون أحياناً واردةً في حق المشركين لكثرة إشراكهم بالله -جل وعلا- أو في العصاة؛ فهذه تكون مبالغة في الذم، قد تكون مبالغة في المدح، وقد تكون مبالغة في الذم.
وهذه لا تخرج القرآن عن أن يكون حقاً؛ لأن القرآن ألفاظه هي أحسن ما يُدَلُّ به على معاني القرآن؛ كما قال الله -جل وعلا-:
{وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}
فالحق: هو المعنى والمدلول من كتاب الله جل وعلا.
والأحسن تفسيراً:
هي كلام الله -جل وعلا- وهذه الألفاظ ألفاظ القرآن هي الأحسن تفسيراً؛ لأنك لا تستطيع أن تغير كلمةً من كلمات القرآن لتدلل بها على المعنى الذي أراده الله عز وجل.
فإن كان المراد المبالغة:
يعني ذكر أشياء لا حقيقة لها، أو ذكر أشياء هي في نفسها حقيقة ولكن فيها زيادة، بحيث تخرج الكلام عن أن يكون صحيحاً تمام الصحة هذا غلط، ولا يجوز أن يقال في القرآن هذا؛ لأن القرآن {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}.
وإن كان المراد أن تأتي فيه صيغ المبالغة المعروفة عند أهل اللغة فهذا في القرآن موجود، ولكنها في القرآن حق على حقيقتها، الشعراء والبشر قد يبالغون في وصف الناس، وقد يبالغون في وصف الأشياء، وقد يبالغون في ذم الناس ويخرجون بها عن الحقيقة، ولهذا وصف الله -جل وعلا- طائفةً منهم قال: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}.
فالذين يقولون الحق بدون مبالغة هؤلاء شعرهم ممدوح، والذين يقولون شيئاً لا يُفعل، أو شيئاً لا حقيقة له، أو زائداً عن الحقيقة فهذا شيءٌ مذموم، والقرآن بحمد الله -جل وعلا- ألفاظه مطابقة لمدلولاته ومعانيه.