بابُ استقبالِ القِبْلَةِ
68 - الحَدِيثُ الأَوَّلُ:
عَن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ، حيْثُ كانَ وَجْهُهُ، يُومِئُ بِرَأسِهِ، وَكانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: كانَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيِرِه. وَلِمُسْلِمٍ: غَيْرَ أَنَّهُ لا يُصَلِّي عَلَيْها المَكْتُوبَةَ. وَللبُخَارِيِّ: إلاَّ الفَرَائِضَ.
الكَلامُ عَليهِ مِن وُجوهٍ.
أحَدُهَا: (( التَّسْبِيحُ )) يُطلَقُ عَلَى صَلاةِ النَّافِلَةِ. وهَذَا الحَدِيثُ مِنهُ. فَقَولُهُ ((يُسبِّحُ)) أي يُصَلِّي النَّافِلَةَ. ورُبَّمَا أُطْلِقَ عَلَى مُطْلَقِ الصَّلاةِ , وقَدْ فُسِّرَ قَولُهُ سُبْحَانَهُ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39]، بِصَلاةِ الصُّبحِ وصَلاةِ العَصرِ. والتَّسْبِيحُ: حَقْيقَةٌ فِي قَولِ القَائلِ: سُبْحَانَ اللهِ. فإذَا أُطلِقَ عَلَى الصَّلاةِ فإمَّا مِن بَابِ إطِلاقِ اسْمِ البَعْضِِ عَلَى الكُلِّ، كَمَا قَالُوا فِي الصَّلاةِ: إنَّ أَصْلَهَا الدُّعاءُ، ثم سُمِّيت العِبَادَةُ كُلُّها بذلكَ، لاشْتِمَالِهَا عَلَى الدُّعَاءِ، وَإِمَّا لأنَّ المُصَلِّيَ مُنَزِّهٌ للهِ عَزَّ وجلَّ بِإخَلاصِ العِبَادةِ لَهُ وحْدَهُ، وَ التَّسْبِيحُ التَّنْزِيهُ. فَيكونُ ذَلكَ مِن مَجَازِ المُلازَمَةِ. لأنَّ التَّنزِيهَ يَلْزَمُ مِن الصَّلاةِ المُخْلِصَةِ وَحْدَهُ.
الثَّانِي: الحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوازِ النَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَجَوَازِ صَلاتِهَا حَيثُ تَوَجَّهتْ بِالرَّاكِبِ رَاحِلتُهُ. وَكَأنَّ السَّبَبَ فِيهِ تَيْسِيرُ تَحْصِيلِ النَّوافِلِ عَلَى المُسَافرِ وَتَكْثيرُهَا. فَإنَّ مَا ضُيِّقَ طَرِيقُهُ قَلَّ , وَما اتَّسَعَ طَرِيقُهُ سَهُلَ. فَاقْتَضَتْ رَحْمَةُ اللهِ تعالى بِالعِبَادِ أنْ قَلَّلَ الفَرَائِضَ عَلَيهِمْ تسهيلاً للكُلْفَةِ. وَفَتَحَ لَهُمْ طَرِيقَةَ تَكْثِيرِ النَّوافِلِ تَعْظِيماً للأُجُورِ.
الثَّالِثُ: قَولُهُ: حَيثُ كَانَ وَجْهُهُ , يُسْتَنْبَطُ مِنهُ ما قَالَ بَعْضُ الفُقَهاءِ: إنَّ جِهَةَ الطَّرِيقِ تَكُونُ بَدَلاً عَنِ القِبْلَةِ، حَتَّى لا يَنْحَرِفَ عَنْهَا لِغَيرِ حَاجَةِ المَسِيرِ.
الرَّابِعُ: الحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الإيمَاءِ. وَمُطْلَقُهُ: يَقْتَضِي الإيمَاءَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجودِ. والفُقَهاءُ قَالُوا: يَكُونُ الإيمَاءُ للسُّجُودِ أخْفَضَ مِن الإيمَاءِِ للرُّكوعِ، لِيَكُونَ البَدَلُ عَلَى وَفْقِ الأَصْلِ. وليسَ فِي الحَديثِ ما يَدُلُّ عَلَيهِ ولا عَلَى ما يَنْفِيهِ. وَفِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ لَم يَأتِ بِحَقِيقَةِ السُّجُودِ، إنْ حُمِلَ قَولُهُ ((يُومِئُ)) عَلَى الإيماءِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَعاً.
الخَامِسُ: اسْتُدِلَّ بِإيتَارِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى البَعِيرِ عَلَى أنَّ الوِترَ ليسَ بِوَاجبٍ، بِنَاءً عَلَى مُقَدِّمَةٍ أَُخْرَى. وَهِيَ: أنَّ الفَرْضَ لا يُقَامُ عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَأَنَّ الفَرضَ مُرَادِفٌ للواجِبِ.
السَّادِسُ: قَولُهُ: غَيْرَ أَنَّهُ لا يُصَلِّي عَلَيْهَا المَكْتُوبَةَ. قَد يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي أنَّ صَلاةَ الفَرْضِ لا تُؤدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَليسَ ذَلكَ بِقَوِيٍّ فِي الاسْتِدْلالِ. لأنَّهُ لَيسَ فِيهِ إِلاَّ تَرْكُ الفِعْلِ المَخْصُوصِ. وَلَيسَ التَّرْكُ بِدَلِيلٍ عَلَى الامْتِنَاعِ. وكذا الكَلامُ فِي قَولِهِ: إلاَّ الفَرَائضَ. فَإنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ هَذَا الفِعْلِ. وَتَرْكُ الفِعْلِ لا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِهِ كَمَا ذَكَرْنَا.
وقَدْ يُقَالُ: إنَّ دُخُولَ وقْتِ الفَريضَةِ مِمَّا يَكْثُرُ عَلَى المُسَافِرينَ، فَتَرْكُ الصَّلاةِ لَهَا عَلَى الرَّاحَلةِ دَائماً، مَعَ فِعْلِ النَّوافِلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، يُشْعِرُ بِالْفَرْقَيْنِ بَينَهُمَا فِي الجَوَازِ وَعَدَمِهِ، معَ ما يَتأَيَّدُ بِهِ مِن المَعْنَى. وهو أنَّ الصَّلواتِ المَفْرُوضَةَ قَلِيلَةٌ مَحْصُورَةٌ، لا يُؤدِّي النُّزولُ لَهَا إلى نُقْصَانِ المَطْلُوبِ. بِخِلافِ النَّوَافِلِ المُرْسَلَةِ. فَإنَّهَا لا حَصْرَ لَهَا، فَتَكَلُّفُ النُّزُولِ لَهَا يُؤدِّي إلى نُقْصَانِ المَطْلُوبِ مِن تَكْثِيرِهَا، مَعَ اشْتِغَالِ المُسَافِرِ. واللهُ أعلمُ.
69 - الحَدِيثُ الثَّانِي:
عَن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءَ فِي صَلاةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَد أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْلَيلةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلةَ، فَاسْتقْبَلُوهَا. وَكانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ.
يَتَعَلَّقُ بهَذَا الحَديثِ مَسَائلُ أُصُولِيَّةٌ وَفُرُوعِيَّةٌ. نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَحْضُرُنَا الآنَ.
أمَّا الأُصُولِيَّةُ:
فَالمَسْأَلَةُ الأُولَى مِنْهَا: قُبُولُ خَبَرِ الوَاحِدِ. وَعَادَةُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلكَ: اعْتِدَادُ بَعْضِهم بِنَقْلِ بَعْضٍ. وَلَيسَ المَقصودُ فِي هَذَا: أنْ تُثْبِتَ قُبُولَ خَبرِ الوَاحدِ بهَذَا الخَبَرِ الَّذِي هُوَ خَبَرُ وَاحدٍ. فَإنَّ ذَلكَ منْ إثْبَاتِ الشَّيءِ بِنَفْسِهِ. وإنَّمَا المقصودُ بذلكَ: التَّنْبِيهُ عَلَى مِثالٍ مِن أمْثِلَةِ قُبُولِهِم لِخَبَرِ الوَاحدِ، ليُضَمَّ إليهِ أمْثَالٌ لا تُحْصَى. فَيُثْبَتُ بِالمَجْمُوعِ القَطْعُ بِقَبُولِهِم لِخَبَرِ الوَاحِدِ.
المَسْأَلَةُ الثَّانِيةُ: رَدُّوا هَذهِ المَسْأَلةَ إلى أنَّ نَسْخَ الكِتَابِ وَالسُّنةِ المُتَوَاتِرَةِ. هلْ يجوزُ بِخَبرِ الواحدِ أم لا؟ منعَهُ الأكثرونَ. لأنَّ المقطوعَ لا يُزالُ بِالمَظْنُونِ. ونُقِلَ عن الظَّاهِرِيَّةِ جَوازُهُ. وَاسْتَدَلُّوا لِلجَوازِ بِهَذَا الحَدِيثِ. وَوَجْهُ الدَّليلِ: أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِخَبَرِ الوَاحِدِ. وَلَم يُنْكِر النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ.
وفي هَذَا الاستدلالِ عندِي مُنَاقَشَةٌ وَنَظَرٌ. فَإنَّ المَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِي نَسْخِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ المُتَواتِرَةِ بِخَبَرِ الوَاحِدِ. وَيَمْتَنِعُ عَادَةً أنْ يكونَ أهلُ قُبَاءَ - مَعَ قُربهِمْ مِن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانْثِيَالِهمْ لَهُ، وَتَيَسُّرِ مُرَاجَعَتِهِمْ لَهُ - أنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُم فِي الصَّلاةِ إِلى بَيْتِ المَقْدِسِ خَبَراً عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، معَ طُولِ المُدَّةِ. وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْراً، مِن غَيرِ مُشَاهَدَةٍ لِفِعْلِهِ، أَو مُشَافَهَةٍ مِن قَولِهِ. وَلو سَلَّمْتُ أنَّ ذَلكَ غَيرُ مُمْتَنِعٍ فِي العَادَةِ، فَلا شَكَّ أَنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُسْتَنَدُ مُشَاهَدةَ فِعْلٍ، أَو مُشَافَهَةَ قَولٍ. وَالمُحْتَمِلُ الأمْرَينِ لا يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى أحَدِهِمَا. فَلا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ اسْتِقْبَالِهِم لِبَيتِ المَقْدِسِ عَلَى خَبَرٍ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بَل يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَلَى مُشَاهَدَةٍ. وَإِذَا جَازَ انْتِفَاءُ أَصْلِ الخَبَرِ جَازَ انتِفَاءُ خَبرِ المُتَواتِرِ؛ لأنَّ انتِفَاءَ المُطْلَقِ يَلْزَمُ منِهُ انتِفَاءُ قُيُودِهِ. فَإِذا جَازَ انتِفَاءُ خَبَرِ التَّوَاتُرِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ الدَّليلُ مَنْصُوباً فِي المَسْألَةِ المَفْرُوضَةِ.
فَإِنْ قُلْتَ: الاعْتِرَاضُ عَلَى مَا ذَكَرْتَهُ مِن وَجْهَينِ :
أَحَدُهُمَا: أنَّ ما ادَّعيتَ مِن امتناعِ أنْ يكونَ مُسْتَندُ أهْلِ قُباءَ مُجَرَّدَ الخَبَرِ مِن غَيرِ مُشَاهَدةٍ - إنْ صَحَّ - إنَّمَا يَصِحُّ فِي جَمِيعهِم. أمَّا فِي بِعْضِِهِم فلا يَمْتَنعُ عَادةً أنْ يكونَ مُسْتَندُهُ الخَبرَ المُتَواتِرَ.
الثَّانِي: أنَّ مَا أَبْدَيتَهُ مِن جَوَازِ اسْتِنَادِهم إلى المُشَاهَدَةِ: يَقْتَضِي أنَّهُم أزالُوا المَقْطُوعَ بِالمَظْنُونِ. لأنَّ المُشَاهَدةَ طَرِيقُ قَطْعٍ. وَإذا جَازَ إِزَالَةُ المَقْطُوعِ بِهِ بِالمُشَاهدةِ جَازَ زَوالُ المَقْطُوعِ بهِ بِخَبَرِ التَّواتِرِ بِخَبَرِ الوَاحِدِ، فإنَّهُمَا مُشْتَرِكانِ فِي زَوَالِ المَقْطُوعِ بِالمَظْنُونِ.
قُلْتُ: أمَّا الجَوابُ عَن الأَوَّلِ: فَإِنَّهُ إذا سُلِّمَ امتناعُ ذَلكَ عَلَى جَمِيعِهِ. فَقد انقَسَمُوا إِذَنْ إلى مَن يُجَوِّزُ أَنْ يكونَ مُسْتَنَدُه التَّواترَ، وَمن يَكُونُ مُسْتَنَدُهُ المَشَاهَدةَ. فَهَؤُلاءِ المُسْتَدِيرُونَ لا يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونُوا مِمَّن اسْتَنَدَ إِلى التَّواتُرِ. فَلا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الخَبَرِ عَلَيْهِمْ.
فإنْ قَالَ قَائلٌ: قَولُهُ: أهلُ قُبَاءَ يَقتضِي أن يكونَ بَعْضُ مَن اسْتَدَارَ مُسْتَنَدُهُ التَّوَاتُرُ. فَيَصِحُّ الاحْتِجَاجُ.
قُلْتُ: لاشَكَّ فِي إمكانِ أنْ يكونَ الكُلُّ مُسْتَنَدُهُم المُشَاهَدَةُ. وَمَعَ هَذَا التَّجْوِيزِ: لا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الحَديثِ عَلَى ما ادَّعَوْهُ، إِلاَّ أنْ يَتَبيَّنَ أنَّ مَسْتَنَدَ الكُلِّ أو البَعْضِ خَبَرُ التَّواتُرِ. ولا سَبِيلَ إلى ذَلكَ.
وَأمَّا الثَّانِي: فَالجَوابُ عَنْهُ مِن وَجْهَينِ :
أَحَدُهُمَا: أنَّ المَقْصُودَ التَّنْبِيهُ وَالمُنَاقَشَةُ فِي الاسْتِدْلالِ بِالحَديثِ المَذْكُورِ عَلَى المَسْأَلةِ المُعَيَّنَةِ. وَقد تَمَّ الغَرَضُ مِن ذلكَ. وأمَّا إِثْبَاتُها بِطَرِيقِ القِياسِ عَلَى المَنْصُوصِ: فََلَيسَ بِمَقْصُودٍ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ إِثْبَاتُ جَوَازِ نَسْخِ خَبَرِ الوَاحدِ للخَبَرِ المُتَواتِرِ مَقِيساً عَلَى جَوَازِ نَسْخِ خَبَرِ الوَاحِدِ المَقْطُوعِ بِهِ مُشَاهَدةً بِخَبَرِ الوَاحدِ المَظْنُونِ، بِجَامِعِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي زَوَالِ المَقْطُوعِ بِالمَظْنُونِ. لَكِنَّهُمْ نَصَبوُا الخِلافَ مَعَ الظَّاهِرِيَّةِ. وفي كَلامِ بَعْضِهم مَا يَدُلُّ عَلَى أنَّ مَن عَدَاهُمْ لَم يَقَلْ بِِِهِ. وَالظَّاهِرِيَّةُ لا يَقُولُونَ بِالقِيَاسِِ. فَلا يَصِحُّ اسْتِدْلالُهُم بِهَذَا الخَبَرِ عَلَى المُدَّعَى. وهَذَا الوَجْهُ مُخْتَصٌّ بِالظَّاهِرِيََّةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَجَعُوا إِلَى الحَدِيثِ أيضاً فِي أَنَّ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالكِتَابِ جَائِزٌ , وَوَجْهُ التَّعَلُّقِ بِالحَدِيثِ فِي ذَلكَ. أنَّ المُخْبِرَ لَهُمْ ذَكَرَ أَنَّهُ: أُنْزِلَ الْلَيلةَ قُرْآنٌ؛ فَأَحَالَ فِي النَّسْخِ عَلَى الكِتَابِ. وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَعَلِمْنَا أنَّ ذَلِكَ مِن الكِتَابِ وَلَيسَ التَّوجُّهُ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ بِالكِتَابِ، إذْ لا نَصَّ فِي القُرآنِ عَلَى ذلكَ، فهُوَ بالسُّنَّةِ، وَيَلْزَمُ من مَجْمُوعِ ذَلكَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالكِتَابِ. وَالمَنْقُولُ عن الشَّافِعِيِّ: خِلافُهُ.
ويُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِوُجُوهٍ بَعِيدَةٍ :
أَحَدُهَا: أنْ يُقَالَ: المَنْسُوخُ كَانَ ثَابِتاً بِكِتَابٍ نُسِخَ لَفْظُهُ.
وَالثَّانِي: أنْ يُقالَ: النَّسْخُ كَانَ بِالسُّنَّةِ. وَنَزَلَ الكِتَابُ عَلَى وَفْقِهَا.
الثَّالِثُ: أنْ يُجْعَلَ بَيَانُ المُجْمَلِ كَالمَلْفُوظِ بِهِ. وَقَولُهُ تَعَالَى: { وأقِيمُوا الصَّلاةَ } مُجْمَلٌ، فُسِّرَ بِأُمُورٍ. مِنْهَا: التَّوَجُّهُ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ. فَيَكُونُ كَالمَأْمُورِ بِهِ لَفْظاً فِي الكِتَابِ.
وَأُجِيبَ عَن الأوَّلِ وَالثَّانِي: بِأَنَّ مَسَاقَ هَذَا التَّجْوِيزِ: يُفْضِي إِلى أنْ لا يُعْلَمَ نَاسِخٌ مِن مَنْسُوخٍ بِعَيْنِهِ أصْلاً. فَإِنَّ هَذَينِ الاحْتِمَالَينِ مُطَّرِدَانِ فِي كُلِّ نَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ. وَالحَقُّ أنَّ هَذَا التَّجْوِيزَ: يَنْفِي القَطْعَ اليَقِينِيَّ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، إِلاَّ أنْ تَحْتَفَّ القَرَائنُ بِنَفْي هَذَا التَّجْوِيزِ، كَمَا فِي كَونِ الحُكْمِ بِالتَّحْوِيلِ إِلَى القِبْلَةِ مُسْتَنِداً إِلَى الكِتَابِ العَزِيزِ.
وَأُجِيبَ عَن الثَّالِثِ: بِأنَّا لا نُسَلِّمُ بِأنَّ البَيانَ كَالمَلْفُوظِ فِي كُلِّ أَحْكَامِهِ.
المَسْأَلةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أنَّ حُكْمَ النَّاسِخِ هَل يَثْبُتُ فِي حَقِّ المُكَلَّفِ قَبْلَ بُلُوغِ الخِطَابِ لَهُ؟ وَتَعَلَّقُوا بِهَذَا الحَدِيثِ فِي ذَلِكَ.
وَوَجْهُ التَّعَلُّقِ: أنَّهُ لَو ثَبَتَ الحُكْمُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ قَبْلَ بُلُوغِ الخَبَرِ إِلَيْهِمْ، لَبَطُلَ مَا فَعَلُوُه مِن التَّوجُّهِ إِلى بَيْتِ المَقْدِسِ. فَيُفْقَدُ شَرْطُ العِبَادَةِ فِي بَعْضِهَا. فَتُبْطَلُ.
المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: قِيلَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُطْلَقِ النَّسْخِ. لأنَّ مَا دَلَّ عَلَى جَوَازِ الأَخَصِّ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الأعَمِّ.
المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَد يُؤخَذُ مِنْهُ جَوَازُ الاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَو بِالقُرْبِ مِنْهُ؛ لأنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أنْ يَقْطَعُوا الصَّلاةَ وَأنْ يَبنُوا. فَرَجَّحُوا البِنَاءَ. وَهُو مَحَلُّ الاجْتِهَادِ. تَمَّت المَسَائلُ الأُصُولِيَّةُ.
وَأمَّا المَسَائلُ الفُرُوعِيَّةُ :
فَالأُولَى مِنهَا: أنَّ الوكيلَ إذا عُزِلَ فَتَصَرَّفَ قَبلَ بُلُوغِ الخَبَرِ إِلَيْهِ: هَلْ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ النَّسَخِ؟ وَهَلْ يَثْبُتُ حُكْمُهُ قَبْلَ بُلُوغِ الخَبَرِ؟ وَقَد نُوزِعَ فِي هَذَا البِنَاءِ عَلَى ذَلِكَ الأصْلِ.
وَوَجْهُ قَوْلِ هَذَا المُنَازِعِ فِي هَذَا البِنَاءِ عَلَى مَسْأَلَةِ النَّسْخِ: أنَّ النَّسْخَ خِطَابٌ تَكْلِيفِيٌّ، إِمَّا بِالفِعْلِ أو بِالاعْتِقَادِ. وَلا تَكْلِيفَ إِلاَّ مَعَ الإِمْكَانِ، وَلا إِمْكَانَ مَعَ الجَهْلِ بِوُرُودِ النَّاسِخِ.
وَأَمَّا تَصَرُّفُ الوَكيلِ: فَمَعْنَى ثُبُوتِ حُكْمِ العَزْلِ فِيهِ: أَنَّهُ بَاطِلٌ وَلا اسْتِحَالَةَ فِي أَنْ يُعْلَمَ بَعْدَ البُلُوغِ بُطْلانُهُ قَبْلَ بُلُوغِ الخَبَرِ. وَعَلَى تَقديرِ صِحَّةِ هَذَا البِنَاءِ: فَالحُكْمُ هُنَاكَ فِي مَسْأَلَةِ الوَكِيلِ يَكُونُ مَأخُوذاً بِالقِياسِ لا بِالنَّصِّ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا صَلَّت الأَمَةُ مَكْشُوفَةَ الرَّأسِ، ثُمَّ عَلِمَتْ بِالعِتْقِ فِي أثْنَاءِ الصَّلاةِ: هَلْ تَقْطَعُ الصَّلاةَ أَمْ لا؟ فَمَن أَثْبَتَ الحُكْمَ قَبْلَ بُلُوغِ العِلْمِ إليهَا قَالَ بِفَسَادِ مَا فَعَلَتْ فَأَلْزَمَهَا القَطْعَ. وَمَن لَم يُثْبِتْ ذَلِكَ لم يُلزِمْهَا القَطْعَ، إِلاَّ أَنْ يَتَرَاخَى سِتْرُهَا لِرَأسِهَا وَهَذَا أيضاً مِثْلُ الأَوَّلِ، وَأَنَّهُ بِالقِيَاسِ.
الثَّالِثَةُ: قِيلَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَنْبِيهِ مَن لَيسَ فِي الصَّلاةِ لِمَنْ هُوَ فِيهَا. وَأَنْ يَفْتحَ عَلَيهِ. كَذَا ذَكَرَهُ القَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللهُ. وَفِي اسْتِدْلالِهِ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَفْتَحَ عَلَيهِ مُطْلَقاً نَظَرٌ. لأنَّ هَذَا المُخْبِرَ عَن تَحْوِيلِ القِبْلَةِ مُخْبِرٌ عَن وَاجِبٍ، أو آمِرٌ بِتَرْكِ مَمْنُوعٍ. وَمَن يَفْتَحُ عَلَى غَيْرِهِ لَيْسَ كَذَلكَ مُطْلقاً. فَلا يُسَاوِيهِ، وَلا يَلْحَقُ بِهِ. هَذَا إذَا كَانَ الفَتْحُ فِي غَيْرِ الفَاتِحَةِ.
الرَّابِعَةُ: قِيلَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الاجْتِهَادِ فِي القِبْلَةِ، وَمُرَاعَاةِ السَّمْتِ لأنَّهُمْ اسْتَدَارُوا إِلى جِهَةِ الكَعْبَةِ لأَوَّلِ وَهْلَةٍ فِي الصَّلاةِ قَبلَ قَطْعِهِمْ عَلَى مَوضِعِ عَينِهَا.
الخَامِسَةُ: قَد يُؤَخُذُ مِنْهُ أنَّ مَن صلَّى إلى غَيرِ القِبْلَةِ بِالاجْتِهَادِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ الخَطَأُ: أَنَّهُ لا يَلْزَمُهُ الإِعَادَةُ. لأنَّهُ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيهِ فِي ظَنِّهِ، مَعَ مُخَالَفَةِ الحُكْمِ فِي نَفْسِ الأمْرِ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ فَعَلُوا مَا وَجَبَ عَلَيْهِم عِنْدَ ظَنِّهِمْ بَقَاءَ الأَمْرِ. وَلَمْ يَفْسُدْ فِعْلُهُمْ، وَلا أُمِرُوا بِالإِعَادَةِ.
السَّادِسَةُ: قَالَ الطَّحَاوِيُّ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَن لَمْ يَعْلَمْ بِفَرْضِ اللهِ تَعالى وَلَم تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، ولا أمْكَنَهُ اسْتِعْلامُ ذَلكَ مِن غَيْرِه، فَالفَرْضُ غَيرُ لازمٍ لَهُ، وَالحُجَّةُ غَيْرُ قَائِمَةٍ عَليهِ. وَرَكَّبَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى هَذَا مَسْأَلَةَ مَن أَسْلَمَ فِي دَارِ الحَرْبِ، أَو أَطْرَافِ بِلادِ الإسْلامِ، حَيثُ لا يَجِدُ مَن يَسْتَعْلِمُهُ عَن شَرَائعِ الإسْلامِ: هَل يَجِبُ عَلَيهِ أَنْ يَقْضِيَ مَا مَرَّ مِن صَلاةٍ وَصِيامٍ، لَم يَعْلَمْ وُجُوبَهُمَا؟ وَحُكِيَ عَن مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إِلْزَامُهُ ذَلِكُ - أو مَا هَذَا مَعْنَاهُ - لِقُدْرَتِهِ عَلَى الاسْتِعْلامِ وَالبَحْثِ، وَالخُرُوجِ لِذلكَ. وهَذَا أيضاً يَرْجِعُ إلى القِياسِ. واللهُ أعْلمُ.
وَقَولُهُ فِي الحَدِيثِ: وَقدْ أُمِرَ أنْ يَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا. يُرْوَى بِكَسْرِ البَاءِ عَلَى الأمْرِ، ويُرْوَى: فاستقبَلُوهَا , بِفَتْحِهَا عَلَى الخَبَرِ.
70 - الحَدِيثُ الثَّالِثُ:
عَنْ أَنَسِ بنِ سِيرينَ قالَ: اسْتَقْبَلْنَا أَنَساً حِينَ قَدِمَ مِن الشَّامِ، فَلَقينَاهُ بِعَيْنِ التَّمْرِ، فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ، وَوَجْهُهُ مِن ذَا الجَانِبِ - يَعْنِي عَن يَسَارِ القِبْلَةِ - فَقُلْتُ: رَأَيْتُكَ تُصَلِّي لِغَيْرِ القِبْلَةِ؟ فَقَالَ: لَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ مَا فَعَلْتُهُ.
الحَدِيثُ يَدُّلُّ عَلَى جَوَازِ النَّافِلَةِ عَلَى الدَّابَّةِ إِلَى غَيرِ القِبْلَةِ. وَهُو كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ. وَلَيسَ فِي هَذَا الحَدِيثِ إِلاَّ زِيَادَةُ: أَنَّهُ عَلَى حِمَارٍ. فَقَد يُؤخَذُ مِنْهُ طَهَارَتُهُ. لأنَّ مُلامَسَتَهُ مَع التَّحَرُّزِ عَنْهُ مُتَعَذِّرَةٌ؛ لاسِيَّمَا إِذَا طَالَ زَمَنُ رُكُوبِهِ، فَاحْتَمَلَ العرقَ. وَإِنْ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَائلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ.
وَقَولُهُ: مِن الشَّأمِ هُوَ الصَّوابُ فِي هَذَا المَوضِعِ. وَوَقَعَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ ((حِينَ قَدِمَ الشَّامَ)) وقالُوا: هُوَ وَهْمٌ، وَإنَّمَا خَرَجُوا مِن البَصْرَةِ لِيَتَلَقَّوهُ مِن الشَّامِ.
وَقَولُهُ: (( رَأيْتُكَ تُصَلِّي إلى غَيرِ القِبلَةِ. فَقَالَ: لَولا أنِّي رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ مَا فَعَلْتُهُ )) إِنَّمَا يَعُودُ إِلى الصَّلاةِ إِلَى غَيْرِ القِبْلَةِ فَقَطْ. وَهُوَ الَّذِي سُئِلَ عَنْهُ، لا إِلى غَيرِ ذَلِكَ مِن هَيْئَتِهِ. واللهُ أعلمُ.
وَرَاوِي هَذَا الحَديثِ عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ: أَبُو حَمْزَةَ أَنَسُ بنُ سِيرينَ، أَخُو مُحَمَّدِ بنِ سِيرينَ، مَوْلَى أَنَسِ بنِ مَالكٍ. وَيُقَالُ: إنَّهُ لَمَّا وُلِدَ ذُهِبَ بِهِ إِلَى أَنَسِ بنِ مَالِكٍ. فَسَمَّاهُ أنساً، وَكَنَّاهُ بِأبِي حَمْزَةَ بِاسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَى الاحْتِجَاجِ بِحَدِيثهِ. مَاتَ بَعْدَ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ. وَكَانَتْ وَفَاةُ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائةٍ.