تطبيق علي اسلوب الحجاج
قوله تعالي إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ
في هذه الآيات الكريمة الرد علي مشركي قريش الزاعمين أن هذا القرآن إنما هو قول البشر وهو إما شعر أو كهانة فأثبت الله أنه قوله سبحانه وأنه بلغه نبيه ورسوله محمد صلي الله عليه وسلم وأن هذا الرسول كريم له منزلة عند ربه, ودعاهم عز وجل للتدبر والتفكر في هذا القرآن ليعرفوا حقيقته وكذب دعواهم وأنهم علي خطر إذا لم يؤمنوا به. وفي هذه الآيات تم استخدام أكثر من اسلوب للرد علي هؤلاء المشركين.
الأسلوب الأول : اسلوب القول بالموجب
ويظهر هذا الأسلوب في قوله تعالي (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) فقد أثبت الله عز وجل أن هذا القرآن الي تسمعونه إنما هو قول. وأن محمداً صلي الله عليه وسلم هو قائله.
وهنا يمكن استخدام اسلوب السبر والتقسيم: فنقول الاحتمالات الموجودة
1- أن محمداً صلي الله عليه وسلم جاء بهذا الكلام من عند نفسه
2- أنه أوحي إليه بهذا الكلام
وعلي الاحتمال الأول فهو إما شاعر وإما متقول علي الله عز وجل كذاب مفتر فيما يدعيه.
وعلي الاحتمال الثاني ( أنه أوحي إليه) فإما أن يكون الله قد اوحاه إليه وإما أن تكون الشياطين قد أوحته إليه. فتكون جملة الاحتمالات اربعة وهي كالتالي:
1- أن محمد صلي الله عليه وسلم متقول لهذا الكلام من عند نفسه ونسبه إلي الله عز وجل.
2- أن محمد صلي الله عليه وسلم شاعر.
3- أن محمد صلي الله عليه وسلم كاهن يتلقي هذا الكلام من الشياطين.
4- أنه رسول رب العالمين وأن هذا الكلام كلام الله عز وجل وأن محمد مبلغ لهذا الكلام.
وبقراءة الآيات يتبين بطلان الأقوال الثلاثة الأولي ويبقي احتمال واحد وهو الصحيح أن محمد صلي الله عليه وسلم رسول من عند الله وأن هذا القرآن هو كلام الله عز وجل.
وبيان بطلان الأقوال الثلاثة الأولي فيما يلي:
القول الأول: أن محمد صلي الله عليه وسلم متقول لهذا الكلام من عند نفسه ونسبه إلي الله عز وجل. ووجه البطلان أنه لو محمد صلي الله عليه وسلم قائل هذا الكلام فكيف يختمه بقوله (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) اذ كيف سيكون هو قائله ويقول عن نفسه (ولو تقول علينا) الآيات.
القول الثاني: أن محمد صلي الله عليه وسلم شاعر: ولقد نفي الله عن نبيه كونه شاعراً في غيرما موضع في القرآن فقال عز وجل في سورة يس (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) وفي سورة الشعراء (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226), ولقد قال المشركون عن النبي صلي الله عليه وسلم إنه شاعر وقائل هذا القول هو أبو جهل. ووجه بطلان هذا القول أنهم أهل اللغة والبلاغة والفصاحة وكانوا يعلمون الشعر ويقولونه وقد قال قائلهم وهو النضر بن الحارث من بني عبد الدار، صاحبُ لواء قريش يوم بدر - قال مسفّهاً هذه الآراء كلها بقوله: «يا معشرَ قريش، انه واللهِ قد نزل بكم أمر ما أتيتم به بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاماً حَدَثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صِدغيه الشَّيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحرٌّ لا واللهِ، ما هو بساحر. لقد رأينا السحرةَ ونَفَثْهم وعقدهم. وقلتم كاهن! لا واللهِ ما هو بكاهن. قد رأينا الكهنةَ وتخالُجَهم، وسمعنا سجعهم. وقلتم شاعر! لا واللهِ ما هو بشاعر. قد رأينا الشِعر، وسمعنا أصنافه كلَّها: هَزَجَه وَرجَزه. وقلتم مجنون! لقد رأينا الجنون فما هو كذلك. يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه واللهِ قد نزل بكم امر عظيم. . . . .» . ولاشتمال القرآن على والشعر يخلو من هذا كله فالشاعر هو الذي يأتي بكلام مقفى موزون بقصد الوزن. كما أن هذا القرآن نثراً ليس بشعر وليس علي اوزان الشعر المعروفة, كما أن الشعر يتميز بالخيال والكذب كما قالوا ( أعذب الشعر أكذبه) وهذا القرآن كله حقائق وقوانين وقصص صادقة و فيه أحكام وشرائع وليس فيه كذب او زور او خيالات غير حقيقية. وبهذا يتبين بطلان القول الثاني
القول الثالث: أن محمد صلي الله عليه وسلم كاهن يتلقي هذا الكلام من الشياطين. وقائل هذا القول هو وقال عقبة: كاهن. وهذا الكلام يكفي فيه اقل تدبر وتذكر لينقضه فمحمد صلي الله عليه وسلم لم يدع معرفة الغيب ولا رد الغائبة ولا أخبر بالأمور الماضية وهذا هو فعل الكهان كما في تعريف الكاهن هو الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان، ويدّعي معرفة الأسرار ومطالعة علم الغيب , وفي "كشف الأسرار": الكاهن هو الذي يزعم أنَّ له خدمًا من الجن يأتونه بضرب من الوحي, وقال الراغب في "المفردات": الكاهن هو الذي يخبر بالأخبار الماضية الخفية بضرب من الظنّ كالعرّاف الذي يخبر بالأخبار المستقبلة على نحو ذلك. ووجه بطلان هذا القول أن هذه الأشياء لم يفعلها محمد صلي الله عليه وسلم, ولم يطلب منهم مالا كما يطلبه الكهان, كما أن كلام الكهان سجع مصنوع وقول موضوع وهم لا يأمرون الناس بفضائل الأعمال وكذبهم أكثر من صدقهم ولقد ورد القرآن بسب الشياطين فكيف يكون هذا القرآن من وحي الشياطين ويسبون أنفسهم يأمرون بترك عبادتهم كما في القرآن. وبهذا يتبين بطلان القول الثالث.
ولقد ظهر اسلوب التقريع واضحاً جليا في هاتين الآيتين, لكي يتعظ وينزجر من كان في قلبه ذرة من خير. فقال الله في الآية الأولي قليلاً ما تؤمنون وفي الثانية قليلاً ما تذكرون. وهذا تقريع لهم فمن تبين احوال محمد صلي الله عليه وسلم ظهر له أنه ليس بشاعر ولكن لقلة إيمانه وضعفه قالوا إنه شاعر وأن سبب قولهم ذلك هو عدم رغبتهم في الإيمان الكامل بكل ما جاء محمد صلي الله عليه وسلم فأقنعوا أنفسهم بكونه شاعراً لكي لا يؤمنوا به ويسلموا له.
أما في الآية الآخري فقال قليلاً ما تذكرون أي لو كان عندكم أدني قدر من التدبر لهذا القرآن ولفعال وأقوال محمد صلي الله عليه وسلم لتذكرتكم وأمنتم فكلامه وأفعاله ليس ككلام الكهان ولا أفعالهم.
بقي قول واحد وهو القول الرابع وهو
أنه رسول رب العالمين وأن هذا الكلام كلام الله عز وجل وأن محمد مبلغ لهذا الكلام. وهذا مقتضي العقل ولكن أثبته الله أيضا ليتأكد من كان في قلبه شك وليزداد المؤمنين إيماناً وليكون ةحجة علي الكافرين فقال عز وجل (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فهذا القرآن كلام الله عز وجل نزل به جبريل عليه السلام علي قلب محمد صلي الله عليه وسلم ليبلغه للناس وهذا هو القول الحق والصواب الوحيد من هذه الأقوال