فالأُمَّةُ الإسلاميةُ وسَطٌ بين المِلَلِ ، وأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ وَسَطٌ بين الفِرَقِ المُنْتَسِبَةِ للإسلامِ والوَسَطُ العَدلُ الخِيارُ ، قال تعالى :{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } وقال :{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } وفي جامِعِ التِّرْمِذِيِّ ومُسْنَدِ الإمامِ أحمدَ عن معاويةَ بنِ حَيْدَةَ عن أبيه قال : قال رسولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم :
(( أَنْتُمْ تُوَفُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ )) وهو حديثٌ مشهورٌ وقد حسَّنَه الترمذيُّ ، ويُروى مِن حديثِ معاذِ بنِ جبَلٍ وأبي سعيدٍ نحوُه .
وروى أحمدُ والبُخارِيُّ ، عن أبي سعيدٍ ، قال : قال رسولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم : " يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ بَلَّغْتَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ : هَلْ بَلَّغَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ ، وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ . فَيُقَالُ لِنُوحٍ : مَنْ يَشْهَدُ لَكَ ؟ فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ " قال : فذلك قولُه :( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) قال : والوَسَطُ : العَدْلُ " فَتُدْعَوْنَ فَتَشْهَدُونَ لَهُ بِالْبَلاَغِ ثُمَّ أَشْهَدُ عَلَيْكُمْ " .
فأمَّةُ محمدٍ صلى اللَّه عليه وسلم أَشْرفُ الأُمَمِ ورَسُولُها أفضلُ الرُّسلِ ، وشريعَتُها أكملُ الشرائعِ . وأهلُ السُّنَّةِ والحديثِ وسَطٌ في الفِرَقِ ، ودِينُ اللَّهِ تعالى بين الغالي فيه والجافي عنه ، وخيرُ الناسِ النَّمطُ الوَسَطُ ، الذين ارتَفَعوا عن تَقْصيرِ المُفَرِّطِين ، ولم يَلْحَقوا بلَغْوِ المُعتَدِين ، وقد جَعلَ اللَّهُ سبحانه هذه الأُمَّةَ وَسَطاً وهي الخيارُ الَعدلُ لتَوسُّطِها بين الطَّرفَيْنِ المَذمومَيْنِ . والعَدلُ هو الوسَطُ بين طَرَفَيِ الجَوْرِ والتفريطِ ، والآفاتُ إنما تَتطرَّقُ إلى الأطرافِ ، والأوساطُ محمِيَّةٌ بأطرافِها ، فخِيارُ الأمورِ أوْساطُها . قال الشاعِرُ :
هِيَ الْوَسَطُ الْمَحْمِيُّ فَاكْتَنَفَتْ=بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا
وأهلُ الحديثِ جَعَلوا الرسولَ الذي بَعثَه اللَّهُ إلى الخَلْقِ هو إمامَهم المعصومَ الذي لا يَنْطِقُ عن الهَوى ، عنه يأخُذون دِينَهم ، فالحَلالُ ما حلَّلَه ، والحَرامُ ما حرَّمَه ، والدِّينُ ما شَرَعَه ، وكُلُّ قولٍ يُخالِفُ قولَه فهو مردودٌ عندهم ، وإن كان الذي قاله مِن خِيارِ المسلِمِينَ وأعْلَمِهم ، وهو مأجورٌ فيه على اجتهادِه ، لكنهم لا يُعارِضونَ قولَ اللَّهِ وقولَ رسولِه بشيءٍ أصْلاً . لا نَقْلٍ نُقِلَ عن غيرِه ، ولا رأيٍ رآه غيرُه ، ومَن سِواه مِن أهلِ العِلمِ فإنما هم وسائطُ في التبليغِ عنه ، إما للفظِ حديثِه، وإما لِمعناه ، فقومٌ بلَّغُوا ما سَمِعوا منه مِن قرآنٍ وحديثٍ ، وقومٌ تَفقَّهوا في ذلك وعَرَفوا معناه ، وما تنازَعُوا فيه رَدُّوه إلى اللَّهِ والرسولِ ، فلهذا لم يجتمِعْ قطُّ أهلُ الحديثِ على خلافِ قولِه في كلمةٍ واحدةٍ ، والحقُّ لا يَخرُجُ عنهم قطُّ ، وكُلُّ ما اجتَمَعوا عليه فهو مما جاءَ به الرسولُ صلى اللَّه عليه وسلم ، وكُلُّ مَن خالَفَهم مِن خارِجيٍّ ورافضيٍّ ومعتزِليٍّ وجَهْمِيٍّ وغيرِهم مِن أهلِ البِدَعِ فإنما يُخالِفُ رسولَ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم ، بل مَن خالَفَ مذاهِبَهم في الشرائعِ العَمليةِ كان مُخالِفاً للسُّنَّةِ الثابتةِ .
وكُلٌّ مِن هؤلاء يوافِقُهم فيما خالَفَ فيه الآخَرَ ، فأهلُ الأهواءِ معهم بمنزِلةِ أهلِ المِلَلِ مع المسلِمِينَ ، فإنَّ أهلَ السُّنَّةِ في الإسلامِ كأهلِ الإسلامِ في المِلَلِ .
فإنْ قِيلَ : فإذا كان الحقُّ لا يَخْرُجُ عن أهلِ الحديثِ فلِمَ لم يُذْكَرْ في أصولِ الفِقهِ أنَّ إجماعَهم حُجَّةٌ وذُكِرَ الخلافُ في ذلك ، كما تُكُلِّمَ على إجماعِ أهلِ المدينةِ وإجماعِ العِتْرةِ ؟
قيل : لأنَّ أهلَ الحديثِ لا يتَّفِقُونَ إلا على ما جاء عن رسولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم وما هو مَنْقولٌ عن الصحابةِ، فيكونُ الاستدلالُ بالكتابِ والسُّنَّةِ وبإجماعِ الصحابةِ مُغْنياً عن دعوى إجماعٍ يُنازِعُ في كوْنِه حُجَّةً بعضُ الناسِ ، وهذا بخلافِ مَن يدَّعِي إجماعَ المتأخِّرينَ مِن أهلِ المدينةِ إجماعاً ، فإنهم يَذْكُرون ذلك في مسائِلَ لا نصَّ فيها بلِ النصُّ على خِلافِها ، وكذلك المُدَّعُون إجماعَ العِتْرةِ يدَّعُون ذلك في مسائِلَ لا نصَّ معهم فيها ، بل النصُّ على خلافِها ، فاحتاجَ هؤلاءِ إلى دعوى ما يَدَّعُونه مِن الإجماعِ الذي يزعُمونَ أنه حُجَّةٌ .
وأما أهلُ الحديثِ فالنصوصُ الثابتةُ عن رسولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم هي عُمْدَتُهم ، وعليها يُجْمِعون إذا أجْمَعوا، لا سِيَّما وأئِمَّتُهُم يقولونَ : لا يكونُ قطُّ إجماعٌ صحيحٌ على خلافِ نصٍّ إلا ومع الإجماعِ نصٌّ ظاهرٌ معلومٌ يُعرَفُ أنه معارِضٌ لذلك النصِّ الآخَرِ ، فإذا كانوا لا يُسَوِّغونَ أن تُعارَضَ النصوصُ بما يُدَّعَى مِن إجماعِ الأُمَّةِ لِبُطلانِ تعارُضِ النصِّ والإجماعِ عندهم فكيف إذا عُورِضَتِ النصوصُ بما يُدَّعى مِن إجماعِ العِتْرةِ أو أهلِ المدينةِ ؟
وكُلُّ مَن سِوى أهلِ السُّنَّةِ والحديثِ مِن الفِرَقِ فلا ينفردُ عن أئمَّةِ الحديثِ بقولٍ صحيحٍ بل لا بدَّ أنْ يكونَ معه مِن دينِ الإسلامِ ، ما هو حقٌّ وبسببِ ذلك وقعَتِ الشُّبْهَةُ ، وإلا فالباطِلُ المَحْضُ لا يَشْتَبِهُ على أحدٍ ، ولهذا سُمِّي أهلُ البِدَعِ أهلَ الشُّبُهاتِ ، وقيل فيهم : إنهم يَلْبِسونَ الحقَّ بالباطِلِ ، وهكذا أهلُ الكتابِ معهم حقٌّ وباطلٌ . ولهذا قال تعالى :{ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وقال :{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } وقال عنهم : { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً } وقال عنهم :{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ } وذلك لأنهم ابْتَدَعوا بِدَعاً خَلَطُوها بما جاءَتْ به الرسلُ ، وفَرَّقُوا دِينَهم وكانوا شِيَعاً ، فكان في كُلِّ فريقٍ منهم حقٌّ وباطلٌ ، وهذا حالُ أهلِ البِدَعِ كُلِّهِم ، فإنَّ معهم حقاً وباطلاً ، فرَّقُوا دِينَهم وكانوا شِيَعاً ، كُلُّ فريقٍ يُكَذِّبُ بما مع الآخَرِ مِن الحقِّ ويُصدِّقُ بما معه مِن الباطِلِ كالخوارجِ والشيعةِ .
فهؤلاء يكذِّبون بما ثَبَتَ مِن فضائلِ أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي اللَّه عنه ، ويُصدِّقُونَ بما رُوِي في فضائلِ أبي بكرٍ وعُمَرَ رضي اللَّه عنهما ، ويُصدِّقون بما ابتدَعُوه مِن تكفيرِه وتكفيرِ مَن يَتَوَلاَّه ويُحِبُّه .
وهؤلاء يُصدِّقون بما رُوِي في فضائلِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ ويُكذِّبون بما رُوِي في فضائلِ أبي بكرٍ وعُمَرَ ، ويُصدِّقون بما ابتَدَعوه مِن التكفيرِ والطعْنِ في أبي بكرٍ وعُمَرَ وعثمانَ .
ودينُ الإسلامِ وسَطٌ بين الأطرافِ المتجاذِبةِ ، فالمسلمون وَسَطٌ في التوحيدِ بين اليهودِ والنصارى ، فاليهودُ تَصِفُ الرَّبَّ بصفاتِ النقْصِ التي يختَصُّ بها المخلوقُ ، ويُشَبِّهونَ الخالِقَ بالمخلوقِ ، كما قالوا : إنه بَخِيلٌ وإنه فقيرٌ ، وإنه لمَّا خَلَقَ السماواتِ والأرضَ تَعِبَ ، وهو سبحانه الجَوادُ الذي لا يَبْخَلُ ، والغَنِيُّ الذي لا يَحتاجُ إلى غيرِه ، والقادِرُ الذي لا يمَسُّه لُغوبٌ ، والقُدرةُ والإرادةُ والغِنَى عمَّن سِواهُ هي صفاتُ الكمالِ التي تَستلْزِمُ سائِرَها .
والنَّصارى يَصِفُون المَخلوقَ بصِفاتِ الخالِقِ التي يختَصُّ بها ، ويُشبِّهون المخلوقَ بالخالِقِ حيثُ قالوا :{ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } و { إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } وقالوا :{ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } و { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فالمسلمون وحَّدُوا اللَّهَ ووَصَفُوه بصفاتِ الكمالِ ، ونزَّهُوه عن جميعِ صفاتِ النقصِ ، ونزَّهُوه عن أنْ يُماثِلَه شيءٌ مِن المخلوقاتِ في شيءٍ مِن الصفاتِ ، فهو موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ لا بصفاتِ النقْصِ وليس كمِثْلِه شيءٌ لا في ذاتِه ولا في صِفاته ولا في أفعالِه .
وكذلك في النُّبُوَّاتِ فاليهودُ تَقْتُلُ بعضَ الأنبياءِ وتَستكْبِرُ عن اتِّباعِهِم وتكذِّبُهم وتتَّهِمُهم بالكبائرِ ، والنصارى يَجْعلون مَن ليس بنَبيٍّ ولا رسولٍ نَبِيًّا ورسولاً ، كما يقولون في الحَوارِيِّين أنهم رُسلٌ بل يُطِيعون أحْبارَهم ورُهْبانَهم كما تُطاعُ الأنبياءُ ، فالنصارى تُصدِّقُ بالباطلِ ، واليهودُ تُكذِّبُ بالحقِّ .
ولهذا كان في مُبْتَدِعَةِ أهلِ الكلامِ شَبَهٌ مِن اليهودِ ، وفي مُبتَدِعةِ أهلِ التَّعَبُّدِ شَبَهٌ مِن النصارَى ، فآخِرُ أولئك الشكُّ والريْبُ ، وآخِرُ هؤلاء الشطْحُ والدعاوى الكاذبةُ ؛ لأنَّ أولئك كذَّبُوا بالحقِّ فصاروا إلى الشكِّ ، وهؤلاء صدَّقُوا بالباطِلِ فصاروا إلى الشطْحِ .
وأما الشرائعُ ، فاليهودُ مَنَعوا الخالقَ أنْ يَبعَثَ رسولاً بغيرِ شريعةِ الرسولِ الأوَّلِ ، وقالوا : لا يجوزُ أنْ يُنْسَخَ ما شَرَعَه ، والنصارى جوَّزُوا لأحْبارِهم أنْ يُغَيِّروا مِن الشرائعِ ما أرْسَلَ اللَّهُ به رسولَه ، فأولئك عَجَّزوا الخالِقَ ومنَعُوه ما تَقتضيه قُدرتُه وحِكمتُه في النبواتِ والشرائعِ ، وهؤلاء جوَّزُوا للمخلوقِ أنْ يُغيِّرَ ما شَرَعَه الخالقُ فضَاهَوا المخلوقَ بالخالِقِ .
وكذلك في العِباداتِ ، فالنصارى يَعبدونه بِبِدَعٍ ابْتدعُوها ما أَنْزَلَ اللَّهُ بها مِن سلطانٍ , واليهودُ مُعْرضِون عن العباداتِ حتى في يومِ السبتِ الذي أمَرَهُم اللَّهُ أنْ يتفرَّغُوا فيه لِعبادَتِه ، إنما يَشتغِلونَ فيه بالشهواتِ ، فالنصارى مُشْرِكون به ؛ واليهودُ مَستكْبِرون عن عِبادَتِه .
والمسلمونَ عَبَدوا اللَّهَ وحْدَه بما شَرَعَ ، ولم يَعْبدوه بالبِدَعِ . وهذا هو دِينُ الإسلامِ الذي بَعَثَ اللَّهُ به جميعَ النَّبِيِّينَ ، وهو أنْ يَستَسْلِمَ العبدُ لِلَّهِ لا لِغيرِه ، وهو الحَنِيفِيَّةُ دِينُ إبراهيمَ ، فمَن استسْلَمَ له ولِغيرِه كان مُشْرِكاً ، ومَن لم يَستَسْلِمْ له فهو مُسْتكْبِرٌ .
وقد قال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } وقال :{ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } .
وكذلك في أمْرِ الحلالِ والحرامِ في الطعامِ واللِّباسِ ، وما يَدْخُل في ذلك مِن النجاساتِ فالنَّصارى لا تُحَرِّمُ ما حرَّمَه اللَّهُ ورسولُه ، ويَسْتَحِلُّونَ الخَبَائِثَ المُحرَّمة كالمَيْتةِ والدمِ ولَحْمِ الخِنزيرِ حتى أنهم يَتَعبَّدون بالنجاساتِ كالبولِ والغائطِ ، ولا يَغْتَسِلون مِن جنابةٍ ، ولا يَتَطَّهرونَ للصلاةِ ، وكُلَّما كان الراهِبُ عندهم أبعدَ عن الطهارةِ ، وأكثرَ مُلابَسةً للنَّجاسةِ كان مُعَظَّماً عندهم .
واليهودُ حرَّمَتْ عليهم طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لهم ، فهم يُحرِّمون مِن الطَّيِّباتِ ما هو منفعةٌ للعِبادِ ، ويَجْتَنِبونَ الأمورَ الطاهرةَ مع النجاساتِ ، فالمرأةُ الحائضُ لا يأكلونَ معها ولا يُجالِسُونها ، فهم في آصَارٍ وأغلالٍ عُذِّبُوا بها ، وأولئك يَتَناوَلونَ الخبائِثَ المُضِرَّةَ مع أنَّ الرُّهْبانَ يُحرِّمون على أنفسِهِم طيباتٍ أُحِلَّتْ لهم فيُحَرِّمُون الطيِّباتِ ، ويُباشِرون النجاساتِ ، وهؤلاء يُحرِّمون الطيِّباتِ النافعةَ ، مع أنهم مِن أخبثِ الناسِ قُلوباً وأَفْسَدِهم بواطِنَ ، وطهارةُ الظاهرِ إنما يُقْصدُ بها طهارةُ القلبِ ، فهم يُطَهِّرونَ ظواهِرَهُم ، ويُنَجِّسون قُلوبَهم .
وكذلك أهلُ السُّنَّةِ في الإسلامِ متَوَسِّطُونَ في جميعِ الأمورِ ، فهُمْ في عَلَيٍّ وسَطٌ بينَ الخوارجِ والروافِضِ ، وكذلك في عثمانَ وسَطٌ بين المَرْوانِيةِ والزَيْدِيةِ ، وكذلك في سائِرِ الصحابةِ ، وَسَطٌ بين الغُلاةِ فيهم والطاعِنينَ عليهم ، وهم في الوعيدِ ، وَسَطٌ بين الخوارجِ والمعتزلةِ ، وبينَ المُرجئةِ . وهم في القَدَرِ وسَطٌ بين القَدَريةِ مِن المعتزِلة ونحوِهم وبين القَدَريةِ المُجْبِرةِ مِن الجهميةِ ونحوِهم ، وهم في الصفاتِ وسَطٌ بين المعطِّلةِ والمُمَثِّلَةِ .
والمقصودُ أنَّ كُلَّ طائفةٍ سوى أهلِ السُّنَّةِ والحديثِ المُتبِعِينَ آثارَ رسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فلا يَنفرِدونَ عن سائرِ طوائفِ الأُمَّةِ إلاَّ بقولٍ فاسدٍ لا يَنفرِدونَ قطُّ بقولٍ صحيحٍ ، وكُلُّ مَن كان عن السُّنَّةِ أبعدَ كان انفِرادُه بالأقوالِ والأفعالِ الباطلةِ أكثرَ . وليس في الطوائفِ المُنْتسِبينَ إلى السُّنَّةِ أبعدُ عن آثارِ رسولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم مِن الرافِضةِ .
وأمَّا الخوارجُ والجهميةُ والمعتزِلةُ فإنهم أيضاً لا يَنفرِدونَ عن أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ بحقٍّ . بل كُلُّ ما معهم مِن الحقِّ ففي أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ مَن يقولُ به . ولكن ما يَبلُغُ هؤلاء مِن قِلَّةِ العقلِ وكثرةِ الجهلِ ما بلغَتِ الرافضَةُ .
وكذلك الطوائفُ المنتسِبونُ إلى السُّنَّةِ مِن أهلِ الكلامِ والرَّأْيِ مِثلُ : الكُلاَّبيَّةِ والأشعريَّةِ والكَرَّاميةِ والسالِميةِ . ومثلُ طوائفِ الفقهِ مِن الحنفيةِ والمالكيةِ والسُّفْيَانِيَّةِ والأوزاعيَّةِ والشافعيَّةِ والحنبليَّةِ والدَّاوُديةِ وغيرِهم مع تعظيمِ الأقوالِ المشهورةِ عن أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ لا يُوجدُ لِطائفةٍ منهم قولٌ انفرَدوا به عن سائرِ الأُمَّةِ ، وهو صوابٌ بل ما مع كُلِّ طائفةٍ منهم مِن الصوابِ يُوجَدُ عند غيرِها مِن الطوائفِ ، وقد يَنفرِدون بخطأٍ لا يُوجَدُ عند غيرِهم ، لكنْ قد تَنفرِدُ طائفةٌ بالصوابِ عمَّن يُناظرُها مِن الطوائفِ كأهلِ المذاهبِ الأربعةِ ، قد يُوجَدُ لكُلٍّ منهم أقوالٌ انفرَدَ بها وكان الصوابُ المُوافِقُ للسُّنَّةِ معه دونَ الثلاثةِ ، لكن يكونُ قولُه قد قالَه غيرُه مِن الصحابةِ والتابِعينَ وسائرِ علماءِ الأُمَّةِ بخلافِ ما انفرَدوا به ، ولم يُنقَلْ عن غيرِهم . فهذا لا يكونُ إلا خطأً ، وكذلك أهلُ الظاهرِ كُلُّ قولٍ انفردوا به عن سائرِ الأُمَّةِ فهو خطأٌ .
وأمَّا ما انفردوا به عن الأربعةِ وهو صوابٌ فقد قاله غيرُهم مِن السلفِ وأمَّا الصوابُ الذي يَنفرِدُ به كُلُّ طائفةٍ مِن الثلاثةِ فهو كثيرٌ ، لكنَّ الغالبَ أنه يوافِقُه عليه بعضُ أَتباعِ الثلاثةِ ، وبالجُملةِ فما اختصَّ به كُلُّ إمامٍ مِن المحاسنِ والفضائلِ كثيرٌ ليس هذا موضعَ استقصائِه ، فإنَّ المقصودَ أنَّ الحقَّ دائماً مع سُنَّةِ رسولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم وآثارِه الصحيحةِ ، وإنَّ كُلَّ طائفةٍ تُضافُ إلى غيرِه إذا انفرَدَتْ بقولٍ عن سائرِ الأُمَّةِ لم يكُنِ القولُ الذي انفردتْ به إلا خطأً بخلافِ المضافِينَ إليه أهلِ السُّنَّةِ والحديثِ ، فإنَّ الصوابَ معهم دائماً ، ومَن وافَقَهم كان الصوابُ معه دائماً لمُوافَقَتِه إياهم ، ومَن خالَفَهم فإنَّ الصوابَ معهم دُونه في جميعِ أمورِ الدينِ ، فإنَّ الحقَّ مع الرسولِ ، فمن كان أعْلَمَ بسُنَّتِه وأتْبَعَ لها كان الصوابُ معه .
وهؤلاء همُ الذين لا يَنتصِرونَ إلا لقولِه ولا يُضافُونَ إلاَّ إليه ، وهم أعْلَمُ الناسِ بسُنَّتِه وأَتْبَعُ لها ، وأكثرُ سلَفِ الأُمَّةِ كذلك لكنَّ التفرُّقَ والاختلافَ كثيرٌ في المتأخِّرينَ ، والذين رَفَعَ اللَّهُ قَدْرَهم في الأُمَّةِ هو بما أحْيَوْهُ مِن سُنَّتِه ونُصْرَتِه .
وهكذا سائرُ طوائفِ الأُمَّةِ ، بل سائرُ طوائفِ الخَلْقِ ، كُلُّ خَيْرٍ معهم فيما جاءتْ به الرسُلُ عن اللَّهِ ، وما كان مِن خطأٍ أو ذنْبٍ فليس مِن جهةِ الرسلِ )) (( فهم وسطٌ في بابِ صفاتِ اللَّهِ سبحانه وتعالى بين أهلِ التعطيلِ الجهميَّةِ وأهلِ التمثيلِ المشبِّهةِ )).
الجهمية ُ: هم المنتسِبونَ إلى جَهْمِ بنِ صَفْوانَ الترمذيِّ الذي أظهَرَ مَقالةَ التعطيلِ فنَفَى أسماءَ الرَّبِّ تعالى وصفاتِه ، وكان تلقَّى مذهَبَه عن الجعدِ بنِ درهمٍ فنَشَره ونُسِبَ إليه .
وكان ذلك في أواخِرِ دولةِ بني أُمَيَّةَ . وقد نَفَى الجهمُ أنْ يكونَ اللَّهُ كلَّم موسى تكليماً ، ونفَى مَحبةَ اللَّهِ وغيرَ ذلك مِن الأسماءِ والصفاتِ .
ثم انتقلَ مذهَبُه إلى المعتزلةِ وغيرِهم فنَفَوُا الصفاتِ دونَ الأسماءِ ، وكِلا القولَيْنِ ضلالٌُ وباطلٌ لم يَقُلْه أحدٌ مِن سلَفِ الأُمَّةِ وأئمَّتِها . بل هو بدعةٌ منكَرةٌ (( واعْلَمْ أنَّ الجهميةَ المَحْضةَ كالقَرامطةِ ومَن ضَاهَاهم ، يَنْفونَ عنه تعالى اتِّصافَه بالنقِيضَيْنِ حتى يقولونَ ليس بموجودٍ ولا ليس بموجودٍ ولا حيٍّ ولا ليس بِحَيٍّ . ومعلومٌ أنَّ الخُلُوَّ عن النقيضَيْنِ ممتنِعٌ في بَداهةِ العقولِ كالجَمعِ بين النقيضَيْنِ ، وآخرونَ وَصَفُوه بالنفْيِ فقط، فقالوا: ليس بِحَيٍّ ولا سميعٍ ولا بصيرٍ ، هؤلاء أعْظَمُ كُفراً مِن أولئك مِن وجهٍ .
فإذا قيل لهؤلاء : هذا مُسْتَلْزِمٌ وَصْفَه بنقيضِ ذلك كالموتِ والصَّمَمِ والبَكَمِ ، قالوا : إنما يَلزَمُ ذلك لو كان قابلاً لذلك ، وهذا الاعتذارُ يَزيدُ قَولَهم فساداً ، وكذلك مَن ضَاهَى هؤلاء وهم الذين يقولون : ليس بِداخِلِ العالَمِ ولا خارِجِه . إذا قيلَ : هذا ممتنِعٌ في ضرورةِ العقلِ ، كما إذا قيل ليس بقديمٍ ، ولا مُحْدَثٍ ، ولا واجِبٍ ، ولا ممْكِنٍ ، ولا قائمٍ بنَفْسِه ، ولا قائمٍ بغيرِه ، قالوا : هذا إنما يكونُ إذا كان قابلاً لذلك )) (( وأنكَرَ الجهميةُ حقيقةَ المَحبةِ مِن الطرفَيْنِ زعماً منهم أنَّ المحبةَ لا تكونُ إلا مناسَبةً بين المُحِبِّ والمحبوبِ ، وأنه لا مناسَبةَ بين القديمِ والمحدثِ توجِبُ محبَّتَه ، وقاسُوا به المحبةَ .
وكان أوَّلَ مَن أَحْدثَ هذا في الإسلامِ الجعدُ بنُ دِرْهَمٍ في أوائلِ المائةِ الثانيةِ ، فضحَّى به خالدُ بنُ عبدِ اللَّهِ القسريُّ أميرُ العراقِ والمَشرِقِ بواسِطَ ، خطَبَ يومَ الأضْحى فقال : أيها الناسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحاياكُم فإنِّي مُضَحٍّ بالجعدِ بنِ درهمٍ، إِنه زَعَم أنَّ اللَّهَ لم يَتَّخِذْ إبراهيمَ خليلاً ، ولم يُكلِّمْ موسى تكليماً ، ثم نَزَلَ فذَبَحَه .
فكان قد أخَذَ هذا المذهبَ عن الجعدِ الجهمُ بنُ صفوانَ فأظهَرَه عليه وإليه أُضِيفَ قولُ الجهميةِ ، فقتَلَه سلمُ بنُ أحوزَ أميرُ خراسان بها .
ثم نَقَلَ ذلك إلى المعتزلةِ عمرُو بنُ عُبيدٍ ، وأُظْهِرَ قولُهم في زمَنِ الخليفةِ المُلقَّبِ بالمأمونِ حتى امتُحِنَ أئمةُ الإسلامِ ودُعوا إلى الموافقةِ لهم على ذلك .
وأَصْلُ هذا مأخوذٌ عن المُشرِكينَ والصَّابِئَةِ مِن البَراهِمَةِ والمُتفلسِفةِ ومُبتدِعةِ أهلِ الكتابِ الذين يزعُمون أنَّ الرَّبَّ ليس له صفةٌ ثُبوتيةٌ أَصْلاً ، وهؤلاء هم أعداءُ إبراهيمَ الخليلِ عليه السلامُ ، وهم يَعبدونَ الكواكِبَ والنجومَ ، ويَبنونَ لها الهياكِلَ والمَعاقِلَ وغيرَها ، وهم يُنكِرون في الحقيقةِ أنْ يكونَ إبراهيمُ خليلاً وموسى كَلِيما ، وأن الخُلَّةَ هي كمالُ المحبةِ المُستغِرقَةِ للحُبِّ كما قيل :
قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي=وَبِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلا
وقد أحسَنَ مَن قال :
عَجِبْتُ لِشَيْطَانٍ دَعَا النَّاسَ جَهْرَةً=إِلَى النَّارِ وَاشْتَقَّ اسْمَهُ مِنْ جَهَنَِّم
وقال الإمامُ أبو حنيفةَ : بَالَغَ جهمٌ في نفْي التشبيهِ حتى قال : إنَّ اللَّهَ ليس بشيءٍ .
وقال ابنُ المبارَكِ : إنا لنَحْكِي كلامَ اليهودِ والنصارَى ونَستَعْظِمُ قولَ جهمٍ . وله :
وَلاَ أَقُولُ بِقَوْلِ الْجَهْمِ إِنَّ لَهُ=قَوْلاً يُضارِعُ قَوْلَ الشِّرْكِ أَحْيَانَا
وقال في الكافيةِ الشافيةِ :
وَلأَجْلِ ذَا ضَحَّى بِجَعْدٍ خَالِدُ الْ=قَسْرِيُّ يَوْمَ ذَبَائِحِ الْقُرْبَانِ
إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لَيْسَ خَلِيلَهُ=كَلاَّ وَلاَ مُوسَى الْكِلْيمَ الدَّانِي
شَكَرَ الضَّحِيَّةَ كُلُّ صَاحِبِ=سُنَّةٍ لِلَّهِ دَرُّكَ مِنْ أَخِي قُرْبَانِ
وَلَقَدْ تَقَلَّدَ كُفْرَهُمْ خَمْسُونَ فِي=عَشْ رٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْبُلدَانِ
وَالَّلاَلَكَائِيُّ الإِمَامُ حَكَاهُ عَنْــــــ=ــــهُمْ بَلْ حَكَاهُ قَبْلَهُ الطَّبَرَانِي
فَقَتَلَ خالدٌ القَسْرِيُّ الجَعدَ في خلافةِ هشامِ بنِ عبدِ المَلِكِ .
وكان الجهمُ بعده بخُراسانَ فأظَهَرَ مقالتَه هناكَ ، وتَبِعَهُ عليها ناسٌ بعدَ أنْ تركَ الصلاةَ أربعينَ يوماً شَكًّا في رَبِّه .
وذلك لِمُناظَرَتِه قوماً مِن المُشركِينَ مِن فلاسفةِ الهندِ يُقالُ لهم السمنيةُ الذين يُنْكِرون مِن العِلمِ ما سِوى المُحسُوساتِ.
قالوا له : ربُّك الذي تَعْبدُه هلْ يُرى أو يُشَمُّ أو يُذَاقُ أو يُلْمَسُ ؟ فقال : لا ، فقالوا : هو مَعدومٌ ، فبَقِي أربعينَ يوماً لا يَعبدُ شيئاً ، ثم لمَّا خلا قَلْبُهُ مِن إلَهٍ يَعبدُه نَقَشَ الشيطانُ في قَلبِه اعتقاداً نحَتَه فِكْرُه ، فقال : إنه الوجودُ المُطلَقُ ونَفَى جميعَ الصفاتِ ، وقال : إنه هو هذا الهواءُ مع كُلِّ شيءٍ ، وفي كُلِّ شيءٍ ، ولا يَخْلُو منه شيءٌ ، واتَّصَلَ بالجعدِ .
وقُتِلَ الجهمُ سنةَ 128ه ، قَتَلَه سلمُ بنُ أحوزَ بخراسانَ على ما ذَكَرَه الطبَريُّ . ولكنْ كانتْ مَقالَتُه قد فَشَتْ في الناسِ ، وتَقلَّدَها المعتزلةُ ، ولكنْ كان الجهمُ أدْخَلَ في التعطيلِ منهم ؛ لأنه يُنْكِرُ الأسماءَ والصفاتِ ، وهم يُنكِرون الصفاتِ دُون الأسماءِ .
(( وأصلُ قولِ الجهميةِ هو نَفْيُ الصفاتِ بما يزعُمونه مِن دعوى العقلياتِ التي عارَضوا بها النصوصَ . إذا كانَ العقلُ الصريحُ الذي يَستحِقُّ أنْ تُسَمَّى قضاياهُ عقلِيات مَوافِقاً للنصوصِ لا مُخالِفاً . ولمَّا كان قد شاعَ في عُرْفِ الناسِ أنَّ قولَ الجهميةِ مَبْناهُ على النفْيِ صارَ الشعراءُ يَنْظِمُونَ هذا المعنى كقولِ أبي تمامٍ :
جَهْمِيَّةُ الأَوْصَافِ إِلاَّ أَنَّهُمْ=قَدْ لَقَّبُوهَا جَوْهَرَ الأَسْمَاءِ
فهؤلاءِ ارْتَكَبُوا أربعَ عظائمَ :
( إحداها ) رَدُّهم لنصوصِ الأنبياءِ عليهم الصلواتُ والسلامُ .
( والثاني ) رَدُّهم ما يُوافِقُ ذلك مِن معقولِ العقلاءِ .
( الثالثُ ) جَعْلُ ما خالَفَ ذلك مِن أقوالِهم المُجملَةِ أو الباطلةِ هي أصولَ الدِّينِ .
( الرابعُ ) تكفيرُهم أو تفسِيقُهم أو تَخْطِئَتُهم لمَن خالَفَ هذه الأقوالَ المُبْتدَعةَ المخالِفةَ لصحيحِ المنقولِ وصريحِ المعقولِ )) (( ثم أصلُ هذه المَقالةِ - التعطيلِ للصفاتِ - إنما هو مأخوذٌ مِن تلامِذةِ اليهودِ والمشركينَ وضُلاَّلِ الصابِئِينَ ، فإنَّ أوَّلَ مَن حُفِظَ عنه أنه قال هذه المَقالةَ في الإسلامِ - أعْنِي أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى ليس على العرشِ حقيقةً ، وإنما استوى بمعنى استولى ونحوَ ذلك - أوَّلَ ما ظهَرَتْ هذه المقالةُ مِن الجعدِ بنِ درهمٍ ، وأخَذَها عنه الجهمُ بنُ صفوانَ وأظهَرَها فنُسِبَتْ مقالةُ الجهميةِ إليه .
وقد قِيلَ : إنَّ الجعدَ أخَذَ مقالَته عن أبَانَ بنِ سَمعانَ ، وأخَذَها أبَانُ مِن طالوتَ بنِ أُخْتِ لَبيدِ بنِ الأَعْصَمِ ، وأخَذَها طالوتُ مِن لبيدِ بنِ الأعصمِ اليهوديِّ الساحِرِ الذي سحَرَ النبيَّ صلى اللَّه عليه وسلم .
وكان الجعدُ بنُ درهمٍ هذا - فيما قيل - مِن أرضِ حرَّانَ - وكان فيهمْ خَلْقٌ كثيرٌ مِن الصابِئَةِ والفلاسفةِ بقايا نَمْرُوذَ ، والكَنْعَانيِّينَ الذين صنَّفَ بعضُ المتأخِّرين في سِحْرِهم . ونمرودُ هو مَلِكُ الصابئةِ والكلدانيَّةِ المشرِكينَ ، كما أنَّ كِسْرى مَلِكُ الفُرسِ والمجوسِ ، وفِرْعونَ مَلِكُ مِصرَ ، والنجاشيَّ مَلِكُ الحَبَشةِ النَّصارى ، فهذا اسمُ جنسٍ لا عَلَمٌ .
فكان الصابئةُ - إلا قليلاً منهم - إِذْ ذاكَ على الشرْكِ وعُلماؤُهم هم الفلاسفةُ ، وكانوا يَعبدونَ الكواكبَ ويَبنونَ لها الهياكِلَ .
ومذهبُ النُّفاةِ مِن هؤلاء في الرَّبِّ سبحانه : أنه ليس له إلا صفاتٌ سلبيَّةٌ أو إضافيةٌ أو مركبةٌ منها ، وهم الذين بَعَثَ اللَّهُ إبراهيمَ الخليلَ صلى اللَّه عليه وسلم إليهم ، فيكونُ الجعدُ قد أخَذَها عن الصابئةِ والفلاسفةِ ، وكذلك أبو نصرٍ الفارَابِيُّ دخَلَ حرانَ وأخَذَ عن فلاسفةِ الصابِئِينَ تمامَ فَلْسَفَتِه ، وأخَذَها الجهمُ أيضاً ( فيما ذَكَرَه الإمامُ أحمدُ وغيرُه ) لما ناظَرَ السُّمَنِيَّةَ بعضَ فلاسفةِ الهندِ الدهْرِيِّين الذين يَجحَدُون مِن العلومِ ما سِوى الحِسِّياتِ ، فهذه أسانيدُ جهمٍ تَرجعُ إلى اليهودِ والصابِئينَ ، والمشرِكينَ ، والفلاسفةُ الضالُّون هم : إما مِن الصابِئِينَ ، وإما مِن المشرِكينَ .
ثم لمَّا عُرِّبَتِ الكُتُبُ الرُّوميةُ واليونانيةُ في حُدودِ المائةِ الثانيةِ زادَ البلاءُ مع ما أَلْقَى الشيطانُ في قُلُوبِ الضُّلاَّلِ ابتداءً مِن جِنسِ ما ألقاهُ في قُلُوبِ أشباهِهِم .
ولما كان في حُدودِ المائةِ الثالثةِ انتشرَتْ هذه المقالةُ التي كان السلَفُ يُسَمُّونَها مقالةَ الجهميةِ بسببِ بِشرِ بنِ غِياثٍ المَرِّيسيِّ وطَبَقَتِه ، وكلامُ الأئمةِ مِثلِ : مالكٍ ، وسفيانَ بنِ عيينةَ ، وابنِ المبارَكِ ، وأبي يُوسُفَ ، والشافعيِّ ، وأحمدَ ، وإسحاقَ ، والفضيلِ بنِ عِياضٍ ، وبِشْرٍ الحافيِّ ، وغيرِهم كثيرٌ في ذَمِّهِم وتضلِيلِهم .
وأهلُ التمثيلِ المشبِّهةُ الذين غَلَوْا في الإثباتِ فقالوا في صفاتِ اللَّهِ : إنها كصفاتِ المخلوقِينَ ، فيقولون : يدٌ كيَدِي ، وسمعٌ كسَمعِي ، ونحوَ ذلك ، كما يُرْوَى عن داودَ الجوارِبيِّ ، وهشامِ بنِ عبدِ الحَكمِ الرافضيِّ ، ويونُسَ بنِ عبدِ الرحمنِ القُمِّيِّ، وهشامٍ الجوالِيقِيِّ .
وقولُهم عَكْسُ قولِ الجهميةِ وكُلٌّ مِن الطائفتَيْنِ قد مَثَّلَ اللَّهَ بخَلْقِه (( فلا يُوجَدُ أحدٌ مِن أهلِ التعطيلِ الجهميةِ وأهلِ التمثيلِ المشبِّهةِ إلاَّ وفيه نوعٌ مِن الشرْكِ العَمَليِّ ؛ إذْ أصْلُ قَولِهم فيه شِرْكٌ ، وتسويةٌ بينَ اللَّهِ وبين خَلْقِه ، أو بَيْنَه وبينَ المَعْدُوماتِ ، كما يُسَوِّي المعطلةُ بينه وبينَ المعدوماتِ في الصفاتِ السَّلْبِيَّةِ التي لا تستَلْزِمُ مَدْحاً ولا ثُبوتَ كمالٍ ، أو يُسَوُّونَ بينه وبين الناقصِ مِن الموجوداتِ في صفاتِ النقْصِ ، وكما يُثْبِتونَ إذا أَثْبَتُوا هم ومَن ضَاهاهُم مِن المُمثِّلَةِ مُساواةً بينه وبين المخلوقاتِ في حقائِقها حتى يَعبدوها ، فيَعدِلون عن ربِّهم ، ويَجعلُون له أنداداً ويُشبِّهونَ المخلوقَ بربِّ العالَمينَ )) .
وأهلُ السُّنَّةِ وسطٌ بين ضَلالتَيْنِ ، فطريقتُهم إثباتُ الأسماءِ والصفاتِ مع نَفْيِ مماثلَةِ المَخْلوقاتِ . ولكنَّ المعطِّلةَ يُلَقِّبونَ أهلَ السُّنَّةِ بألقابٍ يَنْتقِصونَهم بها فيُسَمُّونَهم حَشويةً ومُجسِّمةً ونابتةً . ولقد أحسَنَ مَن قال :
فَإِنْ كَانَ تَجْسِيماً ثُبُوتُ صِفَاتِهِ=فإنِّي بَحَمْدِ اللَّهِ رَاضٍ مُسْلِمُ
(( وأوَّلُ مَن ابتَدعَ لفظَ الحشويةِ المعتزلةُ ، فإنهم يُسَمُّون الجماعةَ والسَّوادَ الأعظَمَ الحَشْوَ ، كما تُسَمِّيهم الرافضةُ الجمهورَ . وحَشْوُ الناسِ هم عمومُ الناسِ وجمهورُهم ، وهم غيرُ الأعيانِ المُتميِّزِينَ ، يُقال : هذا مِن حَشْوِ الناسِ ، كما يُقالُ: هذا مِن جمهورِهم .
وأوَّلُ مَنْ تكلَّم بهذا عمرُو بنُ عُبيدٍ . قال : وكان عبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ حَشْوياً ، فالمعتزِلةُ سَمَّوُا الجماعةَ حَشْواً كما تُسَمِّيهم الرافضةُ الجمهورَ )) .
(( والمقصودُ هنا : أنَّ الأقوالَ التي ليسَ لها أصلٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ كأقوالِ النُّفَاةِ التي تَقُولُها الجهميةُ والمعتزِلةُ وغيرُهم ، وقد يدْخُلُ فيها ما هو حقٌّ وباطلٌ هم يَصِفُونَ بها أهلَ الإثباتِ للصفاتِ الثابتةِ بالنصِّ ، فإنهم يقولونَ : كُلُّ مَن قال : إنَّ القرآنَ غيرُ مخلوقٍ ، وأنَّ اللَّهَ يُرى في الآخرةِ ، أو أنه فوقَ العالَمِ فهو مُجَسِّمٌ مُشبِّهٌ حَشْويٌّ .
وهذه الثلاثةُ مما اتفَقَ عليها سلَفُ الأُمَّةِ وأئمَتُها ، وحكى إجماعَ السُّنَّةِ عليها غيرُ واحدٍ مِن الأئمةِ والعالِمينَ بأقوالِ السلَفِ)).
وقال بعضُ العلماءِ :
فَإنْ كَانَ تَجْسِيماً ثُبُوتُ صِفَاتِهِ=وَتَنْزِيهُهَا عَنْ كُلِّ تَأْوِيلِ مُفْتَرِ
فَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ رَبِّي مُجَسِّمٌ=هَلُمُّوا شُهُوداً وَامْلأُوا كُلَّ مَحْضَرِ
وأهلُ السُّنَّةِ يُؤمِنون بما جاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ مِن أسماءِ اللَّهِ وصفاتِه مِن غيرِ تَكْييفٍ. (( ولمَّا كان أحبَّ الأشياءِ إليه- سبحانه - حَمْدُه ومَدْحُه ، والثناءُ عليه بأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه كان إنكارُها وجَحْدُها أَعْظَمَ الإلحادِ والكُفْرِ به ، وهو شَرٌّ مِن الشِّرْكِ . فالمعطِّلُ شرٌّ مِن المُشْرِكِ ، فإنه لا يستوي جَحْدُ صفاتِ المَلِكِ وحقيقةِ مُلْكِه والطعْنُ في أوصافِه هو والتشريكُ بينه وبين غيرِه في المُلْكِ .
فالمُعطِّلونَ أعداءُ الرسُلِ بالذاتِ . بل كُلُّ شِرْكٍ في العالَمِ فأصْلُه التعطيلُ . فإنه لولا تعطيلُ كمالِه أو بعضِه وظَنِّ السوءِ به لمَا أُشْرِكَ به كما قال إمامُ الحنفاءِ ، وأهلِ التوحيدِ لقولِه ( أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) أيْ فما ظَنُّكُمْ به أنْ يجازِيَكم ، وقد عَبَدْتُم معه غيرَه ؟ وما الذي ظنَنتُم به حتى جَعَلْتم معه شركاءَ ؟ أظننَتْم أنه مُحتاجٌ إلى الشركاءِ والأعوانِ ؟ أَم ظنَنْتُم أنه يَخْفَى عليه شيءٌ مِن أحوالِ عِبادِه حتى يحتاجَ إلى شركاءَ تُعَرِّفُه بها كالمُلوكِ ؟ أمْ ظنَنْتُم أنه لا يَقدِرُ وحده على استقلالِه بتدبيرِهم وقضاءِ حوائجِهم ؟ أمْ هو قاسٍ فيحتاجُ إلى شفعاءَ يستعطِفونَه على عِبادِه ؟ أمْ ذليلٌ فيَحتاجُ إلى ولِيٍّ يَتَكثَّرُ به مِن القِلَّةِ ويَتَعزَّزُ به مِن الذِّلَّةِ ؟ أم يَحْتاجُ إلى الولَدِ ، فيتَّخِذُ صاحبةً يكونُ الولدُ منها ومنه ؟ تعالى اللَّهُ عن ذلك عُلُواًّ كبيراً .
والمقصودُ أنَّ التعطيلَ مبدأُ الشركِ وأساسُه فلا تَجِدُ معطِّلاً إلا وشِركُه على حسَبِ تعطِيلِه فمُستَقِلٌّ ومُستَكْثِرٌ .
والرسلُ مِن أوَّلِهم إلى خاتَمِهم - صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم أجمعين - أُرْسِلوا بالدعوةِ إلى اللَّهِ ، وبيانِ الطريقِ المُوصِلِ إليه ، وبيانِ حالِ المَدْعُوِّينَ بعد وُصولِهم إليه .
فهذه القواعدُ الثلاثُ ضروريةٌ في كُلِّ مِلَّةٍ على لِسانِ كُلِّ رسولٍ ، فقعدَتْ المعطِّلةُ والجهميةُ على رأسِ القاعدةِ الأولى فحَالُوا بينَ القُلُوبِ وبين معرفةِ ربِّها وسَمَّوْا إثباتَ صِفاتِه وعُلُوِّه فوقَ خَلْقِه واستوائِهِ على عرشِه تشبيهاً وتجسيماً وحَشْوًا ، فنَفَّرُوا عنه صبيانَ العقولِ ، وسَمَّوْا نُزولَه إلى سماءِ الدنيا وتكَلُّمَه بمشيئتِه ورضاه بعد غضَبِه ، وغضَبَه بعد رضاه ، وسَمْعَه الحاضرَ لأصواتِ العبادِ ، ورُؤْيتَه المقارِنَةَ لأفعالِهم ونحوَ ذلك حوادِثَ ، وسَمَّوْا وَجْهَه الأعلى ويدَيْه المبسوطتَيْنِ وأصابَعه التي يَضَعُ عليها الخلائقَ يومَ القيامةِ جوارحَ وأعضاءَ مَكْراً منهم وكِبَاراً ))
(( وَهُم وَسَطٌ في بابِ أفعالِ اللَّهِ بين الجَبْريةِ والقَدَريةِ ))
الجَبريةُ: أتباعُ جهمِ بنِ صفوانَ الترمذيِّ ، يقولون : إنَّ العبدَ مَجْبورٌ على فِعلِه وحَرَكاتِه وأفعالُه كُلُّها اضطراريةٌ كحَركاتِ المُرْتَعِشِ والعُروقِ النَّابِضةِ وحَركاتِ الأشجارِ في مَهَبِّ الريحِ ، وإضافَتُها عندهم إلى الخَلْقِ مجازٌ .
ونشَأَ القولُ بالجَبْرِ بعد أنْ حدثَتْ بِدعةُ القدَريةِ النُّفاةِ الذين يقولون : إنَّ أفعالَ العبادِ ليست مخلوقةً لِلَّهِ ، بل العبدُ هو الذي يَخْلُقُ فِعلَه ، ولذا كانوا مَجوسَ هذه الأُمَّةِ .
(( فإنه لما ظهَرَتِ القدَريةُ النُّفاةُ للقَدَرِ ، وأنْكَروا أنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يشاءُ ، ويَهدِي مَن يشاءُ ، وأنْ يكونَ خالِقاً لكُلِّ شيءٍ ، وأنْ تكونَ أفعالُ العبادِ مِن مَخلوقاتِه ، وأنكَرَ الناسُ هذه البدعةَ فصار بعضُهم يقولُ في مُناظَرَتِه: هذا يَلْزَمُ منه أنْ يكونَ اللَّهُ مُجْبِراً للعبادِ على أفعالِهم ، وأنْ يكونَ قد كلَّفَهم ما لا يُطِيقونَه فالتَزَمَ بعضُ مَن ناظَرَهم مِن المُثْبِتةِ إطلاقَ ذلك ، وقال : نعم يَلْزَمُ الجَبْرُ والْجَبْرُ حقٌّ فَأنْكَرَ الأئمةُ كالأوزاعِيِّ وأحمدَ بنِ حنبلٍ ونحوِهما على الطائفتَيْنِ ، ويُروى إنكارُ إطلاقِ الجَبْرِ عن الزُّبَيديِّ ، وسفيانَ الثوريِّ ، وعبدِ الرحمنِ بنِ مَهديٍّ ، وغيرِهم ، وقال الأوزاعيُّ وأحمدُ ونحوُهما مَن قال: إنه جَبْرٌ فقد أخطأَ ، ومَن قال : لم يُجْبَرْ فقد أخْطأَ ، بل يُقالُ : إنَّ اللَّهَ يَهدِي مَن يشاءُ ويُضِلُّ مَن يَشاءُ ونحوُ ذلك .
وقالوا : ليس للجَبْرِ أصلٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ ، وإنما الذي في السُّنَّةِ لفظُ الجَبْلِ لا لفظُ الجَبْرِ ، فإنه قد صَحَّ عن النبيِّ صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال لاِشَجِّ عبدِ القيسِ : " إِنَّ فِيكَ لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ : الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ " فقال : أَخُلُقَيْنِ تخلَّقْتُ بهما أَم خُلُقَيْنِ جُبِلْتُ عليهما ؟ فقال : " بل خُلُقَيْنِ جُبِلْتَ عليهما " فقال : الحمدُ لِلَّهِ الذي جَبَلَنِي على خُلُقَيْنِ يُحِبُّهما اللَّهُ .
وقالوا : إنَّ لفظَ الجبرِ لفظٌ مُجمَلٌ ، فإنَّ الجَبْرَ إذا أُطْلِقَ في الكلامِ فُهِمَ منه إجبارُ الشخصِ على خلافِ مُرادِه كما تقولُ الفقهاءُ : إنَّ الأبَ يُجْبِرُ ابنتَه على النكاحِ أو لا يُجبِرُها ، وأنَّ الثَّيِّبَ البالِغَ العاقِلَ لا يُجْبِرُها أحدٌ على النكاحِ بالاتِّفاقِ، وفي البِكْرِ البالغِ نِزَاعٌ مشهورٌ ويقولون : إنَّ ولِيَّ الأمْرِ يُجْبِرُ المَدينَ على وفاءِ دَيْنِه ، ونحو ذلك , فهذه العباراتُ معناها إجبارُ الشخصِ على خلافِ مُرادِه وهو كلفظِ الإكراهِ . إما أنْ يُحْمَلَ على الفِعلِ الذي يَكرَهُه ويُبْغِضُه فيَعمَلَ خَوفاً مِن وَعيدِه ، وإما أنْ يُفْعَلَ به الشيءُ مِن غيرِ فِعلٍ منه .
ومعلومٌ أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى إذا جَعَلَ في قلبِ العبدِ إرادةً للفِعلِ ومحبةً له حتى يَفعلَه كما قال تعالى :{ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } لم يكن هذا جَبراً بهذا التفسيرِ . ولا يَقدِرُ على ذلك إلا اللَّهُ تعالى فإنه هو الذي جَعَلَ الراضيَ راضياً ، والمُحِبَّ مُحِباًّ ، والكارِهَ كارِهاً ، وقد يُرادُ بالجَبرِ نفْسُ جَعْلِ العبدِ فاعِلاً ونَفْسُ خَلْقِه مُتَّصِفاً بهذه الصفاتِ .
كما في قولِه تعالى ( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ) فالجَبْرُ بهذا التفسيرِ حقٌّ ، ومنه قولُ علِيٍّ رضي اللَّهُ عنه في الأثرِ المشهورِ عنه في الصلاةِ على النبيِّ صلى اللَّه عليه وسلم : اللهم دَاحيَ المَدْحُوَّاتِ، فاطِرَ المَسمُوكاتِ ، جبَّارَ القلوبِ على فِطْرَتِها ، شَقِيِِّها وسَعيدِها . فالأئمةُ منعَتْ مِن إطلاقِ القولِ بإثباتِ لفظِ الجَبْرِ أو نَفْيِه لأنه بدعةٌ يَتناولُ حقاً وباطلاً )) .
((فالقدريةُ حَجَروا على اللَّهِ وألْزَموه شريعةً ، حرَّموا عليه الخروجَ عنها ، وخُصومهُم مِن الجَبْريةِ جوَّزوا عليه كُلَّ فِعلٍ يَتنزَّه سبحانه عنه. إذْ لا يليقُ بغِناه وحَمْدِه وكمالِه ما نزَّه نفْسَه عنه وحَمِدَ نفْسَه بأنه لا يَفعَلُه ، فالطائفتانِ متقابِلتانِ غايةَ التقابُلِ.
والقَدَريةُ أثْبَتوا له حِكمةً وغايةً مطلوبةً مِن أفعالِه حسَبَ ما أثْبَتوه لخَلْقِه .
والجبريةُ نَفَوْا حِكمتَه اللائقةَ به التي لا يُشابِهُه فيها أحدٌ . والقدريةُ قالتْ : إنه لا يُريدُ مِن عِبادِه طاعَتَهم وإيمانَهم ، وإِنه لا يَسألُ ذلك منهم .
والجبريةُ قالت : إنه يُحِبُّ الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ ويرضاه مِن فاعِله .
والقدريةُ قالت : إنه يَجِبُ عليه سبحانه أنْ يفعَلَ بكُلِّ شخصٍ ما هو الأصلح له ، والجبريةُ قالت : إِنه يجوزُ عليه أنْ يعذِّبَ أولياءَه وأهلَ طاعَتِه ومَن لم يُطِعْه قطُّ ، ويُنَعِّمَ أعداءَه ومَن كفَرَ به وأَشْرَك ، ولا فَرْقَ عنده بين هذا وهذا .
وكذلك القدَريةُ قالت : إنه ألقى إلى عبادِه زِمامَ الاختيارِ ، وفوَّضَ إليهم المشيئةَ والإرادةَ ، وإنه لم يخُصَّ أحداً منهم دونَ أحدٍ بتَوفيقٍ ولُطْفٍ ولا هِدايةٍ ، بل ساوَى بينهم في مَقْدُورِه ، ولو قَدَرَ أن يَهدِيَ أحداً ولم يَهْدِه كان بُخْلاً ، وإنه لا يهدي أحداً ولا يُضِلُّه إلا بمعنى البيانِ والإرشادِ ، وأمَّا خَلْقُ الهُدى والضلالِ فهو إليهم ليس إليه .
وقالتِ الجبريةُ : إنه سبحانه أجْبَرَ عبادَه على أفْعالِهم ، بل قالوا : إن أفعالَهم هي نفْسُ أفعالِه ، ولا فِعْلَ لهم في الحقيقةِ ولا قُدرةَ ولا اختيارَ ولا مشيئةَ ، وإنما يعذِّبُهم على ما فَعلَه هو لا على ما فَعلوه ، ونِسبةُ أفعالِهم إليه كحَركاتِ الأشجارِ والمياهِ والجماداتِ ، فالقدريةُ سَلَبُوه قُدْرَته على أفعالِ العبادِ ومَشيئَتَه لها . والجبريةُ جَعَلوا أفعالَ العبادِ نفْسَ أفعالِه ، وأنهم ليسوا فاعِلين لها في الحقيقةِ ولا قادِرينَ عليها ، فالقدريةُ سَلَبَتْه كمالَ مُلكِه ، والجبريةُ سَلَبَتْه كمالَ حِكْمتِه ، والطائفتانِ سلبَتْه كمالَ حَمْدِه .
وأهلُ السُّنَّةِ الوَسَطُ أَثْبَتوا كمالَ المُلْكِ والحَمْدِ والحِكْمةِ ، فوصفوه بالقدرةِ التامَّةِ على كُلِّ شيءٍ مِن الأعيانِ وأفعالِ العبادِ وغيرِهم ، وأَثْبَتوا له الحِكمةَ التامَّةَ في جميعِ خَلْقِه وَأَمْرِه )) .
(( ومُحقِّقو أهلِ السُّنَّةِ يقولون : إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ قُدرةَ العبدِ وإرادَته ، وذلك مستلزمٌ لِحقيقةِ فِعلِ العبدِ . ويقولون : إنَّ العبدَ فاعِلٌ لفِعلِه حقيقةً . واللَّهُ سبحانه جَعلَه فاعِلاً له مُحْدِثاً له ، وهذا قولُ جماهيرِ أهلِ السُّنَّةِ مِن جميعِ الطوائفِ ، وهو قولُ كثيرٍ مِن أصحابِ الأشعريِّ كأبي إسحاقَ الإسفرايينيِّ ، وأبي المعالي الجُوَينيِّ الملقَّبِ بإمامِ الحرمَيْن وغيرِهم ، وإذا كان هذا قولُ مُحقِّقي المعتزلةِ والشيعةِ ، وهو قولُ جمهورِ أهلِ السُّنَّةِ وأئمتِهم .
بَقِي الخلافُ بين القدريةِ الذين يقولون : إنَّ الداعِيَ يَحصُلُ في قلبِ العبدِ بلا مشيئةٍ مِن اللَّهِ ولا قُدرةٍ ، وبين الجهميةِ المُجَبِّرَةِ الذين يقولون : إنَّ قُدرةَ العبدِ لا تأثيرَ لها في فِعلِه بوجهٍ مِن الوجوهِ ، وإِنَّ العبدَ ليس فاعِلاً لفِعلِه كما يقولُ ذلك الجهمُ بنُ صفوانَ إمامُ المُجَبِّرةِ ومَن اتَّبَعَه ، وإن أَثْبتَ أحدُهم كَسْباً لا يُعقَلُ كما أثبته الأشعريُّ ومَن وافَقَه ، وإنْ كان هذا النزاعُ في هذا الأصلِ بين القدريةِ النُّفاةِ لكونِ اللَّهِ يُعِينُ المؤمنينَ على الطاعةِ ، ويَجْعلُ فيهم داعياً إليها ، ويُخلِّصُهم بذلك دون الكافرين ، وبين المُجَبِّرةِ الغُلاةِ الذين يقولون : إنَّ العبادَ لا يفعلونَ شيئاً ولا قُدرةَ لهم على شيءٍ ، أو لهم قُدرةٌ لا يفعلون بها شيئاً ، ولا تأثيرَ لها في شيءٍ ، فكِلا القولَيْنِ باطلٌ مع أنَّ كثيراً مِن الشيعةِ يقولون بقولِ المُجَبِّرةِ .
وأمَّا السلَفُ والأئمةُ القائِلون بإمامةِ الخلفاءِ الثلاثةِ ، فلا يقولون لا بهذا ولا بهذا . ومَن أقَرَّ بالأمرِ والنهيِ ، والوعدِ والوعيدِ ، وفِعلِ الواجباتِ ، وتَرْكِ المحرَّماتِ ، ولم يَقُلْ : إنَّ اللَّهَ خَلَقَ أفعالَ العبادِ ، ولا يَقدِرُ على ذلكَ ، ولا شاء المعاصيَ ، هو قَد قَصدَ تعظيم الأمرِ وتنزيهَ اللَّهِ تعالى عن الظُّلْمِ ، وإقامةَ حُجَّةِ اللَّهِ على نفْسِه لكنْ ضاقَ عطَنُه فلم يُحْسِنِ الجمعَ بين قُدرةِ اللَّهِ التامَّةِ وبين مشيئَتِه العامَّةِ وخَلْقِه الشامِلِ ، وبين عَدْلِه وحِكمَتِه وأمْرِه ونَهْيِه ووعدِه ووعيدِه ، فجَعلَ لِلَّهِ الحمدَ ولم يَجعلْ له تمامَ المُلْكِ .
والذين أَثْبتوا قُدْرَته ومشيئَتَه وخَلْقَه وعارَضوا بذلك أمْرَه ونهْيَه ووَعْدَه ووعيدَه شرٌّ مِن اليهودِ والنَّصارى .
والمُنكِرونَ للقدَرِ وإن كانوا في بدعةٍ فالمُحْتجُّون به على الأمْرِ أَعْظَمُ بدعةً ، وإنْ كان أولئك يُشْبِهونَ المجوسَ فهؤلاء يُشبهونَ المشركينَ المكذِّبينَ للرسُلِ الذين قالوا: { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دِونِهِ من شَيْءٍ ) وقد كان في أواخرِ عصرِ الصحابةِ رضي اللَّه عنهم أجمعين جماعةٌ مِن هؤلاء القَدَريةِ .
وأمَّا المُحْتَجُّون بالقَدَرِ على الأمْرِ فلا يُعرفُ لهم طائفةٌ مِن طوائفِ المسلِمِينَ معروفةٌ ، وإنما كَثُروا في المتأخِّرين وسَمَّوْا هذا حقيقةً وجَعَلوا الحقيقةَ تُعارِضُ الشريعةَ ، ولم يُميِّزوا بين الحقيقةِ الدِّينيةِ الشرْعيةِ التي تتضمَّنُ تحقيقَ أحوالِ القُلوبِ كالإخلاصِ والصَّبْرِ والشُّكْرِ والتوكُّلِ والمَحبةِ لِلَّهِ وبين الحقيقةِ الكوْنيةِ القَدَريةِ التي يُؤمَنُ بها ولا يُحْتَجُّ بها على المعاصي ، لكنْ يُسَلَّمُ إليها عندَ المصائبِ ، فالعارِفُ يَشهَدُ القدَرَ في المصائبِ فيَرْضَى ويُسَلِّمُ ويَستغفِرُ ويتوبُ مِن الذنوبِ والمصائبِ ، كما قال تعالى (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ) فالعبدُ مأمورٌ بأنْ يَصبِرَ على المصائبِ ويستغفرَ مِن المعايبِ .
ومِن هذا البابِ حديثُ احتجاجِ آدمَ وموسى عليهما السلامُ . وقد أخْرَجاه في الصحيحَيْنِ وغيرِهما عن أبي هريرةَ رضي اللَّه عنه ، فإنَّ الحديثَ إنما تضمَّنَ التسليمَ للقدَرِ عندَ المصائبِ ، فإنَّ موسى لم يَلُمْ آدمَ لحقِّ اللَّهِ الذي في الذنْبِ ، وإنما لامه لأجلِ ما لَحِقَ الذُّرِّيَّةَ مِن المصيبةِ . فإنَّ آدَمَ كان قد تابَ مِن الذنْبِ وموسى أعْلَمُ باللَّه مِن أنْ يَلومَ تائِباً . وأيضاً فآدمُ وموسى أعْلَمُ باللَّهِ مِن أنْ يَحتَّجَّ أحدُهما على الذنْبِ بالقدَرِ ويقبَلَه الآخرُ ، فإنَّ هذا لو كان مَقبولاً لَكان لإبليسَ الحُجَّةُ بذلك . والخَائِضُونَ فِي القَدَرِ بِالبَاطِلِ ثَلاثةُ أَصْنافٍ : المُكَذِّبونَ بِه ، والدَّافِعونَ لِلأمْرِ والنَّهْيِ ، والطَّاعِنونَ عَلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ بِجَمْعِهِ بَيْنَ الأَمْرِ وَالْقَدَرِ ، وَهؤلاءِ شَرُّ الطَّوائِفِ وَحُكِيَ فِي ذَلِك مُنَاظرَةٌ عَنْ إبْلِيسَ ، والدَّافِعونَ لِلأمْرِ بِه بَعْدَهمْ فِي الشَّرِّ وَالمُكَذِّبونَ بِه بَعْدَ هَؤلاءِ .
وَلَيْسَ فِي المُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالى يَفْعَلُ مَا هُوَ قَبِيحٌ مِنْهُ وَمَنْ قَال : إنَّهُ خَالِقُ أَفْعالِ العِبَادِ يقُولُ : أنَّ ذَلِك الفِعْلَ القَبِيحَ مِنْهُمْ لا مِنْهُ ، كَمَا أنَّهُ صَارَ لَهُمْ لا لَهُ ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ فَاعِلُ ذَلِك الفِعْلِ ، وَالأكْثَرُونَ يقُولُونَ إنَّ ذَلِك الفِعْلَ مَفْعُولٌ لَهُ وَهُو فِعْلٌ لِلعَبْدِ . فَمَنْ قالَ : إذَا خَلَقَ اللَّهُ مَا هُو ضَارٌّ لِلعِبَادِ جازَ أنْ يَفْعَلَ مَا هُو ضَارٌّ كانَ قَوْلُه باطِلا . كذَلِك إذَا جازَ أنْ يَخْلُقَ فِعْلَ العَبْدِ الَّذِي هُوَ قَبِيحٌ مِنَ العَبْدِ لَيْسَ خَلْقُه قَبِيحًا مِنْهُ لَمْ يَسْتلزِمْ أنْ يَخْلُقَ مَا هُو قَبِيحٌ مِنْهُ لا فِعْلَ لِلعَبدِ فِيه .
وَالمُثْبِتونَ لِلقَدَرِ لَهُمْ فِي قُدْرَةِ العَبْدِ قَوْلانِ :
( أحَدُهُما ) أنَّ قُدْرَتَه لا تَكُونُ إلا معَ الفِعْلِ وعَلَى هَذا فالكَافِرُ الَّذِي سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أنَّه لا يُؤْمِنُ لا يَقْدِرُ عَلَى الإيمَانِ أَبَدا .
( والثَّانِي ) أنَّ القُدْرَةَ نَوْعانِ فَالقُدْرَةُ المَشْرُوطةُ فِي التَّكْلِيفِ تكُونُ قَبْلَ الفِعْلِ وَبِدُونِ الفِعْلِ وقَدْ تَبْقَى إلَى حِينِ الفِعْلِ والقُدْرَةُ المُسْتَلْزِمَةُ لِلفِعْلِ لا بُدَّ أنْ تكُونَ مَوْجودَةً عِنْدَ وُجُودِهِ ، وَأَصْلُ قَوْلِهِمْ : إنَّ اللَّهَ خَصَّ المُؤمِنِينَ بِنِعْمَةٍ يَهْتَدونَ بِهَا لَمْ يُعْطِهَا الكَافِرَ ، وأنَّ العَبْدَ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ قادِرًا حِينَ الفِعْلِ خِلافا لِمَنْ زَعَمَ أنَّه لا يَكُونُ قادِرًا إلا قَبْلَ الفِعْلِ ، وأنَّ النِعْمَةَ علَى الكافِرِ والمُؤْمِنِ سَواءٌ . وإذَا كانَ لا بُدَّ مِنْ قُدْرَةٍ حَالَ الفِعْلِ ، فإذَا كانَ قادِرًا قَبْلَ الفِعْلِ وبَقِيَت القُدْرَةُ إلَى حِينِ الفِعْلِ لَمْ يَنْقُضْ هذَا أَصْلَهُمْ ، لكِنْ مُجَرَّدُ القُدْرَةِ الصَّالِحَةِ لِلضِّدَّيْنِ يَشْتَرِكُ فِيهَا المُؤْمِنُ والكافِرُ فَلا بُدَّ لِلمُؤمِنِ مَا يَخُصُّهُ اللَّهُ بِه مِنَ الأسْبَابِ الَّتِي بِها يَكُونُ مُؤمِنًا ، وهَذا يَدخُلُ فِيه إرَادةُ الإيمَانِ وهَذِه الإرَادَةُ يُدْخِلُونها فِي جُمْلَةِ القُدْرةِ المُقَارِنةِ لِلفِعْلِ ، وهُو نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ ، وَتَكلِيفُ مَا لا يُطَاقُ علَى وَجْهَيْنِ :
الأوَّلُ : مَا لا يُطَاقُ لِلعَجْزِ عنْهُ كتَكْلِيفِ الزَّمِنِ المَشْيَ وتَكلِيفِ الإنْسَانِ الطَّيَرَانَ وَنَحْوِهِ ، فَهَذا غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أهْلِ السُّنَّةِ المُثْبِتِينَ لِلقَدَرِ .
والثَّانِي : مَا لا يُطَاقُ لِلاشْتِغَالِ بِضِدِّهِ كاشتِغَالِ الكافِرِ بِالكُفْرِ فإنَّه هُو الَّذِي صَدَّه عَن الإيمَانِ وكالقَاعِدِ فِي حَالِ قُعُودِهِ ، فإنَّ اشتِغَالَهُ بِالقُعُودِ يَمنَعُهُ أنْ يكُونَ قائِمًا ، والإرَادَةُ الجازِمَةُ لأَحَدِ الضِّدَّيْنِ تُنَافِي إرادَةَ الضِّدِّ الآخَرِ ، وتَكلِيفُ الكافِرِ الإيمَانَ مِنْ هَذا البَابِ ، ومِثْلُ هَذا لَيْسَ بِقَبِيحٍ عَقْلا عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلاءِ ، بَلِ العُقَلاءُ مُتَّفِقونَ علَى أمْرِ الإنسَانِ وَنَهْيِهِ بمَا لا يَقْدِرُ علَيْهِ حَالَ الأمْرِ والنَّهْيِ لاشتِغَالِهِ بِضِدِّهِ إذَا أمْكَنَ أنْ يَتْرُكَ ذَلِك الضِّدَّ ويَفْعَلَ الضِّدَّ المَأْمُورَ بِه ، وإنَّمَا النِّزَاعُ هَلْ يُسَمَّى هَذا تَكلِيفَ مَا لا يُطَاقُ لِكَوْنِهِ تَكلِيفًا بِمَا انتَفَتْ فِيه القُدْرَةُ المُقَارِنَةُ لِلفِعْلِ ؟
فَمِنَ المُثْبِتِينَ لِلقَدَرِ مَنْ يُدْخِلُ هَذا فِي تَكْلِيفِ مَا لا يُطَاقُ كَمَا يَقُولُهُ القَاضِي أبُو بَكْرٍ والقَاضِي أبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُما ، وَيَقُولُونَ مَا لا يُطَاقُ علَى وَجْهَيْنِ مِنْهُ مَا لا يُطَاقُ لِلعَجْزِ عَنْهُ ، ومَا لا يُطَاقُ لِلاشتِغَالِ بِضِدِّهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هَذا لا يَدْخُلُ فِيمَا لا يُطَاقُ وهَذا هُوَ الأشْبَهُ بِمَا فِي الكِتَابِ والسُّنَّةِ وكَلامِ السَّلَفِ ، ولَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمَأمُورِ بِه أنْ يكُونَ العَبْدُ مُريدا لَهُ ، ولا مِنْ شَرْطِ المَنْهِيِّ عَنْهُ أنْ يكُونَ العَبْدُ كارِهًا لَهُ فإنَّ الفِعْلَ يَتَوقَّفُ علَى القُدْرةِ والإرَادَةِ ، الَمْشُرُوطُ فِي التكْلِيفِ أنْ يكُونَ العَبْدُ قادِرًا علَى الفِعْلِ لا أنْ يكُونَ مُرِيدًا لَهُ ، لَكِنَّهُ لا يُوجَدُ إلا إذَا كانَ مُرِيدًا لَهُ ، والإرَادَةُ شَرْطٌ فِي وُجُودِهِ لا فِي وُجُوبِهِ .
وجُمْهُورُ أهْلِ الإثْبَاتِ علَى أنَّ العَبْدَ فاعِلٌ لِفِعْلِه حَقِيقَةً ، ولَهُ قُدْرةٌ واختِيَارٌ وقُدْرَتُهُ مُؤَثِّرةٌ فِي مَقْدُورِها كَمَا تُؤَثِّرُ القُوَى والطَّبَائِعُ وغَيْرُ ذَلِك مِنَ الشُّرُوطِ والأسْبَابِ . وبِالجُمْلَةِ فَجُمْهُورُ أهْلِ السُّنَّةِ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ يقُولُونَ : إنَّ العَبْدَ لَهُ قُدْرَةٌ وإرَادَةٌ وفِعْلٌ وهُوَ فاعِلٌ حَقِيقَةً واللَّهُ خَالِقُ كُلِّ ذَلِك كُلِّهِ ، كَمَا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا دَلَّ علَى ذَلِك الكِتَابُ والسُّنَّةُ، قالَ تَعَالى : (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) فأَثْبَتَتْ مَشِيئةَ العَبْدِ وأَخْبَرَ أنَّها لا تكُونُ إلا بِمَشيئَةِ الرَّبِّ تَعَالى . وقَدْ أَخْبَرَ أنَّ العِبَادَ يفْعَلُونَ ويَصْنَعونَ ويَعْمَلونَ ويُؤمِنُونَ ويَكْفُرونَ ويَتَّقُونَ ويَفْسُقُونَ ويَصْدُقونَ ويَكْذِبونَ فِي مَوَاضِعَ ، وأَخْبَرَ أنَّ لَهُم استِطَاعَةً وقُوَّةً فِي غَيْرِ مَوضِعٍ . وأئِمَّةُ أهْلِ السُّنَّةِ وجُمهُورُهم يقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ خَلَقَ هَذَا كُلَّهُ ، والخَلْقُ عِنْدَهم لَيْسَ هُوَ المَخْلُوقَ ، فَيُفَرِّقونَ بَيْنَ كَوْنِ أفْعَالِ العِبَادِ مَخْلوقَةً مَفْعولَةً لِلرَّبِّ وبَيْنَ أنْ تكُونَ نَفْسَ فِعْلِهِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ فَعَلَ يَفْعَلُ فِعْلا ، فَإنَّها فِعْلٌ لِلعَبْدِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ ولَيْسَت فِعْلا لِلرَّبِّ تَعَالى بِهَذا الاعْتِبَارِ ، بَلْ هِيَ مَفْعُولةٌ لَهُ والرَّبُّ تَعَالى لا يَتَّصِفُ بِمَفْعُولاتِهِ ولَكنَّ هَذِه الشَّنَاعاتِ لَزِمَتْ مَنْ لا يُفَرِّقُ بَيْنَ فِعْلِ الرَّبِّ ومَفْعُولِهِ ويقُولُ مَع ذَلِك : إنَّ أفْعَالَ العِبَادِ فِعْلُ اللَّهِ كَمَا يقُولُ ذَلِك الجَهْمُ بنُ صَفْوانَ ومُوَافِقُوه والأشْعَرِيُّ وأتْبَاعُه ومَنْ وافَقَهم مِنْ أتْبَاعِ الأئَمَّةِ . وكَذَلِك أيْضًا لَزِمَتْ مَنْ لا يُثْبِتُ في المَخْلوقاتِ أسْبَابًا وَقُوًى وطَبَائِعَ ، ويَقُولونَ : إنَّ اللَّهَ يَفعَلُ عِنْدَها لا بِهَا ، فَيَلْزَمُ أنْ لا يَكُونَ فَرْقٌ بَيْنَ القَادِرِ والعاجِزِ . وإنْ أَثْبَتَ قُدْرَةً وقَال إنَّها مُقْتَرِنَةٌ بالكَسْبِ ، قِيلَ لَهُ : لَمْ تُثْبِتْ فَرْقًا مُعَوَّلا بَيْنَ مَا تُثْبِتُهُ مِنَ الكَسْبِ وَتَنْفِيه مِنَ الفِعْلِ ولا بَيْنَ القَادِرِ والعَاجِزِ ، وإذَا كانَ مُجَرَّدُ الاقْتِرَانِ لا اختِصَاصَ لَهُ بالقُدْرَةِ فإنَّ فِعْلَ العَبْدِ يُقَارِنُ حَيَاتَهُ وعِلْمَهُ وإرَادَتَه وَغَيْرَ ذَلِك مِنْ صِفَاتِه ، فإذَا لَمْ يَكُنْ لِلقُدرَةِ تَأثِيرٌ إلا مُجَرَّدَ الاقْتِرَانِ فَلا فَرْقَ بَيْنَ القُدْرَةِ وغَيْرِها . وكَذَلِك قَوْلُ مَنْ قَال : القُدْرَةُ مُؤَثِّرَةٌ فِي صِفَةِ الفِعْلِ لا فِي أصْلِه كَمَا يقُولُ القَاضِي أبُو بَكْرٍ وَمَنْ وافَقَه ، فإنَّه أَثْبَتَ تأثِيرًا بِدُونِ خَلْقِ الرَّبِّ فَلِزَمَ أنْ يكُونَ بَعْضُ الحَوادِثِ لَمْ يَخْلُقْه اللَّهُ تَعَالى ، وإنْ جُعِلَ ذَلِك مُعَلَّقا بِخَلْقِ الرَّبِّ فَلا فَرْقَ بَيْنَ الأصْلِ والصِّفَةِ وأمَّا أئِمَّةُ السُّنَّةِ وَجُمْهُورُهم فيَقُولُون مَا دَلَّ عَلَيْه الشَّرْعُ والعَقْلُ . قَال تَعَالى : (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) وقَال : (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) وَمِثْلُ هَذا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ والسُّنَّةِ يُخْبِرُ اللَّهُ تَعَالى أنَّهُ يُحْدِثُ الحَوَادِثَ بالأسْبَابِ ، وكَذَلك دَلَّ الكِتَابُ والسُّنَّةُ علَى إثْبَاتِ القُوَى والطَّبَائِعِ الَّتِي جَعَلَها اللَّهُ فِي الحَيَوانِ وغَيْرِه كَمَا قَال تَعَالى : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ومِثْلُ هَذا كَثِيرٌ . وهَؤلاءِ يُثْبِتُونَ لِلعَبْدِ قُدْرَةً ويَقُولُون : إنَّ تأثِيرَها فِي مَقْدُورِها كتَأثِيرِ سائِرِ الأشْيَاءِ فِي مُسَبَّبَاتِها . والسَّبَبُ لَيْسَ مُسْتَقِلاًّ بالمُسَبَّبِ بَلْ يَفْتَقِرُ إلَى مَا يُعَاوِنُهُ ، فكَذَلك قُدْرَةُ العَبْدِ لَيْسَت مُسْتَقِلَّةً بالمَقْدُورِ . وأَيْضا فالسَّبَبُ لَهُ مَا يَمْنَعُهُ ويَعُوقُه وكَذَلك قُدْرَةُ العَبْدِ واللَّهُ تَعَالى خَالِقُ السَّبَبِ ومَا يَمْنَعُهُ ، وصَارِفٌ عَنْه مَا يُعَارِضُه ويَعُوقُه وكَذَلك قُدْرَةُ العَبْدِ .
وفِي بَابِ وَعِيدِ اللَّهِ بَيْنَ المُرْجِئَةِ والوَعِيدِيَّةِ مِنَ القَدَرِيَّةِ وغَيْرِهِم ، وفِي بَابِ أسمَاءِ الإيمَانِ والدِّينِ بَيْنَ الحَرُورِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ وبَيْنَ المُرْجِئَةِ والجَهْمِيَّةِ) .
قَال القَسْطَلانِيُّ : المُرْجِئَةُ نِسْبَةٌ إلَى الإرْجَاءِ أيِ التَّأْخِيرِ ؛ لاِنَّهُمْ أَخَّرُوا الأعْمَالَ عَنِ الإيمَانِ حيْثُ زَعَمُوا أنَّ مُرْتَكِبَ الكَبِيرَةِ غَيْرُ فَاسِقٍ ا.ه . وقَالوا : لا يَضُرُّ مَع الإيمَانِ ذَنْبٌ كمَا لا يَنْفَعُ مَع الكُفْرِ طَاعَةٌ . فعِنْدَهُم أنَّ الأعْمَالَ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الإيمَانِ وأنَّ الإيمَانَ لا يَتَبَعَّضُ ، وأنَّ مُرْتَكِبَ الكَبِيرَةِ كامِلُ الإيمَانِ غَيْرُ مُعَرَّضٍ لِلوَعِيدِ .
(وسُمِّيَت المُرْجِئَةَ لِنَفْيِهِم الإرْجَاءَ وأنَّه لا أَحَدَ مُرْجَأٌ لاِمْرِ اللَّهِ إمَّا يُعَذِّبُهُم وإمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِم ، وقَدْ تُسَمَّى الجَبْرِيَّةُ قَدَرِيَّةً ؛ لاِنَّهُمْ غَلَوْا فِي إثبَاتِ القَدَرِ ، وكَمَا يُسَمَّى الَّذِينَ لا يَجْزِمُونَ بِشَيءٍ مِنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ بَلْ يَغْلُونَ فِي إرْجَاءِ كُلِّ أمْرٍ ، حَتَّى الأنْوَاعِ فَلا يَجْزِمُونَ بِثَوَابِ مَنْ تَابَ كَمَا لا يَجْزِمُونَ بِعُقُوبَةِ مَنْ لَمْ يَتُبْ وكَمَا لا يُجْزَمُ لِمُعَيَّنٍ . وكَانَتِ المُرْجِئَةُ الأُولَى يُرْجِئونَ عُثْمانَ وَعَلِيًّا ولاَ يَشْهَدُونَ بِإيمَانٍ ولاَ كُفْرٍ) .
والوَعِيدِيَّةُ القَائِلُونَ بِإنفَاذِ الوَعِيدِ وأنَّ مُرْتَكِبَ الكَبِيرَةِ إذَا مَاتَ ولَمْ يَتُبْ مِنْها هُو خَالِدٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ . وهَذا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ المُعْتَزِلَةِ وهُو مَذْهَبُ الخَوَارِجِ ، قَالُوا : لاِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعَادَ وقَدْ تَوَعَّدَ العَاصِينَ بِالعِقَابِ ، فلَوْ قِيلَ : إنَّ المُتَوَعَّدَ بِالنَّارِ لا يَدْخُلُها لَكَانَ تَكْذِيبًا لِخَبَرِ اللَّهِ . وأهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فَعِنْدَهُم أنَّ مُرتَكِبَ الكَبِيرَةِ آثِمٌ ومُعَرَّضٌ لِلْوَعِيدِ ، وهُو تَحْتَ المَشِيئَةِ إنْ شاءَ اللَّهُ غَفَرَ لَهُ وإنْ شاءَ عَذَّبَه بِقَدْرِ ذُنُوبِهِ ثُمَّ أدْخَلَه الجَنَّةَ إمَّا بشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ أوْ بِغَيْرِ ذَلِك ، كَمَا قَالَ تَعَالى : (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) قَالُوا : وإخْلافُ الوَعِيدِ كَرَمٌ يُمْدَحُ بِه بِخِلافِ إخلافِ الوَعْدِ : كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
وإنِّي وإنْ أوْعَدْتُه أوْ وَعَدْتُه=لَمُخْلِفُ إيعَادِي ومُنْجِزُ مَوْعِدِي
وَالحَرُورِيَّةُ نِسْبَةٌ إلَى قَرْيَةِ حَرُورَاءَ ، وهِيَ الَّتِي اجْتَمَعَ فِيها الخَوَارِجُ حِينَ خَرَجُوا علَى عَلِيٍّ ، فَسُمِّيَت خَوَارِجَ حَرُورَاءَ ، قَالَ ابنُ الأثِيرِ فِي النِّهَايَةِ :
الحَرُورِيَّةُ طَائِفَةٌ مِنَ الخَوَارِجِ نِسْبَةً إلَى حَرُورَاءَ بِالْمَدِّ والقَصْرِ ، وهُو مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنَ الكُوفَةِ وكَانَ أوَّلُ مُجْتَمَعِهِم وتَحْكِيمِهِم فِيها وهُم أحَدُ الخَوَارِجِ الَّذِينَ قَاتَلَهُم عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه .
(والْمُعْتَزِلَةُ هُم أتْبَاعُ عَمْرِو بنِ عُبَيْدٍ ووَاصِلِ بنِ عَطَاءٍ وأصْحَابِهِما ، سُمُّوا بِذَلِك لَمَّا اعْتَزَلُوا الجَمَاعَةَ بَعْدَ مَوْتِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ رَحِمَه اللَّهُ فِي أوَائِلِ المِائَةِ الثَّانِيَةِ ، وكَانُوا يَجْلِسونَ مُعْتَزِلِينَ فيَقُولُ قَتَادَةُ وغَيْرُه : أُولَئِك المُعْتَزِلَةُ . ويُقَالُ إنَّ واصِلَ بنَ عَطَاءٍ هُو الَّذِي وَضَعَ أُصولَ مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ وتَابَعَه عَمْرُو بنُ عُبَيْدٍ تِلْميذُ الحَسَنِ البَصْرِيِّ ، فَلَمَّا كانَ زَمَنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ صَنَّفَ لَهُم أبُو الهُذَيْلِ كِتَابَيْنِ وبَنَى مَذْهَبَهُم علَى الأُصولِ الخَمْسَةِ الَّتِي سَمَّوْها : العَدْلَ ، والتَّوْحِيدَ وإنْفَاذَ الوَعِيدِ ، والمَنْزِلَةَ بَيْنَ المَنْزِلَتَيْنِ ، والأمْرَ بالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ ، ولَبَسُوا فِيها الحَقَّ بالبَاطِلِ) وقَدِ اختُلِفَ فِي مُرْتَكِبِ الكَبِيرَةِ مِنْ أهْلِ القِبْلَةِ فِي الاسْمِ والحُكْمِ ، فقَالَت الخَوَارِجُ : هُو كافِرٌ ومُخَلَّدٌ فِي النَّارِ . ووَافَقَت المُعْتَزِلَةُ علَى القَوْلِ بِتَخْلِيدِهِ فِي النَّارِ ، وخَالَفُوا فِي تَسْمِيَتِه كافِرًا وقَالُوا : هُو فاسِقٌ وهُو فِي مَنْزِلَةٍ بَيْنَ الإيمَانِ والكُفْرِ .
وأمَّا المُرْجِئَةُ ورَئِيسُهُم الجَهْمُ بنُ صَفْوانَ فَقَالُوا فِي مُرْتَكِبِ الكَبِيرَةِ إنَّه مُؤْمِنٌ كامِلُ الإيمَانِ . وكَذَلِك قَالَ الجَهْمِيَّةُ . فالجَهْمُ قَدِ ابتَدَعَ التَّعْطِيلَ والجَبْرَ والإرْجَاءَ كَمَا قَالَ العَلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ :
جَبْرٌ وإرْجَاءٌ وجِيمُ تَجَهُّمٍ=فتَأَمَّلِ المَجْمُوعَ فِي المِيزَانِ
والجَهْمُ أصَّلَهَا جَمِيعا فَاغْتَدَتْ=مَقْسُومَةً فِي النَّاسِ بِالمِيزَانِ
وأمَّا أهْلُ السُّنَّةِ فَقَدْ تَوَسَّطُوا بَيْنَ فِرَقِ الضَّلالِ . فقَالُوا : إنَّ مُرْتَكِبَ الكَبِيرَةِ عَاصٍ بِكَبِيرَتِهِ ويُسَمَّى فاسِقًا ولا يُسَمَّى كافِرًا بَلْ يَقُولُونَ هُو مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الإيمَانِ ، أوْ مُؤمِنٌ بِإيمَانِه فاسِقٌ بِكَبِيرَتِه وهُو تَحْتَ المَشِيئَةِ فحَاصِلُ النِّزَاعِ فِي هَذِه المَسْألَةِ أنَّ (( الخَوَارِجَ والمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ : صَاحِبُ الكَبَائِرِ الَّذِي لَمْ يَتُبْ مِنْها مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ لَيْسَ مَعَه شَيءٌ مِنَ الإيمَانِ . ثُمَّ الخَوَارِجُ تَقُولُ : هُو كافِرٌ والمُعْتَزِلَةُ تُوَافِقُهُم علَى الحُكْمِ لا علَى الاسْمِ والمُرْجِئةُ تَقُولُ : هُو مُؤمِنٌ تَامُّ الإيمَانِ لا نَقْصَ فِي إيمَانِه بَلْ إيمَانُه كَإيمَانِ الأنبِيَاءِ والأولِيَاءِ .
وهَذَا نِزَاعٌ فِي الاسْمِ ثُمَّ تَقُولُ فُقَهَاؤهُم مَا تَقُولُه الجَمَاعَةُ فِي أهْلِ الكَبَائِرِ ، فِيهِم مَنْ يَدخُلُ النَّارَ ، وفِيهِم مَنْ لا يَدْخُلُ كَمَا دَلَّتْ علَى ذَلِك الأحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ واتَّفَقَ عَلَيْه الصَّحَابَةُ والتَّابِعُونَ لَهُم بِإحسَانٍ فَهؤلاءِ لا يُنَازِعُونَ أهْلَ السُّنَّةِ والحَدِيثِ فِي الآخِرَةِِ ، وإنَّمَا يُنَازِعُونَهم فِي الاسْمِ ويُنَازِعُونَ أيْضًا فِيمَنْ قَالَ ولَمْ يَفْعَلْ . وكَثِيرٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ المُرْجِئةِ تَقُولُ : لا نَعْلَمُ أنَّ أحَدًا مِنْ أهْلِ القِبْلَةِ مِنْ أهْلِ الكَبَائِرِ يَدْخُلُ النَّارَ ولا أنَّ أحَدًا مِنْهُم لا يَدْخُلُها ، بَلْ يُجَوِّزُ أنْ يَدْخُلَها جَمِيعُ الفُسَّاقِ ويُجَوِّزُ أنْ لا يَدْخُلَها أحَدٌ مِنْهُم ويُجَوِّزُ دُخُولَ بَعْضِهِم . ويَقُولُونَ مَنْ أذْنَبَ وتَابَ لا يُقْطَعُ بِقَبُولِ تَوْبَتِه ، بَلْ يَجُوزُ أنْ يَدْخُلَ النَّارَ أيْضًا فَهُم يَقِفُونَ فِي هَذَا كُلِّه . ولِهَذا سُمُّوا الوَاقِفَةَ . وهَذَا قَوْلُ القَاضِي أبِي بَكْرٍ وغَيْرِه مِنَ الأشْعَرِيَّةِ وغَيْرِهِم فيَحْتَجُّ أولَئِك بِنُصُوصِ الوَعِيدِ وعُمُومِها ويُعَارِضُهم هَؤلاءِ بِنُصوصِ الوَعْدِ وعُمُومِها فَقَالَ أُولئكَ الفُسَّاقُ لا يَدْخُلونَ فِي الوَعْدِ ؛ لأنَّه لا حَسَنَات لَهُم لأنَّهُم لَمْ يَكُونُوا مِنَ المُتَّقِينَِ وقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالى ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) وقَالَ ( لاتُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى ) وقَالَ ( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) فَهَذِه النُّصوصُ وغَيْرُها تَدُلُّ علَى أنَّ المَاضِيَ مِنَ العَمَلِ قَدْ يَحْبَطُ بِالسَّيِّئاتِ وأنَّ العَمَلَ لا يُقْبَلُ إلا مَع التَّقْوَى ، والوَعْدُ إنَّمَا هُو لِلمُؤْمِنِ وهَؤلاءِ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِه : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) وَقَالَ : ( أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ ) والفَاسِقُ لَيْسَ بِمُؤمِنٍ فلا يَتَناوَلُه الوَعْدُ . وقَوْلِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسَلَّمَ: " مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ، ومَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا " ونَحْوِ ذَلِك .
وتَقُولُ المُرْجِئَةُ : الأعْمَالُ لا تَحْبَطُ إلا بِالكُفْرِ قَالَ تَعَالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وقَالَ (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) ويَقُولُونَ قَالَ اللَّهُ (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) فَقَدْ أَخْبَرَ أنَّ الثَّلاثَةَ يَدْخُلونَ الجَنَّةَ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ غُلاةِ المُرْجِئَةِ : أنَّ أحَدًا مِنْ أهْلِ التَّوْحِيدِ لا يَدْخُلُ النَّارَ وهَذَا لا أَعْرِفُ بِه قَائِلا مُعَيَّنًا فَأَحْكِيه عَنْه . ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْكِيهِ عَنْ مُقَاتِلِ بنِ سُلَيْمَانَ والظَّاهِرُ أنَّه غَلَطٌ عَلَيْه . وعِنْدَ الجَهْمِيَّةِ : الإيمَانُ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ بِالقَلْبِ وعِلْمِه . هَذَا قَوْلُ جَهْمٍ والصَّالِحِيِّ والأشْعَرِيِّ فِي المَشْهُورِ عَنْه وأَكْثَرِ أصْحَابِهِ . وعِنْدَ فُقَهَاءِ المُرْجِئَةِ : هُو قَوْلُ اللِّسَانِ مَع تَصْدِيقِ القَلْبِ وعَلَى القَوْلَيْنِ أعْمَالُ القُلُوبِ لَيْسَتْ مِنَ الإيمَانِ عِنْدَهُم كَأعْمَالِ الخَوَارِجِ فَيُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُصَدِّقًا بِقَلْبِه ولِسَانِه مَع كَرَاهَةِ مَا نَزَّلَ اللَّهُ . وحِينَئِذٍ فَلا يَكُونُ هذَا كافِرًا عِنْدَهم . وأهْلُ السُّنَّةِ والحَدِيثِ وأئِمَّةُ الإسْلامِ المُتَّبِعونَ لِلصَّحَابَةِ مُتَوَسِّطونَ بَيْنَ هَؤلاءِ وهَؤلاءِ لا يَقُولُونَ بِتَخْلِيدِ أحَدٍ مِنْ أهْلِ القَبْلة فِي النَّارِ كَمَا تَقُولُه الخَوَارِجُ والمُعْتَزِلَةُ لِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم مِنَ الأحَادِيثِ الصَّحِيحةِ أنَّه يَخْرُجُ مِنْها مَنْ كانَ فِي قَلْبِه مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وإخْرَاجُهُ مِنَ النَّارِ مَنْ يَخْرُجُ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا صلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسَلَّم فِي مَنْ يَشْفَعُ لَهُ مِنْ أهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِه .
وَهَذه أحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ بِالحَدِيثِ .
فَهَذِه مَذَاهِبُ الجَهْمِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ والقَدَرِيَّةِ فِي الأسْمَاءِ والصِّفَاتِ وفِي أفْعَالِ اللَّهِ وفِي حُكْمِ العُصَاةِ مِنْ أهْلِ التَّوْحِيدِ . وكَثِيرٌ مِنْ أهْلِ البِدَعِ مَنْ يَكُونُ عِنْدَه بِدَعٌ شَتَّى كالجَهْمِيَّةِ والشِّيعَةِ والقَدَرِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ .
وأهْلُ السُّنَّةِ هُم المُهْتَدونَ المُتَّبِعونَ لِلكِتَابِ والسُّنَّةِ وآثَارِ السَّلَفِ الصَّالِحِ . فإنَّ بِدْعَةَ الخَوَارِجِ حَدَثَتْ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسَلَّم وكَلَّمَه رَئِيسُهُم ذُو الخُوَيْصِرَةِ فَقَال : اعدِلْ يَا مُحَمَّدُ ، فَقَال النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسَلَّم : " وَيْلَكَ ! مَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ ؟ " وأمَرَ بِقِتَالِهم فِي أحَادِيثَ مَشْهُورَةٍ ومَعْرُوفَةٍ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ . وقَاتَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الخَوَارِجَ فِي مَوْقِعَةِ النَّهْرَوَانِ . ثُمَّ حَدَثَتْ بِدْعَةُ المُعْتَزِلَةِ ) .
(وأَمَّا الجَهْمِيَّةُ نُفَاةُ الأسْمَاءِ والصِّفَاتِ فَإنَّمَا حَدَثُوا فِي أوَاخِرِ الدَّوْلَةِ الأُمَوِيَّةِ ) .
وكَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ لَمْ يُدْخِلْهُم فِي الثِّنْتَيْنِ وسَبْعِينَ فِرْقَةً مِنْهُم يُوسُفُ بنُ أسْبَاطٍ وعَبْدُ اللَّهِ بنُ مُبَارَكٍ قَالُوا : أصُولُ البِدَعِ أرْبَعَةٌ : الخَوَارِجُ والشِّيعَةُ والقَدَرِيَّةُ والمُرْجِئَةُ فَقِيلَ لَهُم الجَهْمِيَّةُ ؟ فَقَالُوا لَيْسَ هَؤلاءِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ . ولِهَذا تَنَازَعَ مَنْ بَعْدَهُم مِنْ أصحَابِ أحْمَدَ وغَيْرِهِم هَلْ هُمْ مِنَ الثِّنْتَيْنِ والسَّبْعِينَ فِرْقَةً علَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُما عَنْ أصْحَابِ أحْمَدَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ بنُ حامِدٍ فِي كِتَابِه فِي الأُصُولِ . والتَّحْقِيقُ أنَّ التَّجَهُّمَ المَحْض وهُو نَفْيُ الأسْمَاءِ والصِّفَاتِ كَمَا يُحْكَى عَنْ جَهْمٍ والغَالِيَّةِ مِنَ المَلاحِدَةِ ونَحْوِهِم مِنْ نَفْيِ أسْمَاءِ اللَّهِ الحُسْنَى كُفْرٌ بَيِّنٌ مُخَالِفٌ لِمَا عُلِمَ بالاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ .
أمَّا نَفْيُ الصِّفَاتِ مَع إثبَاتِ الأسْمَاءِ كقَوْلِ المُعْتَزِلَةِ فَهُو دُونَ هَذا لَكِنَّه عَظِيمٌ أيْضًا . وأمَّا مَنْ أثْبَتَ الصِّفَاتِ المَعْلُومَةَ بِالعَقْلِ والسَّمْعِ وإنَّما نَازَعَ فِي قِيَامِ الأمُورِ الاخْتِيَارِيَّةِ كَابنِ كُلاَّبٍ ومَنِ اتَّبَعَه فَهَؤلاءِ لَيْسُوا جَهْمِيَّةً بَلْ وافَقُوا جَهْمًا فِي بَعْضِ قَوْلِه وإنْ كَانُوا خَالَفُوه فِي بَعْضِه . وهَؤلاءِ مِنْ أقْرَبِ الطَّوائِفِ إلَى السَّلَفِ وأهْلِ السُّنَّةِ والحَدِيثِ وكَذَلك السَّالِمِيَّةُ والكَرَّامِيَّةُ ونَحْوُ هَؤلاءِ يُوَافِقُونَ فِي جُمْلَةِ أقْوَالِهِم المَشْهُورَةِ؛ فَيُثْبِتُونَ الأسْمَاءَ والصِّفَاتِ والقَضَاءَ والقَدَرَ فِي الجُمْلَةِ؛ لَيْسُوا مِنَ الجَهْمِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ النُّفَاةُ لِلصِّفَاتِ وَهُم أيْضًا يُخَالِفُونَ الخَوَارِجَ والشِّيعَةَ فَيَقُولُون بِإثْبَاتِ خِلافَةِ الأرَبْعَةِ وتَقْدِيمِ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ ولا يَقُولُونَ بِخُلودِ أحَدٍ مِنْ أهْلِ القِبْلَةِ فِي النَّارِ لكِنَّ الكَرَّامِيَّةَ والكُلاَّبِيَّةَ وأكْثَرَ الأشْعَرِيَّةِ مُرْجِئَةٌ وأقْرَبُهُم الكُلاَّبِيَّةُ يَقُولُونَ : الإيمَانُ هُو التَّصْدِيقُ بالقَلْبِ والقَوْلُ بِاللِّسَانِ ، والأعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْه كَمَا يُحْكَى هَذا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ فُقَهاءِ الكُوفَةِ مَثْلِ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحَابِه .
وأمَّا الأشْعَرِيُّ فالمَعْرُوفُ عَنْه وعَنْ أصْحَابِه أنَّهُم يُوافِقُونَ جَهْمًا فِي قَوْلِه فِي الإيمَانِ وأنَّه مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ القَلْبِ أوْ مَعْرِفَةِ القَلْبِ لَكِنْ قَدْ يُظْهِرُونَ مَع ذَلِك قَوْلَ أهْلِ الحَدِيثِ ويَتَأَوَّلُونَه ويَقُولُونَ بِالاستِثْنَاءِ علَى المُوَافَاةِ فَلَيْسُوا مُوَافِقِينَ لِجَهْمٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وإنْ كَانُوا أقْرَبَ الطَّوَائِفِ إلَيْه فِي الإيمَانِ وفِي القَدَرِ أيْضًا فَإنَّه رَأْسُ الجَبْرِيَّةِ، يَقُولُ لَيْسَ لِلعَبْدِ فِعْلٌ ألبَتَّةَ . والأشْعَرِيُّ يُوَافِقُه علَى أنَّ العَبْدَ لَيْسَ بِفَاعِلٍ ولا لَهُ قُدْرَةٌ مُؤَثِّرَةٌ فِي الفِعْلِ ولَكِنْ يَقُولُ هُو كَاسِبٌ ، وَجَهْمٌ لا يُثْبِتُ شَيْئًا لَكِنْ هَذَا الكَسْبُ يَقُولُ أكْثَرُ النَّاسِ: إنَّهُ لا يُعْقَلُ فَرْقٌ بَيْنَ الَّذِي نَفَاه والكَسْبِ الَّذِي أثْبَتَه .
وأمَّا الكَرَّامِيَّةُ فَلَهُم فِي الإيمَانِ قَوْلٌ ما سَبَقَهُم إلَيْه أحَدٌ قَالُوا : هُو الإقْرَارُ بِاللِّسَانِ وإنْ لَمْ يَعْتَقِدْ بِقَلْبِه . وقَالُوا : المُنَافِقُ هُو مُؤْمِنٌ ولَكِنَّه مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ . وبَعْضُ النَّاسِ يَحْكِي عَنْهُم أنَّ المُنَافِقَ فِي الجَنَّةِ ، وَهَذا غَلَطٌ عَلَيْهِم بَلْ هُم يَجْعَلُونَهُ مُؤْمِنًا مَع كَوْنِه مُخَلَّدا فِي النَّارِ فَيُنَازِعُون فِي الاسْمِ لا فِي الحُكْمِ . وَقَدْ بُسِطَ القَوْلُ عَلَى مَنْشَأ الغَلَطِ حَيْثُ ظَنُّوا أنَّ الإيمَانَ لا يَكُونُ إلا شَيْئًا مُتَمَاثِلا عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ إذَا ذَهَبَ بَعْضُه ذَهَبَ سَائِرُه .
ثُمَّ قَالَتِ الخَوَارِجُ والمُعْتَزِلَةُ هُو أَدَاءُ الوَاجِبَاتِ واجْتِنَابُ المُحَرَّمَاتِ فاسْمُ المُؤْمِنِ مِثْلُ اسْمِ البَرِّ والتَقِيِّ وهُو المُسْتَحِقُّ لِلثَّوَابِ فإذَا تَرَكَ بَعْضَ ذَلِك زَالَ عَنْه اسْمُ الإيمَانِ والإسْلامِ . ثُمَّ قَالَت الخَوَارِجُ ومَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ هَذا ولا هَذا فَهُو كافِرٌ . وقَالَت المُعْتَزِلَةُ : بَلْ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةً بَيْنَ المَنْزِلَتَيْنِ ، فَنُسَمِّيهِ فاسِقًا لا مُسْلِمًا ولا كافِرًا ونَقُولُ إنَّه مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ وهَذا هُو الَّذِي امتَازَتْ بِه المُعْتَزِلَةُ وإلا فَسَائِرُ بِدَعِهِم قَدْ قَالَها غَيْرُهُم فَهُم وافَقُوا الخَوَارِجَ فِي حُكْمِه ونَازَعُوهُم ، ونَازَعُوا غَيْرَهُم فِي الاسْمِ . وقَالَت الجَهْمِيَّةُ والمُرْجِئَةُ : بَلِ الأعْمَالُ لَيْسَت مِن الإيمَانِ لَكِنَّه شَيْئَان أوْ ثَلاثةٌ يَتَّفِقُ فِيها جَمِيعُ النَّاسِ : التَّصْدِيقُ بالقَلْبِ والقَوْلُ بِاللِّسَانِ أوِ المَحَبَّةُ والخُضُوعُ مَع ذَلِك . وقَالَت الجَهْمِيَّةُ والأشْعَرِيَّةُ والكَرَّامِيَّةُ : بَلْ لَيْسَ إلا شَيْئًا واحِدًا يَتَمَاثَلُ فِيه النَّاسُ . وهَؤلاءِ الطَّوَائِفُ أصْلُ غَلَطِهِم ظَنُّهُم أنَّ الإيمَانَ يَتَماثَلُ فِيه النَّاسُ . وأنَّه إذَا ذَهَبَ بَعْضُه ذَهَبَ كُلُّه . وَكِلا الأمْرَيْنِ غَلَطٌ فَإنَّ النَّاسَ لا يَتَماثَلُون لا فِيما وَجَبَ مِنْه ولا فِيمَا يَقَعُ مِنْهُم بَلِ الإيمَانُ الَّذِي وَجَبَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ قَدْ لا يَكُونُ مِثْلَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى غَيْرِه . كَمَا كانَ الإيمَانُ بِمَكَّةَ لَمْ يَكُنِ الوَاجِبُ مِنْه كالوَاجِبِ بِالمَدِينَةِ ، ولا كَانَ فِي آخِرِ الأمْرِ كَمَا كانَ فِي أوَّلِه ولا يَجِبُ علَى أهْلِ الضَّعْفِ والعَجْزِ مِنَ الإيمَانِ مَا يَجِبُ عَلَى أهْلِ القُوَّةِ والقُدْرَةِ عَلَى العُقُولِ والأبْدَانِ . بَلْ أهْلُ العِلْمِ بِالقُرآنِ والسُّنَّةِ ومَعَانِي ذَلِك يَجِبُ عَلَيْهِم من تَفْصِيل الإيمَانِ مَا لا يَجِبُ علَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا عَرَفُوا وأهْلُ الجِهَادِ يَجِبُ عَلَيْهِم مِنَ الإيمَانِ فِي تَفْصِيلِ الجِهَادِ مَا لا يَجِبُ علَى غَيْرِهِم وكَذَلِك وُلاَةُ الأمْرِ وأهْلُ الأمْوَالِ يَجِبُ علَى كُلٍّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا أمَرَ اللَّهُ بِه ونَهَى عَنْه وأخْبَرَ بِه مَا لا يَجِبُ عَلَى غَيْرِه والإقْرَارُ بِذَلك مِنَ الإيمَانِ .
ومَعْلُومٌ أنَّه وإنْ كانَ النَّاسُ كُلُّهُم يَشْتَرِكُون فِي الإقْرَارِ بالخَالِقِ وتَصْدِيقِ الرَّسُولِ جُمْلَةً ، فالتَّفْصِيلُ لا يَحْصُلُ بالجُمْلَةِ ، ومَنْ عَرَفَ ذَلِك مُفَصَّلا لَمْ يَكُنْ مَا أُمِرَ بِه ووَجَبَ عَلَيْه مِثْلَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِك . وأيْضًا فَلَيْسَ النَّاسُ مُتَمَاثِِلِينَ فِي فِعْلِ مَا أُمِرُوا بِه مِنَ اليَقِينِ والمَعْرِفَةِ والتَّوْحِيدِ وحُبِّ اللَّهِ وخَشْيَتِه والتَّوَكُّلِ عَلَيْه والصَّبْرِ لِحُكْمِه وغَيْرِ ذَلِك مِمَّا هُو مِنْ إيمَانِ القُلُوبِ ولا فِي لَوَازِمِ ذَلِك الَّتِي تَظْهَرُ علَى الأبْدَانِ .
وإذَا قُدِّرَ أنَّ بَعْضَ ذَلِك زَالَ لَمْ يَزَلْ سَائِرُه بَلْ يَزِيدُ الإيمَانُ تَارَةً ويَنْقُصُ تَارَةً . كَمَا ثَبَتَ ذَلِك عَنْ أصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسَلَّم مِثْلِ عُمَرَ بنِ حَبِيبٍ وغَيْرِه أنَّهُم قَالُوا : الإيمَانُ يَزِيدُ ويَنْقُصُ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا المَوْضِعِ إذِ المَقْصُودُ هُنا أنَّ طَوائِفَ أهْلِ البِدَعِ منْ أهْلِ الكَلامِ وغَيْرِهِم لَيْسَ فِيهِم مَنْ يُوَافِقُ الرَّسُولَ فِي أُصولِ دِينِه لا فِيمَا اشْتَرَكُوا فِيه ولا فِيمَا انْفَرَدَ بِه بَعْضُهُم فإنَّهُم وإنِ اشْتَرَكُوا فِي مَقَالاتٍ فَلَيْسَ إجْمَاعُهُم حُجَّةً ولا هُمْ مَعْصُومُون مِنَ الاجْتِمَاعِ علَى خَطَأٍ)).
((وفِي أصْحَابِ رسُولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّم بَيْنَ الرَّافِضَةِ ، والخَوَارِجِ )) فالرَّافِضَةُ غَلَوْا فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأهْلِ البَيْتِ ، ونَصَبُوا العَدَاوَةَ لِجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ كالثَّلاثَةِ وكَفَّرُوهُمْ ومَنْ وَلاهُم وفَسَّقُوهُم . وقَالُوا : لا وَلاءَ إلا بِبَرَاءٍ ، أيْ لا يَتَوَلَّى أحَدٌ عَلِيًّا حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وكَفَّرُوا مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا وقَالُوا : إنَّ عَلِيًّا إمَامٌ مَعْصُومٌ .
والخَوَارِجُ يُكَفِّرُونَ عُثْمَانَ وعَلِيًّا وكَثِيرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ واسْتَحَّلُّوْا قِتَالَهُم ، وسَبَبُ تَسْمِيَةِ الشِّيعَةِ بالرَّافِضَةِ أنَّهُم رَفَضُوا زَيْدَ بنَ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ كَمَا رَوَى ابنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِه أنَّ عِيسَى بنَ يُونَسَ سُئِلَ عَنِ الرَّافِضَةِ والزَّيْدِيَّةِ فقَالَ : أمَّا الرَّافِضَةُ فَأوَّلُ مَا تَرَفَّضَتْ جَاءتْ إلَى زَيْدِ بنِ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ فَقَالُوا لَهُ : تَبَرَّأْ مِنْ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ حَتَّى نَكُونَ مَعَك ، فقَالَ بَلْ أَتَوَلاَّهُمَا وأَبْرَأُ مِمَّنْ تَبَرَّأَ مِنْهُما فَقَالُوا : إذًا نَرْفُضُك فُسُمِّيَتِ الرَّافِضَةَ . وأمَّا الزَّيْدِيَّةُ فَقَالُوا : نَتَوَلاَّهُمَا ونَبْرَأُ مِمَّنْ تَبْرَأُ مِنْهُما ، فخَرَجُوا مَع زَيْدٍ فَسُمُّوا الزَّيْدِيَّةَ (( ولَفْظُ الرَّافِضَةِ إنَّما ظَهَرَ لَمَّا رَفَضُوا زَيْدَ بنَ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ فِي خِلافَةِ هِشَامٍ . قَالَ أبُو حاتِمٍ البُسْتِيُّ : قُتِلَ زَيْدُ بنُ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ بِالكُوفَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وعِشْرِينَ ومِائَةٍ ، وصُلِبَ علَى خَشَبَةٍ وكَانَ مِنْ أفَاضِلِ أهْلِ البَيْتِ وعُلَمَائِهِمْ وكَانَتِ الشِّيعَةُ تَنْتَحِلُهُ )) .
ورَوَى أبُو عُمَرَ والظَّلَمَنْكِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أنَّهُ قَالَ فِي الرَّافِضَةِ : يُرِيدونَ أنْ يَغْمِصُوا دِينَ الإسلامِ كَمَا غَمَصَ بُولصُ بنُ يُوشَع مَلِكُ اليَهُودِ دِينَ النَّصْرَانِيَّةِ ولا تَتَجَاوَزُ صَلاتُهُم آذَانَهُمْ ، قَدْ حَرَّقَهُم عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بالنَّارِ ونَفَاهُم مِنَ البِلادِ مِنْهُم عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَبَأٍ، يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ صَنْعاءَ نَفَاهُ إلَى سَابَاطَ ، وأبُو بَكْرٍ الكَرَوَّسُ نَفَاهُ إلَى الجَابِيَّةِ وحَرَّقَ مِنْهُم قَوْمًا أَتَوْه فقَالُوا : أنْتَ هُوَ فَقَال : مَنْ أنَا ؟ فقَالُوا : أنْتَ رَبُّنَا فَأَمَرَ بِنَارٍ فَأُجِّجَتْ فَأُلْقُوا فِيهَا وفِيهِم قَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه :
لَمَّا رَأَيْتُ الأمْرَ أمْرًا مُنْكَرًا=أجَّجْتُ نَارِي ودَعَوْتُ قَنْبَرا
((وأوَّلُ مَنِ ابْتَدَعَ الرَّفْضَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَبَأٍ كَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا أرَادَ بِذَلك إفْسَادَ دِينِ الإسلامِ كَمَا فَعَلَ بُولصُ صَاحِبُ الرَّسَائِلِ الَّتِي بِأَيْدِي النَّصَارَى حَيْثُ ابْتَدَعَ لَهُمْ بِدَعًا أفْسَدَ بِها دِينَهُمْ وكَانَ يَهُودِيًّا فَأظْهَرَ النَّصْرَانِيَّةَ نِفَاقًا لِقَصْدِ إفْسادِ مِلَّتِهِم وكَذَلِك كانَ ابنُ سَبَأٍ يَهُودِيًّا فَقَصَدَ ذَلِك وسَعَى فِي الفِتْنَةِ ولَمْ يَتَمَكَّنْ لَكِنْ حَصَلَ بِسَبَبِه بَيْنَ المُؤمِنِينَ تَحْرِيشٌ وفِتْنَةٌ قُتِلَ فِيها عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه . ولَمَّا حَدَثَتْ بِدَعُ الشِّيعَة فِي خِلافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَدَّها وكَانَتْ ثَلاثَ طَوَائِفَ غَالِيَّةً سَيِّئية ومُفَضِّلَةً ، فَحَرَّقَ عَلِيٌّ الغَالِيَّةَ لَمَّا خَرَجَ إلَيْهِم مِنْ بَابِ كِنْدَةَ فَسَجَدُوا لَه : فقَالَ : مَا هَذا ؟ قَالُوا : أنْتَ هُو اللَّهُ ، فَخَدَّ الأخَادِيدَ وأَضْرَمَ فِيها النَّارَ ثُمَّ قَذَفَهُم فِيهَا .
وأمَّا السَبَئِيَّةُ فَلَمَّا بَلَغَ عَلِيًّا أنَّ ابنَ سَبَأٍ يَسُبُّ أبَا بَكْرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما طَلَبَه لِيَقْتُلَه فَهَرَبَ إلَى قَرْقِيسيَاءَ وكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يُدَارِي أُمَرَاءَه لأنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا ولَمْ يَكُونُوا مُطِيعِينَ لَه فِي كُلِّ مَا يَأمُرُهُم بِه .
وأمَّا المُفَضِّلَةُ فقَالَ : لا أُوتَى بِأَحَدٍ يُفَضِّلُنِي عَلَى أبِي بَكْرٍ وعُمَرُ إلا جَلَدْتُه حَدَّ المُفْتَرِي )) .
((وأُصُولُ الدِّينِ عِنْدَ الإمَامِيَّةِ أرْبَعَةٌ : التَّوْحِيدُ،والعَدْلُ،والنُّبُوَّةُ ، والإمَامَةُ هِي آخِرُ المَرَاتِبِ ، والتَّوْحِيدُ والعَدْلُ والنُّبُوَّةُ قَبْلَ ذَلِك وَهُمْ يُدْخِلُونَ فِي التَّوْحِيدِ نَفْيَ الصِّفَاتِ ، والقَوْلُ بأنَّ القُرآنَ مَخْلُوقٌ وأنَّ اللَّهَ لا يُرَى فِي الآخِرَةِ ويُدْخِلُونَ فِي العَدْلِ : التَّكْذِيبَ بِالقُدْرَةِ وأنَّ اللَّهَ لا يَقْدِرُ أنْ يَهْدِيَ مَنْ يَشَاءُ ولا يَقْدِرُ أنْ يُضِلَّ مَنْ يَشاءُ وأنَّه قَدْ يَشاءُ مَا لا يَكُونُ ويَكُونُ مَا لا يَشَاءُ وغَيْرَ ذَلِك ، فَلا يَقُولُونَ : إنَّه خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ ولا أنَّهُ علَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ولا أنَّه مَا شَاءَ كَانَ ومَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ .
وَقَوْلُهم فِي الإمَامَةِ أسْخَفُ قَوْلٍ وأفْسَدُه فِي العَقْلِ والدِّينِ فإنَّهُم يَحْتَالُون علَى مَجْهُولٍ ومَعْدُومٍ لا يُرَى لَه عَيْنٌ ولا أَثَرٌ ولا يُسْمَعُ لَه حِسٌّ ولا خَبَرٌ ، فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُم مِنَ الأمْرِ الْمَقْصُودِ بِإمَامَتِه شَيءٌ فإنَّهُم قَالُوا : إنَّ عَلِيًّا مَعْصُومٌ وأنَّه الأحَقُّ بالإمَامَةِ:
وقَدْ نَصَّ عَلِيٌّ عَلَى الحَسَنِ ، والحَسَنُ عَلَى الحُسَيْنِ إلَى أنِ انْتَهَتِ النَّوْبَةُ إلَى المُنْتَظَرِ مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ صَاحِبِ السِّرْدَابِ الغائِبِ ولَيْسَ عِنْدَهُم نَقْلٌ ثَابِتٌ عَنْه . ولَمَّا دَخَلَ السِّرْدَابَ كَانَ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ سِنَّ التَّمْيِيزِ فإنَّهُ دَخَلَ سِرْدَابَ سَامُرَّاءَ عَلَى قَوْلِهِم سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ أوْ نَحْوَِها ولَمْ يَعُدْ ، بَلْ كَانَ عُمُرُه إمَّا سَنَتَيْنِ وإمَّا ثَلاثًا وإمَّا خَمْسًا ونَحْوَ ذَلِك ولَيْسَ فِيهِم أحَدٌ يَعْرِفُه لا بِعَيْنِه ولا صِفَتِه . لَكِنْ يَقُولُون : إنَّ هَذا الشَّخْصَ الَّذِي لَمْ يَرَه أحَدٌ ولَمْ يُسْمَعْ لَه خَبَرٌ هُو إمَامُ زَمَانِهِم فَلا يُعْرَفُ لَه حَالٌ يُنْتَفَعُ بِه فِي الإمَامَةِ فإنَّ مَعْرِفَةَ الإمَامَة الَّتِي تُخْرِجُ الإنْسَانَ مِنَ الجَاهِلِيَّةِ هِي المَعْرِفَةُ الَّتِي يَحْصُلُ بِها طَاعَةٌ وجَمَاعَةٌ ، خِلافَ مَا كانَ عَلَيْه أهْلُ الجَاهِلِيَّةِ ، فإنَّهُم لَمْ يَكُنْ لَهُم إمَامٌ يَجْمَعُهُم ولا جَمَاعَةٌ تَعْصِمُهُم . واللَّهُ تَعَالى بَعَثَ مُحَمَّدًا صلَّى اللَّهُ علَيْه وسلَّم وهَدَاهُم بِه إلَى الطَّاعَةِ والجَمَاعَةِ . وهَذَا المُنْتَظَرُ لا يَحْصُلُ بِمَعْرِفَتِه طَاعَةٌ ولا جَمَاعَةٌ ، فَلَمْ يُعْرَفْ مَعْرِفَةً تُخْرِجُ الإنسَانَ مِنَ الجَاهِلِيَّةِ بَلِ المُنْتَسِبُون إلَيْه أعْظَمُ الطَّوَائِفِ جَاهِلِيَّةً ، وأَشْبَهُهُم بِالجَاهِلِيَّةِ وإنْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي طَاعَةِ غَيْرِهِم ، أمَّا طَاعَةُ كافِرٍ أوْ طَاعَةُ مُسْلِمٍ هُو عِنْدَهم مِنَ الكُفَّارِ أوِ النَّوَاصِبِ لَمْ يَنْتَظِمْ لَهُم مَصْلَحَةٌ لِكَثْرَةِ اخْتِلافِهِم وافْتِرَاقِهِم وخُرُوجِهِمْ عَنِ الطَّاعَةِ .
ولَوْ كانَ إمَامُهُم المُنْتَظَرُ مَوْجُودًا بِيَقِينٍ لَمَا حَصَلَ بِه مَنْفَعَةٌ لِهَؤلاءِ المَسَاكِينِ فَكَيْفَ وعُقَلاءُ النَّاسِ يَعْلَمُونَ أنَّه لَيْسَ مَعَهُم إلا الإفْلاسُ وأنَّ الحَسَنَ بنَ عَلِيٍّ العَسْكَرِيَّ لَمْ يَنْسِلْ ولَمْ يُعَقِّبْ . كَمَا ذَكَرَ ذَلِك مُحَمَّدُ بنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وعَبْدُ البَاقِي بنُ قَانِعٍ وغَيْرُهُما مِنْ أهْلِ العِلْمِ بالنَّسَبِ وهُمْ يَقُولُونَ إنَّه دَخَلَ السِّرْدَابَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيه وعُمُرُه إمَّا سَنَتَانِ ، وإمَّا ثَلاثٌ وإمَّا خَمْسٌ وإمَّا نَحْوُ ذَلِك . ومِثْلُ هَذَا بِنَصِّ القُرْآنِ يَتِيمٌ يَجِبُ أنْ يُحْفَظَ لَه مَالُه حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْه الرُّشْدُ ويَحْضِنُه مَنْ يَسْتَحِقُّ حَضَانَتَه مِنْ قَرَابَتِه فَلَوْ كانَ مَوْجُودًا يَشْهَدُه العِيانُ لَمَا جَازَ أنْ يَكُونَ هُو إمَامَ أهْلِ الإيمَانِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَعْدُومًا أوْ مَفْقُودًا مَع طُولِ هَذِه الغَيْبَةِ)) .
وعُمْدَةُ الرَّافِضَةِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ آثَارٌ تُنْقَلُ عَنْ بَعْضِ أهْلِ البَيْتِ فِيها صِدْقٌ وكَذِبٌ وقَدْ أُصِّلَتْ لَها ثَلاثَةُ أُصُولٍ :
(أحَدُها) أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنْ هَؤلاءِ إمَامٌ مَعْصُومٌ بِمَنْزِلَةِ النَّبِيِّ لا يَقُولُ إلا حَقًّا ولا يَجُوزُ لأَحَدٍ أنْ يُخَالِفَهُ ولا يَرُد مَا يُنَازِعُه فِيه غَيْرُه إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ ، فَيَقُولُون عَنْه مَا كَانَ هُو وأهْلُ بَيْتِه يَتَبَرَّءُونَ مِنْه .
(والثَّانِي) أنَّ كُلَّ مَا يَقُولُه واحِدٌ مِنْ هَؤلاءِ فإنَّه قَدْ عُلِمَ مِنْه أنَّه قَال : أنَا أنْقُلُ كُلَّ مَا أقُولُه عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّم ، ويَا لَيْتَهُم قَنِعُوا بِمَرَاسِيلِ التَّابِعِينَ كَعَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ بَلْ يَأتُونَ إلَى مَنْ تَأَخَّرَ زَمَانُه كَالعَسْكَرِيَّيْنِ فيَقُولُون : كُلُّ مَا قَالَه واحِدٌ مِنْ أُولئِك فالنَّبِيُّ قَدْ قَالَه . وكُلُّ مَنْ لَه عَقْلٌ يَعْلَمُ أنَّ العَسْكَرِيَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ أمْثَالِهِما مِمَّنْ كَانَ فِي زَمَانِهِما مِنَ الهَاشِمِيِّينَ لَيْسَ عِنْدَهُم مِنَ العِلْمِ مَا يَمْتَازُون بِه عَنْ غَيْرِهِم ويَحْتَاجُ إلَيْهِم فِيه أهْلُ العِلْمِ ولا كَانَ أهْلُ العِلْمِ يَأخُذُونَ عَنْهم كَمَا يَأخُذونَ عَنْ عُلَماءِ زَمَانِهِم ، وكَمَا كَانَ أهْلُ العِلْمِ فِي زَمَنِ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ وابْنِه أبِي جَعْفَرٍ وابنِ ابْنِه جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ ، فإنَّ هَؤلاءِ الثَّلاثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم قَدْ أخَذَ أهْلُ العِلْمِ عَنْهُم كَمَا كانُوا يَأخُذُون عَنْ أمْثَالِهم بِخِلافِ العَسْكَرِيَّيْنِ ونَحْوِهِما ، فإنَّه لَمْ يَأْخُذْ أهْلُ العِلْمِ المَعْرُوفُون بِالعِلْمِ عَنْهُم شَيْئًا ، فَيُرِيدُون أنْ يَجْعَلُوا مَا قَالَه الوَاحِدُ مِنْ هَؤلاءِ هُو قَوْلَ الرَّسُولِ الَّذِي بَعَثَه اللَّهُ إلَى جَمِيعِ العَالَمِينَ، بِمَنْزِلَةِ القُرْآنِ والمُتَوَاتِرِ مِنَ السُّنَنِ وهَذا مِمَّا لا يَبْنِي عَلَيْه دِينَه إلا مَنْ كانَ مِنْ أبْعَدِ النَّاسِ عَنْ طَرِيقَةِ أهْلِ العِلْمِ والإيمَانِ .
وأَصَّلُوا أصْلا ثَالِثًا وهُو أنَّ إجْمَاعَ الرَّافِضَةِ هُو إجْمَاعُ العِتْرَةِ وإجْمَاعُ العِتْرَةِ مَعْصُومٌ ، والمُقَدِّمَةُ الأُولَى كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ، والثَّانِيَةُ فِيها نِزَاعٌ فَصَارَت الأقْوَالُ الَّتِي فِيها صِدْقٌ وَكَذِبٌ علَى أُولئِكَ بِمَنْزِلَةِ القُرْآنِ لَهُم وبِمَنْزِلَةِ السُّنَّةِ المَسْمُوعَةِ مِنَ الرَّسُولِ وبِمَنْزِلَةِ إجْمَاعِ الأُّمَّةِ وَحْدَهَا )) .
وأمَّا الخَوَارِجُ فَهُم الَّذِين خَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بَعْدَ التَّحْكِيمِ فقَاتَلَهُم علِىٌّ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ .
وقَدْ أمَرَ النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّم بِقِتَالِهِم فِي الأحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ . قَال الإمَامُ أحْمَدُ : صَحَّ الحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّم فِي الخَوَارِجِ مِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ ا.ه . وقَدْ أخْرَجَها مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِه ورَوَى البُخَارِيُّ مِنْها ثَلاثَةَ أحَادِيثَ .
((وكَانَ المُسْلِمُون علَى مَا بَعَثَ اللَّهُ بِه رَسُولَهُ مِنَ الهُدى ودِينِ الحَقِّ المُوَافِقِ لِصَحِيحِ المَنْقُولِ وصَرِيحِ المَعْقُولِ . فلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأَرْضَاه ، ووَقَعَت الفِتْنَةُ فَاقْتَتَلَ المُسْلِمُون بِصِفِّينَ مَرَقَتِ المَارِقَةُ الَّتِي قَال فِيها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسَلَّم تَمْرُقُ مَارِقَةٌ علَى حِينِ فِرْقَةٍ مِن المُسْلِمِينَ يَقْتُلُهم أَوْلى الطَّائِفَتَيْنِ بِالحَقِّ وكَانَ مُرُوقُهَا لَمَّا حَكَمَ الحَكَمَانِ وافْتَرَقَ النَّاسُ علَى غَيْرِ اتِّفَاقٍ . وَحَدَثَتْ أيْضًا بِدَعُ الشِّيَعِ كَالغُلاَةِ المُدَّعِينَ الإلَهِيَّةَ فِي عَلِيٍّ والمُدَّعِينَ النَّصَّ علَى عَلِيٍّ السَّابِّينَ لأبِي بَكْرٍ وعُمَرَ فعَاقَبَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الطَّائِفَتَيْنِ قَاتَلَ المَارِقِينَ وأمَرَ بِإحْرَاقِ أُولئِكَ الَّذِين ادَّعَوْا فِيه الإلَهِيَّةَ فإنَّه خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ فَسَجَدُوا لَه ، فقَال لَهُم : مَا هَذا ؟ فَقَالُوا : أَنْتَ هُو قَالَ : مَنْ أنَا ؟ قَالُوا : أنْتَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَه إلا هُوَ ! فَقَال : وَيْحَكُم ! هَذا كُفْرٌ ، ارْجِعُوا عَنْه وإلا ضَرَبْتُ أعْنَاقَكُم فَصَنَعُوا بِه فِي اليَوْمِ الثَّانِي والثَّالِثِ كَذَلِك وأخَّرَهُم ثَلاثَةَ أيَّامٍ لأنَّ المُرْتَدَّ يُسْتَتَابُ ثَلاثَةَ أيَّامٍ فَلَمَّا لَمْ يَرْجِعُوا أمَرَ بِأَخادِيدَ مِنْ نَارٍ فَخُدَّتْ عَنْه بَابَ كِنْدَةَ وَقَذَفَهُم فِي تِلْك النَّارِ وَرُوِيَ عَنْه أنَّه قَالَ:
لَمَّا رَأَيْتُ الأمْرَ أمْرًا مُنْكَرًا=أَجَّجْتُ نَارِي ودَعَوْتُ قَنْبَرا
وقَتْلُ هَؤلاءِ وَاجِبٌ بِالاتِّفَاقِ ، لَكِنْ فِي جَوَازِ تَحْرِيقِهِم نِزَاعٌ ، فَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَأَى تَحْرِيقَهم وخَالَفَه ابنُ عَبَّاسٍ وغَيْرُه مِنَ الفُقَهاءِ . وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ : أمَّا أنَا فَلَوْ كُنْتُ لَمْ أُحَرِّقْهُم لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّم أنْ يُعَذَّبَ بِعَذابِ اللَّهِ ولَضَرَبْتُ أعْنَاقَهُم لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّم : " مَنْ بَدَّلَ دِينَه فَاقْتُلُوه " . وهَذَا الحَدِيثُ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ . وأمَّا السَّبَّابَةُ الَّذِين يَسُبُّونَ أبَا بَكْرٍ وعُمَرَ فَإنَّ عَلِيًّا لَمَّا بَلَغَه ذَلِك طَلَبَ ابنَ السَّوْدَاءِ الَّذِي بَلَغَه ذَلِك عَنْه . وقِيلَ : إِنَّه أرَادَ قَتْلَه فَهَرَبَ مِنْه إلَى قَرْقِيسيَاءَ . وأمَّا المُفَضِّلَةُ الَّذِين يُفَضِّلُونَه علَى أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ فَرُوِيَ عَنْه أنَّه قَال : لا أُوتَى بِأَحَدٍ يُفَضِّلُنِي علَى أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ إلا ضَرَبْتُه حَدَّ المُفْتَرِي . وقَدْ تَوَاتَرَ عَنْه أنَّه كَانَ يقُولُ عَلَى مِنْبَرِ الكُوفَةِ : خَيْرُ هَذِه الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّها أبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ .
رُوِيَ هَذا عَنْه مِنْ أكثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ وَجْهًا ، ورَوَاه البُخَارِيُّ وغَيْرُه . ولِهَذا كانَتِ الشِّيعَةُ المُتَقَدِّمُون كُلُّهُم مُتَّفِقِينَ علَى تَفْضِيلِ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِك غَيْرُ وَاحِدٍ . فَهاتَانِ البِدْعَتَانِ : بِدْعَةُ الخَوَارِجِ والشِّيعَةِ حَدَثَتَا فِي ذَلِك الوَقْتِ لَمَّا وَقَعَت الفِتْنَةُ، ثُمَّ فِي أوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ لَهُم بِإحْسَانٍ كَعَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ وعَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ وجَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ ووَاثِلَةَ بنِ الأسْقَعِ ( حَدَثَتْ بِدْعَةُ القَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ ) ثُمَّ إنَّه فِي أوَاخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ مِنْ أوَائِلِ المِائَةِ الثَّانِيَةِ حَدَثَتْ بِدْعَةُ الجَهْمِيَّةِ مُنْكِرَةِ الصِّفَاتِ وكَانَ أوَّلَ مَنْ أظْهَرَ ذَلِك الجَعْدُ بنُ دِرْهَمٍ ثُمَّ ظَهَرَ بِهَذا المَذْهَبِ الجَهْمُ بنُ صَفْوانَ ودَخَلَتْ فِيه بَعْدَ ذَلِك الْمُعْتَزِلَةُ .
ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ هَذا فِي الإسْلامِ المَلاحِدَةُ مِنَ المُتَفَلْسِفَةِ وغَيْرِهِم حَدَثُوا وانْتَشَرُوا بَعْدَ انْقِرَاضِ العُصُورِ المُفَضَّلَةِ وصَارَ كُلُّ زَمانٍ ومَكانٍ يَضْعُفُ فِيه نُورُ الإسْلامِ يَظْهَرُونَ فِيه . وكَانَ مِنْ أسْبَابِ ظُهُورِهِم أنَّهُم ظَنُّوا أنَّ دِينَ الإسْلامِ لَيْسَ إلا مَا يَقُولُه أُولئكَ المُبْتَدِعُونَ)) .
((والبِدَعُ مُتَنَوِّعَةٌ فالخَوَارِجُ مَع أنَّهُم مَارِقُون يَمْرُقُون مِنَ الإسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، وقَدْ أمَرَ النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّم بِقِتَالِهم . واتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وعُلَماءُ المُسْلِمِينَ عَلَى قِتَالِهم . وصَحَّ فِيهم الحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّم مِنْ عَشْرَةِ أوْجُهٍ رَوَاها مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِه رَوَى البُخَارِيُّ مِنْها ثَلاثَةً : لَيْسُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الكَذِبَ ، بَلْ هُم مَعْرُوفُون بالصِّدْقِ حَتَّى يُقَالَ: إنَّ حَدِيثَهُم مِنْ أَصَحِّ الحَدِيثِ لكِنَّهم جَهِلُوا وَضَلُّوا فِي بِدْعَتِهم ولَمْ تَكُنْ بِدْعَتُهم عَنْ زَنْدَقَةٍ وإلْحَادٍ بَلْ عَنْ جَهْلٍ وضَلالٍ فِي مَعْرِفَةِ مَعَانِي الكِتَابِ .
وأمَّا الرَّافِضَةُ فَأَصْلُ بِدْعَتِهِم عَنْ زَنْدَقَةٍ وإلْحَادٍ وتَعَمُّدُ الكَذِبِ فِيهِم كَثِيرٌ وَهُمْ يُقِرُّونَ بِذَلك حَيْثُ يَقُولُون : دِينُنَا التَّقِيَّةُ وهُو أنْ يَقُولَ أحَدٌ بِلِسانِه خِلافَ مَا فِي قَلْبِه وهَذا هُو الكَذِبُ والنِّفَاقُ ويَدَّعُون مَع هَذا أنَّهُم هُم المُؤمِنُونَ دُونَ غَيْرِهم مِنْ أهْلِ المِلَّةِ وَيَصِفُون السَّابِقِينَ الأوَّلِينَ بِالرِّدَّةِ والنِّفَاقِ فَهُم فِي ذَلِك كَمَا قِيلَ (( رَمَتْنِي بِدَائِها وانْسَلَّتْ )) إذْ لَيْسَ فِي المُظَاهِرِينَ لِلإسْلامِ أقْرَبُ إلَى النِّفَاقِ والرِّدَّةِ مِنْهُم ولا يُوجَدُ المُرْتَدُّون والمُنَافِقُون فِي طَائِفَةٍ أكْثَرَ مِمَّا يُوجَدُ فِيهِم واعْتَبِرْ ذَلِك بِالغَالِيَّةِ مِن النُّصَيْرِيَّةِ وغَيْرِهِم وبِالمَلاحِدَةِ والإسْمَاعِيلِيَّةِ وأمْثَالِهِم . وعُمْدَتُهم فِي الشَّرْعِيَّاتِ مَا يُنْقَلُ لَهُم عَنْ بَعْضِ أهْلِ البَيْتِ وذَلِك النَّقْلُ مِنْه مَا هُو صِدْقٌ ومِنْه مَا هُو كَذِبٌ عَمْدًا أوْ خَطَأً ، ولَيْسُوا أهْلَ مَعْرِفَةٍ بِصَحِيحِ المَنْقُولِ وضَعِيفِه كَأَهْلِ المَعْرِفَةِ بِالحَدِيثِ . ثُمَّ إذَا صَحَّ النَّقْلُ عَنْ هَؤلاءِ فَإنَّهُم بَنَوْا وُجُوبَ قَبُولِ قَوْلِ الوَاحِدِ مِنْ هَؤلاءِ علَى ثَلاثَةِ أُصُولٍ : علَى أنَّ الوَاحِدَ مِنْ هَؤلاءِ مَعْصُومٌ مَثْلَ عِصْمَةِ الرَّسُولِ ، وعلَى أنَّ مَا يَقُولُه أحَدُهم فإنَّما يَقُولُه نَقْلا عَنِ الرَّسُولِ صلَّى اللَّهُ علَيْه وسَلَّم وأنَّهُم قَدْ عُلِمَ مِنْهُم أنَّهم قَالوا مَهْمَا قُلْنَا فإنَّما نَقُولُه نَقْلا عَنِ الرَّسُولِ ، ويَدَّعُون العِصْمَةَ فِي هَذا النَّقْلِ . الثَّالِثُ أنَّ إجْمَاعَ العِتْرَةِ حُجَّةٌ ، ثُمَّ يَدَّعُون أنَّ العِتْرَةَ هُم الاثْنَا عَشَرَ ويَدَّعُون أنَّ مَا نُقِلَ عَنْ أحَدِهم فَقَدْ أَجْمَعُوا كُلُّهُم علَيْه . فَهَذِه أُصُولُ الشَّرْعِيَّاتِ عِنْدَهم وهِيَ أُصُولٌ فَاسِدَةٌ . لا يَعْتَمِدُون علَى القُرْآنِ ولا علَى الحَدِيثِ ولا علَى الإجْمَاعِ إلا لكون المعصوم منهم . ولا على القياسِ وإنْ كَانَ جَلِيًّا واضِحًا .
وأمَّا عُمْدَتُهم فِي النَّظَرِ والعَقْلِيَّاتِ فَقَدِ اعْتَمَدَ مُتَأَخِّرُوهم علَى كُتُبِ المُعْتَزِلَةِ فِي الجُمْلَةِ ، والمُعْتَزِلَةُ أعْقَلُ وأصْدَقُ ولَيْسَ فِي المُعْتَزِلَةِ مَنْ يَطْعَنُ فِي خِلافَةِ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالى علَيْهم أجمَعِينَ بَلْ هُم مُتَّفِقُون علَى تَثْبِيتِ خِلافَةِ الثَّلاثَةِ.
وأمَّا التَّفْضِيلُ فَأَئِمَّتُهم وجُمْهُورهم كَانُوا يُفَضِّلُون أبَا بَكْرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وفِي مُتَأَخِّرِيهم مَنْ تَوَقَّفَ فِي التَّفْضِيلِ ، وبَعْضُهم فَضَّلَ عَلِيًّا فَصَارَ بَيْنَهم وبَيْنَ الزَّيْدِيَّةِ نَسَبٌ رَاجِحٌ مِنْ جِهَةِ المُشَارَكَةِ فِي التَّوْحِيدِ والعَدْلِ والإمَامَةِ والتَّفْضِيلِ ، وكَان قُدَمَاءُ المُعْتَزِلَةِ وأئِمَّتُهم كَعَمِْرو بنِ عُبَيْدٍ ووَاصِلِ بنِ عَطَاءٍ وغَيْرِهم مُتَوَقِّفِين فِي عَدَالَةِ عَلِيٍّ علَيْه السَّلامُ فيَقُولُون أوْ مَنْ يَقُولُ مِنْهم قَدْ فَسَقَتْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إمَّا عَلِيٌّ وإمَّا طَلْحَةُ والزُّبَيْرُ لا بِعَيْنِها فإنْ شَهِدَ هَذا وهَذا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهما لَفِسْقِ أحَدِهما لا بِعَيْنِها ، وإنْ شَهِدَ عَلِيٌّ مَع شَخْصٍ آخَرَ فَفِي قَبُولِ شَهَادَةِ عَلِيٍّ بَيْنَهم نِزَاعٌ ، وكَان مُتَكَلِّمُو الشِّيعَةِ كَهِشَامِ بنِ عَبْدِ الحَكَمِ وهِشَامٍ الجَوَالِيقِيِّ ويُونُسَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ القُّمِّيِّ وأمْثَالِهِم يَزِيدُون فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ عَلَى مَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ بِمَا يَقُولُه أهْلُ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ فَلا يَمْنَعُون مِنَ القَوْلِ بِأنَّ القُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وأنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الآخِرَةِ وغَيْرِ ذَلِك مِنْ مَقَالاتِ أهْلِ السُّنَّةِ والحَدِيثِ حَتَّى يَبْتَدِعُون فِي الغُلُوِّ فِي الإثْبَاتِ والتَّجَسُّمِ والتَّنْقِيصِ مَا هُو مَعْرُوفٌ مِنْ مَقَالاتِهم الَّتِي ذَكَرَها النَّاسُ ولَكِنْ فِي أوَاخِرِ المِائَةِ الثَّانِيَةِ دَخَلَ مَنْ دَخَلَ مِنَ الشِّيعَةِ فِي أقْوَالِ المُعْتَزِلَةِ كَابْنِ النُّوبَخْتِيِّ صَاحِبِ كِتَابِ الآرَاءِ والدِّيَانَاتِ وأمْثَالِه وجَاءَ بَعْدَ هَؤلاءِ المُفِيدُ بنُ النُّعْمَانِ وأتْبَاعُه . ولِهَذا نَجِدُ المُصَنِّفِينَ فِي المَقَالاتِ كالأشْعَرِيِّ لا يَذْكُرُون عَنْ أحَدٍ مِنَ الشِّيعَةِ أنَّه يُوافِقُ المُعْتَزِلَةَ فِي تَوْحِيدِهم وعَدْلِهم إلا عَنْ بَعْضِ مُتَأخِّرِيهم ، وإنَّما يَذْكُرون عَنْ قُدَمَائِهم التَّجْسِيمَ وإثْبَاتَ القَدَرِ وغَيْرِه وأوَّلُ مَنْ عُرِفَ عَنْه فِي الإسْلامِ أنَّه قَال : إنَّ اللَّهَ جِسْمٌ هُو هِشَامُ بنُ عَبْدِ الحَكَمِ وقَدْ كَان ابنُ الرَّاوَنْدِيِّ وأمْثَالُه مِنَ المَعْرُوفِينَ بِالزَّنْدَقَةِ والإلْحَادِ صَنَّفُوا لَهُمْ كُتُبًا أيْضًا علَى أُصُولِهم )) .
وأمَّا أهْلُ السُّنَّةِ فإنَّهُم وَسَطٌ بَيْنَ النِّحَلِ المُخْتَلِفةِ ، فَهُم يُوَالُون الصَّحَابَةَ جَمِيعًا ويَتَرَضَّوْن عَنْهُم ويُنْزِلُونَهم مَنَازِلَهُم الَّتِي يَسْتَحِقُّونَها فَلا يَغْمِصُونَهم حَقَّهُم ولا يَغْلُون فِيهم (( فإنَّ أهْلَ السُّنَّةِ فِي الإسْلامِ مُتَوَسِّطُون فِي جَمِيعِ الأمُورِ فَهُم وَسَطٌ بَيْنَ الخَوَارِجِ والرَّوَافِضِ وكَذَلِك فِي عُثْمَانَ وَسَطٌ بَيْنَ المَرْوَانِيَّةِ والزَّيْدِيَّةِ وكَذَلِك فِي سَائِرِ الصَّحَابَةِ وَسَطٌ بَيْنَ الغُلاَةِ فِيهِم والطَّاعِنِينَ عَلَيْهم )) .
ومِنْ كَذِبِ الرَّافِضَةِ وضَلالِهم تَسْمِيَتُهُم أهْلَ السُّنَّةِ نَاصِبَةً حَيْثُ لَمْ يُوَافِقُوهُم علَى بِدْعَتِهم وظُلْمِهم . وإتْيَانِهم بِألفَاظٍ مُجْمَلَةٍ.
((كَمَا إذَا قَال الرَّافِضِيُّ أنْتُم نَاصِبَةٌ تَنْصِبُون العَدَاوَةَ لاِلِ مُحَمَّدٍ فَقِيلَ لَه : نَحْنُ نَتَوَلَّى الصَّحَابَةَ والقَرَابَةَ فقَالَ : لا وَلاءَ إلا بِبَرَاءٍ ، فَمَنْ لَمْ يَتَبَرَّأْ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَتَوَلَّ القَرَابَةَ فَيَكُونُ قَدْ نَصَبَ لَهُم العَدَاوَةَ فَيُقَالُ لَه : هَبْ أنَّ هَذا يُسَمَّى نَصْبًا فَلِمَ ؟ قُلْت : إنَّ هَذا مُحَرَّمٌ ؟ فَلا دَلالَةَ لَك عَلى ذَمِّ النَّصْبِ بِهَذا التَّفْسِيرِ كَمَا لا دَلالَةَ علَى ذَمِّ الرَّفْضِ بِمَعْنَى مُوَالاَةِ أهْلِ البَيْتِ إذَا كانَ الرَّجُلُ مُوَالِيًا لاِهْلِ البَيْتِ كَمَا يُحِبُّ اللَّهُ ورَسُولُه ومِنْه قَوْلُ القَائِلِ :
إنْ كانَ رَفْضًا حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ=فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلانِ أنِّي رَافِضِي
وقَوْلُه :
لَئِنْ كانَ نَصْبًا وَلاءُ الصِّحَابِ=فإنِّي كَمَا زَعَمُوا نَاصِبِي
وإنْ كانَ رَفْضًا وَلاءُ الجَمِيعِ=فَلا برَحِ الرَّفْضُ مِنْ جَانِبِي
وطَرِيقَةُ أهْلِ البِدَعِ أنَّهُم يَجْمَعُون بَيْنَ الجَهْلِ والظُّلْمِ (( فَيَبْتَدِعُون بِدْعَةً مُخَالِفَةً لِلكِتَابِ والسُّنَّةِ وإجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ويَكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُم فِي بِدْعَتِهم كَالخَوَارِجِ المَارِقِينَ الَّذِين ابْتَدَعُوا تَرْكَ العَمَلِ بِالسُّنَّةِ المْخَالِفَةِ فِي زَعْمِهم لِلقُرْآنِ وابْتَدَعُوا التكفير بالذُّنُوبِ وكَفَّرُوا مَنْ خَالَفَهُم حتَّى كَفَّرُوا عُثْمَانَ وعَلِيَّ بنَ أبِي طَالِبٍ ومَنْ وَلاهُما مِنَ المُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ وسَائِرِ المُؤْمِنِينَ . نَقَلَ الأشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ المَقالاتِ أنَّ الخَوَارِجَ مُجْمِعَةٌ علَى تَكْفِيرِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه .
وكَذَلِك الرَّافِضَةُ ابْتَدَعوا تَفْضِيلَ عَلِيٍّ علَى الثَّلاثَةِ وتَقْدِيمَه فِي الإمَامَةِ والنَّصَّ علَيْه ودَعْوَى العِصْمَةِ لَه ، وكَفَّرُوا مَنْ خَالَفَهم وهُم جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وجُمْهُورُ المُؤمِنِينَ حتَّى كَفَّرُوا أبَا بَكْرٍ وعُثْمَانَ ومَنْ تَوَّلاهُم .
هَذا هُو الَّذِي علَيْه أئِمَّتُهُم . وكَذَلِك الجَهْمِيَّةُ ابْتَدَعَتْ نَفْيَ الصِّفَاتِ المُتَضَمِّنَ فِي الحَقِيقَةِ لِنَفْيِ الخَالِقِِ ولِنَفْيِ صِفَاتِه وأفْعَالِه وأسْمَائِه وأظْهَرَت القَوْلَ بأنَّه لا يُرَى وأنَّ كَلامَه مَخْلُوقٌ خَلَقَه فِي غَيْرِه لَمْ يَتَكَلَّمْ هُو بِنَفْسِه وغَيْرِ ذَلِك ، ثُمَّ امْتَحَنُوا النَّاسَ فَدَعَوْهُم إلَى هَذا وجَعَلُوا يُكَفِّرُون مَنْ لَمْ يُوَافِْقهم علَى ذَلِك . وكَذَلِك القَدَرِيَّةُ ابْتَدَعَت التَّكْذِيبَ بالقَدَرِ وأنْكَرَت مَشِيئَةَ اللَّهِ النَّافِذَةَ وقُدْرَتَه التَّامَةَ وخَلْقَه لِكُلِّ شَيءٍ ، وكَفَّرُوا أوْ مِنْهُم مَنْ كَفَّرَ مَنْ خَالَفَه وكَذَلِك الحُلُولِيَّةُ والمُعَطِّلَةُ لِلذَّاتِ والصِّفَاتِ يُكَفِّرُ كَثِيرٌ مِنْهم مَن خَالَفَهم فالَّذِين يَقُولُون : إنَّه بِذَاتِه فِي كُلِّ مَكانٍ مِنْهُم مَنْ يُكَفِّرُ مَنْ خَالَفَه ، والَّذِين يَقُولون: إنَّه لا مُبَايِنٌ لِلمَخْلوقَاتِ ولا عَالٍ عَلَيْها مِنْهُم مَنْ يُكَفِّرُ مَنْ خَالَفَه ، والَّذِين يَقُولُون لَيْسَ كَلامُه إلا مَعْنًى واحِدًا قائِمًا بِذَاتِه ، ومَعْنَى التَّوْرَاةِ والإنْجِيلِ والقُرْآنِ العَزِيزِ لَيْسَ هُو كَلامَه بَلْ كَلامُ جِبْرِيلَ أوْ غَيْرِه فَمِنْهم مَنْ يُكَفِّرُ مَنْ خَالَفَه والَّذِين يَقُولُون بِقِدَمِ بَعْضِ أحْوَالِ العَبْدِ كالَّذِين يَقُولُون بِقِدَمِ صَوْتِه بِالقُرْآنِ أوْ قِدَمِ أفْعَالِه أوْ صِفَاتِه وقِدَمِ أشْكَالِ المِدَادِ فَمِنْهم مَنْ يُكَفِّرُ مَنْ خَالَفَه والَّذِين يَقُولُون بِقِدَمِ رُوحِ العَبْدِ أوْ بِقِدَمِ كَلامِه مُطْلَقًا أوْ قِدَمِ أفْعَالِه الصَّالِحَةِ أوْ أفْعَالِه مُطْلَقًا فَمِنْهُم مَنْ يُكَفِّرُ مَنْ خَالَفَه والَّذِين يَقُولُون إنَّ اللَّهَ يَرَى بِلا عَيْنٍ فِي الدُّنْيَا مِنْهم مَنْ يُكَفِّرُ مَنْ خَالَفَه والَّذِين يُهِينُون المُصْحَفَ ورُبَّمَا كَتَبُوه بِالنَّجَاسَةِ فَمِنْهُم مَنْ يُكَفِّرُ مَنْ خَالَفَه ، ونَظَائِرُ هَذا مُتَعَدِّدَةٌ .
وأئِمَّةُ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ وأهْلِ العِلْمِ والإيمَانِ فِيهم العِلْمُ والعَدْلُ والرَّحْمَةُ فَيَعْلَمُون الحَقَّ الَّذِين يَكُونُون بِه مُوَافِقِين لِلسُّنَّةِ سَالِمِينَ مِنَ البِدْعَةِ ويَعْدِلُون علَى مَنْ خَرَجَ مِنْهُما ولَوْ ظَلَمَهُم . كَمَا قَال تَعَالى :{ كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وَيَرْحَمُون الخَلْقَ فَيُرِيدُون لَهُم الخَيْرَ والهُدَى والعِلْمَ لا يَقْصِدُون لَهُم الشَّرَّ ابتِدَاءً بَلْ إذَا عَاقَبُوهم وبَيَّنُوا خَطَأَهُم وجَهْلَهُم وظُلْمَهم كَان قَصْدُهُم بِذَلِك بَيَانَ الحَقِّ ورَحْمَةَ الخَلْقِ والأمْرَ بالمَعْرُوفِ بِالنَّهْيِ عَن المُنْكَرِ وأنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّه لِلَّهِ وأنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِي العُلْيَا فَالمُؤْمِنُون أهْلُ السُّنَّةِ هُم يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، ومَنْ قَاتَلَهم يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ . كَالصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَع أهْلِ الرِّدَّةِ وكَعَلِيِّ بنِ أبِي طَالِبٍ مَع الخَوَارِجِ المَارِقِينَ ومَع الغُلاةِ والسبئِيَّةِ فَأعْمَالُهم خَالِصَةٌ لِلَّهِ تَعَالى مُوَافِقَةٌ لِلسُّنَّةِ وأعْمَالُ مُخَالِفِيهم لا خَالِصَةٌ ولا صَوَابٌ ، بَلْ بِدْعَةٌ واتِّبَاعُ الهَوَى .
ولِهَذا يُسَمَّوْنَ أهْلَ البِدَعِ وأهْلَ الأهْوَاءِ . قَال الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ رَحِمَه اللَّهُ فِي قَوْلِه تَعَالى :{ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } قَال : أَخْلَصُه وأَصْوَبُه قَالُوا : يَا أبَا عَلِيٍّ مَا أخْلَصهُ وأصْوَبهُ ؟ قَال :
إنَّ العَمَلَ إذَا كَان خَالِصًا ولَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وإذَا كَان صَوَابًا ولَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا والخَالِصُ أنْ يَكُونَ لِلَّهِ والصَّوَابُ أنْ يَكُونَ علَى السُّنَّةِ . فَلِهَذا كَان أهْلُ العِلْمِ لا يُكَفِّرُون مَنْ خَالَفَهم وإنْ كَان ذَلِك المُخَالِفُ يُكَفِّرُهم لأنَّ الكُفْرَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ . فَلَيْسَ لِلإنسَانِ أنْ يُعَاقِبَ بِمِثْلِه كَمَنْ كَذَبَ عَلَيْك وزَنَى بِأهْلِكَ لَيْسَ لكَ أنْ تَكْذِبَ علَيْه وتَزْنَِي بِأهْلِه لأنَّ الكَذِبَ والزِّنَا حَرَامٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالى .
وكَذَلِك التَّكْفِِير حَقٌّ لِلَّهِ فَلا يَكْفُرُ إلا مَنْ كَفَّرَه اللَّهُ ورَسُولُه . وأيْضًا فإنَّ تَكْفِيرَ الشَّخْصِ المُعَيَّنِ وجَوَازَ قَتْلِه مَوْقُوفٌ عَلَى أنْ تَبْلُغَه الحُجَّةُ النَّبَوِيَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ مَنْ خَالَفَها وإلا فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا مِنَ الدِّينِ يَكْفُرُ . ولِهَذا لَمَّا اسْتَحَلَّ طَائِفَةٌ مِن الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ كَقُدَامَةَ بنِ مَظْعُونٍ وأصْحَابِه شُرْبَ الخَمْرِ وظَنُّوا أنَّها تُبَاحُ لِمَنْ عَمِلَ صَالِحًا علَى مَا فَهِمُوه مِنْ آيَةِ المَائِدَةِ اتَّفَقَ عُلَماءُ الصَّحَابَةِ كَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وغَيْرِهِما عَلَى أنَّهُم يُسْتَتابُونَ فإنْ أَصَرُّوا عَلَى الاسْتِحْلالِ كَفَرُوا ، وإنْ أقَرُّوا بِه جُلِدُوا ، فَلَمْ يُكَفِّرْهم بِالاسْتِحْلالِ ابْتِدَاءً لاِجْلِ الشُّبْهَةِ الَّتِي عَرَضَت لَهُم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم الحَقُّ ، فإذَا أًصَرُّوا علَى الجُحُودِ كَفَرُوا . وقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ الَّذِي قَال لاِهْلِه : إذَا أنَا مِتُّ فاسْحَقُونِي ثُمَّ ذُرُّونِي فِي اليَمِّ فَواللَّهِ لَئِنْ قَدرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبني عَذَابًا مَا عَذَّبَه أحَدًا مِنَ العَالَمِينَ . فأمَرَ اللَّهُ البَرَّ فَرَدَّ مَا أَخَذَ مِنْه وأمَرَ البَحْرَ فَرَدَّ ماَ أخَذَ مِنْه وقَال : مَا حَمَلَك علَى مَا فَعَلْتَ ؟ فقَال : خَشْيَتُك يَا رَبِّ ، فَغَفَرَ لَه . فَهَذا اعْتَقَدَ أنَّه إذَا فَعَلَ ذَلِك لا يَقْدِرُ اللَّهُ علَى إعَادَتِه وأنَّه لا يُعِيدُه أوْ جَوَّزَ ذَلِك وكِلاهُما كُفْرٌ ، لَكِنْ كَانَ جَاهِلا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَه الحَقُّ بَيَانًا يَكْفُرُ بِمُخَالَفَتِه فَغَفَرَ اللَّهُ لَه . ولِهَذا كُنْتُ أقُولُ لِلجَهْمِيَّةِ مِن الحُلُولِيَّةِ والنُّفَاةِ الَّذِين نَفَوْا أنَّ اللَّهَ تَعَالى فَوْقَ العَرْشِ لَمَّا وَقَعَتْ مِحْنَتُهم : أَنَا لَوْ وافَقْتُكم كُنْتُ كَافِرًا ؛ لأنِّي أعْلَمُ أنَّ قَوْلَكم كُفْرٌ وأنْتُم عِنْدِي لاَ تَكْفُروَن لأنَّكُم جُهَّالٌ ، وكَان هَذا خِطَابًا لِعُلَمَائِهم وقُضَاتِهم وشُيُوخِهم وأُمَرَائِهم . وأَصْلُ جَهْلِهم شُبُهاتٌ عَقْلِيَّةٌ حَصَلَتْ لِرُءوسِهِم فِي قُصُورٍ مِنْ مَعْرِفَةِ المَنْقُولِ الصَّحِيحِ والمَعْقُولِ الصَّرِيحِ المُوَافِقِ لَه وكَان هَذا خِطَابَنَا .