البابُ السادسُ(7)
في الإيجازِ والإطنابِ والمساواةِ(8)
كلُّ ما يَجولُ(9) فى الصدرِ(10) من المعاني(11) يُمكِنُ أن يُعبَّرَ عنه(12)
بثلاثِ طُرُقٍ(1):
المساواةُ(2): وهي تأديةُ المعنى المرادِ(3) بعبارةٍ مساويةٍ له(4) بأن تكونَ(5) على الحدِّ الذى جَرَى به عُرفُ أوساطِ الناسِ(6)، وهم(7) الذين لم يَرْتَقوا(8) إلى درجةِ البلاغةِ(9) ولم يَنْحَطُّوا إلى درجةِ الفَهَاهَةِ(10).
نحوُ: (1) { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}(2).
و(3) الإيجازُ وهو(4) تأديةُ المعنى(5) بعبارةٍ ناقصةٍ عنه(6) مع وفائِها(7) بالغرَضِ(8)، نحوُ(9) { إِنَّمَا الأعمالُ بالنِّيَّاتِ}(10).
و(1):
قِفَا(2) نَبْكِ(3) من ذِكْرَى حَبيبٍ ومنزِلِ(4)
فإذا لم تَفِ(5) بالغرضِ(6) سُمِّيَ(7) إخلالاً(8) كقولِه(9):
والعيشُ(10) خيرٌ(11) في ظلا ..... لِ النُّوكِ(12) مِمَّن(13) عاش كدَّا(14)
مرادُه أنَّ العيشَ الرغْدَ(15) في ظلالِ الحمْقِ(16)
خيرٌ من العيشِ الشاقِّ في ظلالِ العقلِ(17).
و(1) الإطنابُ وهو(2) تأديةُ المعنى بعبارةٍ زائدةٍ عنه(3) مع الفائدةِ(4)، نحوُ(5) } رَبِّ إِنِّي وَهَنَ(6) الْعَظْمُ مِنِّي(7) وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً{(8) أي: كَبِرْتُ(9) فإذا لم تكنْ فى الزيادةِ(10) فائدةٌ(11) سُمِّيَ(12) تطويلاً إن كانت الزيادةُ (13) غيرَ متعيِّنَةٍ(14) و(15) حشْواً(16) إن تعيَّنَتْ،
فالتطويلُ، نحوُ: (1)
وَأَلْفَى قولَها كذِباً ومَيْناً(2)
والحشْوُ(3)، نحوُ:(4)
وأَعلَمُ علْمَ اليومِ والأمسِ قبلَه(5)
ومن دواعي الإيجازِ(1) تسهيلُ الحفظِ(2) وتقريبُ الفهْمِ(3) وضيقُ المقامِ(4) والإخفاءُ(5) وسآمةُ المحادَثةِ(6)
ومن دواعِي الإطنابِ تثبيتُ المعنى(7) وتوضيحُ المرادِ(8) والتوكيدُ(9) ودفعُ الإيهامِ(10).
______________________
(7) البابُ السادسُ
وهو آخِرُ الأبوابِ
(8) (في الإيجازِ والإطنابِ والمساواةِ) وهذا البابُ من أعظمِ أبوابِ البلاغةِ حتى قالَ بعضُهم: البلاغةُ هي الإيجازُ والإطنابُ.
(9) (كلُّ ما يَجولُ) أي: يدورُ ويَخْطِرُ.
(10) (في الصدرِ) أي: في صدرِ الإنسانِ وخَلَدِه.
(11) (من المعاني) أي: المقاصدِ.
(12) (يُمْكِنُ أن يُعبَّرَ عنه) تعبيرًا مقبولاً من البليغِ.
(1) (بثلاثِ طُرُقٍ) وهناك ثلاثُ طُرُقٍ أخرى للتعبيرِ عنه إلا أنها غيرُ مقبولةٍ؛ وذلك لأن المعنى المرادَ إما أن يُؤدِّيَه البليغُ بلفظٍ مساوٍ له أو لا، فالأوَّلُ يُسمَّى المساواةَ، والثاني إما أن يكونَ ناقصاً عنه أو زئداً عليه، والناقصُ إما وافٍ به ويُسمَّى إيجازاً أو غيرُ وافٍ ويُسمَّى إخلالاً والزائدُ إما لفائدةٍ، ويُسمَّى إطنابًا، وإما معيَّناً ويُسمَّى حَشْواً أو غيرُ معيَّنٍ ويُسمَّى تطويلاً، فصارت الطرُقُ ستَّةً: ثلاثةٌ مقبولةٌ وهي المساواةُ والإيجازُ والإطنابُ، وثلاثةٌ غيرُ مقبولةٍ وهي الإخلالُ والتطويلُ والحشْوُ وبِقَوْلِي مقبولاً من البليغِ يُعلَمُ أنََّ المرادَ بقَبولِ تلك الطرُقِ وعدَمِ قَبولِها بالنظَرِ لخصوصِ المتكلِّمِ البليغِ وبهذا الاعتبارِ يكونُ الكلامُ البليغُ منقسِماً إلى أقسامٍ ثلاثةٍ: مساوٍ ومُوجَزٍ ومُطْنَبٍ. وأما كلامُ أوساطِ الناسِ فلا يُوصَفُ بواحدٍ من الثلاثةِ.
الطريقةُ الأُولَى(2): (المساواةُ) قدَّمَها لقلَّةِ مباحثِها, ولأنَّ مقامَها مقامُ الإتيانِ بالأصلِ حيث لا مُقْتَضِيَ للعدولِ عنه بخلافِ مقامِ الإيجازِ؛ فإنه مقامُ ترْكِ أحَدِ المسنَدَيْن أو المتعلِّقاتِ، ومقامِ الإطنابِ فإنه مقامُ ذكْرِ ما لا يُحتاجُ إليه في أصلِ المعنى كقصْدِ البسطِ أو رعايةِ الفاصلةِ.
(3) (وهى تأديةُ المعنى المرادِ) أي: المقصودِ للمتكلِّمِ إفادتَه للمخاطَبِ.
(4) (بعبارةٍ مساويةٍ له) أي: منطبِقَةٍ عليه بمعنى أنها دالَّةٌ عليه بالمطابَقَةِ ليس فيها حذْفٌ عن أصلِها ولا زيادةٌ بتَكريرٍ أو تَتْميمٍ أو اعتراضٍ أو غيرِها، فقولُنا: جاءني إنسانٌ وجاءني حيوانٌ ناطِقٌ كِلاهما على طريقةِ المساواةِ وإن كان بينَهما تَفاوُتٌ من حيث الإجمالُ والتفصيلُ؛ لأنَّ كُلاّ أدَّى المعنى المرادَ دالاّ عليه مطابَقةً, قالَ عبدُ الحَكيمِ: والقولُ بأنَّ أحدَهما إيجازٌ والآخرَ إطنابٌ وهْمٌ. انتهى.
(5) (بأن تكونَ ) أي: العبارةُ.
(6) (على الحدِّ الذي جَرَى به عُرفُ أوساطِ الناسِ ) أي: على الحدِّ الذي جرَتْ به عادتُهم في تأديةِ المعاني التي تَعْرِضُ لهم عندَ مُخَاطباتِهم.
(7) (وهُمُ) أي: والمرادُ بأوساطِ الناسِ.
(8) (الذين لم يَرتَقُوا) أي: لم يَبْلُغوا في ارتقائِهم من جهةِ أداءِ المعاني.
(9) (إلى درجةِ البلاغةِ) التي هي مطابقَةُ الكلامِ لِمُقتَضَى الحالِ، أي: لم يَرتقوا إلى درجةِ البُلَغاءِ
(10) (ولم يَنحطُّوا إلى درجةِ الفَهاهةِ) أي: العجْزِ عن أداءِ أصْلِ المعنى المرادِ، بمعنى: أنهم لم يَنْحَطُّوا إلى درجةِ البُسَطاءِ، فهؤلاءِ حيث كانوا عامَّةً بالنسبةِ للبُلغاءِ لا يُلاحِظون النِّكاتِ التي يَقتضيها الحالُ, وإنما يأتون بكلامٍ يؤدِّي أصْلَ المعنى ويكونُ صحيحًا لمطابقتِه للغَةِ والنحوِ والصرْفِ فلا يُوصَفُ كلامُهم بواحدٍ من الأقسامِ الثلاثةِ لما قدَّمْنا أن تقسيمَ التعبيرِ إلى الثلاثةِ خاصٌّ بالكلامِ البليغِ. نعم إذا أدَّى البليغُ مقصودَه بكلامٍ على قدْرِ أداءِ الأوساطِ يُسمَّى هذا الكلامُ مساواةً. هذا ويُؤخذُ من قولِه: (الحدُّ) أنَّ للأوساطِ حدًّا معلوماً من الكلامِ في إفادةِ كلِّ معنًى لا قدرَةَ لهم على أزيدَ من ذلك ولا أنقصَ منه, وهذا شأنُهم بخلافِ البُلَغَاءِ فإن لهم المقدِرةَ عَلَى تأديةِ المعنى الواحدِ بعباراتٍ مختلِفةٍ في الطولِ والقِصَرِ. ثم المساواةُ نوعان: أحدُهما مساواةٌ مع الاختصارِ, وهي أن يَتَحَرَّى البليغُ في تأديةِ المعنى أوجَزَ ما يكونُ من الألفاظِ؛ كقولِه تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلاَّ الْإِحْسَانُ)و
(1) (نحوُ ) قولِه تعالى:
(2) ({ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ }) { حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِه } فهذا الكلامُ مساوٍكما مثَّلَ به الإيضاحَ؛ لأن المعنى قد أُدِّيَ بما يَستحِقُّه من التركيبِ الأصلِيِّ, والمقامُ يَقتضِي ذلك؛ إذ لا مُقْتَضِي للعدولِ عنه إلى الإيجازِ والإطنابِ. قالَ البَهاءُ السُّبْكِيُّ: وفيه نظَرٌ؛ لأنَّ فيه حذفَ موصوفِ الذين ا هـ والنوعُ الثاني: مساواةٌ بدونِ اختصارٍ, ويُسمَّى المُتَعارَفَ, وهو تأديةُ المعاني بألفاظٍ على قدْرِها من غيرِ طلَبِ الاختصارِ، كقولِه تعالى: { حُورٌ مَقْصُورَاتٌ في الْخِيَامِ }.
(3) (و) الطريقةُ الثانيةُ
(4) (الإيجازُ وهو) لغةً: التقصيرُ, يُقالُ: أوْجَزْتُ الكلامَ أي: قَصَّرْتُه. واصطلاحاً.
(5) (تأديةُ المعنى ) المرادِ للمتكلِّمِ.
(6) (بعبارةٍ ناقصةٍ عنه) أي: عن المعنى المرادِ بأن تكونَ أقلَّ من الحدِّ الذي جَرَى به عُرْفُ أوساطِ الناسِ.
(7) (مع وفائِها) أي: العبارةِ.
(8) (بالغرَضِ) أي: بالمعنى الذي هو الغرضُ المقصودُ بأن تكونَ دَلالتُها عليه واضحةً في تراكيبِ البُلغاءِ, لا خفاءَ فيها. قال الدُّسوقِيُّ: وفاؤُها به إما باعتبارِ اللزومِ إذا لم يكنْ هناك حذفٌ أو باعتبارِ الحذْفِ الذي يُتَوَصَّلُ إليه بسهولةٍ من غيرِ تَكلُّفٍ ا.هـ. فيَشمَلُ نَوْعَي الإيجازِ الآتيين, ويُسمَّى أيضاً بالاختصارِ كما يُؤخَذُ من الْمِفتاحِ للسكَّاكِيِّ, وبه صرَّحَ الطِّيـبِيُّ، وفرَّقَ بعضُهم بأن الاختصارَ خاصٌّ بحذفِ الجُمَلِ فقط بخلافِ الإيجازِ, قالَ البَهاءُ السُّبْكِىُّ: وليس بشيءٍ انتهى.
(9) (نحوُ) قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:
(10) (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) أي: صحَّةُ الأعمالِ بالنيَّاتِ, فهذه الجملةُ القصيرةُ جمَعَتْ حُكْمَ الأعمالِ جميعِها بأنها لا تَصِحُّ إلا بنيَّةٍ, وإنما قدَّرْنا الصحَّةَ؛ لأنها أكثرُ لزومًا للحقيقةِ من الكمالِ؛ لأنه متى وُجِدَ الكمالُ وُجِدت الصحَّةُ من غيرِ عكْسٍ.
(1) (و) قولُ أمرئِ القيسِ في صدْرِ مُعلَّقَتِه المشهورةِ.
(2) (قِفا) أمْرٌ من الوقوفِ خاطَبَ به اثنين كانا يَسيران معه, أو خاطَبَ به واحداً, وهذه الألِفُ ليست ضميراً, وإنما هي منقلِبةٌ عن نونِ التوكيدِ إجراءً للوصْلِ مُجْرَى الوقْفِ.
(3) (نَبْكِ) فعلٌ مضارِعٌ من البكاءِ.
(4) (من ذِكْرى حبيبٍ ومنْزِلِ) أي: المكانِ الذي كان يَنزلُ به أحبابُه. تَمَامُ البيتِ: (بسِقْطِ اللِّوَى بينَ الدَّخُولِ فحَوْمَلِ) فصدْرُ هذا البيتِ مُوجَزٌ حيث أَفادَ أمْرَ صاحبَيْه أن يَقِفا معه ليُعاوِناه على البكاءِ عندَ منازِلِ أحبابِه التي كان يَلْقاهم فيها ولِيُجدِّدَ الذِّكرياتِ القديمةَ.
(5) (فإذا لم تَفِ) أي: العبارةُ الناقصةُ عن المعنى المرادِ.
(6) (بالغرضِ) المقصودِ بأن تكونَ دَلالتُها عليه خفيَّةً بحيث يُحتاجُ فيها إلى تَكلُّفٍ ونَصَبٍ.
(7) (سُمِّيَ) أي: تأديةُ المعنى بها.
(8) (إخلالاً) وحذْفاً رديئاً فهو تأديةُ المعنى بعبارةٍ ناقصةٍ عنه مع عدَمِ وفائِها حيثُ إن التوصُّلَ إلى المحذوفِ فيه بتَكَلُّفٍ, ويُسمَّى أيضاً عِيًّا وتقصيراً.
(9) (كقولِه) أي: حِلَّزَةُ اليَشْكُرِيُّ من بني يَشْكُرَ, بطْنٍ من بَكْرِ بنِ وائلٍ من قصيدةٍ قبلَها:
عيْشٌ بِجِدٍّ لا يَضُـ ..... ـرُّكَ النُّوْكُ ما أَوْلَيْتَ جِدًّا
(10) (والعيشُ) أي: المعيشةُ بمعنى ما يُتعَيَّشُ به من مأكلٍ ومشرَبٍ، وفيه حذفُ الصفةِ، والتقديرُ: والعيشُ الرَّغْدُ. المرادُ برَغْدِه كونُه لذيذًا, وقيلَ: المرادُ بالعيشِ الحياةُ والمرادُ برَغْدِها كونُها مع الراحةِ.
(11) (خيرٌ) بالرفْعِ خبرُ المبتدأِ.
(12) (في ظلالِ النُّوكِ) حالٌ من المبتدأِ على رأيِ سيبَوَيْهِ, والظلالُ جمْعُ ظُلَّةٍ, وهي ما يُتظَلَّلُ به كالخَيْمَةِ، والنُّوكُ بضَمِّ النونِ: الحُمْقُ, أي: فُقدانُ العقْلِ الذي يُتَأَمَّلُ به في عواقبِ الأمورِ وللإضافةِ من إضافةِ المشبَّهِ به للمشَبَّهِ, أي: في نُوكٍ شبيهٍ بالظلالِ بجامعِ الاشتمالِ.
(13) (مِن) عَيْشٍ.
(14) (مَن عاشَ كَدَّا) أي: مَكدودا مَتعوباً حالةَ كونِه في ظلالِ العقْلِ وتحتَ تأمُّلاتِه فالمصدَرُ بمعنى اسمِ المفعولِ, وهذا البيتُ يُفيدُ أن العيشَ في حالةِ فُقدانِ العقلِ, سواءٌ كان رَغْداً أو لا, خيرٌ من عيشِ المكدودِ, سواءٌ كان عاقلاً أو لا, مع أن هذا غيرُ مرادِ الشاعرِ بل.
(15) (مرادُه أن العيشَ الرَّغْدَ) أي: الناعِمَ فقط.
(16) (في ظلالِ الحمْقِ) أي: مع رَذيلةِ الجهالةِ وفُقدانِ العقْلِ.
(17) (خيرٌ مِن العيشِ الشاقِّ في ظلالِ العقلِ), والبيتُ لا يَفِي بهذا المعنى المرادِ؛ لأن اعتبارَ الرَّغْدِ في الْمِصراعِ الأوَّلِ في ظلالِ العقلِ في الْمِصراعِ الثاني غيرُ معلومٍ من الكلامِ, ولا يَدلُّ عليه دَلالةً واضحةً؛ إذ لا يَفهمُ السامعُ هذا المرادَ من البيتِ حتى يَتأمَّلَ في ظاهرِ الكلامِ فيَجِدُه غيرَ صحيحٍ لاقتضائِه أن العيشَ ولو مع النَّكَدِ في حالةِ الحمْقِ خيرٌ من العيشِ النَّكِدِ في ظلالِ العقلِ، وهذا غيرُ صحيحٍ لاستوائِهما في النَّكَدِ وزيادةِ الثاني بالعقلِ الذي من شأنِه التوسِعَةُ وإطفاءُ بعضِ نَكِدَاتِ العيشِ فلأجْلِ صحَّةِ الكلامِ قدَّرَ ما ذكَرَ من الأمرين في البيتِ. هذا وقد ذكَرَ الجلالُ السيوطيُّ في شرْحِ نظمِه عقودِ الْجُمَاِن أنه لا إِخلالَ في البيتِ, بل فيه النوعُ البديعيُّ المسمَّى بالاحتِباكِ حيث حذَفَ من كلِّ ما أَثبَتَ مقابِلَه في الآخَرِ فما ذكَرَه في كلِّ مَحَلٍّ قرينةٌ معيِّنَةٌ للمحذوفِ من الْمَحَلِّ الآخَرِ.
(1) (و ) الطريقةُ الثالثةُ.
(2) (الإطنابُ وهو) لغةً: المبالَغةُ. يُقالُ: أَطنبَ في الكلامِ, أي: بالَغَ فيه. واصطلاحاً:
(3) (تأديةُ المعنى بعبارةٍ زائدةٍ عنه) بأن تكونَ أعلى من حدِّ عُرْفِ أوساطِ الناسِ.
(4) (مع الفائدةِ) الداعيَةِ إلى الزيادةِ وهي تقويتُه وتوكيدُه.
(5) (نحوُ) قولِه تعالى حكايةً عن قولِ زكريَّاءَ ودعائِه عليه السلامُ:
(6) (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ) أي: رَقَّ وضَعُفَ
(7) (الْعَظْمُ مِنِّي ) أي: مِن الكِبَرِ وخَصَّ العظْمَ؛ لأنه عمودُ البدَنِ وبه قِوامُه, فإذا وَهَنَ تَدَاعَى وتَساقَطتْ قوَّتُه.
(8) (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) تَمييزٌ أي: فَشَا في رَأْسِي الشيْبُ. واشتعلَت النارُ إذا تَفرَّقتْ في التهابِها وصارت شُعَلاً
(9) (أى كَبِرْتُ) أفادَ به أن هذا الكلامَ مُطنَبٌ وأصلُه ربِّ إني كَبِرْتُ أو شِخْتُ؛ إذ الكِبْرُ والشيخوخةُ يَشتملان على ضعْفِ البدَنِ وشَيبِ الرأسِ المتعرِّضِ لهما, قالَ بعضُهم: ويُسمَّى الإطنابُ أيضاً إسهاباً, والحقُّ أنه أَخصُّ منه فإن الإسهابَ التطويلُ لفائدةٍ أو لا لفائدةٍ كما ذكَرَه التَّنُّوخِيُّ وغيرُه ونَبَّه عليه البهاءُ السُّبْكِيُّ في عروسِ الأفراحِ.
(10) (فإذا لم تكنْ في الزيادةِ) أي: زيادةِ العبارةِ عن المعنى المرادِ.
(11) (فائدةٌ) داعيةٌ إلى ذلك.
(12) (سُمِّيَ) أي: تأديةُ المعنى على الوجهِ المذكورِ.
(13) (تطويلاً إن كانت الزيادةُ) في الكلامِ.
(14) (غيرَ متعيِّنَةٍ) أي: فالتطويلُ هو أن يَزيدَ اللفظَ على أصلِ المعنى لا لفائدةٍ بشرْطِ أن لا يَتعيَّنَ المزيدُ.
(15) (و) سُمِّيَ التأدِّي المذكورُ
(16) (حشْواً) إن تَعيَّنَتْ أي: الزيادةُ أي: فالحشْوُ هو أن يُزادَ في الكلامِ زيادةٌ بلا فائدةٍ بشرْطِ تَعيُّنِ تلك الزيادةِ فالفرْقُ بينَ الحشْوِ والتطويلِ على هذا تَعَيُّنُ الزيادةِ وعدمُها. (فائدةٌ) ظاهرُ صنيعِ الكتابِ أن المساواةَ والإيجازَ لا يَتقيَّدان بالفائدةِ وفيه نظَرٌ؛ لأنهما حينئذٍ لا يكونان من البلاغةِ, فالأَوْلَى تقييدُهما بها أيضاً ويُرادُ بها ما يَعُمُّ كونَ المأتيِّ به هو الأصلَ ولا مقْتَضِيَ للعدولِ عنه كما في المساواةِ حيث لا تُوجدُ في المقامِ مناسبةٌ سِواها.
(1) (فالتطويلُ، نحوُ) قولِ عديِّ بنِ زيدٍ العَبَّاديِّ من قصيدةٍ طويلةٍ يُخاطِبُ بها النعمانَ بنَ المنذِرِ حينَ كان حابِساً له ويُذكِّرُه فيها ما وَقعَ لِجُذَيْمَةَ الأبرشِ والزَّبَّاءِ من الخطوبِ:
وقدَّدَتِ الأديمَ لرَاهِشَيْهِ
(2) (وأَلْفَى قولَها كذِباً ومَيْنَا)
قولُه: قدَّدَتْ أي: قطَّعَت الزَّبَّاءُ وهي امرأةٌ وَرِثَت المُلْكَ عن أبيها. والأديمُ: الْجِلْدُ. والراهشان، العِرْقان في باطنِ الذراعِ يتَدَفَّقُ الدمُ منهما عند القطْعِ. وأَلْفَى: أي: وَجَدَ جُذَيْمَةُ الأبرشُ. والْمَيْنُ: هو الكذِبُ فَهُمَا بمعنًى واحدٍ وأحدُهما كافٍ, ولم يَتعيَّن المزيدُ لصحَّةِ المعنى بكلٍّ منهما فزيادةُ أحدِهما تطويلٌ لا فائدةَ فيه. ولا يُقالُ: إنَّ الفائدةَ التأكيدُ حيث إنَّ عطْفَ أحدِ المترادِفَيْن على الآخَرِ يُفيدُ تقريرَ المعنى؛ لأنَّا نقولُ التأكيدُ إنما يكونُ فائدةً إن قُصِدَ لاقتضاءِ المَقَامِ إيَّاه, والمقامُ هنا ليس مقْتَضِياً لذلك؛ لأن المرادَ منه الإخبارُ بأن جُذَيْمَةَ الأبرشَ غَدَرَتْ به الزَّبَّاءُ, وقَطَّعَتْ رَاهِشَيْهِ وسالَ منهما الدمُ حتى ماتَ وأنه وَجَدَ ما وَعَدَتْه من تَزوُّجِه كذِباً مَحْضاً.
(3) (والحشْوُ) نوعان: أحدُهما الْمُفسِدُ وهو ما أَفادَ معنًى فاسداً، كقولِ أبي الطيِّبِ المتنَبِّي:
ولا فضْلَ فيها للشجاعةِ والنَّدَى ..... وصبرِ الفتى لولا لقاءُ شَعُوبِ
فإنَّ لفظَ النَّدَى فيه حشْوٌ يُفسِدُ المعنى؛ لأنَّ المعنى بالنسبةِ له لا فضْلَ في الدنيا للنَّدَى لولا الموتُ وهذا غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا عَلِمَ أنه يموتُ هانَ عليه بَذْلُ مالِه. والنوعُ الثاني: الحشْوُ غيرُ المفسِدِ وهو ما كان فيه زائدٌ متعَيِّنٌ ولكنَّ ذكْرَه لا يُفسِدُ المعنى.
(4) (نحوُ) قولِ زُهَيْرِ بنِ أبى سُلْمَى من قصيدتِه التي قالَها في الصلْحِ الواقِعِ بينَ قيسٍ وذُبْيَانَ.
(5) (وأعلَمُ علْمَ اليومِ والأمْسِ قبلَه) ..... ولكنني عن علْمِ ما في غَدٍ عَمِي
قولُه: علْمَ اليومِ مصدرٌ مبيِّنٌ للنوعِ, أي: وأَعلَمُ علْماً متَعلِّقاً بهذين اليومين. وقولُه: عمِي أي: جاهلٌ وغيرُ عالِمٍ ماذا يكون غداً، والمعنى أن علْمِيَ محيطٌ بما مضَى, وبما هو حاضِرٌ ولكنني عَمٍ أي: جاهلٌ عن الإحاطةِ بما هو منتظَرٌ متوقَّعٌ، والشاهِدُ في قولِه قبلَه فإنه حشْوٌ حيث إنَّ الأمسَ يدُلُّ على القَبْليَّةِ لليومِ لدُخولِ القبليَّةِ في مفهومِ الأمسِ؛ لأنه اليومُ الذي قبلَ يومِك وهو متعيِّنٌ للزيادةِ؛ إذ لا يصِحُّ عطفُه على اليومِ كما عطَفَ الأمسَ ومع ذلك غيرُ مفسِدٍ إذ لا يَبْطُلُ بوجودِه المعنى.
(1) (ومن دواعي الإيجازِ) أي: الأسبابِ الداعيَةِ إلى تأديةِ المتكلِّمِ المعنى المرادَ بطريقِ الإيجازِ.
(2) (تسهيلُ الحفْظِ) قال الخليلُ الفراهيديُّ: الكلامُ يُبْسَطُ ليُفهمَ ويُختصَرُ ليُحفظَ والحفْظُ نقيضُ النِّسيانِ.
(3) (وتقريبُ الفهْمِ) على السامعِ كقولِك: كبِرْتُ فإنه أوجَزُ من قولِك: وَهَنَ العظْمُ مِنِّي.
(4) (وضيقُ المقامِ) كقولِ الصيَّادِ: غزالٌ. فإنَّ المقامَ لا يَسَعُ أن يُقالَ: هذا غزالٌ. ومنه أن الاشتغالَ بذكْرِه يُفضِي إلى تفويتِ الْمُهِمِّ, وهذه هي فائدةُ بابِ التحذيرِ والإغراءِ، وقد اجْتَمَعَا في قولِه تعالى: ( نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا) فناقةُ اللهِ تحذيرٌ بتقديرِ ذَرُوا وسُقْيَاهَا إِغْرَاءٌ بتقديرِ الْزَمُوا.
(5) (والإخفاءُ) عن غيرِ المخاطَبِ من الحاضرين، نحوُ قولِك: جاءَ تريدُ خالداً لمن عَلِمَه أنه دائماً مصاحِبٌ لك حيث صارت صُحبتُه لك قرينةً عليه عندَ عدَمِ ذكْرِه.
(6) (وسآمةُ المحادَثةِ) أي: من تطويلِ الكلامِ بأن يُقصَدَ تعديدُ أشياءَ فيكونُ في تَعدادِها طُولٌ وسآمةٌ, فيُحذَفُ ويُكتَفَى بدلالةِ الحالِ وتُترَكُ النفْسُ تَجولُ في الأشياءِ المكتَفَى بالحالِ عن ذكرِها, ولهذا القصْدُ يُؤَثِّرُ في المواضعِ التي يُرادُ بها التعجُّبُ والتهويلُ على النفوسِ، ومنه قولُه تعالى في أهل الجنةِ: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) فحذَفَ الجوابَ؛ إذ كان وصْفُ ما يَجِدونه ويَلْقَوْنه عندَ ذلك لا يَتناهَى فجَعلَ الحذْفَ دليلاً على ضِيقِ المقامِ من وصْفِ ما يُشاهدونه وتُرِكَت النفوسُ تقدِّرُ ما شاءته, ولا تَبلُغُ مع ذلك كُنْهَ ما هنالك, وكذلك قولُه تعالى: ( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) أي: لَرَأيْتَ أمراً عظيماً لا تَكادُ تُحيطُ به العبارةُ.
(7) (ومن دواعِي الإطنابِ تثبيتُ المعنى) أي: تمكينُه وتقريرُه في ذهْنِ السامعِ نحوُ قولِه تعالى: { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ} والأصلُ هو الصَّمَدُ.
(8) (وتوضيحُ المرادِ) أي: زيادتُه نحوُ قولِك: خالدٌ عندي لمن قالَ: أينَ خالدٌ؟
(9) (والتوكيدُ) نحوُ قولِه تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}فكرَّرَ اسمَ الإشارةِ تأكيداً في أنهم كما خُصِّصُوا في الدنيا بالهُدى خُصِّصُوا بالفلاحِ في الآخرةِ.
(10) (ودفعُ الإيهامِ) بياءِ التحتيَّةِ أي: إزالةُ اللُّبْسِ حيث يُوهِمُ الضميرُ مثلاً أنه غيرُ الأوَّلِ، نحوُ قولِه تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ} لو قال: تؤتِيه لاَوْهَمَ أنه الأوَّلُ، قالَه ابنُ الخشَّابِ، ونحوُ قولِه تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} لأنه لو قالَ عليهم دائرتُه لأَوْهَمَ أن الضميرَ عائدٌ إلى اللهِ تعالى.