المجموعة الثالثة:
1: كيف يكون التأسيس العلمي؟
معنى التأسيس العلمي:
أن يكون لدى الطالب في كل علم من العلوم الشرعية وما يعين عليها من العلوم المساعدة أساساً متيناً.
ويقصد بالأساس المتين :
· أن يكون أصلا مختصرا يتقن دراسته ، ويضبط مسائله.
· أن يلمّ بعامّة مسائل تلك العلوم إلماماً حسناً بما يناسب المبتدئين من طلاب العلم
· ينتقل بعد ذلك انتقالاً صحيحاً إلى مرحلة المتوسّطين.
أهمية التأسيس العلمي
مرحلة التأسيس العلمي هي أولى المراحل وأهمّهمطوّل:الأساس الذي يبني عليه الطالب علمه ؛ فمن أحسن فيها كان ما بعدها يسيراً عليه، ومن أخلّ بها فهو إما طالب محروم من مواصلة طلب العلم، وإما طالب ظاهر النقص في الأدوات العلمية، وسيظهر أثر نقصه وتفريطه عليه في المراحل التالية.
كيف يكون التأسيس العلمي؟
يكون التأسيس العلمي الجيّد في كلّ علم على هذه الركائز الأربع:
الركيزة الأولى: أن يدرس كتاباً مختصراً غير مطوّل : حتى يتمكن من الإلمام بمسائل ذلك العلم إلماماً شاملاً بما يناسب المبتدئين فيه في مدّة قصيرة نسبياً.
*الهدف من دراسة الكتاب المختصر:
· أبواب العلم الذي يدرسه، ومسائل كلّ باب.
· يعرف خلاصة القول في كلّ مسألة.
· يعرف كيف يدرس المسائل العلمية في ذلك العلم.
الركيزة الثانية: أن تكون دراسته دراسة متقنة :والدراسة المتقنة ترتكز على أمرين :
1-الضبط: وضبط المسائل العلمية له طريقتان:
الأولى: ضبط الصدر : حفظ المسائل العلمية عن ظهر قلب.
الثانية: ضبط الكتاب: تقييد المسائل العلمية في كتاب يحفظها؛ وتسهل مراجعته
2-المراجعة : أن يتعاهد ما درس بالمراجعة ومن دوام على المراجعة فإنه :
-يثبت علمه ولا ينساه.
-تتّسع مداركه شيئاً فشيئاً بكثرة المراجعة والتأمّل والإضافة.
-تزداد بركته وتعظم بالإفادة منه.
الركيزة الثالثة: أن تكون دراسته ميسّرة غير شاقة : لأنّ الذي يتكلّف طريقة عسرة عليه لا يواصل طلب العلم غالباً، وقد قيل: (المنبتّ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع).
الركيزة الرابعة: الإشراف العلمي : ذلك لأن طالب العلم في بداية طلبه للعلم يحتاج إلى من يرشده في الأمور التالية :
· يعرّفه بجوانب الإجادة والإحسان لديه، ومواضع الخلل والتقصير.
· يقوّم له دراسته وتحصيله، ويرشده إلى الخطة المنهجية التي تصلح له.
· يحميه من خطر انحراف منهجه في طلب العلم وذلك بمنع الخطأ والالتباس لديه في تصور المسائل العلمية، والبناء عليها.
2-ما هي سمات مرحلة البناء العلمي؟
معنى البناء العلمي
أن يتعلم الطالب تفاصيل المسائل العلمية تعلما منظما متوازناً شاملاً لأبواب العلم الذي يطلب ؛هي المرحلة التي ينتقل بها الطالب من مستوى المبتدئين إلى مستوى المتقدّمين في طلب العلم بإذن الله تعالى.
أهميتها :فيها أكثر التحصيل العلميالمنظّم لطالب العلم،لذلك ينبغي أن يكون طالب العلم حسن الاست، واد لهذه المرحلة، وأن يعرف لها قدرها ويجتهد فيها اجتهاداً بالغاً.
سمات مرحلة البناء العلمي
تمتاز الدراسة في مرحلة البناء العلمي بأنّها أيسر على الطالب،و أكثر فائدة، و أغزر مادّة علمية، وذلك لأمور:
· أولها: أن العلم الذي يطلبه الطالب أضحى واضح المعالم لديه، وخطته المنهجية بيّنة.
· ثانيها: أنّ كثيراً من مسائل ذلك العلم قد درسها الطالب على قدرٍ مناسب، فيسهل عليه بعد ذلك دراستها بتوسّع أكثر.
· ثالثها: أن الطالب في هذه المرحلة يكون قد تبيّن له ما يجيده من المهارات وما يبرع فيه؛ فيوجّه عنايته إلى ما يحسن من العلوم، وبالطريقة التي تكون أنفع له وأيسر عليه، وهذا أمر يختلف فيه طلاب العلم كثيراً.
*يحتاج الطالب في هذه المرحلة إلى أمرين مهمّين:
الأول: إدارة وقته وتنظيمه ليمكنه مواصلة طلب العلم بإتقان.
الثاني: القدرة على تصنيف المسائل العلمية وفهرستها بمهارة؛ لأن التمهر في ذلك يختصر عليك كثيراً من الجهد والوقت.
3-وضح أنواع الأصول العلمية.
الأصول العلمية : ويراد به أن يتخذ الطالب أصلا علميا جامعا ؛ يتعاهده بالمراجعة والتهذيب والإضافة حتى ينمو هذا الأصل لديه بنموّ تحصيله العلمي.
أهمية الأصول العلمي :
· يكون الأصل العلمي بمثابة العدة العلمية لطالب العلم ؛يطالعها ويحررها ويضيف إليه .
· تؤثر كثيرا في التحصيل العلمي للعلماء ولذا أولاها العلماء المتقدمين عناية خاصة
· تؤثر كثيرا في إثراء وضبط التحصيل العلمي وبنائه .
· سنن العلماء في بنائهم العلمي وإعدادهم العدة العلمية
· إذا أحسن الطالب بناء أصله العلمي ازداد معرفة بقيمته، وانتفاعاً به، ونهلاً منه، ومداومة على مطالعته حتى يكاد يحفظه.
أنواع الأصول العلمية : للعلماء طرق متنوّعة في بناء أصولهم العلمية.
تنوّع طرق بناء الأصول العلمية يفيد الطالب في اختيار أقرب الطرق إلى نفسه وموافقتها لما يحسنه. وذلك بسبب :
· اختلاف الطلاب في أوجه العناية العلمية .
· اختلاف ملكات الطلاب وقدراتهم.
· تباين الفرص العلمية المتاحة للطلاب .
النوع الأول: الأصول المبنية من كتب عالم من العلماء.
يقبل الطالب على كتب عالم واسع المعرفة والاطلاع حسن الفهم كثير التأليف ويلخص مسائلها؛ حتى يكون لديه أصل علمي حسن من كتب ذلك الإمام .
أمثلة على الطريقة :
-ما فعله الفقيه الحنبلي ابن مفلح أقبل على جمع مسائل الإمام أحمد ؛ قال عنه ابن القيم: (ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد من ابن مفلح).
-ما فعله بعض طلاب العلم المعاصرين بكتب الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله ودروسه الصوتية
مميزات الطريقة ومآخذها :
أنّ هذه الطريقة لا تؤتي ثمارها المأمولة حتى يصبر عليها الطالب مدة طويلة من الزمن، يتفقّه في كتب ذلك العالم ؛ ولا يحصل البناء العلمي الحسن بمجرد القراءة العابرة.
النوع الثاني: العناية بالكتب الأصول في علم من العلوم.
هذا النوع من الأصول له طابع التخصص ؛ كأن يعتني طالب علم التفسير بتفسير مهمّ فيكثر من قراءته حتى يستظهر مسائله ويعتني طالب علم الفقه بكتاب جامع في الفقه فيضبط مسائله
أمثلة على الطريقة :
أ:قال ابن فرحون المالكي: (لازمت تفسير ابن عطية حتى كدت أحفظه).
ب:ونقل القاضي عياض عن ابن التبان أنه قرأ المدونة أكثر من ألف مرة.
مميزات الطريقة ومآخذها :
تتميز هذه الطريقة بالضبط ؛ لأن كثرة المراجعة تورث الإتقان ؛ و الإتقان مقدم على الكثرة (ضبط الصحيح القليل أولى من معالجة الكثير الذي لا يميز صحيحه من سقيمه ، وأنّ من عجز عن معرفة القليل الصحيح فلا معنى لاستكثاره مما لا يميّزه).ذكره الإمام مسلم في مقدمة صحيحه
النوع الثالث: أن يتخذ الطالب أصلاً يستفيده من كتب متعددة.
فيعكف على هذه الكتب بالجمع والتصنيف والتلخيص.
أمثلة على الطريقة :
-كما لخّص الماوردي أقوال المفسّرين من مصادر متعددة في كتابه "النكت والعيون"، وتبعه على ذلك ابن الجوزي في كتابه "زاد المسير في علم التفسير" وزاد عليه كثيراً.
- كمال خّص ابن تيمية أقوال السلف في التفسير من خمسة وعشرين تفسيراً مسنداً حتى صارت له معرفة حسنة واسعة بأقوال السلف في التفسير.
النوع الرابع: التأليف لغرض التعلّم.
وذلك بان يعيد التأليف ويكرره في فن معين من العلوم إلى أن يؤلف أصلا كبيرا متقنا فيه .
أمثلة على الطريقة :
السيوطي رحمه الله فإنّه "ألّف التحبير في علم التفسير" وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وكرّر التأليف في علوم القرآن على صور مختلفة إلى أن ألّف كتابه الكبير "الإتقان في علوم القرآن"
الذهبي في علم التاريخ والسير فإنّه كرر التأليف فيه وتلخيص الأحداث والسير من مصادر متعددة؛ فألّف "تاريخ الإسلام"
النوع الخامس: الاجتهاد في شرح كتاب من الكتب المختصرة الشاملة لعامّة مسائل العلم الذي يطلبه .
وذلك بأن يشرح كتابا مختصرا شاملا ؛شرحاً وافياً حافلاً يعتني بتحريره وتهذيبه حتى يكون أصلا جامعًا لمسائل ذلك العلم.
أمثلة على الطريقة :
-ما فعله ابن القيّم لمّا شرح كتاب منازل السائرين في كتابه العظيم "مدارج السالكين" فشرحه شرحاً وافياً بديعاً محرراً حتى كان من أهمّ مراجع علم السلوك.
-وما فعله الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه لصحيح البخاري؛ فإنّه شرحه شرحاً كبيراً وافياً أمضى فيه أكثر من ثلاثين سنة؛ واعتنى بتهذيبه وتحريره حتى عدّه العلماء مرجعاً مهماً لهم في شرح صحيح البخاري.
النوع السادس: أن يقسّم العلم الذي يطلبه إلى أبواب كبيرة، ويكون له في كلّ قسم أصل علمي كبير؛ إما أن يؤلّف فيه أو يجعل لنفسه ملخّصاً خاصّا به.
أمثلة على الطريقة :
-ما فعله الخطيب البغدادي في أكثر أبواب علوم الحديث
-ما فعله ابن أبي الدنيا في أبواب متفرّقة من العلم مما ، مستوعبةاجة إليه؛ حتى قيل فيه: "ملأ ابن أبي الدنيا الدنيا علما".
النوع السابع: الدراسات الجامعة المحررة لمسائل ذلك العلم .
وهي الدراسات الجامعة المحررة التي تقوم على معرفة واسعة،مستوعبة ،تامة يُعتمد فيها على مراجع كثيرة متعددة .
أمثلة على الطريقة و مآخذها: ما صنعه الأستاذ محمد عبد الخالق عضيمة في دراساته لأساليب القرآن؛ وأمضى في إعدادها أكثر من ثلاثة وثلاثين عاماً .
مميزات الطريقة ومآخذها : هذا النوع من الأصول العلمية أصعب هذه الأنواع وأعظمها مشقّة، لكنه من أكثرها فائدة.
4-بيّن الأمور التي يحذّر منها طالب العلمفي مرحلة البناء العلمي.
على طالب العلم أن يحذر من جملة من الأخطاء الشائعة؛ حتى يحصّن بناءه العلمي ويحسّنه، ومن هذه الأخطاء:
1-التصدّي للبناء العلمي على ضعف في التأسيس: إذا أحسّ الطالب من نفسه ضعف تأسيس في العلم الذي يطلبه فليبادر إلى معالجته، حتى يبدأ مرحلة البناء العلمي على استعداد حسن بإذن الله تعالى.
2-ضعف التوازن في البناء العلمي :فتجد بعض الطلاب متبحّراً في أبواب من العلم الذي يطلبه ضعيفاً في الأبواب الأخرى منه.
3-العشوائية في القراءة :القراءة الكثيرة غير المنظمة تجعل الطالب يمضي سنوات في طلب العلم و لا يستفيد سوى ثقافة عامة لا يستطيع البناء عليها ؛فالاسترسال في القراءة العشوائية يقود إلى إهمال الأصول العلمية وعدم إحكامها والتفريط فيها .
4-التصدّر قبل التأهل : فيشتغل الطالب بالتصدر وما يتطلبه، ويغفل عن مواصلة بنائه العلمي.
*إذا كان طالب العلم في بلد لا يوجد فيه من العلماء من يكفي لنشر العلم الذي تتوقف عليه صحّة عباداتهم ومعاملاتهم:
· أن يتحرى الصدق في نيّته مع تعليمه للناس وطلبه للعلم ؛ رُجي له أن يوفّق لحسن طلب العلم، وأن يبارك الله له في علمه .
· أن يوازن بين مواصلة بنائه العلمي، وتعليم الناس ما أحسن معرفته وتعلّمه من مسائل العلم وليتجنّب القول بما لا يعلم .
· أن يجعل له أوقاتا يعتزل فيها للانكباب على التعلم الجادّ في مسائل ذلك العلم على طريقة متوسّطة بين التطويل والاختصار.
· أن يحذر من الحديث في مسائل الترف العلمي، وما يجلب النزاع ويثير الأهواء، فإنّ ذلك من مظان الافتتان والانحراف عن الجادّة في طلب العلم.
5-الإكثار المرهق :وهذه من الآفات الخطيرة التي تؤثر على طالب العلم إذا أكثر على نفسه من المهام المتزامنة التي تشق عليه وتضعف عزمه وربما توقف عن البناء العلمي ؛ ولذلك يوصى طالب العلم أن يختار في البناء العلمي طريقة ميسّرة يمكنه المداومة عليها وإتمامها حتى ينتفع بها.