بسم الله والحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
فقد قسمت مقدمة ابن كثير رحمه الله تعالى إلى خمسة محاور رئيسة على النحو الآتي:
1- المقدمة.
2- مسائل في أصول التفسير.
3- مسائل في علوم القرآن.
4-فضل القرآن الكريم وأحكام متعلقة بتلاوة القرآن وآدابها.
5- ذكر فوائد متفرّقة.
وسأفردها في عدة مواضيع تسهيلا لعرضها وقراءتها علما بأني ضممت بعض المواضيع المتحدة في الفكرة أو المتقاربة واختصرت بعض الشواهد و أبقيت بعضها لتعددأوجه دلالتها في بعض المسائل والله وحده الموفق .
-الحمد والثناء على الله تعالى والصلاة والسلام على نبيه الكريم.
-التهديد والتوعد بالنار لمن كفر بالقرآن العظيم.
-الندب والحث على فهم القرآن وتدبره.
-الواجب على العلماء تجاه كتاب الله تعالى:
الكشف عن معاني كلام الله، وتفسيرذلك، وطلبه من مظانه، وتعلم ذلك وتعليمه، كما قال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونهفنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون}[آلعمران: 187.
فذم الله تعالى أهل الكتابقبلنا بإعراضهم عن كتاب الله إليهم، وإقبالهم على الدنيا وجمعها، واشتغالهم بغير ماأمروا به من اتباع كتاب الله.
- الواجب على المسلمين تجاه كتاب الله تعالى:
علينا أن ننتهي عما ذمهم الله تعالى به، وأن نأتمر بما أمرنا به، من تعلمكتاب الله المنزل إلينا وتعليمه، وتفهمه وتفهيمه، قال الله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحقولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهمفاسقون * اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكمتعقلون}[الحديد: 16، 17]. ففي ذكره تعالى لهذه الآيةبعد التي قبلها تنبيه على أنه تعالى كما يحيي الأرض بعد موتها، كذلك يلين القلوببالإيمان والهدى بعد قسوتها من الذنوب والمعاصي، والله المؤمل المسؤول أن يفعل بناذلك، إنه جواد كريم.
المسائل المهمة في أصول التفسير:
مصادر تفسير القرآن العظيم:
تقع ضمن المراتب الآتية:
المرتبة الأولى: أصح الطرق أنيفسر القرآن بالقرآن.
المرتبة الثانية: إن لم يجدفبالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له .قال تعالى: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [وقال رسول الله صلىالله عليه وسلم: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه))يعني: السنة.
كما قال رسول الله صلى الله عليهوسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: ((بم تحكم؟)). قال: بكتابالله. قال: ((فإن لم تجد؟)).قال: بسنة رسول الله. قال: ((فإن لم تجد؟)).قال: أجتهدبرأيي. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره، وقال: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله))وهذاالحديث في المسانيد والسنن بإسناد جيد، كما هو مقرر في موضعه.
المرتبة الثالثة: إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة،رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوا من القرائن والأحوالالتي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح.
عن مسروق، قال: قال عبد الله -يعني ابن مسعود- : والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلتوأين نزلت ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته.
وقال أبو عبد الرحمنالسلمي:حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون منالنبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بمافيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا.
ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس، ابن عم رسول اللهصلى الله عليه وسلم، وترجمان القرآن ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهحيث قال: ((اللهم فقهه في الدين، وعلمهالتأويل)).
المرتبة الرابعة: إذالم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا عن الصحابة، فقد رجع كثير منالأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جبر فإنه كان آية في التفسير، كما قالمحمد بن إسحاق: حدثنا أبان بن صالح، عن مجاهد، قال: عرضت المصحفعلى ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه، وأسألهعنها.
وكسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبيرباح، والحسن البصري، وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم،
الموقف من اختلاف عبارات التابعين في التفسير:
إذا ذكرتأقوالهم في الآية يقع في عباراتهم تباين في الألفاظ، يحسبها من لا علم عندهاختلافا فيحكيها أقوالا وليس كذلك، فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو بنظيره،ومنهم من ينص على الشيء بعينه، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن.
وقال شعبةبن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة؟ فكيف تكونحجة في التفسير؟يعني: أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح،أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون بعضهم حجةعلى بعض، ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغةالعرب، أو أقوال الصحابة في ذلك.
حكم تفسير القرآن بالرأي؟
ينقسم التفسير بالرأي إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون التفسير بلا علم وإنما بمجرد الرأي فهذا حرام، لما رواه ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال في القرآن برأيه، -أو بما لا يعلم-، فليتبوأ مقعده منالنار)).
وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
وعن جندب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قالفي القرآن برأيه فقد أخطأ))..
وفي لفظ لهم: ((من قال في كتاب اللهبرأيه، فأصاب، فقد أخطأ))أي: لأنه قد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ماأمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر منبابه، و سمى الله تعالى القذفة كاذبين،فقال: {فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله همالكاذبون}[النور: 13]، فالقاذف كاذب، ولو كان قد قذفمن زنى في نفس الأمر؛ لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به، ولو كان أخبر بما يعلم؛لأنه تكلف ما لا علم له به، والله أعلم.
موقف السلف من تفسير ما لا علم لهم به:
-كما روى شعبة، عن أبي معمر، قال: قال أبو بكرالصديق، رضي الله عنه: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني؟ إذا قلت فيكتاب الله بما لا أعلم.
- عن أنس؛ أنعمر بن الخطاب قرأ على المنبر: {وفاكهة وأبا}[عبس: 31]، فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فماالأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر.
وهذا محمول على أنه، رضي الله عنه أراداستكشاف علم كيفية الأب، وإلا فكونه نبتا من الأرض ظاهر لا يجهل، لقوله تعالى: {فأنبتنا فيها حبا * وعنبا}الآية[عبس: 27، 28].
-عن الوليد بن مسلم، قال: جاء طلق بن حبيب إلى جندب بنعبد الله، فسأله عن آية من القرآن؟ فقال له: أحرج عليك إن كنت مسلما لما قمت عني،أو قال: أن تجالسني.
وقال مالك،عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: إنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن، قال: إنا لا نقول في القرآن شيئا.
-قال ابن شوذب: حدثني يزيد بن أبي يزيد، قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذاسألناه عن تفسير آية من القرآن سكت، كأن لم يسمع.
- عن محمد بن سيرين: سألت عبيدة يعني السلماني، عن آية منالقرآن فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل القرآن فاتقالله، وعليك بالسداد.
- عن مغيرة، عنإبراهيم، قال: كان أصحابنا يتقون التفسيرويهابونه.
-وقال شعبة عن عبد اللهبن أبي السفر، قال: قال الشعبي: والله ما من آية إلا وقد سألتعنها، ولكنها الرواية عن الله عز وجل.
- عن مسروق، قال: اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عنالله.
فهذه الآثار الصحيحة وماشاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به.
القسم الثاني: ان يكون التفسير بالرأي بما يعلم من ذلك لغة وشرعا، فهذا جائز؛ ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهمأقوال في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه، وهذا هوالواجب على كل أحد؛ فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيماسئل عنه مما يعلمه، لقوله تعالى: {لتبيننه للناس ولاتكتمونه}[آل عمران: 187]، ولما جاء في الحديث المروىمن طرق: ((من سئل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام مننار)).
فإن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه، ومنه ما يعلمه العلماء، ومنه ماتعلمه العرب من لغاتها، ومنه ما لا يعذر أحد في جهله، كما صرح بذلك ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب منكلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلاالله.
حكم الأحاديث الإسرائيلية:
في بعض الأحيان ينقل عن بعض الصحابة ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((بلغوا عنيولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده منالنار))رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو.
ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد، لاللاعتضاد، فإنها على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق،فذاك صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه مماعندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوتعنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لماتقدم.
وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني مثل أسماءأصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعددهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت؟ وأسماء الطيور التيأحياها الله لإبراهيم، إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن، مما لافائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دينهم ولا دنياهم.
هل يجوز نقل الخلاف عنهم فيذلك؟
جائز، كما قال تعالى: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهمويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلمبعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهمأحدا}[الكهف: 22]، فقد اشتملت هذه الآية الكريمة علىالأدب في هذا المقام وتعليم ما ينبغي في مثل هذا، فإنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أقوال،ضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث، فدل على صحته إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما،ثم أرشد على أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فيقال في مثل هذا: {قل ربي أعلم بعدتهم}فإنه ما يعلم ذلك إلا قليل من الناس،ممن أطلعه الله عليه؛ فلهذا قال: {فلا تمار فيهم إلا مراءظاهرا}أي: لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لايعلمون من ذلك إلا رجم الغيب.
أحسن ما يكون في حكاية الخلاف:
أن تستوعبالأقوال في ذلك المقام، وأن تنبه على الصحيح منها وتبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلافوثمرته؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فتشتغل به عن الأهم.
مسائل في علوم القرآن
السور المكية والمدينة وتعريف المكي والمدني
:
- عن قتادة قال: "نزل في المدينة من القرآنالبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وبراءة، والرعد، والنحل، والحج، والنور،والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحجرات، والرحمن، والحديد، والمجادلة، والحشر،والممتحنة، والصف، والجمعة والمنافقون، والتغابن، والطلاق، ويا أيها النبي لم تحرم،إلى رأس العشر، وإذا زلزلت، وإذا جاء نصر الله. هؤلاء السور نزلت بالمدينة، وسائرالسور نزل بمكة".
المكي: ما نزل قبل الهجرة، والمدني: ما
نزل بعد الهجرة، سواء كان بالمدينة أو بغيرها من أي البلاد كان، حتى ولو كان بمكةأو عرفة. وقد أجمعوا على سور أنها من المكي وأخر أنها من المدني، واختلفوا في أخر،وأراد بعضهم ضبط ذلك بضوابط في تقييدها عسر ونظر، ولكن قال بعضهم: كل سورة في أولهاشيء من الحروف المقطعة فهي مكية إلا البقرة وآل عمران، كما أن كل سورة فيها: {يا أيها الذين آمنوا}فهي مدنية وما فيها: {يا أيها الناس}فيحتمل أن يكون من هذا ومن هذا، والغالبأنه مكي. وقد يكون مدنيا كما في البقرة{يا أيها الناساعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون}[البقرة: 20]،{يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيباولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين}[البقرة: 168].
قال أبو عبيد: حدثنا أبومعاوية، حدثنا من سمع الأعمش يحدث عن إبراهيم بن علقمة: كل شيء في القرآن: {يا أيها الذين آمنوا}فإنه أنزل بالمدينة، وما كان{يا أيها الناس}فإنه أنزل بمكة. ثم قال: حدثنا علي بنمعبد، عن أبي المليح، عن ميمون بن مهران، قال: ما كان فيالقرآن: {يا أيها الناس}و{يا بني آدم}فإنه مكي،وما كان: {يا أيها الذين آمنوا}فإنه مدني.
ومنهم من يقول: إن بعض السور نزل مرتين، مرة بالمدينةومرة بمكة، والله أعلم. ومنهم من يستثني من المكي آيات يدعي أنها من المدني، كما فيسورة الحج وغيرها.
والحق في ذلك ما دلعليه الدليل الصحيح، فالله أعلم.
عدد آيات القرآن العظيم
ستة آلاف آية، ثم اختلف
فيما زاد على ذلك على أقوال، فمنهم من لم يزد على ذلك، ومنهم من قال: ومائتا آيةوأربع آيات، وقيل: وأربع عشرة آية، وقيل: ومائتان وتسع عشرة، وقيل: ومائتان وخمسوعشرون آية، أو ست وعشرون آية، وقيل: مائتان وست وثلاثون آية. حكى ذلك أبو عمروالداني في كتابه البيان.
عدد كلمات القرآن العظيم:
فقال الفضل بن شاذان، عن عطاء بن يسار: سبع
وسبعون ألف كلمة وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة.
عددحروف القرآن العظيم:
فقال عبد الله بن كثير، عن مجاهد: هذا ما
أحصينا من القرآن وهو ثلاثمائة ألف حرف وأحد وعشرون ألف حرف ومائة وثمانونحرفا.
وقال الفضل،عن عطاء بن يسار: ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون ألفا وخمسة عشرحرفا.
وقال سلامأبو محمد الحماني: إن الحجاج جمع القراء والحفاظ والكتاب فقال: أخبروني عن القرآنكله كم من حرف هو؟ قال: فحسبنا فأجمعوا أنه ثلاثمائة ألف وأربعون ألفا وسبعمائةوأربعون حرفا. قال: فأخبروني عن نصفه. فإذا هو إلى الفاء من قوله في الكهف: {وليتلطف}[الكهف: 19]، وثلثه الأول عندرأس مائة آية من براءة، والثاني على رأس مائة أو إحدى ومائة من الشعراء، والثالثإلى آخره. وسبعه الأول إلى الدال من قوله تعالى: {فمنهم من آمنبه ومنهم من صد}[النساء: 55]. والسبع الثاني إلى الياءمن قوله تعالى في سورة الأعراف: {أولئك حبطت} [الأعراف: 147]،والثالث إلى الألف الثانية من قوله تعالى في الرعد: {أكلها}[الرعد: 35]، والرابع إلىالألف في الحج من قوله: {جعلنا منسكا}[الحج: 67]، والخامس إلى الهاء من قوله في الأحزاب: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة}[الأحزاب: 36]،والسادس إلى الواو من قوله تعالى في الفتح: {الظانين بالله ظنالسوء}[الفتح: 6]، والسابع إلى آخر القرآن. قال سلامأبو محمد: عملنا ذلك في أربعة أشهر.
قالوا: وكان الحجاج يقرأ في كل ليلة ربع القرآن، فالأولإلى آخر الأنعام، والثاني إلى{وليتلطف}من سورة الكهف،والثالث إلى آخر الزمر، والرابع إلى آخر القرآن. وقد حكى الشيخ أبو عمرو الداني فيكتابه البيان خلافا في هذا كله، والله أعلم.
معنى السورة
واختلف فيمعنى السورة:
قيل: من الإبانة والارتفاع. قال النابغة
:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى
كل ملك دونها يتذبذب
فكأنالقارئ يتنقل بها من منزلة إلى منزلة. وقيل: لشرفها وارتفاعها كسور البلدان. وقيل: سميت سورة لكونها قطعة من القرآن وجزءا منه، مأخوذ من أسآر الإناء وهو البقية، وعلىهذا فيكون أصلها مهموزا، وإنما خففت الهمزة فأبدلت الهمزة واوا لانضمام ما قبلها. وقيل: لتمامها وكمالها لأن العرب يسمون الناقة التامة سورة.
قلت: ويحتمل أن يكون من الجمع والإحاطة لآياتها كما يسمىسور البلد لإحاطته بمنازله ودوره.
وجمعالسورة سور بفتح الواو، وقد تجمع على سورات وسورات.
معنى الآية :
فمن العلامة على
انقطاع الكلام الذي قبلها عن الذي بعدها وانفصالها،أي:هيبائنة عن أختها ومنفردة. قال الله تعالى: {إن آية ملكه}[البقرة: 248]، وقال النابغة:
توهمت آيات لها فعرفتها لستة
أعوام وذا العام سابع
وقيل: لأنها جماعة حروف من القرآن وطائفة منه، كما يقال: خرج القوم بآيتهم، أي: بجماعتهم. قال الشاعر:
خرجنا من النقبين لا حي مثلنا
بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا
وقيل: سميت آية لأنها عجب يعجز البشر عن التكلمبمثلها.
قال سيبويه: وأصلها أيية مثلأكمة وشجرة، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا فصارت آية، بهمزة بعدهامدة.
وقال الكسائي: أصلها آيية على وزن آمنة، فقلبت ألفا، ثم حذفتلالتباسها.
وقال الفراء: أصلها أيّة -بتشديد الياء- الأولى فقلبت ألفا، كراهة التشديد فصارت آية، وجمعها: آي وآيايوآيات.
معنى الكلمة :
هي اللفظة
الواحدة، وقد تكون على حرفين مثل: ما ولا وله ونحو ذلك، وقد تكون أكثر. وأكثر ماتكون عشرة أحرف مثل: {ليستخلفنهم}[النور: 55]، و{أنلزمكموها}[هود: 28]،{فأسقيناكموه}[الحجر: 22]، وقد تكون الكلمة الواحدة آية، مثل: والفجر، والضحى، والعصر، وكذلك: الم، وطه، ويس، وحم -في قول الكوفيين- وحم، عسق عندهم كلمتان. وغيرهم لا يسمي هذهآيات بل يقول: هي فواتح السور. وقال أبو عمرو الداني: لا أعلم كلمة هي وحدها آيةإلا قوله تعالى: {مدهامتان}بسورة الرحمن.
مسألة: هل في القرآن شيء من التراكيب الأعجمية؟
قال
القرطبي: أجمعوا على أنه ليس في القرآن شيء من التراكيب الأعجمية وأجمعوا أن فيهأعلاما من الأعجمية كإبراهيم ونوح، ولوط، واختلفوا: هل فيه شيء من غير ذلكبالأعجمية؟ فأنكر ذلك الباقلاني والطبري وقالا ما وقع فيه مما يوافق الأعجمية، فهومن باب ما توافقت فيه اللغات
مراحل جمع القرآن وكتابته:
أولا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
-
عن فاطمة، رضي الله عنها:أسر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جبريل كان يعارضني بالقرآنكل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي.
والمراد من معارضته له
بالقرآن كل سنة: مقابلته على ما أوحاه إليه عن الله تعالى، ليبقى ما بقي، ويذهب مانسخ توكيدا، أو استثباتا وحفظا؛ ولهذا عرضه في السنة الأخيرة من عمره، عليه السلاماقتراب أجله، على جبريل مرتين، وعارضه به جبريل كذلك؛ ولهذا فهم، عليه السلام،اقتراب أجله، وعثمان، رضي الله عنه، جمع المصحف الإمام على العرضة الأخيرة، رضيالله عنه وأرضاه وخص بذلك رمضان من بين الشهور؛ لأن ابتداء الإيحاء كان فيه.
أشهر قراء الصحابة النبي رضي الله عنهم:
-
عن مسروق: ذكر عبد الله بن عمرو عبد الله بنمسعود، فقال: لا أزال أحبه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ بن جبل،وأبي بن كعب))، رضي الله عنهم.
-عن شقيق بن سلمة قال: خطبناعبد الله فقال: والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليهوسلم بضعا وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني منأعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم.قال شقيق: فجلست في الحلق أسمع مايقولون، فما سمعت رادا يقول غير ذلك.
-عن عمر عن النبيصلى الله عليه وسلم قال: ((من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزلفليقرأه على قراءة ابن أم عبد))وابن أم عبد هو عبد الله بن مسعود،وكان يعرف بذلك.
-عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك: من
جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة، كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. ورواه مسلم من حديثهمام.
ومنهم عثمان بن عفان وقدقرأه في ركعة -كما سنذكره- وعلي بن أبي طالب يقال: إنه جمعه على ترتيب ما أنزل، وقدقدمنا هذا. ومنهم عبد الله بن مسعود، ومنهم سالم مولى أبي حذيفة، كان منالسادات النجباء والأئمة الأتقياء وقد قتل يوم اليمامة شهيدا. ومنهم الحبر البحرعبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجمانالقرآن،
ثانيا:جمع القرآن في خلافة أبي بكر رضي الله
عنه:
عن زيد بن ثابت
قال: أرسل إلى أبو بكر -مقتل أهل اليمامة- فإذا عمر بن الخطابعنده، فقال أبو بكر: إن عمر بن الخطاب أتاني، فقال: إن القتل قد استحر بقراءالقرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، وإنيأرى أن تأمر بجمع القرآن. فقلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى اللهعليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلكورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقدكنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لوكلفوني نقل جبل من الجبال ما كان علي أثقل مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيفتفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير. فلم يزلأبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبيخزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره: {لقد جاءكم رسول منأنفسكم عزيز}[التوبة: 128]حتى خاتمة براءة، فكانتالصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر، رضيالله عنهم.
والعسب فجمع عسيب. قال أبو نصر إسماعيل بن حمادالجوهري: وهو من السعف فويق الكرب لم ينبت عليه الخوص، وما نبت عليه الخوص فهوالسعف.
واللخاف: جمع لخفة وهي القطعة منالحجارة مستدقة، كانوا يكتبون عليها وعلى العسب وغير ذلك، مما يمكنهم الكتابة عليهبما يناسب ما يسمعونه من القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من لم يكن يحسن الكتابة أو يثق بحفظه، فكان يحفظه،فتلقاه زيد بن ثابت من هذا من عسيبه، ومن هذا من لخافه، ومن صدر هذا، أي من حفظه،وكانوا أحرص شيء على أداء الأمانات وهذا من أعظم الأمانة.
وقال
: ((بلغوا عني ولوآية))يعني: ولو لم يكن مع أحدكم سوى آية واحدة فليؤدها إلى من وراءه،فبلغوا عنه ما أمرهم به، فأدوا القرآن قرآنا، والسنة سنة، لم يلبسوا هذا بهذا؛ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((من كتب عني سوى القرآنفليمحه))أي: لئلا يختلط بالقرآن، وليس معناه: ألا يحفظوا السنة ويرووها،والله أعلم.
فلهذا نعلم بالضرورة أنه لميبق من القرآن مما أداه الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم إلا وقد بلغوه إلينا، وللهالحمد والمنة، فكان الذي فعله الشيخان أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، من أكبرالمصالح الدينية وأعظمها، من حفظهما كتاب الله في الصحف؛ لئلا يذهب منه شيء بموت منتلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كانت تلك الصحف عند الصديق أيام حياته،ثم أخذها عمر بعده فكانت عنده محروسة معظمة مكرمة، فلما مات كانت عند حفصة أمالمؤمنين، لأنها كانت وصيته من أولاده على أوقافه وتركته وكانت عند أم المؤمنين رضيالله عنها، حتى أخذها منها أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه.
ثالثا: جمع
القرآنفي عهد عثمان رضي الله عنه:
روى البخاري أن حذيفة بن اليمان قدم علىعثمان بن عفان رضي الله عنهما وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان معأهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة. فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلافاليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثمنردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبيروسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمانللرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوهبلسان قريش، فإنما أنزل بلسانهم. ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمانالصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كلصحيفة أو مصحف أن يحرق.
قال ابن شهاب الزهري: فأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت
: سمع زيد بن ثابت قال: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قدكنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، التمسناها فوجدناها مع خزيمة بنثابت الأنصاري: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدواالله عليه}[الأحزاب: 23]، فألحقناها في سورتها فيالمصحف.
وكان عثمان -والله أعلم
- رتب السور في المصحف، وقدم السبع الطوال وثنى بالمئين؛ ولهذا روى عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكمأن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينها ولمتكتبوا بينها سطر "بسم الله الرحمن الرحيم"، ووضعتموها في السبع الطوال؟ ما حملكمعلى ذلك؟فقال عثمان: كان رسول الله مما يأتي عليهالزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كانيكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، فإذا أنزلت عليهالآية فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال منأول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وحسبتأنها منها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلكقرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر "بسم الله الرحمن الرحيم" فوضعتها في السبعالطوال.
حكم ترتيب الآيات والسور:
أن
ترتيب الآيات في السور أمر توقيفي متلقى عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما ترتيبالسور فمن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه؛ ولهذا ليس لأحد أن يقرأالقرآن إلا مرتبا آياته؛ فإن نكسه أخطأ خطأ كبيرا. وأما ترتيب السور فمستحب اقتداءبعثمان، رضي الله عنه، والأولى إذا قرأ أن يقرأ متواليا كما قرأ، عليه الصلاةوالسلام، في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين وتارة بسبح و{هل أتاك حديث الغاشية}، فإن فرق جاز، كما صح أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قرأ في العيد بقاف و{اقتربتالساعة}، رواه مسلم عن أبي واقد في الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه؛ أنرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة: الم السجدة،و{هل أتى على الإنسان}.
وإن قدم بعض السور على بعض جاز أيضا، فقد روى حذيفة أنرسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران. أخرجه مسلم. وقرأ عمر في الفجر بسورة النحل ثم بيوسف.
ثم إن عثمان رد الصحف إلى حفصة، فلميزل عندها حتى أرسل إليها مروان بن الحكم يطلبها فلم تعطه حتى ماتت، فأخذها من عبدالله بن عمر فحرقها لئلا يكون فيها شيء يخالف المصاحف الأئمة التي نفذها عثمان إلىالآفاق، مصحفا إلى أهل مكة، ومصحفا إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وآخر إلى الشام،وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وترك عند أهل المدينة مصحفا.
قال علي حين حرق عثمان المصاحف
: لو لم يصنعه هولصنعته.
وعن أبي إسحاق عن مصعب بنسعد بن أبي وقاص، قال: أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمانالمصاحف فأعجبهم ذلك،أو قال: لم ينكر ذلك منهمأحد.وهذا إسناد صحيح..
نص الإمام مالك، رحمه الله،على أنه لا توضع المصاحف إلا على وضع كتابة الإمام، ورخص في ذلك غيره، واختلفوا فيالشكل والنقط فمن مرخص ومن مانع، فأما كتابة السور وآياتها والتعشير والأجزاءوالأحزاب فكثير في مصاحف زماننا، والأولى اتباع السلف الصالح.
مسـألة تأليف
القرآن
والمراد به حكم ترتيب سوره وآياته:
عن يوسف بن ماهك قال: إني عند
عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، إذ جاءها عراقي فقال: أي الكفن خير؟ قالت: ويحك! وما يضرك، قال: يا أم المؤمنين، أريني مصحفك، قالت: لم؟ قال: لعلي أؤلف القرآنعليه، فإنه يقرأ غير مؤلف، قالت: وما يضرك أيه قرأت قبل، إنما ينزل أول ما نزل منهسورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلالوالحرام ولو نزل أول شيء: ولا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلموإني لجارية ألعب: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهىوأمر}[القمر: 46]، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلاوأنا عنده، قال: فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور.
وجه الدلالة: أنه سأل
عائشة رضي الله عنها عن ترتيبالقرآن فانتقل إلى سؤال كبير، وأخبرها أنه يقرأ غير مؤلف، أي: غير مرتب السور. وكأنهذا قبل أن يبعث أمير المؤمنين عثمان، رضي الله عنه، إلى الآفاق بالمصاحف الأئمةالمؤلفة على هذا الترتيب المشهور اليوم، وقبل الإلزام به، واللهأعلم.
ومعنى هذاالكلام: أن هذه السورة أو السور التي فيها ذكر الجنة والنار ليس البداءة بها فيأوائل المصاحف، مع أنها من أول ما نزل، وهذه البقرة والنساء من أوائل ما في المصحف،وقد نزلت عليه في المدينة وأنا عنده.
فأما ترتيب الآيات في السور فليس في ذلك رخصة، بل هو أمرتوقيفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تقدم تقرير ذلك؛ ولهذا لم ترخص له فيذلك، بل أخرجت له مصحفها، فأملت عليه آي السور، والله أعلم. وقول عائشة: لا يضركبأي سورة بدأت، يدل على أنه لو قدم بعض السور أو أخر، كما دل عليه حديث حذيفة وابنمسعود، وهو في الصحيح أنه عليه السلام قرأ في قيام الليل بالبقرة ثم النساء ثم آلعمران.
والظاهر أن ترتيب السور فيه منه ما هو راجع إلى رأي عثمانرضي الله عنه، وذلك ظاهر في سؤال ابن عباس له عن ترك البسملة في أول براءة، وذكرهالأنفال من الطول، والحديث في الترمذي وغيره بإسناد جيد وقوي.
ولهذا حكى القاضي الباقلاني: أن أول مصحفه كان: {اقرأ باسم ربك الأكرم}وأول مصحف ابن مسعود: {مالك يوم الدين}ثم البقرة، ثم النساء على ترتب مختلف،وأول مصحف أبي: {الحمد لله}ثم النساء، ثم آل عمران،ثم الأنعام، ثم المائدة، ثم كذا على اختلاف شديد، ثم قال القاضي: ويحتمل أن ترتيبالسور في المصحف على ما هو عليه اليوم من اجتهاد الصحابة، رضي الله عنهم، وكذا ذكرهمكي في تفسير سورة براءة قال: فأما ترتيب الآيات والبسملة في الأوائل فهو من النبيصلى الله عليه وسلم.
-عن عبد الرحمن بن يزيد قال: سمعت ابن مسعود يقول في بنيإسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: إنهن من العتاق الأول، وهنمن تلادي. انفرد البخاري بإخراجه والمراد منه ذكر ترتيب هذه السور في مصحفابن مسعود كالمصاحف العثمانية، وقوله: "من العتاق الأول" أي: من قديم ما نزل، وقوله: "وهن من تلادى" أي: من قديمما قنيت وحفظت. والتالد في لغتهم: قديم المال والمتاع، والطارف حديثه وجديده، واللهأعلم.
عن البراء بن عازب رضي الله عنه يقول: تعلمت{سبح اسم ربك الأعلى}قبل أن يقدم النبي صلى الله عليهوسلم. وهذا متفق عليه، وهو قطعة من حديث الهجرة، والمراد منه أن{سبح اسم ربك الأعلى}سورة مكية نزلت قبل الهجرة، واللهأعلم.
حكم نقط المصحف وشكله
:
يقال: إن أول من أمر به
عبد الملك بن مروان، فتصدى لذلك الحجاج وهو بواسط، فأمر الحسن البصري ويحيى بن يعمرففعلا ذلك، ويقال: إن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي، وذكروا أنه كان لمحمدبن سيرين مصحف قد نقطه له يحيى بن يعمر والله أعلم.
حكم كتابة الأعشار على الحواشي
:
ينسب إلى الحجاج أيضا،
وقيل: بل أول من فعله المأمون، وحكى أبو عمرو الداني عن ابن مسعود أنه كره التعشيرفي المصحف، وكان يحكه وكره مجاهد ذلك أيضا.
وقال مالك: لا بأس به بالحبر، فأمابالألوان المصبغة فلا. وأكره تعداد آي السور في أولها في المصاحف الأمهات، فأما مايتعلم فيه الغلمان فلا أرى به بأسا.
وقال قتادة: بدؤوا فنقطوا، ثم خمسوا،ثم عشروا. وقال يحيى بن أبي كثير: أول ما أحدثوا النقطعلى الباء والتاء والثاء، وقالوا: لا بأس به، هو نور له، أحدثوا نقطا عند آخر الآي،ثم أحدثوا الفواتح والخواتم.
ورأى إبراهيم النخعي فاتحة سورة كذا، فأمر بمحوها وقال: قال ابن مسعود: لا تخلطوا بكتاب الله ما ليس فيه. قالأبو عمرو الداني: ثم قد أطبق المسلمون في ذلك في سائر الآفاقعلى جواز ذلك في الأمهات وغيرها.
مسألة التحزيب والتجزئة
:
اشتهرت الأجزاء من ثلاثين كما
في الربعات بالمدارس وغيرها، والحديث الوارد في تحزيب الصحابةللقرآن في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه وغيرهم عن أوس بنحذيفة أنه سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته: كيف تحزبون القرآن؟قالوا: ثلث وخمس وسبع وتسع وأحد عشرة وثلاث عشرة، وحزب المفصل حتىتختم.
نزول القرآن على سبعة أحرف
:
عن
عبد الله بن عباس حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلىسبعة أحرف)).
قال الزهري: بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا لاتختلف في حلال ولا في حرام.
عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندأضاة بني غفار، فأتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، قال: ((أسأل الله معافاته ومغفرته، فإن أمتي لا تطيق ذلك)).ثمأتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين. قال: ((أسأل الله معافاته ومغفرته، فإن أمتي لا تطيق ذلك)). ثم جاءهالثالثة قال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف قال: ((أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك)).ثم جاءهالرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرؤواعليه فقد أصابوا.
وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من رواية شعبة به.
وقال الإمامأحمد: عن أبي قال: لقي رسولالله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المراء، فقال رسول الله صلى الله عليهوسلم لجبريل: ((إني بعثت إلى أمة أميين فيهم الشيخ الفاني،والعجوز الكبيرة، والغلام، فقال: مرهم فليقرؤوا القرآن على سبعة أحرف.
عن أبي جهيم الأنصاري؛ أن رجلين اختلفا في آية من القرآن، كلاهما يزعم أنه
تلاقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشيا جميعا حتى أتيا رسول الله صلى اللهعليه وسلم، فذكر أبو جهيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فلا تماروا، فإن مراء فيهكفر.
عن ابن مسعود
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كان الكتاب الأول نزل من باب واحد وعلى حرف واحد، ونزل القرآن من سبعةأبواب وعلى سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلواحلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروابأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به كل من عندربنا.
قال أبو عبيد
: قد تواترت هذه الأحاديث كلها عن الأحرف السبعة إلا ما حدثني عفان، عن حماد بن سلمة،عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نزل القرآن على ثلاثة أحرف)).
قال أبو عبيد: ولا نرىالمحفوظ إلا السبعة لأنهاالمشهورة،وليس معنى تلك السبعة أن يكون الحرفالواحد يقرأ على سبعة أوجه، وهذا شيء غير موجود، ولكنه عندنا أنه نزل سبع لغاتمتفرقة في جميع القرآن من لغات العرب، فيكون الحرف الواحد منها بلغة قبيلة والثانيبلغة أخرى سوى الأولى، والثالث بلغة أخرى سواهما، كذلك إلى السبعة، وبعض الأحياءأسعد بها وأكثر حظا فيها من بعض، وذلك بين في أحاديث تترى، قال: وقد روى الكلبي عنأبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن على سبع لغات، منها خمسبلغة العجز من هوازن.
قال أبو عبيد: والعجز هم بنو أسد بن بكر، وجشم بن بكر،ونصر بن معاوية، وثقيف هم عليا هوازن الذين قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العربعليا هوازن وسفلى تميم يعني بني دارم. ولهذا قال عمر: لا يملي في مصاحفنا إلا غلمانقريش أو ثقيف.
قالابن جرير: واللغتان الأخريان: قريش وخزاعة رواه قتادة عن ابن عباس، ولكن لميلقه.
تحقيق الإمام الطبري في المراد بالسبعة الأحرف:
قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري، رحمه الله، بعد ما
أورد طرفا مما تقدم: وصح وثبت أن الذي نزل به القرآن من ألسن العرب البعض منها دونالجميع إذ كان معلوما أن ألسنتها ولغاتها أكثر من سبع بما يعجز عن إحصائه ثم قال: وما برهانك على ما قلته دون أن يكون معناه ما قاله مخالفوك، من أنه نزل بأمر وزجر،وترغيب وترهيب، وقصص ومثل، ونحو ذلك من الأقوال فقد علمت قائل ذلك من سلف الأمةوخيار الأئمة؟ قيل له: إن الذين قالوا ذلك لم يدّعوا أن تأويل الأخبار التي تقدمذكرها، هو ما زعمت أنهم قالوه في الأحرف السبعة، التي نزل بها القرآن دون غيرهفيكون ذلك لقولنا مخالفا، وإنما أخبروا أن القرآن نزل على سبعة أحرف، يعنون بذلكأنه نزل على سبعة أوجه، والذي قالوا من ذلك كما قالوا، وقد روينا بمثل الذي قالوامن ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة، من أنه نزل من سبعةأبواب الجنة، كما تقدم. يعني كما تقدم في رواية عن أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود: أن القرآن نزل من سبعة أبواب الجنة.
قال ابن جرير: والأبواب السبعة من الجنة هي المعاني التيفيها من الأمر والنهي، والترغيب والترهيب، والقصص والمثل، التي إذا عمل بها العاملوانتهى إلى حدودها المنتهي، استوجب بها الجنة.
ثم بسط القول في هذا بما حاصله: أن الشارع رخص للأمةالتلاوة على سبعة أحرف، ثم لما رأى الإمام أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي اللهعنه، اختلاف الناس في القراءة، وخاف من تفرق كلمتهم -جمعهم على حرف واحد، وهو هذاالمصحف الإمام، قال: واستوثقت له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت أن فيما فعله من ذلكالرشد والهداية، وتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامها العادل فيتركها طاعة منها له، ونظر منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها، حتى درست منالأمة معرفتها، وتعفت آثارها، فلا سبيل اليوم لأحد إلى القراءة بها لدثورها وعفوآثارها. إلى أن قال: فإن قال من ضعفت معرفته: وكيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهموهارسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بقراءتها؟ قيل: إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمرإيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة؛ لأن القراءة بها لو كانت فرضا عليهم لوجبأن يكون العلم بكل حرف من تلك الأحرف السبعة عند من يقوم بنقله الحجة، ويقطع خبرهالعذر، ويزيل الشك من قراءة الأمة، وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على أنهمكانوا في القراءة بها مخيرين. إلى أن قال: فأما ما كان من اختلاف القراءة في رفعحرف ونصبه وجره وتسكين حرف وتحريكه، ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة فمن معنى قولالنبي صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقرأ القرآن على سبعةأحرف))بمعزل؛ لأن المراء في مثل هذا ليس بكفر، في قول أحد من علماء الأمة،وقد أوجب صلى الله عليه وسلم بالمراء في الأحرف السبعة الكفر، كماتقدم.
-عن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد
القارئ حدثاه أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقانفي حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروفكثيرة لم يقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرتحتى سلم فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيهارسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدأقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلمفقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها! فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم: ((أرسله، اقرأ يا هشام))، فقرأ عليهالقراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذلك أنزلت))، ثم قال: ((اقرأ ياعمر))، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذلك أنزلت. إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسرمنه)).
أقوال العلماء في معنى الأحرف السبعة
:
اختلف العلماء في معنى السبعة الأحرف وما
أريد منها على أقوالملخصها:
الأول-وهو قول أكثر أهلالعلم، منهم سفيان بن عيينة، وعبد الله بن وهب، وأبو جعفر بن جرير، والطحاوي- : أنالمراد سبعة أوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة نحو:
أقبل وتعالوهلم.
وقال الطحاوي: وأبين ما ذكر في ذلك حديث أبي بكرة قال: جاء جبريل إلى رسولالله صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ على حرف، فقال ميكائيل: استزده فقال: اقرأ على حرفين، فقال ميكائيل: استزده، حتى بلغ سبعة أحرف، فقال: اقرأفكل شاف كاف إلا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة، على نحو هلموتعال وأقبل واذهب وأسرع وعجل".
وروى عن ورقاء عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس،عن أبي بن كعب: أنه كان يقرأ: {يوم يقول المنافقون والمنافقاتللذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم}[الحديد: 13]: "للذين آمنوا أمهلونا""للذين آمنواأخرونا" "للذين آمنوا ارقبونا"، وكان يقرأ: {كلما أضاءلهم مشوا فيه}[البقرة: 20] "مروا فيه" "سعوافيه".
قال الطحاوي. وغيره: وإنما كان ذلك رخصة أن يقرأ الناس القرآن على سبعلغات، وذلك لما كان يتعسر على كثير من الناس التلاوة على لغة قريش، وقرأه رسول اللهصلى الله عليه وسلم لعدم علمهم بالكتابة والضبط وإتقان الحفظ وقد ادعى الطحاويوالقاضي الباقلاني والشيخ أبو عمر بن عبد البر أن ذلك كان رخصة في أول الأمر، ثمنسخ بزوال العذر وتيسير الحفظ وكثرة الضبط وتعلم الكتابة.
قلت: وقال بعضهم: إنما كان الذي جمعهم على قراءة واحدةأمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، أحد الخلفاء الراشدين المهديين المأمورباتباعهم، وإنما جمعهم عليها لما رأى من اختلافهم في القراءة المفضية إلى تفرقالأمة وتكفير بعضهم بعضا، فرتب لهم المصاحف الأئمة على العرضة الأخيرة التي عارضبها جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان من عمره، عليه الصلاةوالسلام، وعزم عليهم ألا يقرؤوا بغيرها، وألا يتعاطوا الرخصة التي كانت لهم فيهاسعة، ولكنها أدت إلى الفرقة والاختلاف.
القول الثاني
:أن القرآن نزل على سبعة أحرف، وليس المراد أنجميعه يقرأ على سبعة أحرف، ولكن بعضه على حرف وبعضه على حرف آخر. قال الخطابي: وقديقرأ بعضه بالسبع لغات كما في قوله: {وعبد الطاغوت}[المائدة: 60]و{يرتع ويلعب}[يوسف: 12].
قال القرطبي: ذهب إلى هذا القول أبو عبيد، واختارهابن عطية. قال أبو عبيد: وبعض اللغات أسعد به من بعض، وقال القاضي الباقلاني: ومعنىقول عثمان: إنه نزل بلسان قريش، أي: معظمه، ولم يقم دليل على أن جميعه بلغة قريشكله، قال الله تعالى: {قرآنا عربيا}[يوسف: 2]، ولم يقل: قرشيا.
قال: واسم العرب يتناول جميع القبائل تناولا واحدا،يعني حجازها ويمنها، وكذلك قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر، قال: لأن غير لغة قريشموجودة في صحيح القراءات كتحقيق الهمزات، فإن قريشا لا تهمز. وقال ابن عطية: قالابن عباس: ما كنت أدري ما معنى: {فاطر السماوات والأرض}[فاطر: 1]، حتى سمعت أعربيا يقول لبئر ابتدأ حفرها: أنافطرتها.
القولالثالث:أن لغات القرآن السبع منحصرة في مضر على اختلاف قبائلها خاصة؛ لقولعثمان: إن القرآن نزل بلغة قريش، وقريش هم بنو النضر بن الحارث على الصحيح من أقوالأهل النسب، كما نطق به الحديث في سنن ابن ماجه وغيره.
القول الرابع:وحكاه الباقلانيعن بعض العلماء- : أن وجوه القراءات ترجع إلى سبعة أشياء، منها ما تتغير حركته ولاتتغير صورته ولا معناه مثل: {ويضيقُ صدري} [الشعراء: 13] و "يضيقَ"، ومنها ما لا تتغير صورته ويختلف معناه مثل: {فقالواربنا باعِد بين أسفارنا}[سبأ: 19]و "باعَد بينأسفارنا"، وقد يكون الاختلاف في الصورة والمعنى بالحرف مثل: {ننشزها} [البقرة: 259]،و"ننشرها" أو بالكلمة مع بقاء المعنى مثل{كالعهن المنفوش}[القارعة: 5]، أو "كالصوفالمنفوش" أو باختلاف الكلمة واختلاف المعنى مثل: {وطلحمنضود} "وطلع منضود" أو بالتقدم والتأخر مثل: {وجاءت سكرةالموت بالحق}[ق: 19]، أو "سكرة الحق بالموت"، أوبالزيادة مثل "تسع وتسعون نعجة أنثى"، "وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين". "فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم".
القول الخامس:أن المرادبالأحرف السبعة معاني القرآن وهي: أمر، ونهي، ووعد، ووعيد، وقصص، ومجادلة، وأمثال. قال ابن عطية: وهذا ضعيف؛ لأن هذه لا تسمى حروفا، وأيضا فالإجماع أن التوسعة لم تقعفي تحليل حلال ولا في تغيير شيء من المعاني، وقد أورد القاضي الباقلاني في هذاحديثا، ثم قال: وليست هذه هي التي أجاز لهم القراءة بها.
قال
القرطبي: قال كثير من علمائنا كالداودي وابن أبي صفرة وغيرهما: هذه القراءات السبعالتي تنسب لهؤلاء القراء السبعة ليست هي الأحرف السبعة التي اتسعت الصحابة فيالقراءة بها، وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من السبعة وهو الذي جمع عليه عثمانالمصحف. ذكره ابن النحاس وغيره.
قالالقرطبي: وقد سوغ كل واحد من القراء السبعة قراءة الآخر وأجازها، وإنما اختارالقراءة المنسوبة إليه لأنه رآها أحسن والأولى عنده. قال: وقد أجمع المسلمون في هذهالأمصار على الاعتماد على ما صح عن هؤلاء الأئمة فيما رووه ورأوه من القراءات،وكتبوا في ذلك مصنفات واستمر الإجماع على الصواب وحصل ما وعد الله به من حفظالكتاب.