معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد

معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد (http://afaqattaiseer.net/vb/index.php)
-   القراءة المنظمة في التفسير وعلوم القرآن (http://afaqattaiseer.net/vb/forumdisplay.php?f=818)
-   -   العَلم الأعجمي في القرآن مُفسرًا بالقرآن (http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=44859)

صفية الشقيفي 16 ربيع الثاني 1443هـ/21-11-2021م 07:03 PM

العَلم الأعجمي في القرآن مُفسرًا بالقرآن
رءوف أبو سعده

العناصر:
تقديم: د. محمود محمد الطناحي.

تصدير المؤلف.
مقدمة الجزء الأول للمؤلف.
الفصل الأول: (أعجمي وعربي).
...- (1) هل وردت في القرآن ألفاظ أعجمية؟
...- (2) الحياة السياسية لحضارة الفرس والروم قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأثرها على اللغات.
...- (3) بيان الفوارق الأساسية التي تفصل ما بين العربية وبين العبرية والآرامية.
...- (4) تلقيح اللغات بعضها البعض؛ عوامله وآثاره.
...- (5) السبيل إلى إثبات أصالة لفظ في لغة، وبيان شروط التعريب الجيد.
الفصل الثاني: (الأعجمي المعنوي والأعجمي العلم).
...- (1) الأعجمي المُعرَّب بين لغته الأصل وااللغة لعربية.
...- (2) معنى الأعجمي المعنوي والأعجمي العلم.
...- (3) أسباب سكوت علماء بني إسرائيل عن أخطاء المفسرين في بيان معاني أعجمي القرآن.
...- (4) تاريخ كتابة التوراة والإنجيل وبيان حفظ الله للقرآن وهيمنته على الكتب السابقة.
الفصل الثالث: (العلم الأعجمي في القرآن).
...- (1) أنواع العلم الأعجمي في القرآن.
...- (2) بيان شيوع الرسم اليوناني قبل نزول القرآن في ترجمة التوراة والإنجيل وعلاقته بإعجاز القرآن في تفسير أعجمي القرآن.
...- (3) أسلوب القرآن في تفسير أعجمي القرآن بتعريبه.
...- (4) بيان بعض الفوارق الإضافية بين العربية والعبرية.
...- (5) طرائق القرآن في تفسير العلم الأعجمي وبيان منهج المؤلف في كتابه.
الفصل الرابع: (آدم في الملأ الأعلى).
...- آدم في الملأ الأعلى.
...- (1) جبريل.
...- (2) ميكال.
...- (3) مالك.
...- (4) هاروت (5) ماروت (6) بابل.
...- (7) الفردوس (8) عدن.
...- (9) جهنم.
...- (10) إبليس.
...- (11) آدم.
...- (12) إدريس.
الفصل الخامس: (آدم الثاني: من نوح إلى إبراهيم).
...- (13) نوح.
...- (14) الجودي.
...- (15) هود (16) عاد (17) إرم.
...- (18) صالح (19) ثمود.
...- (20) شعيب (21) مدين.
الفصل السادس: (أبو العلاء، إمام الناس ).
...- (22) آزر.
...- (23) إبراهيم.
...- (24) لوط.
...- (25) إسماعيل.
...- (26) إسحاق.
...- (27) يعقوب.
...- (28) إسرائيل.
...- (29) يوسف.
مقدمة الجزء الثاني.
الفصل السابع: موسى وهارون.
...- (30) موسى.
...- (31) هرون.
...- (32) فرعون.
...- (33) هامان.
...- (34) قارون.
...- (35) مصر.
...- (36) سيناء.
...- (37) التوراة.
...- (38) يأجوج ومأجوج.
...- (39) اليهود.
الفصل الثامن: داود ذو الأيد: أنبياء وملوك.
...- (40) طالوت.
...- (41) جالوت.
...- (42) داود.
...- (43) الزبور.
...- (44) سليمان.
...- (45) إلياس.
...- (46) اليسع.
...- (47) ذو الكفل.
...- (48) يونس.
...- (49) أيوب.
...- (50) عزير.
...- (51) لقمان.
الفصل التاسع: المصدق والبشير.
...- (52) زكريا.
...- (53) يحيى.
...- (54) عمران.
...- (55) مريم.
...- (56) عيسى.
...- (57) الإنجيل.
...- (58) النصارى.
...- (59) الصابئون.
...- (60) المجوس.
...- (61) الروم.
ختام البحث.

صفية الشقيفي 16 ربيع الثاني 1443هـ/21-11-2021م 07:50 PM

بسم الله الرحمن الرحيم
من إعجاز القرآن الكريم في أعجمي القرآن
تقديم: د. محمود محمد الطناحي
قال الدكتور محمود محمد الطناحي (ت:1419هـ): (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. لسانُ الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين. والصلاة والسلام على خير خلق الله سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله، الذي أوتي الكتاب ومثله معه، ثم أوتي الحكمة وفصل الخطاب. فبالبيان القرآني المحكم، وبالفصاحة والبلاغة النبوية تضوأت تلك اللغة العربية الشريفة، واستكملت أسباب جلالها وبهائها.
ثم أما بعد:
فإن من علوم القرآن التي اعتنى بها الأئمة، وأفردوها بالتصنيف علم «إعجاز القرآن» وقد بدأ الكلام في هذا العلم: شذرات ونتفًا في كتب التفسير، كشفًا لمواطن الكمال والجلال في كلام ربنا عز وجل.
وقد دخل المفسرون إلى الإعجاز من طريق تلك الآيات التي أمر بها المولى – تباركت أسماؤه – رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم أن يطلب من مشركي قريش الإتيان بمثل ما أنزل عليه، تدرجًا وتنزلاً، وذلك قوله تعالى: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} [هود: 13] – وقوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} [البقرة: 23] – ثم قضى عليهم بالعجز وأيأسهم أن يأتوا بشيء من ذلك، فقال عز
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 3]
من قائل: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء: 88].
ومعلوم أن مشركي قريش الذين سمعوا كلام الله يتلى على لسان رسوله الأمين كانوا أرباب فصاحة وبيان، وكانوا يعرفون مواقع الكلام وحلاوة البيان، ولذلك أدهشهم القرآن حين سمعوه، ودله عقولهم بعظمة بيانه وروعة معانيه، ودقة نظمه واتساقه، وحين لم يجدوا في الطعن إليه سبيلا لم يسعهم إلا أن يقولوا: إنه شعر، وإنه سحر، وإنه أساطير الأولين اكتتبها محمد صلى الله عليه وسلم فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً. وهذا كله إقرار بعظمة ما سمعوا، وإذعان لأنه كلام مباين لكلام البشر، لكن ما انغمسوا فيه من العناد والمكابرة صدهم عن الاعتراف بأنه وحي يوحى، نزل به الروح الأمين على قلب المصطفى المختار ليخرج الناس به من ظلمات الوثنية والشرك إلى نور الإيمان وصفاء التوحيد.
ثم كان أن هدى الله بهذا القرآن العظيم أقوامًا، فأقبلوا على تلاوته، وتدبر أغراضه ومراميه، وتمثلوا أوامره، وانتهوا عن نواهيه. وكان هو كتابهم الذي يعتصمون به ويلجأون إليه فيما دق وجل من أمورهم.
وبقيت طائفة – ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة – لم تهتد ولم تذعن، وظل عداؤها للقرآن قائمًا، فأخذت تنقر وتنقب، التماسًا للمعابة في هذا الكتاب المحكم، باتباع متشابه، وتحريف كلم عن مواضعه، وتخيل فساد نظم، أو لحن أسلوب، أو تناقض معنى. وقد أخذت هذه الطائفة تدب دبيبًا في القرنين الأولين، تستخفى بآرائها مرة، وتصحر بها أخرى، لكنها في كلتا حالتيها لم تترك أثرًا يذكر، إذ لم تكن لها شوكة، وكانت العقيدة على صفائها، لم تكدرها مقولات المتكلمين، ولا خلافات المتأولين، ثم كان اللسان العربي لا يزال صحيحًا محروسًا لم يتداخله الخلل، ولم يتطرق إليه الزلل، لكن الصغير يكبر ويشب، والزرع الضعيف يستحصد ويقوى، وتأتي أيام كالحات، تنجم فيها الفتن بدواع كثيرة: منها اختلاط اللسان العربي بغيره من الألسنة، وانتشار الكتب المترجمة بغثها وسمينها، وتغلغل أهل المذاهب والنحل الأخرى في صلب العقيدة الإسلامية، وإغرائها بالجدل وعلم الكلام، وأصحر أهل العداء
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 4]
القديم بآرائهم، وإذا الذي كان بالأمس همسًا ونجوى يصبح اليوم وله دوى وصليل، فأخذت المجالس وحلقات الدرس تموج بتلك الآراء وتضطرب، وإذا بالذي كان مشافهة ومسامرة يسطر ويكتب وتتعاوره الأيدي.
ولم يكد المسلمون يدخلون في النصف الثاني من القرن الثالث حتى انكشف كل خبئ وظهر كل مكنون، واستعلن العداء للقرآن وللعربية ملفقًا في ثياب الخلاف الفلسفي والكلامي، ثم ماجر إليه كل ذلك من القول بفتنة خلق القرآن وأشباه لها من الكوائن والطامات.
لكن الله الذي تكفل بحفظ كتابه وفق طائفة من عباده ذادة منافحين، قاموا لهذه المطاعن والشبهات، وألقوا بحججهم وبراهينهم فإذا هي تلقف ما يأفكون. ولعل أول حامل لهذا اللواء هو الإمام الجليل أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قُتيبة الدينوري، خطيب أهل السنة، المولود سنة 213، والمتوفى سنة 276، فقد انتدب لهذه الشكوك
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 5]
والمطاعن التي تثار حول القرآن، فجمعها ثم سدد إليها سهامه وأعمل فيها معاوله، فاقتلعها من جذورها، وكان مجلى ذلك كتابه العظيم «تأويل مشكل القرآن»، إلى ما نثره في كتبه الأخرى، مثل «تأويل مختلف الحديث».
ثم ظهرت مسألة «إعجاز القرآن» مبحثًا قائمًا بذاته، يُقصد إليه قصدًا. وكانت تلك المسألة «من أبرز المسائل التي تعاورها العلماء بالبحث في أثناء تفسيرهم للقرآن، وردهم على منكري النبوة، وخوضهم في علم الكلام، كعلي بن ربن كاتب المتوكل في كتاب «الدين والدولة» وكأبي جعفر الطبري في تفسيره «جامع البيان عن وجوه تأويل آي القرآن» وكأبي الحسن الأشعري في «مقالات الإسلاميين» وأبي عثمان الجاحظ في كتابه «الحجة في تثبيت النبوة». وكان علماء الاعتزال أكثر المثيرين للكلام في إعجاز القرآن، فقد ذهب النظام – من بينهم – إلى أن القرآن نفسه غير معجز، وإنما كان إعجازه بالصرفة، وقال: «إن الله ما أنزل القرآن ليكون حجة على النبوة، بل هو كسائر الكتب المنزلة لبيان الأحكام من الحلال والحرام، والعرب إنما لم يعارضوه، لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك، وسلب علومهم به». وذهب هشام الفوطي، وعباد بن سليمان إلى أن القرآن لم يجعل علمًا للنبي، وهو عرض من الأعراض، والأعراض لا يدل شيء منها على الله ولا على نبوة النبي. وكان ذلك وغيره من أقوال أئمتهما منبعًا غزيرًا للقول في إعجاز القرآن. وقد انبرى كثير منهم للرد على من أنكر إعجازه جملة، كأبي الحسين الخياط وأبي علي الجبائي، اللذين نقضا على «ابن الراوندي» كتابه «الدامغ» الذي طعن فيه على نظم القرآن وما يحتويه من المعاني، وقال: إن فيه سفهًا وكذبًا. وكذلك رد كثير منهم على من خالف عن قول جماعتهم، بأن تأليف القرآن ونظمه معجز، وأنه علم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كالجاحظ الذي رد على النظام رأيه في الصرفة، في كتاب «نظم القرآن».
ثم افرد علم «إعجاز القرآن» بالتصنيف، ومن أشهر ما صنف فيه مما هو مطبوع ومتداول:
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 6]
1- النكت في إعجاز القرآن، لأبي الحسن علي بن عيسى الرُّمَاني المتوفى سنة 386.
2- بيان إعجاز القرآن، لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البُسْتي المتوفى سنة 388.
3- إعجاز القرآن لأبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتوفى سنة 403.
4- الرسالة الشافية، للشيخ أبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني المتوفى سنة 471، وهو صاحب «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة».
ويعد كتاب أبي بكر الباقلاني من أوعب ما ألف في هذا العلم، قال ابن العربي: «ولم يصنف مثله».
على أن بعض أهل العلم قد عالجوا «إعجاز القرآن» في ثنايا مؤلفاتهم القرآنية أو البلاغية، كالذي تراه في البرهان في علوم القرآن للزركشي، وكتابي ابن الزملكاني: التبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن» و«البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن»، و«نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز» لفخر الدين الرازي، و«بديع القرآن وتحرير التحبير» كلاهما لابن أبي الإصبع المصري، و«الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز»، لأمير المؤمنين يحيى بن حمزة العلوي اليمني.
ولا يزال الناس بعد الباقلاني إلى يوم الناس هذا، يعتادون هذا العلم الشريف، ويعالجونه، وقد اختلفت كتاباتهم فيه شرعة ومنهاجًا، إلى أن رأينا في عصرنا الحديث من نحوا بالإعجاز القرآن منحى جديدًا، وهو ما يسمونه:
«الإعجاز العلمي في القرآن» ، وبرغم ما انتهى إليه بعضهم من نتائج تسر الناظرين، فإنه طريق مخوف، ومنهج محفوف بالمخاطر، للذي علمته من تغير الظواهر العلمية واختلاف النظر إليها والحكم عليها. ولذلك حديث آخر.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 7]

هذا الكتاب
ويأتي كتابنا هذا في «علم إعجاز القرآن» نمطًا وحده، فقد أداره مؤلفه على وجه من إعجاز القرآن جديد، لم يسبقه إليه سابق، ولم يفطن إليه باحث، وكأن كعب بن زهير، رضي الله عنه، لم يكن مصيبًا حين قال:
ما أرانا نقول إلا معارا ..... أو معادا من قولنا مكرورا
إلا أن يكون أراد الشعر وحده!
فقد يفتح الله على الأواخر بما لم يفتح به على الأوائل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهذا أيضًا وجه من وجوه إعجاز القرآن، وأنت ترى هذا من نفسك، فقد تتلو الآية أو السورة في صلاتك، أو في مغداك ومراحك، وعند أخذ مضجعك، وتمر عليها مرا، ثم تتلوها نفسها في ساعة أخرى من ساعاتك، وفي حالة مباينة من حالاتك، أو تسمعها من قارئ غيرك، فإذا هي تهزك هزًا، وإذا هي تملأ كل ما حولك بهجة وضياء، ثم تفجر أمامك ينابيع من الحكمة والهدى لم يكن لك بهما عهد، وتعجب، كيف غيب عنك كل هذا الخير فيما سلف لك من أيام!
وكل الكلام يمل، إلا كلام ربنا عز وجل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصفه وهو المنزل عليه: «ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلَق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه».
وهذا الوجه من الإعجاز القرآني الذي قام له المؤلف ونهض به، وجه قاطع بات، لا تصح فيه لجاجة، ولا تسوغ معه مخالفة، لأنه قائم على قواعد اللغة، ومستند إلى أحكام
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 8]
التاريخ، وليس للهوى فيه حظ أو نصيب.
وعنوان الكتاب كما ترى (من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن) – العلم الأعجمي في القرآن مفسرًا بالقرآن – وهو عنوان دال على موضوعه صراحة، متجه إليه مباشرة، ومنهج الوضوح دائر في هذا الكتاب كله، فالمؤلف يمضي إلى قضاياه ويعالجها دون ثرثرة أو تلكؤ أو فضول.
يقرر المؤلف أن القرآن يفسر في ثنايا الآيات المعنى الدقيق لكل اسم أعجمي علم ورد في القرآن، أيًا كانت اللغة المشتق منها هذا الاسم الأعجمي العلم، وإن كانت لغة منقرضة يجهلها الخلق أجمعون عصر نزوله.
وأسلوب القرآن في ذلك – كما يقول المؤلف - «المجانسة على الاسم العلم بما يفسر معناه أبين تفسير»، ومثال ذلك ما ذكره في تفسير اسم «زكريا» عليه السلام: يقول ربنا عز وجل: {ذكر رحمة ربك عبده زكريا} [مريم: 2]، ويقول المؤلف: زكريا في اللسان العبراني معناه حرفيًا «ذاكر الله» ثم يدعوك المؤلف إلى أن تتأمل المجانسة بين قوله تعالى: {ذكر رحمة ربك عبده زكريا} «وبين ذاكر الله»، وكأنه عز وجل يقول – وهو أعلم بما يريد – ذكر اللهُ ذاكرَ الله، أو: ذكر الله فذكره الله، أو: ذكر الله فذكرتْه رحمة الله.
وقد يأتي تفسير العلم العجمي في القرآن بذكر المرادف العربي لمعناه بغير العربي: ومن ذلك أن معنى «جبريل» في العبرية: الشديد القوي، وجاء التعبير عنه في القرآن بذلك، قال تعالى: {علمه شديد القوى. ذو مرة فاستوى} [النجم: 5، 6]. والمِرِّة بكسر الميم وتشديد الراء: بمعنى القوة أيضًا. وكذلك قوله تعالى عن جبريل عليه السلام: {إنه لقول رسول كريم . ذي قوة عند ذي العرش مكين} [التكوير: 19، 20].
ومثل ذلك ما انتهى إليه المؤلف في أمر «نوح» عليه السلام، فقد رده بعض مفسري القرآن إلى «النواح» فقالوا: هو من ناح ينوح، وجاء المؤلف فطبق عليه منهجه فرده – اعتمادًا على قواعد اللغة العبرية – إلى معنى التلبث والإقامة، ثم فسره بالسياق القرآني الكاشف، في قوله تعالى: {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 9]
خمسين عاما} [العنكبوت: 14]، وقوله عز وجل: {واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت} [يونس: 71]، وقوله تباركت أسماؤه: {وجعلنا ذريته هم الباقين} [الصافات: 77].
وثالثة: يذكر المؤلف أن «إسماعيل» ينطق في العبرية «يشمعيل» ومعناه: سَمِع الله، أو سميعُ الله، ثم التمس هذا المعنى في سياق القرآن الكريم، فوجده في قوله عز وجل على لسان إبراهيم عليه السلام: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء} [إبراهيم: 39]، وفي قوله عز وجل على لسان الخليل أيضًا وابنه إسماعيل عليهما السلام: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} [البقرة: 127].
وهكذا يمضي المؤلف بهذا المنهج في تفسير أسماء الأعلام الأعجمية وما يشبهها من أسماء الأجناس والمواضع، وقد أحصى في ذلك واحدًا وستين علمًا أعجميًا أو مختلفًا في عُجمته في القرآن، فسرها من القرآن نفسه، تعالى مُنْزِلة. ثم ذكر أن القرآن لا يفعل هذا فقط، ولكنه يصحح أيضًا لعلماء العبرية وعلماء التوراة، وقت نزوله وإلى يوم الناس هذا، تفسيراتهم اللغوية لمعنى هذا العلم العبراني أو ذاك، من مثل أسماء بني إسرائيل الواردة في القرآن وغيرها من أسماء المواقع، مثل «مدين» فيخطئ أصحاب اللغة ويصيب القرآن.
فهذا هو عمود صورة الكتاب، كما أقامه مؤلفه، وكما أراد له أن يكون، ولكنه من وراء ذلك ومن قدامه قد استطرد إلى قضايا كثيرة، عقيدية ولغوية وتاريخية.
ومن أنفس ما في هذا الكتاب – وكله نفيس إن شاء الله – ما ذكره المؤلف حول تاريخ كتابة التوراة والإنجيل، وأن نص التوراة مستنسخ من الذاكرة بعد نحو ثمانية قرون من وفاة موسى عليه السلام، وكذلك الأناجيل الأربعة المتداولة لم يخُطِّها عيسى عليه السلام بيده، ولم يُملها على حوارييه، وبهذا تكون سلسلة السند في التوراة والإنجيل منقطعة، وليس كذلك القرآن.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 10]
وما يتصل بالتوراة: ما سجله المؤلف من قصورها وتقصيرها في ذكر الأنبياء الذين هم من قبل إبراهيم عليه السلام، فتكون بذلك «توراة بني إسرائيل» ليس غير.
وقد أفضى ذلك بالمؤلف إلى أن طعن كثيرًا في «سفر التكوين» الذي بين أيدينا الآن، وكذلك شنع على كاتب التوراة، وكشف تدليسه وكذبه في أكثر من موضع، بل إنه نبه على تناقضه مع نحو اللغة العبرية ومعجمها.
أما بنوة عيسى لآدم عليهما السلام، وعبوديته لله عز وجل فقد عالجها المؤلف في غير مكانٍ من الكتاب.
والكتاب في تسعة فصول، خصص المؤلف الفصول الثلاثة الأولى منها لما يمكن أن نسميه تسمية علماء القراءات: الأصول، والفصول الستة الباقية جعلها لما يسمى عندهم الفَرْش، وهو تنزل الكلام على أسماء العلام: علمًا علمًا، كما ينزل الكلام في اختلاف القراء على سور القرآن: سورة سورة.
أما الأصول فقد أدار المؤلف عليها كلامًا عاليًا شريفًا، حول أصناف الملاحدة ومناقشتهم، ثم تكلم عن خصائص اللسان العربي وعبقرية العربية وقِدَمها، وأوجه التقابل والتغاير بينها وبين العبرية، ليجيب بعد ذلك: لماذا كانت العربية هي أم الساميات جميعًا؟
وأشار إلى لغات العالم المعروفة وقت نزول القرآن، ثم أورد كلامًا عزيزًا عن القرآن، وأورد اجتهادات في لغة آدم عليه السلام، التي تكلم بها على الأرض مهبطه من الجنة.
وتحدث عن استعارة معاني الأفعال، وحدود الأخذ والاستعارة من اللغات الأخرى.
ولهذا المؤلف اجتهادات جيدة في الاشتقاق، وتأصيل عربية بعض ما يظنه الناس أعجميًا، مثل «جهنم» وتخطئة بعض اللغويين العرب في أصل «إبليس» واشتقاقه.
وهناك أمر لا يزال المؤلف يعتاده ويلم به كثيرًا، وهو الرد على المستشرقين ومن إليهم من متحذلقة الأساتيذ في هذا القرن، الذين أدركتهم عُجمة العلم واللسان ... أو
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 11]
كما قال. وقد رد على المستشرقين في طعنهم على القرآن، وأنه وحي من الله يوحى على خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
وكان أكثر المستشرقين حظًا من الرد والتعقيب المستشرق الألماني جوزيف هورفيتس، المولود سنة 1874م، والمتوفى سنة 1931م.
ولعل أغنى بحث فيما وقع لي من أصول هذا الكتاب: هو الكلام على اسم أبي إبراهيم عليه السلام، وهو «آزر» في القرآن، و«تارح» في التوراة، وقد تختلف مع المؤلف في بعض ما انتهى إليه من الربط بين «آزر» و«تارح»، ولكنك تكبر فيه صدق الجهد وقوة الحجة.
ومن أطرف ما قرأته في هذا الكتاب تنبه المؤلف لما يصنعه بعض الأدباء والشعراء في هذا الزمان – الذين يزعمون أنهم يوظفون التراث في أعمالهم الأدبية – من تمجيد «إبليس» رمزًا للبطولة في محنة السجود لآدم، وأنه أول من قال: لا، فهذا سخف من القول. فيقول المؤلف: «والذي يجب التنصيص عليه في هذا السياق، هو النعي على أهل التفسير والسِّيَر، وأيضًا على أهل الفن والفكر والأدب، الذين تناقلوا ما دسه إبليس على أوليائه من أساطير وتهاويل لا يخلو منها «أدب الخرافة» في كل الشعوب، تتحدث عن «أمجاد» إبليس قبل أن يبلس، تريد تفخيمه وتعظيمه وغرس المهابة منه في صدور الناس، حتى خصوه بأضوأ كوكب في السماء الدنيا، كوكب الصبح، أي كوكب «الزُّهَرة»، وجعله بعضهم ندًا لله، وجعله بعضهم شهيد البطولة في محنة السجود لآدم، وأول من قال: «لا»، ليس التنكر للخالق عز وجل بطولة، لا صحيحة ولا زائفة، وإنما هو وضاعة، هذا كله فسوقٌ وصَغار، لا يجوز لمؤمن تجميل ما قبحه الله، ولا يجوز لمؤمن إعلاء ما وضعه الله أسفل سافلين، لا يجوز لمؤمن تمجيد ما رذله الله، ولا يجوز لمؤمن تعظيم من لعنه الله، ناهيك بموالاة عدو الله، بل لا يجوز لعاقل موالاة من أقسم ليجرنه وراءه على قاع جهنم».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 12]
وهكذا تتوالى القضايا في هذا الكتاب النفيس. على أني أحب أن أسجل هاهنا أن كلام هذا الكاتب – وأنا لا أعرفه – لا تستطيع أن تفرق فيه بين أصلٍ وحاشية، بل إن كثيرًا من حواشيه ينبغي أن تنقل إلى صلب الكتاب أو متنه، وتأمل مثلاً حاشيته في الفصل الأول، عند حديثه عن صور المغايرة بين العربية والعبرية، في توجيهه لتسميته صلى الله عليه وسلم «محمدا» ومظهر الحمد فيه، وما تلا ذلك من حديثه عن «الموآبية» والمقارنة أو الموازنة بين «ساذج» و«سادة»، و«كيسر» المعرب إلى «قيصر»، والاسم الإسباني «رذريجو» المعرب إلى «لذريق» ... وغير ذلك كثير من العلم المنثور في حواشي الكتاب.
ومع غزارة هذه المعارف التي يقدمها لنا الكاتب، ونفاستها، فهو لا يدل بها على قارئه، ولا يسوقها في موكب تتقدمه الخيالة، ويحف به راكبو الدراجات، وتكتنفه دقات الطبول، كما يفعل كثير من الكتاب الآن، وإنما يأتيك كلامه سهلا رهوًا، يتهادى في إهاب الكرامة والتواضع والإسماح، وعليه من العلم بهاؤه، ومن الجد أماراته، بأسلوب عذب مصفى، أسلوب كاتب يحترم عقل قارئه، ويريد إمتاعه لا التعالي عليه. يقول في الفصل الثاني – الأعجمي المعنوي والأعجمي العلم – في مناقشة المفسرين الذين اعتمدوا في تفسير أسماء أنبياء بني إسرائيل على المعجم العربي وحده، يقول: «وأنا أيها القارئ العزيز – إن كنت لا تعرف عبرية التوراة أو يونانية الأناجيل، بما في هذه وتلك من أعلام آرامية بل ومصرية أحيانًا – لا أريد لك أن يفوتك شيء من حلاوة بحثٍ أريد أن أحبره لك تحبيرًا: أريد منك أن تشترط علي توثيق ما أحدثك به، فلا أكيل لك القول جزافًا آمنا ألا تكشف زيفي، لأنك لا تعلم شيئًا من أمر تلك اللغات التي ذكرت لك. ليس هذا من العلم في شيء، وإنما هو من التدليس».
وقوله: «أحبره لك تحبيرا» أنتزعه – مُحْسِنًا – من قول أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وقد أخبره صلى الله عليه وسلم أنه استمع لقراءته القرآن، فقال: «أما إني لو علمت بمكانك لحبرته لك تحبيرًا».
وهذا الاقتباس الذي جرى على قلم الكاتب ترى له أشباهًا ونظائر في غير هذا الموضع من كتابه، وهو يدلك على انتماء أسلوب الكاتب لذلك النمط العالي من البيان
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 13]
المشرق الوضئ، الذي هو السمة الغالبة على أسلوب علمائنا الأوائل، ليس في كتب الأدب فقط، بل تراه في كل ما كتبوه، حتى في علوم الفقه والأصول والتاريخ والأنساب والبلدانيات (الجغرافيا) والطب والفلك والفلاحة (الزراعة)، فنحن أمة بيان وفصاحة، وإن أريد لنا أن نفرغ من هذا كله، وأن نعايش الواقع ونعانق لغة العصر – هكذا يقولون – لنضيق الفجوة بين ما يقرأه التلاميذ في الكتب وبين ما يسمعونه في الشارع والبيت. لقد أفضى ذلك العبثُ كله إلى هجر الكلام العالي، والتردي في هوة العجمة والسوقية، إن كثيرًا من أساليب الكتاب الآن تمضي تتخبط في طريق مظلم كئيب، وتدور تسعى في فلك ألفاظٍ مستهلكة مستبردة، مما كان يوصف قديمًا بالكلام المغسول.
وقد صدَّهم عن حسن البيان وجمال العبارة وَهْمٌ خادع وظنٌّ كذوب: أن العناية بتحسين العبارة أصباغ وزخارف، وأن التفكير العلمي والموضوعية يَأْبَيان ذلك ويرفضانه ... وهذا حديث طويل، لا ينبغي أن يشغلنا عن ذلك الكتاب الذي حبره مؤلفه تحبيرًا، وزينة تزيينًا.
إن في هذا الكتاب علمًا كثيرًا، وإن فيه خيرًا كثيرًا، وإن عليه نورًا كثيرًا، وما أظن ذلك كله قد كان غلاّ لأن مؤلفه قد تغيا به غاياتٍ نبيلة: هي خدمة كتاب الله، بالكشف عن نواحي إعجاز جديدة فيه، والأمور بمقاصدها. يقول تاج الدين السبكي: «ولقد حصل أبو زُرعة على أمر عظيم ببركة حفظه للحديث، وهكذا رأينا من لزم بابًا من الخير فُتح عليه غالبًا منه».
ويقول عبد اللطيف البغدادي: «أعلم أن للدين عَبْقَةً وعَرْفًا ينادى على صاحبه، ونورًا وضيئًا يشرف عليه ويدل عليه».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 14]
ويقول أبو الحسن العامري: «إن الدين كريم الصحبة، يُعز من لجأ إليه، ويستر عيوب من اتصل به، مع ما يُذْخر له في عاقبته من الغبطة الأدبية».
قلت: وقد رأينا كثيرًا ممن تطاولوا على الدين وهزءوا به وسخروا منه في مجالسهم، أو في أعمالهم الأدبية – شعرًا أو نثرًا – قد انتهى أمرهم إلى خسار وبوار، بل إن منهم من رأى فقره بين عينيه، ورأى عافيته تنفلت من بين يديه، مع ما تراه من ظلام في وجوههم ... {ومن يهن الله فما له من مكرم}.
ولما كان كل إنسان يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب ذلك القبر الشريف، المعصوم صلى الله عليه وسلم: فإن لي مع المؤلف الفاضل وقفات فيما وقع لي من أصول الكتاب، ولم أسعد بقراءته كله، وإني أعتقد أن من تحية أي بحث والاحتفال به مناقشته ومفاتشته:
أولاً: استصحب المؤلف تفسيرًا واحدًا من تفاسير القرآن العزيز، وهو تفسير الإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري الأندلسي القرطبي، المتوفى بمنية ابن خصيب شمالي أسيوط بصعيد مصر، سنة 671هـ. ويرى المؤلف أن هذا التفسير هو أوسع وأشمل تفاسير القرآن الكريم. وتفسير القرطبي على جلالته ونَباوة محله ليس هو أوسع التفاسير ولا هو أشملها، فإن أوسع التفاسير المطبوعة وأشملها هو تفسير شهاب الدين أبي الثناء السيد محمود الآلوسي البغدادي المتوفى سنة 1270هـ، وهو المسمى: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني.
ولو كان تفسير القرطبي هو أوسع التفاسير وأشملها فليس بمغنٍ عن سواه من التفاسير، سابقة أو لاحقة، وذلك أنه في تاريخنا وثقافتنا «لا يُغني كتابٌ عن كتاب» قُل هذا في علم التفسير، وقله في سائر علومنا. ولقد كان من أخطر ما صد الناس عن أبواب العلم، وزهدهم في الاستقصاء والتتبع والصبر على تكاليف العلم: الزعم بأن كتبنا تتشابه، وأن غاية اللاحق أن يدخل على السابق، يردد ما قال دون أن يضيف إليه شيئًا، إلا شيئًا لا يعبأ به، وهو زعم باطل وخلف من القول، ورده ودفعه في غير هذا المكان.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 15]
على أن ذلك التشابه الذي يظن بكتبنا، عند من لم يحسن النظر والتأمل، يذكرنا بأهل الصين واليابان، تنظر إلى سَحنتهم فتراهم على نمط واحد، ومن بابة واحدة، فتظنهم جميعًا شخصًا واحدًا، ولكنهم عند أنفسهم مختلفون جدًا، وبينهم من الفروق وأوجه الخلاف ما هو واضحٌ عندهم وضوحًا لا يدخله شك.
ثانيًا: من المباحث التي عالجها الكتاب: الترتيب التاريخي للأنبياء، والمدد التي بينهم، كالزمن الذي بين آدم ونوح، والذي بين نوح وإبراهيم عليهم السلام. ولم يستفد المؤلف – فيما رأيتُ – من المصادر العربية التي عالجت هذا الموضوع، مثل المحبر لابن حبيب (245هـ)، والمعارف لابن قتيبة (276هـ)، وتاريخ الطبري (310هـ)، ومروج الذهب للمسعودي (346هـ)، وقصص الأنبياء لابن كثير (774هـ) الذي هو جزء من كتاب: البداية والنهاية.
ولئن كان المؤلف يخالف هؤلاء المؤرخين – لأني أعتقد أنه لا يخفى عليه مكانهم، ولا يجهل مؤلفاتهم – فقد كان ينبغي الإشارة إليهم، والاستئناس بهم.
ثالثًا: ذكر المؤلف الخلاف في تعيين اسم «الذبيح» وهل هو إسماعيل أم إسحاق؟ وأورد كلامًا جيدًا، لكنه لم يرجع إلى المصادر الأولى – فيما ظهر لي – ولم يستفد مما كتبه أهلُ العلم، ولو فعل لما قال إن المفسرين تهيبوا تكذيب التوراة في قولها: إن الذبيح كان إسحاق بالاسم، لا إسماعيل، فلم يروا بأسًا من متابعة التوراة على هذا القول.
فهذا التعميم غير صحيح، فإن الحافظ ابن كثير – وهو من أئمة التفسير – وكتابه عُمدة في التفسير – ذكر الرأيين، وانتصر للرأي القائل بأن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام.
وقال ابن قيم الجوزية: «وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجهًا، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم، فإن فيه: إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بِكرَه، وفي لفظٍ: وحيده، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بِكرُ أولاده،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 16]
والذي غر أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم: اذبح ابنك إسحاق، قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم، لأنها تناقض قوله: اذبح بكرك ووحيدك، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويحتازوه لأنفسهم دون العرب، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله، وكيف يسوغ أن يقال: إن الذبيح إسحاق، والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب، فقال تعالى عن الملائكة، إنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى: {لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط . وامراته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} [هود: 70، 71]، فمحال أن يبشرها بأنه يكون لها ولد، ثم يأمر بذبحه، ولا ريب أن يعقوب عليه السلام داخل في البشارة، فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ واحد. وهذا ظاهر الكلام وسياقه».
أرأيت أيها الكاتب الفاضل تصديق كلامك عند الأقدمين؟ وأنت عليمٌ أن مثل هذه القضايا لا تلتمس من كتب التفسير وحدها، فكتب العربية أخذٌ بعضها برقاب بعض.
رابعًا: هذا كتاب جيد، مرجو منه الخير والنفع إن شاء الله، ومثله أعلى من أن تذكر فيه الأحاديث الشريفة بمعناها دون لفظها: ومن ذلك ما ذكره المؤلف في مبحث «إبليس» عليه لعائن الله تترى، قال: «وقد روى عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ما معناه «ثَوِّرُوا القرآن»، أي ابحثوا وتمعنوا». ولفظ الحديث: «من أراد العلم فليثوِّر القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين». أخرجه الحافظ نور الدين الهيثمي، من حديث عبد الله بن مسعود، في مجمع الزوائد 7/165 (باب في فضل القرآن ومن قرأه)، وكذلك رواه ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر 1/ 229 والقرطبي في تفسيره 1/ 446، قال شعر بن حمدويه: «تثوير القرآن: قراءته ومفاتشة العلماء به في تفسيره ومعانيه».
وروى أبو منصور الأزهري، في تهذيب اللغة 15/110، رواية أخرى، من حديث ابن مسعود أيضًا: «أثيروا القرآن فإن فيه خبر الأولين والآخرين». وذكر الروايتين أبو عبيد الهروي في الغريبين 1/ 306، 307، وكذلك عبد اللطيف البغدادي في المجرد للغة الحديث 1/ 262.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 17]
ويتصل بالحديث الشريف أيضًا ما ذكره المؤلف – في أثناء الكلام على «آزر» أبي إبراهيم عليه السلام – من قوله صلى الله عليه وسلم للنسوة اللائي خرجن لتشييع الجنازة «ارجعن مأزورات غير مأجورات»، والحديث أخرجه ابن ماجه في سننه 1/ 503 (باب ما جاء في اتباع النساء الجنائز، من كتاب الجنائز)، و«مأزورات» اسم مفعول من الوزر، وهو الإثم، وقياسه: «موزورات» من وَزَرَ يَزِرُ، قال عز من قائل: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164]، وغيرها من الكتاب العزيز، وجاء على الأصل في كلام علي رضي الله عنه: «إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت موزور».
وإنما قال صلى الله عليه وسلم: «مأزورات» للازدواج بمأجورات، فقلب الواو هاهنا همزة، ليس قلبا صرفيًا، على أنهما لغتان شائعتان مستعملتان، مثل أكد ووكد، والتأكيد والتوكيد، ولكنه قلب لغاية صوتية، هي ما يسمونها الازدواج أو المزاوجة.
فتنظير المؤلف لتعاقب الهمزة والواو بهذا الحديث غير صحيح، وإنما ينظر بالشائع المطرد المنقاس، مثل أكد ووكد، وأقتت ووقتت، ووجوه وأجوه، ووشاح وإشاح، ووعاء وإعاء.
والمزاوجة أو الازدواج ظاهرة صوتية، يراد بها الانسجام والتوافق الصوتي، وهذه الظاهرة سماعية، أي أنها مرتبطة بنصوص بعينها، مثل الحديث السابق، ومثل ما جاء في حديث القبر «لا دريت ولا تليت» وإنما هو: تَلَوْتَ. وإنما قلبوا الواو ياءً ليزدوج الكلام، وكذلك قولهم: «إني لآتيه بالغدايا والعشايا» فجمعوا الغداة: غدايا، لتزدوج بالعشايا، وحقها أن تجمع على: غدوات. وكذلك قولهم: «الحِير العِين»، وإنما هي: الحُور.
وهذا كله قلب غير منقاس، ولذلك ذكره ابن قتيبة تحت عنوان: (باب شواذ التصريف) – أدب الكاتب ص600.
خامسًا: في حديث المؤلف عن «إبراهيم» عليه السلام، خطأ المفسرين واللغويين
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 18]
الذين ذهبوا إلى أن قوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة} [النحل: 120]: معناه الجامع لخصال الخير، ثم ذكر أن تفسير لفظ «أمة» بذلك لا يساعد عليه أصل المادة، ورأى من عند نفسه أن المعنى الدقيق لاسم إبراهيم هو: «إمام الناس».
قلت: هذا الذي انتهى إليه المؤلف الفاضل باجتهاده واستخراجه هو ما قاله بلفظه الإمام اللغوي ابن فارس، المتوفى سنة 395، في كتابه الفذ: معجم مقاييس اللغة 1/ 27، قال: «وقيل (إن إبراهيم كان أمة) أي إمامًا يهتدي به»، لكني قلت من قبل إن المؤلف لم يستفد من الكتب الأولى: واللغة تؤخذ من كتب العربية كلها، أعني من فنونها ومعارفها كلها، ومن كل ما كتبه أهل العلم، ما دق منه وما جل، وقد كانت آفة بعض الذين كتبوا عن اللغة العربية أنهم التمسوها من كتب اللغة فقط... وليس الطريق هنالك!.
سادسًا: ذكر المؤلف في الفصل الثاني، قال: «ومن خصائص الاسم العلم أنه لا يوصف إلا على الخبر أو على البدل، ولا يوصف على النعت، لأن النعت يخصص والاسم العلم متخصص بذات علميته، لا يحتاج إلى مخصص. ثم استشهد للوصف على البدل بقوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين} فما بعد لفظ الجلالة كله مجرور على البدل».
وهذا كلام خرج من باب الاجتهاد ليس غير، وقواعد النحو على خلافه، لأن النعت كما يخصص النكرة يوضح المعرفة التي منها الاسم العلم، مثال نعت المعرفة: جاء زيد التاجر، أو التاجر أبوه، فهذا توضيح للمعرفة، ومثال نعت النكرة: جاءني رجل تاجر، أو تاجر أبوه، فهذا تخصيص للنكرة.
أما إعراب (رب العالمين) فقد أعربها جمهور النحاة والمفسرين نعتًا للفظ الجلالة، لمجرد المدح، لا على التوضيح ولا على التخصيص الذي أراد المؤلف الفاضل أن يفر منه مع لفظ الجلالة، ولكن على إرادة مجرد المدح، وقد نبه على هذا أبو حيان، فقال: «الرحمن الرحيم ... هما مع قوله: رب العالمين، صفات مدح، لأن ما قبلهما عَلَمٌ لم يعرض في التسمية به اشتراكٌ فيخصص».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 19]
إذن قول المؤلف: «إن الاسم العلم متخصص بذاته» ليس على الإطلاق والتعميم، وإنما هو فقط في حق المولى جلت صفاته «الله» المعبود بحق الذي لا شريك له.
ونعم ذكر بعض معربي القرآن أن «رب» يجر على النعت لله، أو البدل منه، لكن الأكثر على أنه نعت لمجرد المدح، كما ذكرت.
سابعًا: عرض المؤلف في أثناء حديثه عن «يوسف» عليه السلام لإعراب قوله تعالى: {ما هذا بشرا} [يوسف: 31]، فقال في حاشيته: «تنصب «بشرا» هنا على نزع الخافض، وهو الباء المؤكدة للنفي، فالأصل: ما هذا ببشر! باتة قاطعة، والقاعدة في المجرور بحرف أنك إن نزعت حرف الجر منه نصب. وهذا يغنيك عن تعللات علماء النحو في هذه الآية، ومنهم أئمة، الذين أجهدوا أنفسهم وأجهدوا تلاميذهم، في جمع الشواهد على أن من العرب من يجعل لـ «ما» حكم ليس».
قلت: إن إيراد الكلام على هذا النحو يوحى للقارئ غير المتخصص: أن هذا الإعراب إنما خرج من كِيس المؤلف الفاضل، وأنه لم يسبقه إليه سابق، وآية ذلك أسلوب التعميم في قوله: «وهذا يغنيك عن تعللات علماء النحو في هذه الآية».
وهذا الذي ذكره المؤلف ونصره إنما هو قول الكوفيين – الفريق الثاني من علماء النحو – وهذا موضع من مواضع الخلاف بينهم وبين البصريين. وقد ذكره أبو جعفر النحاس، وأبو البركات الأنباري وغيرهما من النحاة.
وتبقى بعد ذلك كلمة:
- لقد قلت من قبل إن أسلوب هذا الكاتب عذبٌ مصَفى، واللهم نعم! لكن شاب هذا الصفاءَ، وعكر هذه العذوبةَ بعضُ أوْشابٍ مما يخالط الأساليب الشريفة، تتسلل إليها لواذًا، وكأنها العدوى المهلكة، تتخلل ذرات الهواء، لا تحس بها إلا وقد داهمتْك في
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 20]
خلايا بدنك – عافاك الله – فلا تستطيع لها دفعًا ولا مردًا.
ومن ذلك ما جاء في كلام المؤلف الفاضل من هذا التركيب «موسيقى القرآن» وهو تركيب رخو لين، لا يليق بجلال القرآن وبهائه، ولا تقل: لا بأس علينا من تقارض مصطلحات العلوم، لأن فيه إثراء للغة، لا تقل هذا ولا تغتر به، لأنه مدخل لبلاء عظيم، ولو فتحنا هذا الباب لفسد علينا كل شيء، فإن للكلام حدودًا ومعالم ينتهي إليها، أنسيت أن منا من قال: إن القرآن رسم لوحة صفتها كيت وكيت؟ فجعل المولى عز وجل فنانًا تشكيليًا يحمل فرشاة يغمسها في ألوان، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
لقد غيروا «النظم القرآني واتساقه» فجعلوه «موسيقى القرآن» ثم غيروا «العروض» فجعلوه «موسيقى الشعر» ثم غيروا «علم الصرف» فسموه «علم الصوتيات» وثم وثم وثم، وبالله نستدفع البلايا.
وبعد:
فهذا بحثٌ جيد جدًا، احتشد له مؤلفه احتشادًا، وأحكم بناءه إحكامًا، ولم يبق غلا أن أخلى بينك وبينه، لا أجاذبك الحكم عليه أو الرضا عنه، فهذا لك، أما أنا فإني أرفعه وأمدحه، وهذا لي، لكني من باب النصح للمسلمين والبر بهم: أوصيك أيها القارئ العزيز بتأمل هذا الكتاب ومدارسته، فخلِّ له سَرْبَك، وشد عليه يد الضنانة، ثم أغر به من حولك. جعلك الله لكل خير سببًا، وأذاقك حلاوة الإنصاف، وثبت نعمه لديك، وأوزعك شكرها. وجزى الله مؤلف الكتاب خير ما يُجزى به مسلمٌ يوقر كتابه، ويكشف عن مظاهر الكمال والجلال فيه، وجعل كل ما قدمه من جهد واجتهاد في موازينه «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا».
والحمد لله في الأولى والآخرة،،، ).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 3-21]

صفية الشقيفي 16 ربيع الثاني 1443هـ/21-11-2021م 08:16 PM

تصدير المؤلف:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير:
القرآن كلام الله عز وجل مُعجزِ للخلق أجمعين، لا يأتون بمثله، هكذا وصفه منزله جل شأنه وهكذا هو، وتلك هي عقيدة المسلم.
وعقيدة المسلم في هذا الإعجاز مرتبة ابتداءً على إيمانه بأن القرآن كلام من الله عز وجل، خطاب لخلقه، نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. فهو إذن فعل من أفعاله عز وجل، وخلق من خلقه تبارك وتعالى. والخالق لا يحاكيه مخلوق في قوله وفعله وصنعه.
والمسلم أيضًا – عربيًا وغير عربي – يسلم بإعجاز القرآن تصديقًا لقول الحق سبحانه:
{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء: 88].
{قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} [الكهف: 109].
{ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم} [لقمان: 27].
وقد مضى على نزول القرآن أربعة عشر قرنا دون أن ينهض لهذا التحدي أحد، وما كان لأحد أن يفعل من بعد، وقد عجز معاصروه المنكرون عليه وهم أصحاب اللغة.
وليس القرآن معجزا بلغته فقط، أي بمحض لفظه وعبارته، وإن كان قمة الإعجاز اللغوي لأهل العربية في كل العصور، مسلمهم وغير مسلمهم على السواء، ولكنه معجز للناطقين بكل اللغات، لأنه معجز بموضوعه، معجز بمعانيه، معجز
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 23]
بهيمنته على ما سبقه من الكتب، وكلها غير عربي، يصدقها فتصدق، ويخالفها فيصدق هو.
والقرآن معجز أيضًا بقائله، أي بصدوره مباشرة عن الله تبارك وتعالى، فهو سبحانه في كل القرآن القائل المخاطب المحدث الراوي. وليس لهذا نظير في الكتب السابقة التي بين يديك: فيها من قول الله، وفيها من غير قول الله. فيها من قول النبي أو الرسول وأكثرها حديث الرواة عن النبي أو الرسول. إنها أشبه بالتواريخ والسير، العهدة فيها على الراوي، لا على النبي أو الرسول. يستبين لك هذا مباشر من مجرد القراءة في تلك الكتب، غير محتاج في إثباته إلى دليل من خارجها، بل إن أصحاب تلك الكتب لا يجادلونك في هذا، وإنما يُسلمونه: التوراة كتابة الربانيين والأحبار بعد قرون من وفاة موسى عليه السلام، والأناجيل منسوبة إلى الحواريين والآخذين عنهم بعد رفع المسيح عليه السلام. وهم يسلمونه أيضًا لأنه بين من عبارة الكاتب، الذي يقول لك في التوراة (كتاب موسى): وقال الله لموسى ... وذهب موسى ... ومات موسى ... إلخ، كما يقول لك في الإنجيل (كتاب عيسى): وتهلل يسوع بالروح ... وانطلق يسوع ... وعلمهم أن يقولوا في صلواتهم ... إلخ. وهذا أشبه بالسيرة النبوية وكتب الحديث، لا تسلم إلا بعد تمحيص وتدقيق. وأنت لا تجد في القرآن عبارات من مثل: «جاء محمد» و «ذهب محمد» صلوات الله عليه. تجد مثل هذا في السيرة النبوية، ولا تجده في القرآن. ولكن أصحاب الكتب السابقة يؤمنون بأن كتبة التوراة والأناجيل كتبوا ما كتبوه بإلهام من الله ويوحى من الروح القدس. وأنت قد تسلم بالوحي للنبي، ولكنك لا تسلمه قط للرواة. فهم لم يدعوه، بل أنت تقرأ في «إنجيل لوقا» أن الكاتب يقول لك إنه لم يكتب ما كتب إلا بعد جمع وتمحيص وتدقيق.
وقد أراد الله للقرآن أن يكون المعجزة الكبرى لخاتم النبيين. وقد أرادها عز وجل معجزةً خاتمة خالدة، تليق بعموم الرسالة في المكان وخلودها في الزمان، فهي رسالة لكل الناس في كل العصور. كانت معجزات الأنبياء السابقين معجزات مرئية، يعاينها من شهدها، فهي حجة على الشاهد وليست حجة على الغائب. الحدث المعاين ينقضي بتمام حدوثه فيطويه التاريخ. أنت لا تستطيع أن تقول: «ها هنا انشق البحر لموسى»، فقد عاد البحر كما كان. ولا تستطيع أن تقول: «هو ذا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 24]
لعازر الذي مات بالأمس قد أحياه المسيح»، فقد مات لعازر من بعد، ورفع المسيح. أما المعجزة السمعية، أما القول الفصل، أما الآية من القرآن، فهي الشاهد الناطق أبد الدهر. فالحدث ينقضي بتمام حدوثه، والكلمة تولد بالفراغ من نطقها، فلا تموت. وقد أثبت الله عز وجل للقرآن صفة المعجزة الشافية الكافية، فأنكر على من سألوا محمدًا صلى الله عليه وسلم معجزة مرئية كمعجزات من سبقوه، ولم يكتفوا بالقرآن. قال عز وجل: {أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم}؟ [العنكبوت: 51].
أراد الله عز وجل للقرآن – والحق من أسمائه جل وعلا – أن يكون دالاً بذاته على مصدره، فكان القرآن محض الحق، نزل من الحق بالحق: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل} [الإسراء: 105]، ليكون لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، في كل العصور، الحجة الساطعة القاطعة الخالدة، ولا أقطع من كلمة الحق، ولا أبقى.
والمسلم، عربيًا وغير عربي، الذي يسلم ابتداء بإعجاز القرآن لمجرد إيمانه بصدوره عن الخالق جل وعلا، مأمور أيضًا بالتأمل في إعجاز الخالق فيما خلق.
قال عز وجل: {أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء}؟ [الأعراف: 185]. وقال أيضًا: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، فارجع البصر هل ترى من فطور؟ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير} [الملك: 3: 4].
وهذا من دقيق القرآن: خسأ البصر وحسر، أي كل وأعيى، فارتد منعكسًا في القلب، فيتطامن القلب ويخشع، قد غشيته السكينة، وتغشاه الجلال، وانقلب البصر بصيرة. تلك هي لحظة الإيمان الخالص، واليقين المطلق. إنه ليس إدراك فهم، فهو قد آمن من قبل، وإنما هو إدراك حضور. تلك اللحظة هي التي طلبها إبراهيم عليه السلام من ربه: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260] أي يتطامن، يستضيء بنور الله، ويستروح جلال الله، ويغيب في كنف الله. تلك هي لحظة الوجود الحق، وتلك في هذه الدنيا هي جنة المؤمن: إنه في هذه اللحظة دان
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 25]
قريب، في حضرة ذي الجلال. لم يدن هو، وإنما تفضل المنعم فأدناه. وهو عز وجل لا يتجلى لخلقه بنور ذاته، إذن لصعقوا، ولكنه عز وجل يتجلى لهم في دقيق خلقه، ولطيف صنعه، وحكيم إبداعه. قال صلى الله عليه وسلم: «تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في ذات الله».
والتفكر في خلق الله، وفي إعجاز الله، عبادة ذكر وتسبيح: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك} [آل عمران: 190: 191].
والقارئ في كتاب الله، المتدبر في آي القرآن، قارئ في كتاب الكون كله، ما كان ويكون، دق أو عظم، تعلق بأذيال النجوم، أو تخفى في دبيب النفس.
إنه القارئ السامع الرائي.
وغيره أعمى وأصم.
{أفلا يتدبرون القرآن * أم على قلوب أقفالها} [محمد: 24].
وقد شُغِلَ المسلمون في كل العصور بتدبر القرآن، يستظهرون معانيه، ويستجلون وجوه إعجازه، فلم يستقصوه، ولن يستقصوه حتى تقوم الساعة، فالإعجاز مستمر، والقرآن لكل القرون، لا يجد للخليقة علم إلا وقد سبقت إليه بالقول الفصل في القرآن إشارة.
وهذا هو الإعجاز الأكبر: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم * حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 26]
وهذا وجه من وجوه إعجاز القرآن جديد، لم أقع عليه فيما كتب المفسرون، أردتُ وقد هداني الله إليه بفضل منه ونعمة أن أشركك معي فيه أيها القارئ العزيز.
إن تك مسلما، فسبح. وإن تك غير مسلم فتأمل. والله يهدي إليه من ينيب.
اللهم يا منزل الكتاب، خذ بيدي: أنر بصيرتي، وسدد قلمي، أرزقني الصواب، واجنبني الزلل، لك وحدك الفضل والمن، ومنك وبك التوفيق.
والحمد لله رب العالمين).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 23-27]

صفية الشقيفي 16 ربيع الثاني 1443هـ/21-11-2021م 08:33 PM

مقدمة الجزء الأول للمؤلف:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( مقدمة
يتوقف الإيمان بصدق الرسالة – أي رسالة – على سبق الإيمان بصدق الرسول. فأنت لا تستطيع مثلاً تكذيب التوراة (كتاب موسى عليه السلام)، إلا وقد كذبت موسى من قبل، شأن فرعون وقومه، في دعواه الوحي من الله تبارك وتعالى، ولا تستطيع تكذيب الإنجيل (كتاب عيسى عليه السلام) إلا وقد كذبت عيسى من قبل في دعواه البلاغ عن ربه عز وجل، شأن آباء اليهود في عصر المسيح. وأنت لا تستطيع بالمثل إنكار الوحي على القرآن (الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) إلا وقد كذبت محمدًا من قبل في دعواه النبوة والرسالة.
المكذب بالرسالة مكذب أصلاً بالرسول، والمكذب بالرسول مكذب ضمنًا بالرسالة. عكس هذا، المصدق بالرسول، المسلم بأن هذا الوحي من الله، فهو لا يستدرك على رسل الله، وإنما يأخذ ما يلقون إليه من رسالات ربه أخذ المذعن المتبع، المنصت الواعي، يستمع القول فيتبع أحسنه، شاكرًا أنعم الله أن حباه بالمنة الكبرى فأسفر إليه يدعوه، ويخاطبه عن طريق رسله بالكلام.
أما «أهل الكتاب»، أصحاب التوراة والإنجيل، فقد صدق اليهود بموسى فآمنوا بالتوراة، وصدق النصارى بعيسى وموسى فآمنوا بالتوراة والإنجيل. أما المسلمون – أصحاب القرآن – فقد صدقوا بمحمد خاتم النبيين المصدق لما بين يديه من كتاب، صلوات الله وسلامه عليه وعلى رسله أجمعين، فآمنوا بالتوراة والإنجيل والقرآن.
والتصديق والتكذيب هنا أو هناك يدوران على التسليم بالوحي للرسول، أو إنكار الوحي على الرسول: سلم اليهود بالوحي لموسى وأنكروه على عيسى ومحمد، وسلم النصارى بالوحي لعيسى وموسى وأنكروه على محمد، صلوات الله عليهم أجمعين. وسلم المسلمون بالوحي لرسل الله جميعًا لا يفرقون بين أحد من رسله.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 29]
لماذا آمنت طائفة ببعض وكفرت ببعض؟ لماذا يكذب السابق اللاحق، والموحي واحد جل جلاله؟!
هل يرون أن رسالات الله ختمت بنبيهم؟ فأين النص على مثل هذا في كتبهم كما تجده في القرآن على من ختمت به النبوة والرسالة؟
أم اكتفوا بكلمة الله على رسولهم فلم تعد بهم حاجة إلى من يليه؟ فهل أمروا بذلك، أم أمروا بعكسه؟ كيف إذن توالت النبوات تترى على بني إسرائيل من بعد موسى؟ ولماذا آمن اليهود لموسى وقد آمنوا من قبل لكل من سبقوه، من نوح إلى إبراهيم وإسحاق ويعقوب وبنيه؟ وكيف آمن النصارى لعيسى وقد سبقه موسى بالتوراة فيها هدى ونور؟
أم أن التسليم بالوحي للنبي يحتاج إلى معجزة بينة يجريها الله على يديه، ويذعن لها المكابر والمعاند؟
فهل أكبر من انشقاق البحر لموسى، يمشي فيه يبسا، ومن ورائه فرعون لا يذعن للآية الكبرى حتى ينطبق البحر عليه!
تلك معجزة كونية عظمى، لا يكابر فيها ممن عاينها إلا هالك: لم يضحل البحر لموسى يخوض في مائه، حتى يسوغ احتجاج المكابر بمد أو جزر، وإنما انحسر البحر بآخر قطرة في باطن قاعه عن يابسة صلد (طه: 40)، يجتازها موسى وقومه، ويتبعهم فرعون، تدرج عليها عجلاته وتدقها سنابك خيله.
وهل أبين من انشقاق القبر عن «لعازر»، قد أحياه الله لعيسى، فيخرج على أعين الناس يدب على قدميه، مدرجا في أكفانه؟
كلتا المعجزتين أعظم من أختها، لا يستطيعهما إلا رب الكون ومحيي الموتى: لم يحي عيسى الميت، كما لم يشق موسى البحر، وإنما صنع هذا رب موسى وعيسى، ورب البحر ورب لعازر. إنه سبحانه لا يحتاج في شق البحر إلى ضربة من عصا موسى، ولا يحتاج في إحياء لعازر إلى عيسى يناديه: لعازر! هلم خارجًا! ولكنه عز وجل قرن هذا بذاك، كي يستبين للمكابر المعاند أن الذي يخاطب البحر
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 30]
بموسى، والذي يخاطب لعازر بعيسى، جمادًا وأمواتًا، هو الذي يخاطبه بموسى وعيسى، لهما فاسمعوا، كما سمع البحر وسمع لعازر.
ليست الآية للنبي تكريمًا وتشريفًا، وإنما هي خاتم الرسالة والسفارة.
فما ظنك بمن يعاينون ولا يؤمنون؟ ما ظنك بفرعون، لا يأتيه موسى بآية إلا هي أكبر من أختها؟ وما ظنك بيهود جحدوا عيسى، يمشي بينهم لعازر، الميت الحي؟
وما بال قوم آمنوا قبل أن يعاينوا؟ ما بال ذلك النفر من قوم موسى الذين آمنوا له أول من آمن، لم يروا معه أول ما رأى النار المقدسة في البقعة المباركة من الشجرة، ولم يسمعوا الله يكلمه جهرة، أو يشهدوا معه يدا سمراء تخرج من جيبه بيضاء من غير سوء، وعصا ككل العصى تنقلب ثعبانًا لتعود سيرتها الأولى؟
وما شأن أوائل الحواريين الذين آمنوا لعيسى أول من آمن، أومأ لهم فاتبعوه، من قبل أن تجري على يديه معجزة ولا آية؟
ما سر الإيمان للرسول؟ أهو نور يقذف في القلب؟ بل المكذب بالرسول مكذب في الأصل بمن أرسله.
لا يؤمنن أحد بالله، ثم يحيل عليه أن يصطفي من عباده من يشاء بشرًا رسولاً. إن شككت فتثبت، فلن تعدم في الوحي الذي ألقى إليك آية.
على أن من الناس من ينكر مبدأ الوحي جملة، وهم أنواع: فريق غير مؤله البتة، ينكر الخالق ويؤمن بالمخلوق، أي يؤمن بأن هذا الكون بكل ما فيه موجود ليس له موجد، منظوم ليس له ناظم، محكوم بغير مسخر، مرزوق بغير مدبر، ولا وحي ثم، لأنه ليس ثم البتة من إله.
ولا منطق في هذا القول ولا علم: الموجود بذاته لا يحتاج إلى غيره في استمرار وجوده، ولا تحكم وجوده قوانين من خارجه. الموجود بذاته لا قبل له ولا بعد، وإلا فقد كان بعد أن لم يكن، أو وجد ليزول. الموجود بذاته لا يتبعض ولا يتذرى، وإلا فأي أبعاضه الجامع لشتاته، الحافظ لمتفرقه؟ وهل في آحاد الكائنات جرم لا يتبعض ولا يتذرى، سواء أكان نوية أم خلية، أم كان بعض أجرام الفلك؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 31]
يزعم غير المؤله أن هذا الكون لا يحتاج في تبرير وجوده إلى علة إيجاد من خارجه، فإن حاججته فحججته، ظن أنه أفحمك بسذاجته: إذا كان لا بد لهذا الكون من موجد، فمن ذا الذي أوجده؟ يجعل الموجود بذاته كالموجود بغيره، فيشترط علة للخالق، وهو لم يشترط علة للمخلوق، فصار محجوجًا بذات منطقه. تعالى الواحد الأحد: الواحد لا إله معه، الأحد في ذاته لا يتبعض ولا ينقسم. تلك الأحدية هي أدل صفات الموجود بذاته، الغنى عما سواه، وتلك بعض معاني قوله عز وجل متحدثًا عن نفسه: {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1].
بل الكون دال بذاته على مبدعه ومدبره. ولو أنصف طالبو المعجزات لأدركوا أنهم يسبحون في بحر إعجاز دائم، ولما كانت بهم إلى الرسل من حاجة، لولا فضل من الله ونعمه، يذكر الناسي، فينتبه الغافل، ويزدجر العابث اللاهي.
ثمة أيضًا فريق ثان يتفلسف فيتكئ في كرسيه ويقول لك: نعم، لهذا الكون موجد، نعتبره ضرورة منطقية تفرض نفسها علة للإيجاد من خارج الزمان والمكان. إنه عندنا مبدئ هذا الوجود، أوجد هذا الكون وبث فيه قوانينه، ثم تركه وانصرف لبعض شأنه، لا حاجة به إلينا، ولا حاجة بنا إليه، فالكون آلة صنعها صانع ما، وأدارها فدارت، ولا تزال تدور. وهي مبرمجة بقوانين مبثوثة في هذا الكون منذ بدأ، لا يتدخل فيها أحد إلا انفرط نظامه، ولا يملك الصانع نفسه تعديلها إلا بعد أن يوقف الآلة عن الدوران. ونحن نعيش هذا الكون ما دام لنا، وما دمنا فيه لا يعنينا ما يكون من بعد، فلن نشهد النهاية، إن كان ثم نهاية. فما معنى الوحي إذن؟
ولا منطق أيضًا في هذا القول ولا علم: الصانع رقيب حافظ. وفي هذا الكون طائع، ذلول، مسخر، وفيه أيضًا عاص، مارد، متأب، وكلاهما مقهور. يضع هذا القائل نفسه خارج الكون، يشهد له بالصنعة، وينبهر بالنظام، وينسى نفسه، وفي خلقه هو نفسه الشاهد البين: ألا يعتل منه عضو فيطببه؟ ألا تهيج به نزوة فيكبتها؟ ألا يبتر له ساق قاحت أو غدة تورمت؟ ألا ينهى النفس عن الهوى إن غوت؟ ألا يؤدب ابنا عصى؟ ألا يرد إلى سواء الصراط مجرما عن الصراط خرج؟
على أن قضاء الله في كونه نافذ، واعتلال هذا القائل بثبات القوانين الكونية مقبول، والمعجزة تدل عليه ولا تنفيه: ليست المعجزة تعطيلاً لقوانين الكون وإلا لا نفرط نظامه، وليست مجرد تعطيل لقانون كوني ما في نقطة ما من الزمان والمكان
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 32]
مع ثباته في غيرها: انشق البحر لموسى في موضع ما، برهة ما، ثم عاد كما كان، وانشق قبر ما، عن «لعازر» بعينه، الذي عاد فمات. ليست المعجزة سلبًا محضًا يشل القانون الكوني أو يعادله فيبطله، ولكنها «فعل محض»: لم تخمد جاذبية الأرض فينداح الماء عن موضعه، ولكنه جبذ ورفع، كل فرق كالطود العظيم، ولم ينهدم القبر فوق لعازر، وإنما انشق عنه. لم يسكن النفس في صدر لعازر، وإنما أعيد إليه. المعجزة فعل محض، والقوانين الكونية قوى مأمورة، في ثباتها آية، وفي قهرها آية، وفي خرقها دليل الحضور، ودليل الهيمنة، ودليل القدرة.
لمثل هذا القائل تنصب الآيات والنذر، {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} [الإسراء: 59].
أما الفريق الثالث، فهو فريق متعالم، ينكر الوحي جملة لأنه ينكر من منطلق «علمي» أن يكون للطبيعة «فوق». تلك عنده تهاويم وخيالات، ومن ثم فلا وجود عنده إلا لما هو مادي تدركه الحواس. أما إن كان ثمة غير مادي وغير محسوس لم نكتشفه بعد، فلن ينكشف لنا، لأن الصلة بين المادي وغير المادي مقطوعة، لا يتواصلان، ولا يؤثر هذا في ذاك لاختلاف الطبيعة والتكوين فالوحي إذن محال.
وقد أفلس هذا الفريق «علميًا» منذ قرن في المعامل والمختبرات، وكان جديرًا به أن يفلس منذ قرون لولا تفيهق الآخذين عن فلاسفة اليونان: انحلت نواة المادة إلى «طاقة» بحت، أي أن المادة إن فنيت تلد الطاقة. فالمادة إذن طاقة «تشيأت»، أي صارت «بالمشيئة» شيئًا ماديًا ما. وليس صحيحا، بل العكس هو الصحيح الثابت المشاهد المختبر، ما يقال من أن غير المادي لا يعمل في المادي، بل المادي لا يتأثر إلا بغير المادي، أي بالطاقة. والطاقة قوة، والقوة هي تعريفنا القاصر لفعل غير مسمى الفاعل، نلمس فعله، ولا نلمسه هو. ليس المادي المتشيئ هو وحده الموجود، وإنما كان قبل أن يتشيأ هو عين الوجود، أي من أمر الله: {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82].
لماذا أعضلت «مسألة الوحي» على هذا الجاهل المتعلم، يدعى «العلمية» ولا يتابع كشوف العلم الحديث؟
لماذا يَعجَب «للوحي» ولله المثل الأعلى، ولا يعجب لرسائل صوتية أو مرئية تنتقل إليه عبر مويجات أثير تسبح في أجواء الفضاء؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 33]
والمويجات – وقد عَلِمت – طاقة.
أما إن تعمقت، فقد علمت أن ذرات المادة – أية مادة – ليست بمادة، وإنما هي فحسب مجموعات قوى ومقاومات، رتبت على نسق ما، وعدد ما، لا تفترق مادة عن مادة إلا بهذا العدد وهذا الترتيب، ذهبا كانت أو حديدا.
إنها حتى في صورتها المادية طاقة.
انهدمت «المادية» على رؤوس أصحابها، فهل بقيت للمتنطع حجة؟
في تفجير الذرة آية.
أما المؤمنون بالله، فهم يسلمون بوحي الله على رسله، ولكنهم يطلبون الآية. ومن يطلب الآية فقد لزمته الآية.
ثمة من يطلبون الآيات تعجيزًا، فإن جاءتهم الآيات كفروا بها: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} [البقرة: 10].
وثمة من يطلبون الآيات تصديقًا، فلما جاءتهم الآيات زادتهم الآيات إيمانًا: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} [مريم: 76].
ومن الناس أيضًا من يستجيبون للرسول لحظة يدعوهم، ولم يروا الآية: إنهم نواة الدعوة، ومعدن الرسالة. أولئك يُقذف الإيمان في قلوبهم وكأنه وحي يوحى، كما قال عز وجل في شأن الحواريين: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} [المائدة: 111].
ربما طلبوا الآية بعد ذلك، ولكنهم يطلبونها تصديقًا وتثبيتًا، ثم يكونون عليها من الشاهدين، كما قال الحواريون عندما سألوا الله مائدة من السماء على يد عيسى: {قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين} [المائدة: 113].
طلبوا الآية فلزمتهم الآية، لا عذر من بعدها ولا معذرة، كما تجد في قوله عز وجل لحظة نزول المائدة من السماء: {قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين} [المائدة: 115]
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 34]
لزمت المعجزة من طلبها ومن عاينها.
وبقى التصديق بالمعجزات امتحانًا لصدق إيمان من لم يطلب ولم يعاين، شهد عصر الرسالة، أو جاء بعد من شهدوه.
وهو امتحان عسير لمن لم يشهد ولم يعاين.
حتى جاء رحمة الله للعالمين، محمد صلى الله عليه وسلم، بالآية الدائمة التي يستوي فيها الشاهد والغائب، فلزمت الخلق أجمعين حتى قيام الساعة.
{فبأي حديث بعده يؤمنون؟} [المرسلات: 50].
ليس بعد القرآن آية.
لم يمتحن الله عز وجل الناس بالمعجزات على يدي خاتم النبيين، وإنما امتحنهم على يديه بالحق: الصدق والتصديق.
لم يكن صلى الله عليه وسلم يصنع الآيات، وإنما كان يتلوها.
حتى معجزته الكونية الكبرى، رحلته ما بين مكة وبيت المقدس إلى سدرة المنتهى في مدة من الليل، لم تكن معجزة على أعين الناس، وإنما كانت معجزة بينه وبين ربه، ليريه هو من آياته الكبرى.
أراد الله لختام رسالاته الإعجاز الدائم، فاختار له «الكلمة». والكلمة تسمعُها، وتتصفحُها، وتعود إليها: إنها معك في كل حين، تدوي في أذنك، ماثلة في سمعك. تستطيع أن تقول: لا أؤمن لأنني لم أر موسى يشق البحر، ولم أر عيسى يحيي الميت. ولكنك لا تستطيع أن تقول: لا أؤمن لأنني لم أر محمدًا يتلو هذا القرآن، فهذا هو القرآن أمامك، لا شأن لك بمن قاله، اسمعه، تصفحه، امتحنه! إنه الحق، ومن الحق نزل.
استجاب الله بمحمد دعوة أبيه إبراهيم عليهما أزكى الصلاة وأتم التسليم: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك} [البقرة: 129].
سأل إبراهيم ربه أن يبعث في المؤمنين رسولا لا يصنع الآيات، وإنما يتلوها.
ولأمر ما سمى الله الجملة من القرآن آية: {المر * تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق} [الرعد: 1].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 35]
هذا «الحق» هو لب إعجاز القرآن ومادته: لا تقرأ في القرآن إلا حقًا، ولا تجد فيه إلا الحق أخبر عنه أو أنبأ به، ما كان وما يكون. إنه الصادق المصدوق في كل حال.
والحق المطلق يقتضي العلم المحيط، علم المبدأ والمنتهى، علم من لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض، علم من هو بكل خلق عليم.
وليس إلا الحق جل جلاله، بكل شيء عليم.
ولكن لماذا خاطب القرآن الناس بما لم يحيطوا بعلمه ولم يأتهم تأويله؟ لماذا يصف لهم السحاب بأنه جبال في السماء من برد [النور: 43]، ولم يركبوا بعد طائرة تحاذي السحاب الثقال ليروه كما قال؟ لماذا يتحدث عن تزامن الليل والنهار على سطح الأرض، نصف مظلم ونصف مضيء، تأتي الناس الساعة بغتة فتصيب المنهر والمليل [يونس: 24]؟ لماذا يرى الناس السماء سقفا ككل السقوف ويقول لهم إنها غاز وسديم {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} [فصلت: 11]؟
لماذا يخوض في حقائق الكون ولا يتكشف للناس منها – يوما بعد يوم – إلا النزر اليسير؟
أليس لأن المنكرين الوحي على القرآن يتحداهم القرآن بالعلم؟
فهل تحقق لهم في الكون بالدليل الثابت علم يعارض حقائق القرآن؟
هل سبقوا القرآن، أم سبقهم القرآن بالقول الثابت؟
أليس تصديق المنكر بعد تكذيب يقتضي أن يتحقق له – عصرا بعد عصر – علم جديد يعاجز به القرآن فيعجزه القرآن؟
{بل كذبوا لما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتِهم تأويله} [يونس: 39].
{لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون} [الأنعام: 67].
وهذا هو الإعجاز الدائم.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 36]
{وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه * وأعانه عليه قوم آخرون} [الفرقان: 4]، وقالوا أيضًا: {أضغاث أحلام * بل افتراه بل هو شاعر} [الأنبياء: 5]، وقالوا: {أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} [الفرقان: 5]، وقالوا: {معلم مجنون} [الدخان: 14].
وكل ما لفقه أدعياء الاستشراق في تكذيب القرآن يدور حول هذه النقاط الثلاث: (1) محمد حالم مخلط أو مصروع، تهيج به الخيارات والرؤى يحسبها وحيا من السماء ألقى إليه. (2) ما زاد محمد في أساطير قرآنه على ما كان يتناقله في زمنه رواة الأخبار والأساطير. (3) استعان محمد في كتابة قرآنه بمن سبقوه، وخاصة أهل الكتاب، أصحاب التوراة والإنجيل.
وتعجب لأدعياء العلم هؤلاء كيف كتبوا ما كتبوه، وكيف يجوز على عاقل أو مجنون؟ أكتبوا ما كتبوه دون أن يقرأوا حرفًا من القرآن؟ أم كتبوا ما كتبوه تضليلاً لمن لا يقرأون؟
وهل يحلم المصروع؟ هل يلقن المجنون؟ وكيف يأتي بأعظم مما لقنوه؟ كيف لقنوه ما ليس لهم به علم ولا لآبائهم الأولين؟ كيف يكتتب الأساطير وهو الناعي على رواة الأساطير؟ كيف يلقنه أهل الكتاب ما يعارض به التوراة والإنجيل فيخطئان ويصيب؟
أين القرآن من كلام حالم أو مصروع؟ أين القرآن من أحاديث الرواة؟ أين القرآن من كل ما بين يديه من كتاب؟
القرآن معجز بذاته، وكل مقارنة بينه وبين الكتب التي سبقته ظلم ظلوم، وجهل مبين.
{أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد: 24].
ليس هذا بحثًا في وجوه إعجاز القرآن، فوجوه إعجاز القرآن بحر لا يدرك ساحله، وإنما هو مبحث وجيز في وجه من وجوه إعجاز القرآن جديد، لم أقع عليه فيما كتب المفسرون.
إنه العلم الأعجمي في القرآن مفسرًا بالقرآن.
والقرآن يفعل هذا غير مسبوق، لأنه يفسر ما يفسره على علم، وغيره يخطئ ويصيب.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 37]
وهو يفعله فعل الواثق المتمكن مما يقول، وإن خالف نصوص أهل الكتاب وأقوال شراح التوراة والإنجيل.
وهو يفعله أيضًا غير محتاج إليه، يُلزم نفسه ما لا يُلزمه، ويتصدى لما ليس من شأنه، فيزج بنفسه في مزالق الزلل كما وهم خصومه المنكرون عليه.
ما حاجته إلى تسمية أبي إبراهيم، فيسميه «آزر» وهو في التوراة «تارح» أو «تيرح» (بكسر التاء وإمالة الياء) في لفظه العبري الآخر؟
لماذا يقول «عيسى»، والمسيح في الإنجيل «يسوع»؟
لماذا ينص على «إدريس»، وسميه في التوراة «أخنوخ» (أو حنوخ قبل تعريبها إلى أخنوخ)؟
لماذا يقول «يحيى» وهو يريد «يوحنا»؟
يفعل القرآن هذا لأنه المصدق المهيمن، يصدق ما صدق في التوراة والإنجيل، ويفصل فيما كانوا فيه يختلفون.
أما كيف يفسر القرآن أعلامه الأعجمية، ومعظمها عبراني، فهذه هي مادة البحث الذي أضعه بين يديك راجيًا من الله التوفيق.
وأما كيف تسنى للقرآن تفسير ما يرد فيه من الأعلام الأعجمية، فهذا لأن منزله عز وجل هو العليم الخبير القائل بكل اللغات، الذي علم آدم الأسماء كلها، الذي اختلاف ألسنة الناس من آياته الذي أنطق بها خلقه: إنه واضعها وملهمها.
وأما كيف هداني الله إلى موضوع هذا البحث، فهي بارقة إلهام، ليس لي فيها من فضل، وإنما الفضل كله لله سبحانه، يؤتيه من يشاء حين يشاء.
اللهم اهدنا واهد بنا، وزدنا ولا تنقصنا.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 38]
ربما استوقفك – كما استوقفني مرارًا – ذلك الجرس الجميل، والنغم العذب، من قوله عز وجل في مفتتح سورة مريم:
{كهيعص * ذكر رحمة ربك عبده زكريا} [مريم: 1-2].
أرأيت إلى تلك المشاكلة بين «ذكر» العربية، وبين ذلك الاسم الأعجمي العبراني، اسم النبي زكريا عليه السلام؟
أهو مجرد جناس لفظي يراد به التناغم الذي تلحظه في كل القرآن؟
أهو الجرس الفخم الذي لا تفوت أذنك موسيقاه في القرآن المكي خاصة والذي يأخذ بلب السامع المنفتح القلب والأذن أيا كانت عقيدته في القرآن؟
أم هي مصادفة بحت؟
كلا، ليس ثم مصادفات في القرآن: إنه يريد المعنى فيختار الكلمة والحرف. لن تستطيع مهما حاولت إبدال كلمة بكلمة أو حرف بحرف، ولن تستطيع تقديم أو تأخير لفظ. إذن لاختل المعنى وانفرط النظم. وهذا من وجوه إعجاز القرآن. النسق القرآني نسيج وحده، لا يستطيعه إلا منزله عز وجل. وكل كلام منسوق على غير نسقه ليس بقرآن.
إن أردت الدليل فهاكه: كان محمد صلى الله عليه وسلم ألهج الناس بالقرآن، ولكنك تستطيع دون عناء أيا كان حظك من القرآن أن تميز على الفور بين «الحديث النبوي» وبين الآية من القرآن. و«الحديث القدسي» حديث من الله عز وجل، ليس بعبارة القرآن وليس على نسق القرآن، وفي التوراة والإنجيل كلام من الله عز وجل غير منسوق على نسق القرآن: أريد للقرآن أن يكون «قرآنا» وكل ما عداه أيا كان قائله ليس بقرآن.
هذا النسق القرآني ليس مرادًا لذاته فحسب ولكنه مراد بموسيقاه، مراد بمعناه.
ترى ما معنى اسم ذلك الشيخ الجليل، «زكريا» عليه السلام، في اللسان العبراني؟ لا بد لهذا الجناس الجميل بين «ذكر» العربية و«زكريا» العبرية من معنى.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 39]
وكان لا بد لي من دراسة اللغة العبرية لهذا الغرض بالذات. فماذا وجدت؟
«زكريا» في اللسان العبراني معناها حرفيا «ذاكر الله»!
وكأنه عز وجل يقول: ذكر الله ذاكر الله، أو ذكر الله فذكره، أو ذكر الله فذكرته رحمة الله!
ليس الجناس اللفظي وحده هو المقصود، بل تلك المقابلة التي تفتق لك بحور المعاني.
ليس بعد هذا الجمال جمال.
ولمعت في خاطري بارقة إلهام: في هذه الآية الكريمة آية!
أيفسر القرآن أعلامه الأعجمية بإيراد معناها على التجاور في ثنايا الآية؟
وكانت المفاجأة الكبرى: نعم! هذا يطرد في كل القرآن: لا يكاد يخلو علم أعجمي في القرآن من النص على ترجمة معناه في سياق الآية ترجمة دقيقة مطابقة، ولكنك تمر عليها دون أن تفطن لها، لأن العبارة التي تعطيك معنى الاسم الأعجمي عبارة من نسيج الآية، معناها مطلوب لذات الآية، والترجمة إضافة، تظنها جاءت عرضا، وهي دليل العلم ودليل القدرة.
وكان هذا الكتاب.
على أن تفاسير القرآن الكريم – وأوسعها واشملها تفسير الإمام القرطبي «الجامع لأحكام القرآن» - لا تخلو من محاولة تفسير معاني الأعلام الأعجمية في القرآن، وأخصها أسماء الأنبياء من آدم إلى عيسى عليهم وعلى نبينا أزكى الصلاة وأتم التسليم. ولكن المحاولة لم توفق لأن المفسرين كانوا يبنون على افتراض الأصل العربي لأسماء الأنبياء جميعًا، فيزنون هذه الأسماء على الوزن العربي، ويشتقون من جذر عربي، فيخلصون إلى نتائج أبعد ما تكون عن معنى الاسم الأعجمي في
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 40]
لغته. خذ مثلاً اسم النبي «يونس» عليه السلام: قد تظن أن السين فيه أصلية، فتحسبه من «ونس»، وكأنها لغة في «أنس» فتنتهي إلى أن «يونس» ربما تعني «مؤنس» أو شيئًا قريبًا من هذا. ولكنك متى علمت أن السين في «يونس» زائدة، وأنها علامة الرفع في اليونانية، لغة الأناجيل، وأن «يونس» أصلها «يونا» ومعناها الشائع في العبرية «حمامة»، أدركت على الفور أن الفرق بين المعنيين بعيد.
ولكنك لا تستطيع مهما حاولت أن تغمط حق هؤلاء الجهابذة الأعلام فيما بذلوه من جهد يعز نظيره في البحث والجمع والتمحيص. ربما ابتسمت إشفاقًا وأنت تقرأ في «تفسير القرطبي» ما يُروى من أن فرعون موسى كان اسمه «الوليد بن الريان»، فتظن الرعونة بهذا الراوي الذي يستخف بعقلك فينتحل لك أسماء عربية لفراعنة مصر. ولكنك لا بد ينفثئ غلك حين تعلم أن «فرعون» الذين يعنيه الرواة هو «رعمس» (أو رمسيس كما نكتبها نحن الآن) وأن «رعمس» اسم مركب: رع + مسس، وأن «مسس» في المصرية القديمة تعني «ول» أو «وليد» أو «ابن»، أما «رع» فهي «الإله رع» رمز الشمس، أي أن رعمس المصرية القديمة تعني حرفيًا ولد رع، ولم يبعد الراوي حين عرب «مسس» إلى «وليد» وحرف «رع» إلى «الريان» أما «ابن» في «الوليد بن الريان» فهي حشو. وليس كل ما قال الرواة محض عبث، وإنما عليك باستصفاء الذهب من التبر. كان رمسيس إذن هو فرعون موسى فيما تناقله الرواة إلى عصر القرطبي. وكما نرجح نحن الآن.
ولم توفق أيضًا محاولة المفسرين تفسير الأعلام الأعجمية في القرآن لأنه قل من كان منهم يتقن اللغة العبرية التي اشتقت منها غالبية العلم الأعجمي في القرآن، ناهيك بالمصرية القديمة التي وردت منها ألفاظ في القرآن مثل «فرعون» بل و«موسى» عليه السلام، كما سترى في هذا الكتاب. كان المفسرون يعتمدون على أمانة من نقلوا عنهم من أهل الكتاب، وقليل منهم من حمل الأمانة فأداها على وجهها، أما أكثرهم فكانوا كما وصفهم عز وجل: {لا يعلمون الكتاب إلا أماني}.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 41]
على أن الجديد الذي وفقني الله إليه في هذا الكتاب الذي بين يديك ليس هو ترجمة معاني الأعلام الأعجمية في القرآن من معاجم اللغات الأعجمية: هذا جهد يستطيعه من يحاوله، بل هو مبسوط منثور في بطون الكتب.
الجديد في هذا الكتاب الذي نكتب هو ترجمة معاني تلك الأعلام، من القرآن بالقرآن، وتصويب معاني تلك الأعلام لدى أصحابها، من القرآن بالقرآن.
وهذا هو السند الأعلى. ولله الفضل من قبل ومن بعد).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 29-42]

صفية الشقيفي 16 ربيع الثاني 1443هـ/21-11-2021م 10:08 PM

قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( الفصل الأول
أعجمي وعربي).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 43]
(1) هل وردت في القرآن ألفاظ أعجمية؟
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة:
( (1)
هل وردت في القرآن ألفاظ أعجمية؟
كيف، والمنزل عليه القرآن عربي، والمنزل إليهم القرآن عرب؟
أليس تبعث الرسل كل بلسان قومه؟ فكيف يفهمون عنه؟ كيف يتم البلاغ؟ كيف يصح التكليف؟ أيمشي الرسول غريبًا في قومه، يتوكأ على مترجم يفسر ما يقوله للناس؟
قال عز وجل: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه * ليبين لهم} [إبراهيم: 4]، أي كما أنزلنا التوراة عبرانية على موسى العبراني فكذلك القرآن، عربيًا على عربي.
وكأن من أهل الكتاب من تعاظمه أن يخاطب الله الخلق بغير العبرية، لغة التوراة، فقال جل شأنه: {ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي} [فصلت: 44].
أما أن القرآن عربي، فهذا عين الحق، ليس هذا فحسب، بل إن عربية القرآن شاهد على عربية العرب، لا العكس: لا يصح لها فصيح متفق عليه إلا الوجه الذي نزل به.
وأما أنه قد وردت في القرآن ألفاظ أعجمية، فهذا حق أيضًا، ولكنه لا ينتقص شيئًا من عربية القرآن، وإنما هو يجليها، كما سترى في مباحث هذا الكتاب.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 44]
وليس القرآن عربيا فحسب، وإنما هو عربي مبين. تجد النص على هذا في قوله عز وجل: {وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} [الشعراء: 192 – 194].
ولفظ «المبين» حيثما ورد في كل القرآن – وقد ورد لفظه نعتا للمعرفة والنكرة 119 مرة – لا يعني الإفصاح والإبانة، وإنما يعني حيث ورد، تأكيد اكتمال تحقق الصفة في الموصوف. إليك بعض الأمثلة، وعليك بالباقي في مواضعه من المصحف:
{فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين}[الأعراف: 107]، أي ثعبان حق، لا شك في ثعبانيته.
{إن الشيطان للإنسان عدو مبين} [يوسف: 5]، أي هو العدو يقينًا، لا خفاء لعداوته.
{إنا فتحنا لك فتحا مبينا} [الفتح: 1]، أي أن صلح الحديبية وإن تجهمه أول الأمر بعض أجلاء الصحابة، ليس فتحا فحسب، وإنما هو فتح حق، ليس له إلا هذا الاسم.
{هو الحق المبين} [النور: 25]، يصف نفسه تباركت أسماؤه، أي هو عين الحق جل جلاله، لا يماري فيه أحد.
من هناك تدرك أن وصف لغة القرآن بأنها لسان عربي مبين، يغني أنه بلسان عربي بين العربية، أو هو حق العربية، لا يماري في عربيته إلا جاهل بالعربية نفسها.
وليس القرآن عربيًا مبينًا فحسب، وإنما هو القول الفصل: قمة البيان، وذروة الإبانة.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 45]
والإبانة شرط لا بد منه لتمام البلاغ والتبليغ.
وهي بالذات شرط لا بد منه لبلاغ خاتم، كمل به وحي السماء ليس بعده مستدرك.
وهي أيضًا شرط لا بد منه لرسالة تخاطب الكافة، لا مكان فيها لمتنطس أو متحنث، ولا تعويل فيها على كهنوت أو كهانة.
وهي أخيرًا شرط لا بد منه لرسالة لا تطلب التصديق فحسب، وإنما هي بالدرجة الأولى رسالة تطلب العمل على مقتضى هذا التصديق.
ولا يصح تكليف بغير إبانة.
لهذا فقد برئ القرآن من العجمة والعوج.
والالتفات إلى هذه النعمة واجب، وشكرها أوجب.
بـ {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا} [الكهف: 1]، كما علمنا الحق أن نقول، جل ثناؤه.
وقد امتن الله على العرب بالقرآن، وأكرم بها منه أن يكون لسان القرآن لسانهم.
قال عز وجل يقسم بالقرآن: {ص * والقرآن ذي الذكر} [ص: 1].
وقال جل شأنه: {ولقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم * أفلا تعقلون} [الأنبياء: 10].
وقال أيضًا تباركت أسماؤه: {وإنه لذكر لك ولقومك * وسوف تسألون} [الزخرف: 44].
والذكر في هذه المواضع الثلاثة جميعًا يعني «الشرف».
نعم، شرفت العربية بالقرآن، وشرف أهلها.
والشرف أمانة، أداؤها أن تعرف حقها، وإلا فأنت بها مأخوذ. كما قال عز وجل: «وسوف تسألون» في الآية التي قرأت توا.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 46]
وقد تتساءل: كيف استحقت العربية هذا الشرف؟
لا يكفي أن تقول نزل القرآن عربيًا لمجرد أن المنزل عليه القرآن عربي والمنزل إليهم القرآن عرب.
بل هو تقدير العليم الخبير، الذي لا يمضي أمرًا إلا أحكمه.
إنه عز وجل يصطفي لرسالته الرسول، ويصطفي لرسوله الجيل الذي يحمل الرسالة، ويصطفي لخاتم رسله البقعة التي تنطلق منها الرسالة إلى أقاصي الأرض.
وهو أيضًا جل شأنه يصطفي لرسالته الأداة، وأداة الإسلام هي هذا القرآن الناطق بالعربية.
فكيف وَسِعَت العربيةُ هذا القرآن؟ كيف حملت وقره؟ ما تلك الحضارة التي أنضجت تلك اللغة، واللغة كما تعلم هي نضاج الحضارة؟ وهل كانت للعرب قبل القرآن حضارة؟ فمتى اكتمل لها نحوها وصرفها وإعرابها؟ متى تهيأ لها شعراؤها وخطباؤها وفصحاؤها؟ بل كيف فهم العرب عنه؟ كيف تذوقوا حلاوته؟ كيف سلموا بإعجازه؟
الحق أن العربية هيئت تهيئة لتلقي هذا القرآن، وزينت تزيينًا لتليق به، وأنضجت إنضاجًا لتكون وعاءه، وأحكمت إحكامًا لتعبر عنه، فما نزل القرآن إلا وقد تهيأ لها هذا كله ضد منطق التاريخ ومنطق الحضارة.
وتلك وحدها معجزة، وليس شيء على الله بعزيز.
لم تكن العربية وقت نزول القرآن، بمستواها هذا الفني المحكم، لغة كتابة، فقد أريد للقرآن أن يكون «قرآنا».
كانت العربية وقت نزول القرآن، بمستواها هذا الفني المحكم، لغة الخطاب اليومي، لا لغة يصطنعها فحسب أهل الفكر والفن والأدب، ولم تكن بمستواها هذا الفني المحكم لغة الخطاب لدى الصفوة من سادة قريش فحسب، بل كانت هي لغة الخاصة والعامة.
وهذا هو أصلاً معنى اللغة: لا تلتمس في المدونات وبطون الكتب، ولا تهمهم بها الأقلام وتحبر الصحف، وإنما اللغة هي التي ينطلق بها اللسان سجية، فتبصر بها العين، وتسمع الأذن.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 47]
وكان هذا – كما مر بك – ضروريًا لرسالة تخاطب الكافة، لا تعويل فيها على متحنث أو متكهن.
على أن في العربية خصائص لغوية وبيانية وموسيقية، قل أن تجتمع لسواها.
إنها لغة الإيجاز البليغ، والسلم الموسيقي الكامل.
لغة اجتمعت لها كل الحروف، وصحت المخارج: لا تندغم في الحلق، ولا تتآكل على أطراف اللسان، ولا تتحور في ذبذبات اللهاة. فيها ما يقرع السمع عنيفا، وفيها الدمث اللين، وما بين بين.
لغة غنيت حروفا، فغنيت جذورا: لا تعرف اللواصق من رواكب وروادف، وفي غيرها ينوء جذر اللفظ بأوزاره، فيغيم المعنى في ضباباته. أما هي، فتنحت الألفاظ والأوزان للمعنى وضده، وللمعنى وقريبه، وللمعنى والمشتق منه، وللمعنى والمتداخل معه، ما أن يقع بصرك على اللفظ حتى يستعلن لك بكل معناه ودلالاته.
لغة تفننت في أوزانها، ونوعت في تراكيبها طرائق شتى. تمد بالإعراب أواخر الكلم، تهمز وتسهل، وتصل وتقف، وتنون وترخم، فما استعصى عليها نغم.
وتلك كلها خصائص قرآنية.
وقد أفاد القرآن من العربية، وأفادت العربية من القرآن. ولكن الذي أفادته العربية من القرآن أضعاف الذي أفاد القرآن.
جَمَع مادتها، وأحكم نحوَها وصرفَها وإعرابَها، ورسم لها نموذجها الأعلى. ليس هذا فحسب، بل تكفل الله بحفظ القرآن، فكفل لها القرآن حياتها، ونماءها، وبقاءها.
وقد مضى على نزول القرآن بالعربية أربعة عشر قرنًا، بادت خلالها لغات وتحورت لغات، ولا تزال العربية وحدها تعيش، بنصاعتها الأولى.
وليس لهذا – كما يعرف أهل العلم – نظير في كل اللغات قديمها وحديثها.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 48]
وأما الذي أفاده القرآن من العربية فهو – كما مر بك – أنها اللغة التي هيئت له، لا يصلح إلا لها.
ولسنا هنا في مقام المفاضلة بين لغة ولغة، فاللغات كلها من آيات الله سبحانه.
ولكن الذي لا يتوقف عنده كثيرون، وربما قل من يفطنون إليه، هو أن اللغة العربية – عصر بدء نزول القرآن في مطلع القرن السابع للميلاد، على قلة الناطقين بها يومذاك – كانت هي دون منازع أرقى لغات العالم القديم، ليس فحسب أرقاها بلاغة وفصاحة وجمالاً، وإنما أيضًا، وبالمقياس اللغوي البحت، أرقاها دقة وكمالاً.
لم يكن ينقصها لتصبح اللغة العالمية الأولى يومذاك، إلا أن تتجاوز حدودها الجغرافية السياسية الضيقة، فتشيع بين الناس في المشارق والمغارب.
وقد تكفل القرآن بذلك).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 44-49]

صفية الشقيفي 16 ربيع الثاني 1443هـ/21-11-2021م 10:23 PM

(2) الحياة السياسية لحضارة الفرس والروم قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأثرها على اللغات
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (2)
بدء نزول القرآن على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ليلة القدر من رمضان عام 13 قبل الهجرة (609م) مطلع القرن السابع للميلاد، قبيل انقضاء ستة قرون على رفع المسيح عليه السلام، ليس بينهما نبي.
كانت حضاراتُ العالم القديم كلها آنذاك قد تهاوت، وآذنت الدنيا بميلاد جديد.
وهي قد تهاوت لأن العمالقة أكل بعضهم بعضًا، وكانت ساحة الصراع هي هذا الشرق الأدنى القديم.
لم يكن الصراع يدور على فكر أو على خطة لحياة، فقد تداخلت الأفكار والمذاهب، وتشاكلت الضلالات هنا وهناك، وإنما كان الصراع يدور على الأسلاب والغنائم، وكان الأسلاب والغنائم هم أهل هذا الشرق الأدنى القديم.
لم يكن لدى الغزاة شيء يفتحون به على أهل الأقطار المغلوبة، ولم يبق لدى المغلوبين شيءٌ يقدمونه للغزاة.
ولكن الصراع بين العمالقة الآريين الثلاثة، الفرس والإغريق والرومان، أو اختصارًا بين الفرس والروم، لا ينفك يدور، لا تضع الحرب أوزارها إلا لالتقاط الأنفاس بضع سنين. وهي حرب عبث، سواءٌ على التاريخ قامت أم لم تقم، فالغالب اليوم مغلوب غدًا، لا يعنيك أي الفريقين أدال من الآخر، ولمن كانت الدائرة في الحرب اليوم، فالدائرة على الجميع: إنهم يخربون بيوتهم بأيديهم ويأتون على ما بقى من أطلال حضارتهم. لا تهتم، فعلى الأنقاض سيبنى صرح جديد. تجد إشارة إلى هذا في قوله عز وجل: {الم * غلبت الروم في أدنى الأرض *وهم من
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 50]
بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين * لله الأمر من قبل ومن بعد * ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله * ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده * ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 1 – 6].
احتدم الصراع بين الفرس والروم على ما بقي من أطلاق الشرق الأدنى القديم قرونا، بين كر وفر، حتى أجهز عليهم المسلمون في أواسط القرن السابع. ومن قبل، أثخن الروم - إغريقا ورومان – بعضهم في بعض، وأتى القوطُ والجرمان على القياصرة في روما، فارتحلوا شرقًا إلى بيزنطة، قبل قرنين اثنين من ظهور الإسلام.
اختلط الحابل بالنابل في هذه المنطقة من العالم التي شهدت مولد حضارات البشر، ولم يعد هناك فكر جامع، تستند إليه حضارة جامعة، جديرة بالبقاء. لم تعد ثم – رغم ما قد تسمعه من شهيق وزفير – إلا حضارة ماتت أو أوشكت أن تموت. ولم يعد ثم – رغم ما قد تسمعه بين الفينة والفينة من هدير وزئير – إلا أسد هرم، تسلخ جلده، وتثرمت أسنانه، وعشى بصره، يرجو رحمة ربه في ضربة إجهاز تريحه من عذابه.
وكان أن أتى أمر الله.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 51]
أما اللغة – موضوعنا في هذا الجزء من الكتاب – فأنت تعرف بالطبع العلاقة بين موات الحضارة ومَوات اللغة، فما بادت حضارة قوم إلا بادت لغتهم، أو ذابت في لغة السادة لتعيش بعضا من حياة، أو تحورت إلى رطانة شائهة هجينة، لا تكاد تُبِين.
متى لم يعد للحضارة فكر تعبر عنه وتعيش عليه، ومثل تدعو إليها وتجاهد من أجلها، فقد خرست الحضارة ولم يعد لديها ما تقول.
إلى هذا آلت اللغات في هذه المنطقة من العالم: تهاوت الحضارة فتهاوت اللغة، ولم يكن في أي من تلك اللغات جميعا كتاب في عظمة القرآن، يعصمها أن تزول.
في مطلع القرن السابع للميلاد كانت اليونانية الفصحى التي تغنى بها من قبل شعراء الإلياذة وكتب بها أمثال أفلاطون وسوفوكل، وخطب بها أمثال بريكليس وديموستين، قد آذنت من قبل بالأفول حوالي مطلع القرن الثالث، ولم يأت القرن السابع إلا وقد آلت إلى يونانية دارجة هجينة، لا على ألسنة العامة فحسب وإنما أيضًا في الفن والفكر والأدب.
أما اللاتينية الفصحى، التي كُتِبَت بها مدونات الفقه الروماني، ونظمت بها إنيادة فرجيل، وخطب بها أمثال شيشرون وقيصر، فقد حذت حذو أختها اليونانية، بنفس الترتيب الزمني أو تكاد، فلم يأت القرن السابع إلا وقد تحورت إلى لاتينية دارجة هجينة، بل قال إلى لاتينيات دارجة هجينة، يلدن من بعد لغات أوربية تقرأ لها الآن، لم يكتمل لها نموها إلا في نحو تسعمائة سنة من نزول القرآن.
لم يبق من اليونانية واللاتينية مطلع القرن السابع للميلاد إلا أثارةٌ من أطلال مجد قديم، تليق بحضارة ذوت، ولا تتسع لحضارة باذخة توشك أن تولد، لتعيش.
تلك الحضارة الباذخة الوليدة كان القرآن شهادة ميلادها، وهو إلى الآن عمود حياتها، وما أوشكت أن تتصدع في مراحل من عمرها إلا لأن أصحاب القرآن أنسوه.
فالحذر الحذر ممن يرفضونه اليوم دستور حياة.
بل في المسلمين اليوم من يعاجزون القرآن، ويختصمونه، ويجادلون فيه، ويحرضون عليه.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 52]
بل فيهم – لُعنوا بما قالوا – من يشاقون الله ويسبون رسوله.
بل فيهم – ويا للعار من لا تحمر له أنف، وإنما يسخر قلمه للدفاع عن هؤلاء وهؤلاء بدعوى حرية الرأي والفكر.
ولو شاء الله لمسخهم على مكانتهم.
كفاهم نقمة – بحربهم القرآن – أنهم حرموه.
وكفاهم ذلة أن طمس الله على عقولهم وبصائرهم فلا يرون ما آلوا إليه بذنبهم: رد الله وجوههم في أقفيتهم، وجعل منهم الببغاء والقردة.
ولكن هذا حديث آخر، نتصدى له في كتاب آخر، ليس موضعه هذا الكتاب.
أما في الشرق الأدنى القديم ما بين مصر وفارس، مهبط الرسالات، وموئل الحضارات التي سبقت الفرس والروم، فقد اختلط الحابل بالنابل:
في مصر، تصدعت – بانهيار دولة الرعامسة حوالي القرن الثاني عشر قبل الميلاد – حضارة شامخة زهت نحو ألفي سنة (3200 ق م – 1200 ق م)، وآذنت بأفول لا رجعة منه: تعاور مصر الغزاة من شرق وغرب، ومن شمال وجنوب، نهبا للرائح والغادي، جائزة لمن غلب، إلا هبات هنا أو هناك، وجذوة خامدة تريد أن تتوهج وسرعان ما تنطفئ، حتى غدت مصر ولاية فارسية منذ 525 ق م على يدي قمبيز وخلفائه، ثم إقطاعة يونانية لخلفاء الاسكندر (333 ق م) ثم ولاية رومانية (30 م) لقياصرة في روما، ارتحلت تبعيتها معهم إلى بيزنطة (395م)، ولم يبق من المصريين إلا الحجر، وإلا مياه النيل تجري تهمهم بما كان:
{كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين * فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين} [الدخان: 25 – 29].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 53]
ترى هل بقيت للمصريين في مطلع القرن السابع للميلاد أثارة من لغة حضارتهم الأولى التي دَرَسَت؟ هل بقى لديهم شيء من تلك اللغة الفصحى التي ترنم بها اخناتون من قبل، ابتهالات وتسابيح؟ هل بقى لديهم شيء من تلك اللغة الفصحى التي حاور بها فرعون موسى وهارون؟ وهي لم تكن لغة أهل البلاط فحسب، وإنما كانت هي نفسها اللغة التي قرع بها السحرة أسماع فرعون وملئه، يستعلنون بإيمانهم على رغمه، فيودعون الدنيا ويستقبلون الآخرة بخطبة بليغة تقشعر لها الجلود وتخشع الأسماع والأبصار؟
أنت بالطبع تعرف الجواب: باندثار الحضارة تندثر اللغة، لم يبق من المصريين في مطلع القرن السابع من يتكلم المصرية الفصحى، ناهيك بمن يفك رموزها، فضلاً عن أن يكتب بها، وإنما آلت المصرية الفصحى إلى قبطية دارجة هجينة، تكتب كلها أو تكاد بأحرف يونانية ابتدع رسومها الفينيقيون من قبل، وتنضح برطانة تعرف فيها آثار ألسنة الغزاة، الإغريق فالرومان، ومسحة من آرامية فارسية انتقلت إليها مع جيوش قمبيز.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 54]
أما فارس، التي بلغت أقصى اتساعها على عهد الأخمينيين (القرن السادس ق م) – القرن الرابع ق م)، فشملت إمبراطوريتهم منذ القرن الخامس قبل الميلاد الشرق الأدنى القديم كله من فارس إلى مصر، ومن بابل وما بين النهرين إلى سواحل البحر الأبيض في سورية وفلسطين، واكتسحوا اليونان في آسيا الصغرى وألزموهم البحر الأبيض في سورية وفلسطين، واكتسحوا اليونان في آسيا الصغرى وألزموهم عقر دارهم في شبه جزيرتهم ... فارس هذه، ماذا بقى منها؟
كر عليهم الإسكندر فقوض ملكهم من تخوم الهند إلى مصر (333 ق م)، وورث إمبراطوريتهم الشاسعة جميعها، ليتوزعها خلفاؤه من بعده، وليبدأ في الشرق الأدنى كله العصر «الهليني» أو «المتهلين»، أي المصطبغ بالصبغة اليونانية فكرًا ولغة وحضارة، وهو تعبير غير دقيق، وربما كان مضللاً أحيانًا، لأنه يغلب العنصر اليوناني الوافد إلى حضارات الشرق الأدنى القديم، ويُغفل مردود هذه الحضارات نفسها على أرض اليونان الأم، حتى باتت اليونان نفسها بعد الإسكندر «هلينية» فكرًا وحضارة.
لم تكن جحافل الإسكندر يونانية خالصة، وإنما كانت تستمد في سيرها المدد من أهل الأقطار المفتوحة، حتى انتهت «غارة» الإسكندر. واستقر الغزاة بعد الفتح في مواقعهم، يموج بعضهم في بعض، تتمازج الدماء، وتختلف الألسنة، وتتلاقح الثقافات والفلسفات والعقائد.
ولك أن تتصور تأثير هذا كله على اللغة الفارسية في موطنها الأصلي كما رأيت من قبل تأثيره على لغة شعراء الإلياذة وأفلاطون وسوفوكل: جمدت الفارسية القديمة على الألسنة ولم يعد يستدل عليها إلا من نقوش كتبت ما بين القرنين السابع والرابع قبل الميلاد، وحلت محلها الفارسية «الفهلوية» التي كتبت بها نصوص «زرادشت» في القرن الثالث الميلادي، وىلت إلى «الأفستية» (أي لغة النص الأصلي) فعاشت في المعابد والأذكار، وبقيت منها فارسية تزهو حينا وتتحامل على نفسها حينا، تنوء بأوزار ما تهجنت به، حتى أجهز عليها الفتح الإسلامي في القرن السابع، فصارت همهمة يغمغم بها أمثال البرامكة في بلاط الرشيد. ولكن تلك
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 55]
الهمهمة التي طالت، قضت على ما بقي من أصالة اللغة، فلم يستعد الفرس سلطانهم في أواخر الدولة العباسية إلا وقد آلت الفارسية إلى رطانة ثلثها على الأقل عربي، هي تلك الفارسية الحديثة التي تقرأ لها الآن.
لم يبق من الحديث عن لغات الشرق الأدنى القديم إلا الآرامية والعبرية ومنهما كانت غالبية العلم الأعجمي الذي نتناوله في هذا الكتاب.
ولكن الحديث عن الآرامية والعبرية يقتضي الحديث أولاً عن اللغات المسماة بالسامية – وأمها جميعا «العربية» - تقريرًا لأصالة العربية عليهما قبل نزول القرآن، وهذا ما ننتقل إليه الآن).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 50-56]

صفية الشقيفي 16 ربيع الثاني 1443هـ/21-11-2021م 10:30 PM

(3) بيان الفوارق الأساسية التي تفصل ما بين العربية وبين العبرية والآرامية
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (3)
تستطيع أن تصنف لغات البشر إلى سلالات عرقية، أو جغرافية – تاريخية، تنسبها إلى موطن أقدم من يُظن أنهم تكلموا بها قبل أن ينساحوا في الأرض، فتنشعب ألسنتهم لهجات فلغات، فتقول مثلاً اللغات الآرية، ومنها السنسكريتية في الهند، والفارسية في إيران، واليونانية واللاتينية والجرمانية في أوروبا، وما تفرع عن هذه وتلك من لغات تقرأ لها الآن. أو تقول مثلاً اللغات السامية والحامية والكوشية، ومنها العربية والعبرية والمصرية والحبشية، بقى منها ما بقى وباد ما باد. والسامية والحامية نسبة إلى سام وحام ابني نوح، والكوشية نسبة على كوش بن حام.
وليس لك بالطبع أن تتساءل بم كان يكلم نوح أباه، وبم كان يتفاهم نوح مع ابنيه سام وحام، ولم شذ حام عن أخيه سام فاصطنع لنفسه لغة انفرد بها لم ترق لابنه كوش فعدل عنها إلى غيرها. تلك على الأرجح – إن صحت التسمية – ليست أسماء أشخاص، وإنما هي أسماء قبائل وشعوب تفرقوا في البلاد، فتفارقت الألسنة.
أما إن ترجح لديك – وأنت اللبيب العاقل – وحدة الأصل الإنساني، فلا مفر لك من أن ترد لغات أهل الأرض جميعا إلى أصل واحد، هو تلك اللغة الأولى التي تكلم بها أبو البشر وأمهم، بعد مهبطهما من الجنة.
على أن افتراض لغة أولى تفرعت عنها كل اللغات، وهو فرض علمي لا غبار عليه – إن لم يكن الفرض المنطقي الراجح – ربما يغريك ببحث عقيم عن أي اللغات كان
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 57]
الأول. ولكنك مهما بذلت من جهد – وأيضًا من افتعال – فقصاراك أن تقنع بفرض واحد مؤكد، وهو أن اللغة التي تكلمها آدم بعد مهبطه من الجنة لم يعد يتكلمها اليوم أحد من أهل الأرض، وإنما هي تفرقت في لغات البشر جميعًا: لكل منهم فيها نصيب، قل أو كثر.
لهذا عدل اللغويون الآن عن تلك التسميات العرقية الجغرافية – التاريخية التي قد توهمك بوجود لغة أو لغات أولى تنتمي إليها الأسر اللغوية التي يتكلمها البشر اليوم. عدل اللغويون عن ذلك الآن، وأصبحوا ينسبون الأسر اللغوية إلى الأرض التي يعيش عليها في عصرنا هذا من يتكلمونها اليوم، أو عاش عليها أسلاف لهم سبقوا، تكلموا لغة تلمح أصولها في اللغات المعاصرة، أو عثر فيها على نقوش أو مخطوطات عفا عليها الدهر، يعكف عليها اللغويون بغية حل رموزها، وفك طلاسمها، وردها إلى أسرة لغوية ولدت فيها، ثم تحورت أو بادت. فقولون مثلاً اللغات «الهندية – الأوروبية» ما بقى منها وما باد. ويقولون مثلاً اللغات «الإفريقية – الآسيوية»، يعنون تلك الأسرة اللغوية بفصائلها «السامية» و«الحامية» و«الكوشية»، إلخ، المتقاربة جذور مفرداتها ودلالات ألفاظها ومخارج أصواتها، التي يتكلمها في آسيا، أو تكلمها في آسيا يوما ما، عرب شبه الجزية من أقصها اليمن إلى أقصى الشام، كما يتكلمها في أفريقيا، أو تكلمها في إفريقيا يومًا ما، أهل الضفة المقابلة من البحر الأحمر، المصريون والسودانُ والأحباش.
أما الخصائص التي يستند إليها اللغويون في تقسيم لغات البشر إلى مجموعات لغوية، أو أسر لغوية، فهي تنقسم بدورها إلى فصائل لغوية داخل الأسرة الواحدة، فأهم هذه الخصائص ما يلي:
1- مخارج الأصوات:
أي انفراد فصائل الأسرة اللغوية المعينة بنطق أحرف، أي أصوات لا تنطقها غيرها. من ذلك انفراد اللغات الأفريقية – الآسيوية بنطق الحاء، وانعدام هذا الصوت – على سبيل المثال – في اللغات الهندية – الأوروبية. وليست العبرة في هذا السياق بصورة الحرف، أي بشكله المكتوب، أي بالخط الذي تصطنعه اللغة في الكتابة، وإنما العبرة بالصوت الموضوع له الحرف.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 58]
2- دلالات الألفاظ:
تتقارب في لغات الفصيلة الواحدة، تقاربًا واضحًا، بل وتتطابق أحيانًا، بنية اللفظ الموضوع لنفس المعنى. من ذلك لفظة «عين» الموضوعة لأداة الإبصار، وعين الماء، إلخ. في اللغات العربية والآرامية والعبرية على السواء. ومن ذلك أيضًا مادة الفعل «كتب» بنفس المعنى في هذه اللغات السامية الثلاث.
3- بناء الألفاظ:
من اللغات صرفي وغروي. فأما اللغات الغروية، ومنها أسرة اللغات الهندية – الأوروبية، كالسنسكريتية والفارسية، وكاليونانية واللاتينية وبناتها الأوروبيات، فهي اللغات التي تستعين في اشتقاق المعنى الموسع من المعنى البسيط بإضافة اللواصق من خلف ومن قدام، فيبدو لك اللفظ منحوتًا من كلمة واحدة نطقًا وكتابة، وهو من بضعة أجزاء موصولة، وكأنما شد بعضها إلى بعض بغراء. من ذلك في اللاتينية مثلاً كلمة emancipio بمختلف صورها في اللغات الأوروبية الحديثة، ومعنها العتق والانعتاق: تظنها من كلمة واحدة، وهي من ثلاثة أجزاء شدت إلى بعض (e) + (man) + (cipio) الجزء الأول (e) بمعنى «خارجًا»، والثاني (man) بمعنى «اليد»، والثالث (cipio) بمعنى «الأخذ»، فهي إذن ليست كلمة وإنما هي جملة أو شبه جملة، معناها الحرفي «الإخراج من أخذ اليد»، أو «الإخراج من ملك اليمين».
وأما اللغات الصرفية ومنها على سبيل المثال العربية والآرامية والعبرية في الفصيلة السامية المنتمية إلى أسرة اللغات الإفريقية – الآسيوية، فهي لا تستعين في اشتقاق المعنى الموسع من المعنى البسيط بإضافة اللواصق أو بتجميع أجزاء الكلام، وإنما هي تنحت جذور الألفاظ لجذور المعاني، ثم تشتق الموسع من البسيط «بالتصرف» في بنية الجذر الأصلي وفق أوزان ثابتة لكل منها معناها التوسعي المحدد، بغض النظر عن جذر اللفظ الأصلي. من ذلك في العربية فَعَلََ وفَعَّل وتفَعَّل وانفع واستفعل وفاعَلَ وتَفَاعَلَ إلخ. وليست أحرف الزيادة التي تلحظها وسط الجذر كتضعيف العين في فَعل، والمد بالألف في فَاعَل، أو المضافة في أول الجذر مثل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 59]
الهمزة والنون في انفعل، والهمزة والسين والتاء في استفعل، كاللواصق في اللغات الهندية – الأوروبية، لأن أحرف الزيادة هذه ليس لها في ذاتها معنى كما هو الحال في لواصق اللغات الهندية – الأوروبية، وإنما لها وظيفة صرفية، تصرف جذر اللفظ عن معناه البسيط إلى معناه الموسع.
وأيا كانت ميزة الصرفى على الغروى، مما لا نتصدى له الآن، فهي عند اللغويين سمة فارقة حاسمة بين المجموعات اللغوية.
وأما الفوارق بين لغة ولغة من نفس الفصيلة، كفوارق ما بين العربية والعبرية من الفصيلة السامية، والتي تجعل منهما لغتين مختلفتين بحيث تعتجم العبرية على السامع العربي – كما تعتجم العربية على السامع العبري – فلا يفهم أحدهما شيئًا من لغة الآخر حتى يترجم له، فمن هذه الفوارق بين العربية والعبرية على سبيل المثال، القلب والإبدال. أما القلب فهو تغيير ترتيب أحرف الكلمة، مع اتحاد المعنى، ومثاله من العربية نفسها الجذران «جَذَب»، «جَبَذ»، بمعنى شد في كليهما، وغيرهما كثير. وأما الإبدال فهو تغيير حرف بحرف آخر قريب من مخرجه، مع بقاء المعنى، ومثاله من العربية نفسها «سراط»، «صراط»، بمعنى الطريق في كليهما. ومن الإبدال أيضًا، المبادلة بين أحرف المد، كإبدال المد بالواو مدًا بالياء، ومثال هذا من العربية نفسها «ساع/ يسوع»، «ساع/ يسيع»، وكلتاهما بمعنى ضاع وهلك.
ويتفاقم أمر القلب والإبدال ما بين العربية والعبرية حين يكون لصورة اللفظ المتحور في إحدى اللغتين بالقلب والإبدال معنى مغاير تمامًا لمعناه في اللغة الأخرى. من ذلك أن «نجب» العبرية (ومعناها الجنوب) ليست من «النجابة»، وإنما هي
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 60]
مقلوب الجذر العربي «جنب». أما «جنب» عبريًا فليست من الجنوب في شيء، وإنما هي بمعنى «سرق». ومن ذلك أيضًا أن «صنم» العربية (مفرد أصنام) تصبح «صلم» في العبرية. ولكن صلم عربيًا (باللام) تعني قطع واستأصل (وغلبت في الأنف والأذن)، فلا تفهم أي المعنيين يريد ذلك العبراني الذي يحدثك. ويزداد الأمر سوءًا حين تعلم أن «صلم» العبرانية تفيد أيضًا الظلام والظلمة (من أظلم العربي أبدلت ظاؤها صادا)، أما «الظلم» نقيض العدل فهو في العبرية بالطاء «طلم» (وطلمه عربيًا يعني ضربه بكفه مبسوطة، وهو أيضًا وسخ الأسنان من إهمال تنظيفها، ليس له بالظلم صلة). أما «صنم» عبرانيًا فلا صلة له بالأصنام، وإنما هو من النضج والإنضاج. وقس على هذا الكثير الذي لا يحصى بين هاتين اللغتين.
وإلى جانب القلب والإبدال، تفتقر العبرية إلى ستة أحرف أصلية موجودة في العربية، هي بترتيبها على أحرف الهجاء العربية: الثاء والخاء والذال والضاد والظاء والغين. أما الضاد والظاء فلا وجود لهما مطلقًا في العبرية نطقًا وكتابة، فما كان بالضاد في العربية انقلب غالبًا إلى صاد في العبرية، مثل «ضحك» العربية التي تنقلب إلى «صحق» في العبرية (أبدلت أيضًا كافها قافًا)، ومنه اسم نبي الله إسحاق كما سترى، وما كان بالظاء انقلب غالبًا إلى طاء أو زاي، وربما إلى صاد، مثل «ظبي» التي تصبح «صبي» في العبرية. أما الأحرف الأربعة الأخرى (ث – خ – ذ – غ)، فلا وجود لها في العبرية أيضًا، أي في الكتابة، ولكنك تسمعها في مواضع مخصوصة من محدثك العبراني الذي ينطق لك التءا ثاء، والكاف خاء، والدال ذالاً، والجيم غينًا، حين يتحرك – أو يعتل – ما قبلها (حين يكون لها قبلُ)، شريطة الا تضعف هي. من ذلك أن «بيت» العبرية (وهي بيت العربية) تنطق «بيث»، و«ملك» (وهي ملك العربية) تنطق «ملخ» (ولكن المؤنث منها وهو ملكه تسكن لامه قبل الكاف فتنطق الكاف على أصلها). من ذلك أيضًا «يهود» التي تنطق «يهوذ»، ومثله أيضًا «رجم» العبرية التي تنطق «رغم» لتحرك الراء قبل الجيم فصارت جيمها في النطق غينًا. ولعلك لاحظت أن التفاوت في نطق هذه الأحرف العبرية الأربعة في مواضع مخصوصة مع نطق الحرف على أصله في غيرها، هذا التفاوت لا يضيف جذرًا جديدًا إلى تلك اللغة، وإنما هو مجرد «لهجة» في نطقه في مواضع
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 61]
مخصوصة لا تغير من أصل معناه. ولعلك لاحظت في هذا السياق أيضًا، أن زيادة الأبجدية العربية (28 حرفًا ليس من بينها اللام ألف) بستة أحرف أصلية على الأبجدية العبرية (22 حرفًا) تثرى العربية بكم هائل من الجذور الثلاثية لا تستطيعه العبرية، ذلك أن الحرف الواحد مجموعًا إلى حرفين اثنين فقط من حروف الأبجدية (ولتكن ض – ب – ر) يعطيك عشرة جذور ثلاثية ممكنة: بض – ضب – رض – ضر – ضبر – ضرب – رضب – ربض – برض – بضر، كلها مستعمل مسموع في العربية عدا الجذرين الأخيرين «برض» و«بضر» الباقيين في خزائنها، تستطيع استخراجهما حين تشاء. وقس على هذا اجتماع الضاد مع باقي الحروف.
من جهة أخرى تفتقر العربية إلى صوتين في العبرية، هما الباء (p) الثقيلة، والباء المرققة التي تخف وتسيل فتصبح فاء (v) ولكن هذين الصوتين غير أصيلين في العبرية، وإنما هما نفساهما الفاء والباء: تنطق الفاء باء ثقيلة (باء) حين لا يتحرك أو يعتل ما قبلها (أو لا يكون لها قبلُ) أو حين تضعف (مثل برعو العبرية بمعنى فرعون) وتنطق كالفاء العربية فيما عدا ذلك. أما الباء العبرية فتنطق كالباء العربية حين لا يتحرك أو يعتل ما قبلها (أو حين لا يكون لها قبل) أو حين تضعف، وتنطق باء مرققة سائلة (فاء) فيما عدا ذلك (مثل «أف» (AV) العبرية يعني أب، وعكسه «با» العبرية ومعناها (جاء). وهذا أيضًا لا يضيف إلى العبرية جذورًا جديدة تتميز بها على العربية، وإنما هو مجرد لهجة في نطق الحرف في مواضع مخصوصة، لا تغير من أصل معنى الجذر الذي يحتويه، مع نطق الحرف على أصله في غيرها. من ذلك الفعل «كفر» المشترك بين العربية والعبرية معنى ونطقًا وكتابة، ولكن الفاء فيه حين تضعف، تنطق في العبرية باء ثقيلة (P)، كما في «يوم كبور» أي «يوم الكفارة». ومثله أيضًا الاسم العبراني «أيوب»، الذي ينطق ف يالعبرية «إيوف»، رققت باؤه وأسيلت لاعتلال ما قبلها (الواو) فنطقت باؤه فاء. ومثله أيضًا «أبراهام» (إبراهيم) الذي ينطقه العبرانيون «أفراهام» لتحرك الهمزة قبل الباء.
من وجوه المغايرة الصوتية أيضًا بين العربية والعبرية، اصطناع العبرية
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 62]
«المد بالكسر» (أي إطالة زمن نطق الكسرة دون انقلابها ياءً ثقيلة) وقرينه «المد بالضم» (أي إطالة زمن نطق الضمة دون انقلابها واوًا ثقيلة) ولا وجود لهما أصلاً في العربية الفصحى، وإن كانا موجودين في العربية العامية، مثلما ترى في كلمة «بيت» العربية تنطق في العامية مكسورة الباء ممدودة الكسرة «بيت»، ومثل كلمة «يوم» التي تنطق «يوم». والفرق بين المد بالكسر وبين المد بالياء أن الكسر في المد بالياء ثقيل، تحتشد له عضلات الفم واللسان، كما في كلمة «عيد» بينما هو في المد بالكسر مخفف مرقق، كما في كلمة «ليش» (بمعنى لأي شيء) العربية العامية، ترتخي فيه عضلات الفم واللسان. وهكذا أيضًا الفرق بين المد والضم وبين المد بالواو في مثل «عود» و«يوم» وإذا لاحظت أن العبرية – شأنها شأن العربية العامية – تصنع ذلك كلما كان الأصل في العربية الفصحى الوقوف بعد فتح على الواو والياء، في مثل «يوم» و«ريب»، والوقوف عليهما ثقيل، بدت لك العبرية وكأنما تنشد التسهيل، كما تفعل العربية العامية، وكما فعلت الإنجليزية المعاصرة مثلاً بالحرفين (au) «آو» و (ai) «آي» اللذين سهلتهما الإنجليزية المعاصرة، والفرنسية المعاصرة أيضًا دون سائر أخواتها اللاتينيات، على «أوه» و«إيه» على الترتيب.
هناك أيضًا مغايرة بين العربية والعبرية في النحو والصرف، لا توجد في العبرية علامات «إعراب»، وإنما الأصل «البناء»، أي بقاءُ اللفظ على حاله وصورته أيا كان موضعه من الإعراب رفعًا ونصبًا وجرًا وجزمًا كما تفعل العربية العامية، وكما آلت إليه الإنجليزية والفرنسية بين أمهات اللغات الأوروبية الحديثة. وليس في العبرية صيغة للمثنى، وإنما هو الجمع لا غير. عدا استثناءات قليلة منقرضة من مثل «عينيم» مثنى «عين» (أداة الإبصار)، ومثل «نهريم» مثنى «نهر» (في عبارة «آرام نهريم»، أي آرام ما بين النهرين). ولا وجود لجمع التكسير في العبرية، وإنما هو الجمع السالم لا غير، وصورته البناء على الياء بعدها ميم (لا نون كما في العربية والآرامية) في جمع المذكر، مثل «بنيم» (يعني «بنون»
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 63]
العربية) والمد بالضم بعدها تاء ساكنة (لا المد بالألف بعدها تاء كما في العربية والآرامية) في جمع المؤنث، مثل «بنوت» (يعني «بنات» العربية). كما تفتقر العبرية إلى صيغة «أفعل التفضيل» مثل «أكبر» و«أصغر» وما إلى ذلك، فتحتال عليها بصيغ مخصوصة من مثل «الابن الكبير» في موضع أكبر الأبناء، وهلم جرا.
ومن أمثلة المغاية بين العربية والعبرية في موازين الصرف، أن العبرية تضع الوزن «فعيل» (مدًا بالكسر) لزنة اسم الفاعل، والوزن «فَعُول» (مدًا بالواو) لزنة اسم المفعول، وأحيانًا كثيرة الوزن «فَعُول» (مدًا بالضم لا بالواو) لزنة مصدر الثلاثي المجرد. من ذلك «حميذ» بمعنى حامد، و«حموذ» بمعنى محمود، و«حموذ» (مدًا بالضم) بمعنى الحمد، إلخ.
أما أخطر وجوه التغاير بين العربية والعبرية، وأدلها أيضًا على أصالة العربية وسبقها للعبرية (وللآرامية أيضًا) في الزمان والمكان، فمنها تفوق العربية تفوقًا ساحقًا بوفرة المادة اللفظية الأصلية (الجذر الثلاثي) بما لا يُقاس على العبرية والآرامية ليس فقط بسبب زيادة الأبجدية العربية بستة أحرف أصلية (ث – خ – ذ – ض – ظ – غ) كما مر بك، فتستطيع الإتيان مثلاً بالجذرين «خرج» و«حرج» كلا بمعنى، ولا تستطيع العبرية إلا الثاني وحده بمعنى «ضاق» وغير هذا أكثر من أن يحصى، وإنما أيضًا لكون العربية أوفر أوزانًا وأضبط وأقيس، تستطيع الإتيان بالطريف المعجب دون زيادة في أحرف الذجر، وإنما فقط بتغيير حركة عينه. من ذلك الفعل «صَنَعَ» أي كان صانعا شيئا ما، سفسف فيه أو أتقنه، و«صنع» أي كان حاذقًا ماهر الصنعة، وغيره كثير.
ومن وجوه الأصالة والتفوق أيضًا أن العربية تستنفد من الجذر الأصلي كل معانيه – الرئيسي والمترتب عليه – على حين تقتصر العبرية والآرامية غالبًا على وجه واحد تجمدان عليه. من ذلك الفعل «حمد»، فهو في العربية بمعان يتسلسل بعضها من بعض: حمدته يعني رضيته وأعجبت به، وحمدته أيضًا يعني ذكرت محاسنه فمدحته بما هو أهله، وحمدت له أمرًا يعني استحسنت له، وحمدته أيضًا يعني ذكرت له نعمة فشكرتها وأثنيت عليه لجوده بها. أما العبرية فتقتصر من
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 64]
«الحمد» على وجه واحد، هو الرضا والإعجاب: حمدته العبرية تعني أعجبني وحلا لي.
أما أكثر أوجه المغايرة دلالة على أصالة العربية وسبقها فهو أن العربية لا يوجد فيها لفظ مشتق إلا وهي تستخدم ثلاثية المجرد في أصل المعنى الموضوع له، أما العبرية فيكثر فيها المشتق الذي لا جذر له. معنى ذلك أن العبرية تأخذ الفظ المشتق على صورته عند أصحابه دون فهم أصل معناه في جذره الثلاثي. والجذر بالطبع أسبق وجودًا من اللفظ المشتق منه. العبرية إذن ناقلة عن العربية، ولا يتصور العكس.
من ذلك أن الفعل العربي «نَجَل» بمعنى قطع وطعن – ومنه «المنجل» أداة الحصاد – لا وجود له في العبرية، ولكن الموجود في العبرية من مادة الجذر العربي «نجل» اللفظ «مجال» (وأصلها «منجال») أي المنجل: استعارت العبرية «المنجل) ولم تستعر «النجل».
هذا يفسر لك لماذا يلجأ اللغويون إلى المعجم العربي لمحاولة فهم غوامض العبرية والآرامية وبوائدهما، مثلما يفعلون لمحاولة فهم غوامض غيرهما من بوائد الساميات.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 65]
لهذا صح عند اللغويين الأثبات أن العربية هي أم الساميات جميعًا، لأنها الخزانة اللغوية التي تغترف منها سائر لغات الفصيلة ولا تنصب هي، بل لديها دائمًا المزيد. وربما ترجح عند بعضهم أنها أيضًا الأصل البعيد الذي انشقت عنه وتحورت سائر لغات المجموعة الإفريقية – الآسيوية، ومنها المصرية والحبشية.
ولكنك في أقل القليل تستطيع أن تؤكد – مصيبًا غير مخطئ – أن اللغة العربية – أيا كان الشكل الذي تطورت منه إلى الشكل الذي نزل به القرآن في مطلع المائة السابعة لميلاد المسيح – كانت هي نفسها في عصر ما غير بالغ القدم اللغة السائدة بين سكان شبه الجزيرة من أقصى اليمن إلى أقصى الشام، وأن الآرامية التي ارتحل بها آباء إبراهيم من العراق إلى سورية، والعبرية التي ارتحل بها إلى مصر يعقوب وبنوه، وعاد بها بنو إسرائيل إلى جنوبيِّ فلسطين بغير الوجه الذي ذهبت به فتعاجموا بها على إخوانهم الموآبيين – هذه وتلك وسائر ما تكلم به أهل الشرق الأدنى القديم في شبه الجزيرة – ليست إلا لهجات قبلية متحورة عن هذه العربية نفسها، تهجنت بها ألسنتهم بتأثير الغزو اللغوي الحضاري الذي توالى على أطراف شبه الجزيرة، شرقيها وشماليها، وسلم منه قلبُها في الحجاز، وإلى حد بعيد جنوبيها في اليمن.
على أنك إزاء هذا المستوى الفني الرائع الذي ارتقت إليه تلك اللغة الفذة نحوًا وصرفًا وإعرابًا – ضد منطق التاريخ ومنطق الحضارة – والذي تلمسه قبيل نزول القرآن – فيما صحت نسبته إلى الجاهلين من شعر – لا بد يخايلك إحساس مبهم بأن تلك اللغة لا ريب سليلة حضارة موغلة في القدم سبقت عصر الطوفان وسبقت عصر التصحر والجفاف في شبه الجزيرة، ثم ضاعت في ضباب التاريخ.
ولكننا لا نخوض بك في تاريخ ما قبل التاريخ، فلا علاقة لموضوعنا بهذا الفن، ولسنا نحن أيضًا من رجاله).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 57-66]

صفية الشقيفي 16 ربيع الثاني 1443هـ/21-11-2021م 10:31 PM

(4) تلقيح اللغات بعضها البعض؛ عوامله وآثاره
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (4)
تحدثنا فيما سبق عن أوجه التقابل والتغاير بين العربية والعبرية داخل الفصيلة السامية، وما ذكرناه بشأن العربية والعبرية ينطبق في جملته، مع بعض تفاوت، على ما بين العربية والآرامية، وعلى ماب ين الآرامية والعبرية تلك اللغات السامية الثلاث الألصق بموضوع هذا الكتاب. ما أردناه هو التمثل لوجوه التقابل والتغاير بين أفراد الفصيلة اللغوية الواحدة، التي تجعل إحداها كلامًا أعجميًا في سمع أهل اللغة الأخرى من نفس الفصيلة، وفيما ذكرناه كفاية. بل قد أطنبنا إطنابًا نعتذر لك عنه أيها القارئ العزيز، وعذرنا أن الإفاضة بعض الشيء في المقارنة بين العربية والعبرية بالذات، تفيدنا في استجلاء «عجمة» العلم العبراني الذي نتصدى له فيما يلي من فصول الكتاب.
هذا التقارب، والتغاير أيضًا، بين أفراد فصيلة لغوية معينة، ولتكن الفصيلة السامية، داخل أسرة لغوية معينة، ولتكن أسرة اللغات الإفريقية – الآسيوية، يدلان على أن التقارب قد كان منشؤه التجاور في الزمان والمكان حقبة من الدهر بين أبناء الفصيلة اللغوية الواحدة، لأن اللغات تُتَعلم بالمحاكاة والتقليد، وهذا لا يتسنى إلا في بيئة معيشية مشتركة.
على أن التقارب – وهو دون التطابق – يفيد بذاته وجود مغايرة بقدر ما بين اللغتين من ذات الفصيلة، لا يمكن تفسيره إلا بحدوث انفصال بيئي بنفس القدر بين أبناء هاتين اللغتين تعرضت إحداهما خلاله – بالمحاكاة والتقليد أيضًا – لتأثيرات لغوية من حضارات مجاورة، أو غزوات لغوية – حضارية شنها أقوام يتحدثون غير اللغة. ليس هذا فحسب. بل إن هذا الانفصال البيئي ربما صاحبه انفصال حضاري في اتجاه
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 67]
مغاير، استتبع تطور اللغة في اتجاه مغاير لتطور اللغة التي انشقت منها، فتتباعدان إلى حد التعاجم.
ذلك أن اللغات، بغض النظر عن الغزو اللغوي – الحضاري، لا تثبت قط على حال، بل تنمو وتتحور أيضًا، لا بفعل المؤثرات الخارجية وحدها، وإنما أيضًا بفعل ارتقاء – أو ارتكاس – الحضارة الذاتية لأبناء اللغة: تنتعش الحضارة فتغنى اللغة، وينضب معين الحضارة فتذوى اللغة أو تموت. والأصل في هذا أن الألفاظ أوعية المعاني، تمامًا كما أن الجسد وعاء الروح: لا يولد في اللغة لفظ جديد إلا متلبسًا بمعنى جد لأهل اللغة.
والحضارة التي يصيبها العقم فلا تتطور ولا تُبدع ولا تبتكر، تعقم لغة أهلها أيضًا فلا تولد فيها الفاظ جديدة لمعان ومسميات جديدة سبقهم إلى الوقوع عليها أبناء الحضارة الغالبة، أصحاب الحق الأول في تسمية ما يكتشفونه ويبتدعونه. وبقدر ما تتهجن الحضارات التوابع، تتهجن اللغة، لأن اللغة التي عقمت بعقم حضارة أهلها لا تجمد مفرداتها فحسب على ما جمدت عليه حضارتهم، ولا تضمر مفرداتها فحسب وتشيخ، وإنما يهجرها أهلها أيضًا إلى ألفاظ «أعجمية» تلتوي بها ألسنتهم، هي تلك الألفاظ التي اصطنعها أصحاب الحضارة الغالبة لما استحدثوه أو تطوروا إليه من أنماط حياة وأدوات حياة.
وعيبُ اللفظ المنقول على أصله الأعجمي إلى اللغة المستعيرة أنه ليس دالاً بذاته على أصل معناه في لغة المنقول عنهم، فيلتبس على غير المتخصص من أبناء اللغة المستعيرة، وربما استخدم في غير ما وضع له. يحدث هذا بالتحديد في ألفاظ «المعاني»، أي الألفاظ الدالة على الفعل وهيئة الفعل، من مثل «الاستراتيجية» و«الديمقراطية»، إلخ، في اللغات المعاصرة، مما ليس له مقابل مادي خارج الذهن، يوضحه ويجليه ويذكر به، أكثر مما يحدث في أسماء الأشياء والمنتجات والمصنوعات والعُدد والآلات والمكتشفات والمخترعات التي سبقت غليها الحضارة الغالبة مثل «الرادار» وغيره، مما له خارج الذهن مقابل مادي يوضحه ويجليه ويذكر به.
أما اللغة التي تستعير من غيرها معاني الأفعال وأسماء الأفعال، فهي لغة قد عقم تفكير أهلها وضحل، ينتظرون من غيرهم أن يفكر لهم، ثم يأخذوا عنه أخذ الببغاء والقردة، فيزدادوا تبعية ويمعنوا ارتكاسًا، لغة أهل الحضارة الغالبة هي المثل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 68]
على تطور اللغة بتطور الحضارة الذاتية لأبناء اللغة، ولغة الحضارة التابعة هي المثل على تحور اللغة بتأثير الغزو اللغوي – الحضاري.
ولأن الألفاظ هي أوعية المعاني، تمامًا كما أن الجسد وعاء الروح، تستطيع أن تقول إن المعاني يتوالد بعضها من بعض بقدر ما تتوالد الألفاظ بعضها من بعض، أي بقدر ما تكون اللغة قادرة على نحت الألفاظ واشتقاق اللفظ من اللفظ.
وتستطيع أن ترتب على هذا – مصيبًا غير مخطئ – أن اللغة الأغزر ألفاظًا أو الأقدر على نحت جذور الألفاظ، هي اللغة الأقدر على توليد المعاني، وأنها اللغة الأدق عبارة، الأوضح فكرة، الأطوع لتشقيق المعاني، الأقوى على التخيل والإبداع، الأملك لعنان الفكر، الأثبت في وجه الغزو اللغوي – الحضاري.
ولأن الحروف – أي الأصوات – هي لبنات الألفاظ، تستطيع أن تقول إن اللغة الأقدر على نحت جذور الألفاظ، هي اللغة الأكثر احتواء لكافة الأصوات المفردة الممكنة، أي الأوفر أصواتًا وحروف نطق.
وتستطيع أن تضيف إلى هذا أن اللغات الصرفية ذوات الأوزان، كما هو الحال في اللغات السامية، وأمها العربية، هي وحدها – دون اللغات الغروية – الأقدر على تمثل الألفاظ الأعجمية وهضمها، لأنها – وبالذات اللغة العربية – لا تقبل اللفظ الأعجمي على صورته في لغته، وإنما تعربه فتجانس بين حروفه على مقتضى مخارج أصواتها، ثم تقولبه في قوالبها وتصبه في أوزانها، ثم تشتق منه، وتتصرف فيه، حتى يبدو اللفظ الأعجمي لغير المتخصص وكأنما ولد عربيًا لأب عربي.
واللغة العربية في هذا كله – دون سائر اللغات – فرس لا يداني، لأنها الأكثر حروفًا، الأغزر جذورًا، الأوفر أوزانًا، الأضبط نحوًا موازين صرف. ولكنها أيضًا – ولنفس الأسباب – اللغة الأقمن باشتباه الأعجمي فيها بالعربي، لأن اللفظ المنقول إليها ذابت عجمة معناه في عروبة صورته بعد تعريبه.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 69]
على أن النقلة العرب في العصر الحديث، لا سيما في نصف هذا القرن الأخير، لم يلتزموا قواعد التعريب التي تقتضيها أوزان اللغة العربية ومخارج أصواتها: عربوا «الخط» ولم يعربوا «اللفظ»، فأساءوا ولم يحسنوا. وقد مهد لهذا – رغم جهود محو الأمية ونشر التعليم في عصرنا – شيوع العامية وتراجع الفصحى على الألسنة، لا في لغة الحديث اليومي فحسب، بل وفي الخطابة وفي الإذاعة والتلفزة، حتى استجازتها الصحف فتسللت إلى أقلام أهل الفكر والفن والأدب، وحتى أصبح استيعاب قواعد النحو والصرف والإعراب وتعلمها وتعليمها، على بساطتها في العربية وانضباطها، مشكلة كبرى لجمهرة المثقفين أنفسهم، فما بالك بغيرهم؟
بمثل هذا – وقد بدأ بالفعل – تستحيل اللغة رطانة شائهة هجينة، تعتجم على القائل والسامع. والذي تشوه لغته وتعتجم لا يحسن القول ولا يحسن الفكر، ومن ثم لا يحسن التلقي ولا يحسن العمل. لأن اللغة ليست أداة التعبير فحسب، ولكنها أيضًا – وبالدرجة الأولى – أداة العقل والفكر.
والغريب أن دعاة «التحضر» في هذا العصر، لا يُعيرون هذه «القضية الحضارية» التفاتًا. والأعجب أن دعاة القومية «العربية» في هذا العصر – واللغة العربية عنصرها الأول والأهم – هم دعاة «التغريب» أيضًا. ويا له من تناقض!
على أن اللغة العربية – والقرآن كافلها وكفيلها – أكرم على الله عز وجل من أن تهان، وأسمى من أن تبتذل، وأقوى من أن تهزم، وأخلد من أن تبيد.
تلك كبوة حضارية عابرة، ليست القاصمة. وكم صادف أهل القرآن كلما تنكبوا صراط القرآن كبوات.
لن تقوم الساعة حتى يتلى القرآن عربيًا فلا يفهم، ويدعى به فلا يستجاب.
فهل آن لأهل القرآن أن ينتبهوا من غفلتهم، فيردعوا سفهاءهم؟
قال صلى الله عليه وسلم يأمر أهل القبلة: «أيها الناس، إن لكم معالم، فانتهوا إلى معالمكم» .
نعم. لا علاج لهذه القضية الحضارية إلا العلاج الحضاري الشامل. وهو لهذه
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 70]
الأمة – كما كان لها في كل زمن – عودة أهل القبلة إلى قبلتهم، أي ثوبان المسلمين إلى قرآنهم الذي اتخذوه اليوم وراءهم ظهريا ...
فالآن الآن ... وإلا فلا.
أما كيف السبيل وما المنهج، فالحديث في هذا يطول، ليس موضعه بالطبع هذا الكتاب، وإنما عليك به في كتاب آخر «مدققًا مفصلاً» ولنرجع نحن الآن إلى ما كنا فيه قبل هذا الاستطراد، لنصل ما انقطع).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 67-71]

صفية الشقيفي 16 ربيع الثاني 1443هـ/21-11-2021م 10:32 PM

(5) السبيل إلى إثبات أصالة لفظ في لغة، وبيان شروط التعريب الجيد
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ((5)
مر بك أن اللغات يلقح بعضها بعضًا، ويستعير بعضها من بعض. وهو تلاقح محمود، فوق أنه محتوم.
وهو محتوم لا مناص منه لأنه ناشئ عن احتكاك القبائل والشعوب بعضها ببعض سلما أو حربًا، يموج بعضهم في بعض، ويجوس بعضهم في ديار بعض، فيعرفون وينكرون: يعرفون ما ألفوا له مثيلاً في قومهم، وينكرون ما لم يسبق لهم به عهد، حسن أو قبح. ويعود كل إلى أهله بما رأى وسمع.
هَبْ أنك عربي عاش في قرون خلت، زرت الصين فقدم لك أهلها شرابًا قوي النكهة حسوته فاستطبته فسألت عنه، فقالوا لك: هذا شا! فقلت في نفسك: ما أطيب هذا الـ «شا»! وما عتمت أن رجعت إلى أهلك وفي جرابك بعض من هذا النبت العجيب، تغلي لهم ورقه، وتديره على جلسائك، يحتسونه ويستطيبونه كم استطبته أنت من قبل ويسألونك عنه فتقول: هذا «شاي» أضفت الياء من عندك ليستقيم لك الوزن العربي الذي مرن عليه لسانك. على هذا النحو أو قريب منه عرف العرب «الشاي»، الاسم والمسمى. وقس في المقابل على الشاي ما شئت من مثل «جمل» العربية التي صارت Kamelos في اليونانية و Camelues في اللاتينية، و Chameau في الفرنسية و Camel في الإنجليزية، إلى آخره. من هذا أيضًا أن اليونان ما كان لهم أن يسموا «الواحة» قبل أن يروا الصحراء، وما كان لهم أن يروا الصحراء قبل أن يزوروا مصر، ومن هنا Oasis اليونانية التي انتقلت بنصها إلى اللاتينية وبناتها والآخذات عنها، وهي في الأصل مصرية قبطية.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 72]
هذا التلاقح اللغوي المحتوم، محمود أيضًا لأنه يثري اللغة المستعيرة بما يحتاج أهلها إلى اصطناعه، مما ليس لديهم، اسما ومسمى. وهو مقبول مشكور بالذات في أسامي النبات والحيوان والجماد، مما سبقك غيرك إلى تسميته، ومثلها أسامي الأطعمة والألبسة والعدد والأجهزة، إلخ. متى اصطنعت المسمى فلا بأس عليك من استعارة التسمية. التوقف في هذا عقيم مرذول، فوق أنه تنطع ونفاق: كيف تأنف من تسمية «الفالوذج» فارسيًا معربًا وأنت تسرطه سرطا؟ وكيف تأنف من قول «رابوت» تعريبًا على وزن «تابوت» تلك اللفظة التشيكوسلوفاكية. Robot (التي لم يأنف من استعارتها أصحاب الحضارة الغالبة) ولا تخجل من تشوفك إلى استخدام «الروابيت» في مصنعك، تريد «الروبتة» ولا تريد «الرابوت»؟ لو أردت الترجمة بالمعنى – و Robot التشيكوسلوفاكية معناها «الخادم» - لابتعدت عن ذلك اللفظ السقيم المركب – الإنسان الآلي - «الخيشبان» في قصصك الشعبي – لأن «الرابوت» ليس بإنسان وليس بالضرورة على شكل إنسان – ولقلت مثلاً «العفريت» (خادم الخاتم في قصصك الشعبي). ولكن هذا وذاك لا يصلحان لنهما كليهما يشتبهان بمعان أخرى في لغتك، فلا يؤمن الخطأ واللبس على السامع والقائل، كما قلت في «التليفون» «الهاتف»، ولو شهده العرب القدماء لقالوا فيه «طلفان» ولاشتقوا منه فعلاً ومصدرًا (طلفن – طلفنة)، يبدلون من التاء في الجذر طاء كيلا يشتبه بمادة الجذر «تلف». هذه هي شروط «التعريب» الجيد المقبول في العربية: (1) اختزال أحرف اللفظ الأعجمي إلى جذر رباعي – على الأكثر – كي يتاح الاشتقاق منه. (2) تهذيب أصواته، أي حروفه، على مقتضى مخارج الأصوات العربية. (3) تجنب اشتباهه بجذر لفظ أصيل في لغتك. إن لم يتسن لك ذلك كله مجتمعًا، فالترجمة أولى.
أما السقيم المقبوح، فهو استعارة أهل اللغة من أصحاب الحضارة الغالبة لفظًا أعجميًا لا يحتاجون إليه، وعندهم مثله، كمن أراد العدول عن تحية الإسلام إلى تحية الجاهلية، فقال «بُنْجُور» Bonjour الفرنسية، ولديه في لغته «عم صباحا» (وأصلها نعمت صباحًا)، وهي طبق الأصل من تلك. وتستطيع أن تجزم – كما أجزم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 73]
- بأن هذا القائل بغير لغته، في «بنجور» وأمثالها هو نفسه الذي يقول لك: لا مشكلة (No Problem!) يريد لا بأس! وهو في الحالتين – الرطانة والترجمة – ببغاء يهرف بما لا يعرف.
على أن الحديث عن أسباب هذا «التعريب» الببغاوي ونتائجه، ليس من مقاصد هذا الكتاب، وإنما الذي نعني به هو ذلك التلاقح المحمود المحتوم بين اللغات، قديمها وحديثها.
في التلقيح والاستلقاح دلالة تاريخية – حضارية لا تخفى، ليست هي في كل حال أخذ التابع عن المتبوع، والمغلوب عن الغالب، فقد يأخذ الغالب عن المغلوب، والمتبوع عن التابع (كما في «بطاطة» التي استعارها الغزاة الأوربيون عن أهل الأمريكتين، وكما «تفلسف» الرومان اللاتينيون على أيدي أرقائهم اليونان، مثلما أخذ اليونان عن القبط، والعرب عن الصين على ما مر بك). بل قد تتجاور الحضارات على استواء تجاور الأنداد، فيفضي بعضهم إلى بعض، دون استعلاء أو غضاضة، مثلما تجاور الفرس واليونان، والهند والصين، وآشور ومصر. الدلالة التاريخية – الحضارية للتلقيح والاستلقاح في اللغات، أي دلالة السبق إلى المعنى بدليل السبق إلى اللفظ، لا سيما في المعاني المجردة مثل «تفلسف» وأسامي العدد والأدوات مثل «المنجل»، هي دلالة الأقدم وجودًا، الأسبق ارتقاء، الأفعل تطورا: إنها دلالة الأستاذية أو التلمذة.
وإذا جاز لعلماء التاريخ ومؤرخي الحضارات الاستعانة في تأصيل مقولاتهم بهذا الشاهد اللغوي في جملة ما يتاح لهم من شواهد الأحافير والنقوش والمخطوطات فليس من شأن اللغوي المحقق أن يفعل العكس، فيستدل بسبق حضاري مزعوم على سبق لغوي مفترض، بل عليه أن يترك لمؤرخي الحضارات مهمتهم، ويستقل هو بمهمته، فيبنى مقولاته استنادًا إلى مباحثه اللغوية وحدها، غير متأثر بمقولات المتخصصين في غيرها، صحيحها ومنحولها، مغرضها وبريئها: أصالة اللفظ في اللغة تبنى أول ما تبنى على وجود جذر أسبق منه، يستخدم فيها بمعان متعددة متقاربة يتوالد بعضها من بعض، نحت منها اللفظ المختلف عليه مادته.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 74]
من ذلك، مادة الجذر «قلم» بمعنى قطع وبرى. إنها الأصل العربي لأداة الكتابة الموصوفة في القرآن بالقلم (العلق: 4)، فالقلم هو المقطوع المبري، أي المحدد طرفه. والقلم أيضًا من أسماء «الزلم» أي العود يستقسم به، كما تجد في قوله عز وجل: {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} [آل عمران: 44]، وزلمه يعني قطعه. والقالم يعني العزب المنقطع عن الزواج. والقلامة هي ما يقطع من طرف الظفر والحافر والعود. وقلم الشجرة يعني أخذ من اطرافها لتقوى، فالقلم أيضًا بمعنى الغصن أو العود المقطوع من أمه، ولا شك أنه قبل اصطناع المداد، كان القلم من هذه العيدان، لا من القصب واليراع، هو أول ما كتب به على عسيب النخيل ولحاء الشجر، كما تجد في قوله عز وجل: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام} [لقمان: 27].
لفظ القلم إذن، الذي وصفت به أداة الكتابة في السورة التي سميت باسمه: {ن * والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون} [القلم: 1]، وأداة العلم والتعلم في أول ما نزل من القرآن: {اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 3-5]، لفظ عربي أصيل، منحوت من جر عربي أصيل (ق – ل – م)، تدور معانيه على القطع والقط. وليس من حذاق اللغويين من توهم أن لفظة قلم الموضوعة في العربية لمطلق أداة الكتابة أيا كان شكله ومادته – أي اسم جنس لكل ما يكتب به – لفظة مستعارة من اليونانية «كلمس» Kalamos لمجرد التشابه بين اللفظتين، أولاً: لأن «كلمس» هذه في اليونانية لا تعني القلم بالذات، أي ليست هي في اليونانية اسم جنس لمطلق القلم، وإنما هي تعني القصبة واليراعة. ولا شك أن الناس قبل اصطناعهم القلم من القصب – والعرب بعض الناس – كتبوا بكل ما ينحت وينقش ويخط، بل كتب المصريون القدماء بالأزميل، وكتب الإنسان أول ما كتب بإصبعه مجردًا. وليس اليونان أول من كتب، بل إنهم تعلموا فن الكتابة من عرب الشمال (الفينيقيين)، بدلالة لغوية قاطعة، وهي اصطناعهم الأبجدية الفينيقية برسومها وأسامي حروفها.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 75]
والذي ينتحل الخط لا يبعد أن يستعير من أستاذه القلم. وثانيًا: لأن العرب حين اتخذوا القلم من القصب بعد عصر القرآن سموا هذا النوع من الأقلام باسمه النوعي: «اليراعة»، وما كان لهم أن يستعيروا اسمه النوعي من اليونانية «كلمس» بمعنى القصبة أو اليراعة. ولديهم المقابل العربي الأصيل، إلا إذا زعمت أن العرب بالمعنى العام، أي سكان شبه الجزيرة، لم يعرفوا القصب – ذلك النبت الأنبوبي الذي يفشو في المنافع ومجاري الأنهار – قبل أن يعرفه اليونان، والعرب بالسبق إليه أشبه، وبالتعرف عليه عند أصحابه – جيرانهم المصريين – أولى. وثالثًا: لأن اليونان حين اتخذوا العصى من كبار القصب، لم يسموا تلك العصا «كلمس» - أي القصة – ولكنهم سموها «كنا» Kanna ، أخذا عن الفينيقية «قنو»، وهي نفسها «قنا» العربية اسم جنس مفرده «قناة». ومن هذه العصا ذات «العقل» اتخذ اليونان المقاس الذي تقاس به الأطوال، وتوسعوا فقوال Kanon، أي القانون الذي يقاس به ويقاس عليه. ها أنت ترى أن «القانون» لفظة عربية الجذر يونانية الاشتقاق فحسب ولو كانت «كلمس» بمعنى القصبة اسبق وجودًا في اليونانية لقالوا في معنى القانون «كلمون» Kalamon بل لما استعاروا «قنو» الفينيقية أصلاً.
كان هذا بحثًا لغويًا مجردًا، أردناه مثالاً لكيفية التدليل على عجمة لفظ ما أو أصالته في لغة بعينها، لا نستطرد منه الآن إلى أمثال «الصراط» و«القسطاس» و«إبليس»، إلخ، عند من قال بعجمتها في عربية القرآن من أدعياء الاستشراق المتطفلين على مباحث اللغة، الذين خبطوا في القرآن خبط عشواء – بعد
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 76]
أن أنكروا على القرآن أن يكون من عند الله، واستعظموا في الوقت ذاته على محمد صلى الله عليه وسلم أن يستقل «بصنعه» دون أن يُعينه عليه قوم آخرون – فخاضوا على غير علم في إثبات عجمة العديد من ألفاظه، استدلالاً بعجمة اللفظ على عجمة الفكر، فما أثبتوا إلا جهلهم وجهالتهم، وماتوا بغيظهم. وقد تابعهم للأسف أشياع لهم مسلمون عرب فيهم من تُجِله وتوقره، بل من لا تشك في علمه وإسلامه وعروبته، فلا تملك إلا أن تستغفر الله لهم.
وإذا كنا نعيب هذا التخبط وهذا الإسراف، فنحن لا نقصد إلى تنزيه العربية عن الاقتباس من غيرها. وقد مر بك أن التلاقح بين اللغات أمر محتوم، فوق أنه محمود مقبول حين تدعو إليه الحاجة. بل لا تخلو معاجم أي لغة من ألفاظ أعجمية الأصل. وليست العربية بدعا بين اللغات. فلا غضاضة في هذا على العربية أو على غيرها.
ونحن ابتداءً – ولنفس السبب – لا نحيل على القرآن أن يصطنع اللفظ «الأعجمي المعرب»، فليس هذا مما يقدح في عربية القرآن، وإنما هو يجليها، لأن الأعجمي المعرب بمجرد سيرورته على اللسان وإيناسه في الأذن، تنفك بالتعريف عجمته، وتستبين دلالته، فيصير «عربيصا»، أي يفهمه العربي القح مباشرة، لحظة بقرع مسمعه. أما «الأعجمي الأعجم» الذي يقع في سمع العربي غريبًا بجرسه، مستغلقا بمعناه، لا يفهمه إلا أن يترجم له، فمحال وقوعه في القرآن، دع عنك سماعه في أي قول فصيح.
ونحن كذلك – ولنفس السبب – نحيل على القرآن «اختراع» ألفاظ أعجمية لا سابقة بها للعرب ولا عهد، يلتقطها من الأعاجم ويعربها للعرب، فالأعجمي المعرب يظل أعجميًا أعجم حتى تنفك عجمته بطول الاستعمال.
ثم ... ما حاجة القرآن إلى التعاجم على العرب بألفاظ من مثل الصراط والقسطاس، ولديه في الفصحى جم وفير من الألفاظ في معنى «الطريق»
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 77]
ومعنى «العدل والميزان»؟ وإذا كانت «الصراط» و«القسطاس» من محدثات القرآن – وهما كذلك بالفعل – فهل اعتجمتا على العرب، أم فهموا على الفور أن الأولى من السراط والثانية من القسط؟ أم ظل العرب قرونا لا يفهمون معنى القسطاس على سبيل المثال حتى فسرها لهم ذلك الدعي المستشرق؟
بل قد فهم العرب هذا وأمثاله منذ أن تلى عليهم، لأنه – على جدته في الأذن – عربي الاشتقاق، يرده العربي سليقة، فور سماعه، لم تتحقق له سيرورة الأعجمي المعرب – بده أسماعهم، لما فهموه قط إلا أن يترجم لهم.
ثم ... ماذا يريد ذلك الدعي المستشرق وأضرابه وأشياعهم؟ أينعون على القرآن أن أعيته العربية فتسقط كلام العجم، أم يعيبون على العرب أن جهلوا معاني الصراط والقسطاس حتى ساروا في «صراط» بروما أو ابتاعوا بالموازين «القسط» في أسواقها؟
ألا ما أسخف هذا الكلام وما أحمقه؟
ما أكثر ما خاض كفار قريش من مقام النبوة، وكم سفهوا وتسافهوا. ولكنهم ما جرؤوا في لدادتهم أن يسموا القرآن بسوء، لا تقصيرًا ولا تعففًا. بل لو وجدوا في القرآن مغمزًا لما عفوا وما أقصروا. ولكن القرآن أعجزهم أن ينالوه بسوء، ولو ادعوا عليه العجمة لافتضحوا بين العرب.
بل ما أكثر ما قالوا – وقال الذين لا يعلمون مثل قولهم – إنما يعلمه بشر. ما قالوه إلا إعظامًا لشأن القرآن – الذي أنكروا عليه الوحي – أن يعلم علمه عربي من العرب، ولكنهم سقطوا وأفحموا. قال عز وجل: {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر * لسان الذي يلحدون إليه أعجمي * وهذا لسان عربي مبين} [النحل: 103]. أي لم تكتفوا بإنكار الوحي على القرآن، وإنما استكثرتم على النبي العربي أن تنحلوه إياه، فكيف بعيي أعجمي يلقنه كتابًا هو لب العربية ولبابها؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 78]
هذه القدرة الفذة المذهلة على تعريب أعجمي القرآن وتفسيره بأدق معانيه – كما سترى – وهذا العلم المحيط في لغات درست بألفاظ يَحار فيها إلى اليوم علماء اللغات وأحبارها، وهذا التصويب المعجز – كما سترى – لما وقر في وهم كتاب الأسفار وشراحها، أنى لبعض هذا أن يعلمه بشر؟
ولكن من دهاقنة هؤلاء الأدعياء من يدس لك السم في العسل، وربما استهواك العجب زهوا بنبيك، واستخفك الشيطان فطربت وانتشيت وهو يطرى لك خير البرية دون أن يصلي عليه: كان محمد أفصح العرب، وأحفظهم لما يسمع. كان محمد أبصر الناس بصيرة، وأقدر مصلح اجتماعي على صنع التغيير. كان محمد أعظم من قاد مسيرة التاريخ ... كان محمد عبقريًا بين البشر!
نعم، كان صلى الله عليه وسلم - بفضل من الله ونعمة – العبقري الفذ في تاريخ البشر.
ولكن ... حذار! لعبقرية البشر حدود، تتقاصر – مهما تطاولت – دون قطوف عظمة هذا القرآن وأكنافها.
أنت بإزاء عظمة هذا الكتاب المعجز أمام أمرين اثنين:
إما أن تصدق محمدًا في دعواه الوحي من الله، أو تؤله محمدًا!
ولكنك إن ألهته – معاذ الله – فقد كذبته، واستصغرته وتقمأته: كيف تؤله من ادعيت عليه الكذب؟
تلك هي المعضلة الكبرى أمام كل خائض في هذا القرآن، وهذا النبي.
وهي بذاتها أيضًا – ولله على عباده الحجة البالغة – وجه من وجوه إعجاز هذا القرآن، لمن أراد أن يتأمله).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 72-79]

صفية الشقيفي 16 ربيع الثاني 1443هـ/21-11-2021م 10:33 PM

قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: (الفصل الثاني
الأعجمي المعنوي والأعجمي العلم).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 81]
(1) الأعجمي المُعرَّب بين لغته الأصل وااللغة لعربية
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (1)
الأعجم أصل معناها «الأعوج»، من عجمه يعني لواه، ومنه عجم عوده، أي ثناه، يختبر صلابته. واعتجم عليك الكلام، واعتجم عليك اللفظ، أي التوى، فلا يستقيم له معنى عندك. ومنه أيضًا «العجماوات»، أي البهائم، التي تعتجم عليك أصواتها، أي تنبهم، فلا تفهم عنها ما تريد، ولا تعي ما تحاول هي أن تفصح عنه، فتظن بها البله، أو تظن بها الحبسة، وهي تتكلم بكلام لا يفهمه إلا بنات جنسها وحدهن، كما لا تفهم أنت إلا كلام بني أمتك، إلا أن تتعلم لغة غير لغة أهلك. وصدق الحق سبحانه إذ يقول: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} [الأنعام: 38]، {يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه} [النور: 41]، {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44].
وسمي «الأجنبي» أعجميًا، لأنه يتكلم لغة لا تفهمها. وأنت أيضًا «أعجمي» عنده لأنك لا تفهم ما يقول، أو لأنك تقول ما لا يفهمه هو.
واللفظ «الأعجمي» هو اللفظ بلغة أعجمية، لا تفهم معناه، إلا أن تتعلم تلك اللغة. وهو أعجمي أيضًا لأنه يلتوي به لسانك. إنه في الغالب الأعم لفظ لا تستطيع النطق به على أصل وضعه عند أصحابه: ربما ثقل عليك وزنه، وربما حوى أحرفًا لا مقابل لها في أصوات لغتك، فتحتال على نطقه قدر ما تستطيع، ولكنك لا تستطيع الاستمرار في المحاكاة والتقليد فتعود إلى سليقتك، وتنطقه محرفًا، بعد أن تهذبه وتنقح فيه، حتى يستقيم لك نطقه على وزن «عربي» بأصوات «عربية»: ربما أسقطت حرفًا أو حركة، وربما زدت فيه أو أبدلت منه.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 82]
والأعجمي المنقح على هذا النحو – أي المصبوب في قوالب العربية وأوزانه – يسميه اللغويون «الأعجمي المعرب». وفي هذه التسمية إشارة إلى أن الأعجمي المعرب يظل أعجميًا أيضًا بعد تعريبه، لا بحكم ما كان عليه، فقد استعرب لك، ولا بحكم دلالته على مسماه، فقد استبان المسمى، ولا بصورته، فقد استقامت على موازين العربية ومخارج أصواتها، وإنما هو يظل أعجميًا بمادته، أي بجذره الأعجمي المشتق منه في لغة أصحابه، وهو جذر لا مفهوم له عندك. بل أنت تدرك من الأعجمي المعرب معناه في مجمله، ولا تدري مما نحت لفظه، أو تركب، كي يؤدي هذا المعنى.
خذ مثلاً لفظة «سجيل»، ذلك الرجز الذي وقع على أبرهة وجيشه: {وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول} [الفيل: 3 – 5]، وعلى قوم لوط: {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود * مسومة عند ربك * وما هي من الظالمين ببعيد} [هود: 82 – 38]. أنت في سجيل تقف عند المعنى العام. ولكنك لو أخذت برأي من قال إن سجيل معربة عن الفارسية «سكيل»، بمعنى الطين المتحجر (سِكْ = جاف، كِيلْ = طين) لأدركت ماهية السجيل ومادته في أصل معناه.
ومن طرائف الأعجمي المعرب أنه يعتجم على أصحابه الأصلاء حين ترد إليهم بضاعتهم «منكرة» متحورة: هب مثلاً أنك ممن يرون أن «المقوقس»، عظيم القبط، معربة عن اليونانية «مجستس» Megistos (ومعناها «الأعظم»). وهبك أيضًا كلفت بترجمة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك اليوناني المتمصر، أفتترك في ترجمتك اليونانية لفظ المقوقس على حاله أم ترده إلى أصله اليوناني «مجستس»؟ إن لم تفعل فلن يفهم عنك المقوقس ما تقول. وهبك كلفت بترجمة رد المقوقس على
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 83]
النبي، أفتقول في ترجمتك العربية: من «مجستس» إلى محمد صلى الله عليه وسلم؟ إن فعلت فلن يفقه قارئك العربي ما تريد. وقل مثل هذا في رسالته صلى الله عليه وسلم إلى عظيم الروم «هرقل»، وأصلها بالرومية هركليوس Heraclius، إمبراطور بيزنطة آنذاك، وإن كان المخاطب بها في واقع الأمر والي هرقل على الشام.
من هنا ترى أن اللفظ الأصيل في بلده حين يرتحل غريبًا في غيرها، يعود إلى أهله – حين يعود – بغير الوجه الذي ذهب به فينكرونه، شأن المغترب في مهاجره، يطول مكثه فتغيره السنون، قلقا في مهاجره، قلقًا في أهله.
استعرب الأعجمي إذن للعرب، فاستعجم على أهله حين اهتجن.
على أن المستعرب يغدو عربيًا بالتقادم، والأعجمي في اللغة يغدو بعد ذهاب لكنته أصيلاً أو كالأصيل في مفرداتها، يخفى على غير المتخصص أصل منبته، كما ترى في لفظة «المهندس»، المأخوذة من الفارسية «نداز»، بمعنى القدر والحد، وكما رأيت من قبل في «ساذج» و«سجيل» و«المقوقس» و«هرقل» وأمثالها: الأعجمي المعنوي، والأعجمي العلم.
وهذا هو شأن أعجمي القرآن كله، معنويه وأعلامه.
والذي يستوقف النظر أن القرآن لم يسم أحدًا من معاصريه: لم يسم كسرى ولا قيصر أو غيرهما من العجم. وإنما الذي ورد في القرآن من أعلام عصره ثلاثة أسماء لا غير، كلها عربي: محمد صلى الله عليه وسلم، ومولاه زيد رضي الله عنه، والذي تب وتبت يداه أبو لهب.
كانت الأولى فيما نرى – وقد وردت في القرآن خمس مرات إحداها بلفظ «أحمد» - تشريفًا – للنبي، وكانت الثانية تنصيصًا على دخول زيد بن حارثة بزينب بنت جحش رضي الله عنها وحلها من بعده للنبي تأكيدًا لبطلان بنوة المتبني (راجع الآيات 37 إلى 40 من سورة الأحزاب)، وكانت سورة المسد حكمًا قاطعًا بالتباب والخسران على شخص بعينه، وعلى امرأته حمالة الحطب، وامتناع قبول التوبة منهما، وأريد إعلان هذا الحكم لأبي لهب وقومه في هذه الدنيا، فكان لا بد من تسميته بالاسم، كيلا يختلف فيه أحد).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 82-84]

صفية الشقيفي 16 ربيع الثاني 1443هـ/21-11-2021م 10:36 PM

(2) معنى الأعجمي المعنوي والأعجمي العلم:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (2)
أما الذي نعنيه بالاسم المعنوي – بعيدًا عن مواضعات أهل النحو والصرف – فهو الاسم المشترك الدال بذاته على معنى ما يجتمع فيه كل أفراده لا يشذ منهم أحد، نكرة ما لم يعرف بالإضافة أو بالألف واللام، عام لا يتخصص إلا بالإضافة أو النعت، يقبل بطبيعته الإفراد والتثنية والجمع: إنه بالتحديد أسماء الأفعال، والصفات، وأسماء الجنس، أحيائه وجماده.
من ذلك أن لفظة «إنسان» تصدق على كل فرد من بني آدم. أما إن عرفتها بالألف واللام فهي مطلق «الإنسان». وتستطيع أيضًا تعريفها بالإضافة فتقول مثلاً «إنسان العين»، تعني «بؤبؤها»، أعني صورة ذلك الإنسان التي يطل بها عليك محدثك كما حدقت في عينيه، وهي صورتك أنت انعكست على بلورية عيني أخيك. وتستطيع أيضًا أن تثني وتجمع، فتقول: «إنسانان» وتقول «ناس» و«أناسي». وقس على ذلك أمثال الزهرة والسنبلة، والنملة والهدهد، والصخر والحديد، والسندس والإبريسم والديباج، والأسد والقسورة، والبحر والجبل، والشيخ والصبي، والغني والفقير، والصغير والكبير. وقس على ذلك أيضًا أسماء الأفعال من مثل «فلسفة»، التي تُجمع على فلسفات، أو «تَعَب» التي تُجمع على أتعاب ومتاعب.
لكل من الألفاظ التي ذكرت، وأشباهها، كما ترى، معنى محدد في ذهنك وذهن محدثك، إن تحدثت به إليه فإنما تريد هذا المعنى بالذات، ولا تريد «شخص» من اتصف به أو وقع عليه، فكل الجبال جبل، وكل الآساد أسد، وكل الأثرياء ثرى، وكل ما كان من الجمال بوجه فهو جميل.
بل حتى إن خصصت فقلت: هذا الأسد، فقد خصصت «أسدًا» ما بالإشارة، ولم تزد على أن سميته باسمه «المشترك» بين سائر بني جنسه.
وليس هكذا أمثال «زيد» أو «عمرو».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 85]
الاسم «المعنوي»، يريد المعنى ولا يريد الشخص.
والاسم «العلم»، على النقيض من هذا كما سترى، يُريد الشخص ولا يُريد المعنى.
يُطلق الاسم «العلم» لا يراد منه معناه، وإنما يراد منه شخص المسمى ذاته، ناسبه الاسم أو تناقض معه.
خذ مثلاً ذلك الصديق الذي لم ير قط عبوسا، بل تلقاه دائمًا أبدًا منفرج الأسارير متهلل الوجه، ولكنك لا تنفك تناديه بما سماه به أبوه، فتقول: يا عباس! أو ذلك الشيخ الذي تمادى به العمر، وهو وليد. بل كم من عبلة عجفاء، وهيفاء ليست بهيفاء، أو خديجة لم يخدج بها.
ورب عمرو لم يعمر، أو زيد ولا زيد ثم ولا فضل. وليست «القاهرة» لمجرد اسمها وحده بالتي تقهر دائمًا الغزاة، وإنما سميت عاصم مصر بهذا الاسم تيمنًا فحسب.
الاسم هاهنا «علم» على ذات صاحبه، والعلم من العلامة: إنه مجرد رمز ترمز به إلى شخص أو شعب أو بلدة أو موضع. يلخص في ذهنك كل ما «تعرفه» عن ذلك الشخص أو الشعب أو البلدة أو الموضع، تعلم هذا أو ذاك بتلك العلامة التي اصطلحت مع محدثك عليها كيلا تختلط عليكما الأشخاص والأماكن، مثلما يعلم الأب أبناءه بتلك الأسامي التي يطلقها عليهم، لا يريد من التسمية إلا هذا، ولو سميت ابنك عمرا بزيد وسميت زيدا بعمرو، أو خالفوا في التسمية بين بغداد والقاهرة، لجاز. ولكنك متى سميت، فقد خرج الأمر من يدك، لا تملك له تبديلاً: لصقت التسمية بالمسمى وانتهى الأمر.
الاسم العلم إذن هو اسم «الذات» مجردة من الصفات، لا معنى له – مهما كان أصل وضعه واشتقاقه – إلا تلك «الذات» التي يدل عليها في ذهنك وذهن محدثك، لا تختلط بغيرها.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 86]
ربما ثنيت فقلت «العمران»، ولكنك عندئذ تريد أبا بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب رضي الله عنها، ولا تريد أي أبي بكر واي عمر.
بل ربما جمعت فقلت «المناذرة»، ولكنك تريد «آل المنذر» ملوك الحيرة، لا كل «منذر».
ومع أن الاسم العلم يطلق على كثيرين، أي يطلق نفس الاسم على «ذوات» متعددة، متجاورة أو متباعدة في الزمان والمكان، وربما تكرر اسم جد لحفيد، بل في مصر «إسكندرية» وفي الولايات المتحدة صنوها، وفي قرى مصر «باريس» غير «باريس» عاصمة فرنسا، إلا أنك حين تتحدث بالاسم العلم فإنما تتحدث عن واحد بعينه، لا عن كل من تسموا باسمه، تريد الشخص أو الموضع، ولا تريد «سميه».
لهذا كان الاسم العلم «معرفة» بذاته، لا يتعرف بالإضافة إلى معرفة، ولا يتعرف بالألف واللام، وإنما يتعرف بالعلمية، لأن الإبهام لا يرد عليه، والمقصود منه «واحد». ربما وقعت فيه الألف واللام، ولكن هذا مجرد حشو، كما في أمثال «القاهرة» أو «الحسن».، فأنت تعني في الأولى عاصمة مصر، لا اسم الفاعل المؤنث من «القهر»، ولا تقصد من الثانية صفة «الحسن»، وإنما تريد الحسن بن علي رضي الله عنها. وربما جازت الإضافة في الاسم العلم، كما في «نيل مصر»، ولكنك تريد ذلك «النهر» الذي في «مصر»، فلا «نيل» في غيرها. كما تقول «قاهرة المعز»، ولا «قاهرة» في ذهنك وذهن محدثك إلا هي.
ومن خصائص الاسم العلم أنه لا يوصف إلا على الخبر أو على البدل، ولا يوصف على النعت، لأن النعت يخصص، والاسم العلم متخصص بذات «علميته»، لا يحتاج إلى مخصص. من ذلك قولك: «الله أكبر»، على الخبر، تنزه ذات الله عز وجل عن المثيل والند، ولا تقول: «الله الأكبر»، على النعت، لأن معنى هذا أن ثمة آلهة الله أكبرهم، وهو لغو أو تجديف، بل زلة ينقطع دونها اللسان، أشبهت بها عبدة الأوثان والأقانيم. أما الوصف على البدل فمنه قوله عز وجل: {الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين} [الفاتحة: 1 – 3] أي الحمد لله الذي هو رب العالمين، الذي هو الرحمن، الذي هو الرحيم، إلخ. فالله علم على ذاته تباركت أسماؤه، وسائرها بدل منه. ينطبق
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 87]
هذا بتمامه على قولك: زيد وفي، على الخبر، تنبئ محدثك بصفة لمستها في «زيد» ومثله قولك: زيد الوفي، على البدل لا على النعت، وكأنك قلت: زيد، هذا الوفي، ... إلخ. متى نعت فقد لقبت، على البدل من المنعوت، تؤكد لمحدثك ذاتية زيد الذي تعنيه، كيلا يختلط «الأزياد» عليه، كما في «محمد الفاتح» أو «الحسن البصري»، وكما في «الحسن بن علي» رضي الله عنها. كل هذا على البدل، لا على النعت.
على أن للاسم العلم – فوق اختصاصه بالدلالة على ذات صاحبه – معنى ما، كان بالتأكيد وراء اختياره عَلَما على أول من تسمى به ثم جرى من بعد في أسماء الناس، ربما لمعناه، وربما لجرسه، وربما إعزازًا لعزيز تسمى به، أو عظيم في أمتك ذي شأن. ربما جال بخاطرك هذا كله أو بعضه وأنت تختار اسمًا لمولود ولد لك، ولكنه يمحى تمامًا من ذهنك بعد ما اخترت وسميت، فلا يبقى لديك من معنى الاسم إلا جرسه، وإلا دلالته في سمعك وسمع محدثك على «ذات» المسمى، أي لا يبقى من الاسم إلا ذلك «الصوت» الذي تطلقه فيستجيب المنادي به، وكأنك حين تقول: يا زيد لا تعني إلا «يا هذا»، لا أكثر ولا أقل.
وهذا يفسر لك لماذا تنبهم على كثير من الناس – بل وعلى أصحابها أحيانًا – معاني الأسماء الأعلام، إما لأنهم يطلقون الاسم ولا يتعمقون معناه، وإما لأن الاسم قديم موروث، لا يستعلن بمعناه إلا للباحث العكوف المتخصص: كم من زينب لا تعرف ما الزينب وكم من خديجة ولا تدري أنها من الخداج. بل قد يكون الاسم من أصل أعجمي يفوت معناه على صاحبه، بل وعلى أبيه الذي سماه به، لا يدري من أي لغة هو، وعلام يدل، لأنه لم يرد المعنى أصلاً، وإنما أراد الجلوس، أو أراد شخصًا عزيزًا أو بطلاً، وربما أراد شخص نبي أو أراد ملكًا، كما في جبرائيل وميخائيل (جبريل وميكال في القرآن)، وكما في يونس ويوسف ونوح وإبراهيم، صلوات الله وسلامه على ملائكته وأنبيائه، ثم تمضي القرون، وتتكرر التسمية في أجيال وأجيال، ويذوب المعنى في الجرس فينسى، ثم يندثر.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 88]
وليس هذا وقفًا على العربية وحدها، ولكنه شائع ذائع في كل اللغات: كم فرنسية تعلم أن هنرييت معناها «ست الدار»؟ وكم من جورج (جرجس في مصر) يعلم أن معناها «الحارث»؟ وكم من كلود (قلدس وأقلاديوس في مصر) يعتزي فخورًا على قيصر تسمى به (كلاوديوس) ولا يدري أن معناها «الأعرج» أو «العرجي»؟ بل كم من مارك (مرقص في مصر) يدري أنها «المريخي» المزاج، أي الغضوب أو «الحربي» وأن مؤنثه مارسيل كذلك؟ وكم من راشيل (راحيل العبرية) تعلم أن معنى الاسم في العبرية هو «النعجة» أنثى الغنم؟ ربما لو توقف الناس عند معنى الاسم العلم لترددوا في التسمية، ولكنهم لا يتوقفون، إما لأن المعنى لا يعنيهم، وإما لأنهم جهلوه أو أنسوه.
وهذا يفسر لك أيضًا لماذا لا تجوز ترجمة الاسم العلم إلى معناه في اللغة المنقول إليها، وإنما الجائز فقط هو «تعريبه»، أي تهذيبه على مقتضى مخارج أصوات اللغة وأوزانها: يجوز لك تعريب «جيورجيوس» اليونانية إلى «جرجس»، ولا يجوز لك ترجمتها إلى «الحارث» أو الفلاح. لا تجوز لك ترجمة الاسم العلم إلا إذا كنيت وأبهمت، أو تظارفت، فقلت في معلقة «الحارث بن حلزة»: قالها جورج بن حلزة أو ناديت صديقك «رمسيس» (رع + مسيس المصرية القديمة) بقولك: ابن الشمس أو أردت كمصري – مطلع هذا القرن – أن تخوض في «جورج الخامس» ملك إنجلترا التي كانت تستعمر مصر آنذاك، فقلت: الفلاح بن الفلاح! تكني وتبهم، تخشى على نفسك سلطانه وحوارييه، وعيونه وأعوانه.
وكما لا تجوز ترجمة الأعجمي العلم إلى معناه في اللغة المنقول إليها، لا يجوز أيضًا الإبدال منه بمرادف من نفس اللغة في ذات معناه، كأن تنادي صاحبك زيدًا بقولك: يا فضل! ثق أن «زيدا» لن يسمع منك، وإن سمع فلن يستجيب: ذاتيته هي «زيد» لا «فضل»، وإن تطابق المعنى.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 89]
وهذا يفسر لك أخيرًا – وهو بيت القصيد في كل ما سبق – ضرورة احتواء القرآن هذا الشطر من اللفظ الأعجمي، أي الأعجمي العلم، ضربة لازب، وهو يحدث بأخبار من لا تشك قط في عجمته ويقص عليك نبأ القرون الأولى، منذ بدء الخلق بآدم. ناهيك بالملأ الأعلى، وناهيك بيأجوج ومأجوج، وهاروت وماروت، وإبليس وفرعون، وعاد وثمود، وقوم لوط وأصحاب مدين.
وإذا كان قد وجد من علماء القرآن من ينكر البتة احتواء القرآن لفظًا أعجميًا واحدًا، ولو كان من الأعجمي المعرب أمثال سندس وسرادق واستبرق وقسورة، وبذلوا من الجهد، وأيضًا من الافتعال الشديد الوعر فيما يحسبونه ذودا عن القرآن بإثبات أصالة هذا اللفظ أو ذاك في العربية ونفي عجمته، إذا كان هذا هو موقف بعض علماء القرآن من أعجمي القرآن، فهذا كله في باب الأعجمي «المعنوي»، لا في باب الأعجمي العلم، لأن العلم الأعجمي لا يصح فيه جدل.
ونحن لا نبتغي جدال هذا الفريق من العلماء في موقفهم من الأعجمي المعنوي في القرآن، وإن ألممنا به في سياق ما نكتب، لأننا في المقام الأول لا نريد أن نخوض بك في جدل يذهب بحلاوة ما هدانا الله إليه بفضل منه ونعمة، وهو تفسير أعجمي القرآن بالقرآن، وثانيًا لأنه يخالف المقصد الأساسي لهذا الكتاب، لأن تفسير القرآن لأعجميه المعنوي – إن وجد – ليس فيه علم ولا إعجاز، وقد عرفها العرب «معربة» قبل القرآن لا تحتاج إلى تفسير.
وإنما الإعجاز كل الإعجاز أن تفسير في لغات شتى – بعضها دارس – علما أعجميا يفوت معناه على صاحبه، ويجهله أبوه، ناهيك بأساليب القرآن في هذا التفسير، كما سترى.
وربما خالف القرآن مبدأ عدم جواز ترجمة العلم الأعجمي كما ذكرنا آنفًا، أعني إسقاط الأصل الأعجمي جملة والإتيان به مترجمًا، على نحو ما فعل القرآن في أمثال «إدريس» و«ذي الكفل»، مما نتناوله فيما يلي من فصول هذا الكتاب.
ولكن هذه أيضًا من إعجاز القرآن. وسيأتي).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 85-90]

صفية الشقيفي 16 ربيع الثاني 1443هـ/21-11-2021م 10:38 PM

(3) أسباب سكوت علماء بني إسرائيل عن أخطاء المفسرين في بيان معاني أعجمي القرآن:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (3)
يكثر في العبرية – كما في الآرامية – التسمية بالفعل المضارع مسندًا إلى المفرد الغائب، لا يعنون منها الفعل، وإنما يقصدون منها اسم الفاعل، وكأن «يقول» بمعنى «قائل» و«يسمع» بمعنى «سامع». ومن هنا كثرة العلم العبراني المبدوء بياء المضارعة، ومثال ذلك «يصحاق» (إسحاق في القرآن) مضارع الفعل العبراني «صحق» (وهي ضحك بالعربية)، التي لا يقصد منها الفعل «يضحك»، وإنما يقصد منها اسم الفاعل من «ضحك»، أي «الضاحك»، وهذا هو اسم نبي الله إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام، وقد سمى العرب بمعناه على المبالغة، فقالوا «الضحاك».
وللتسمية بالفعل المضارع نظير باق في العربية، تجده في أمثال «يزيد» و«يثرب» و«ينبع». والأصل في هذا أن الفعل المضارع يتضمن معنى الاستمرار، فيصلح للحال كما يصلح للاستقبال، والتسمية به تسمية على التيمن والتفاؤل، أي «يضحك» وسيظل، فهو ضاحك وضحوك.
وقس على ذلك أمثال «يعقوب» ومعناها العاقب، و«يوسف» بمعنى يزيد.
والذي يستوقف النظر هو سكوت «علماء بني إسرائيل» الذين عاصروا القرآن وعايشوا مفسريه إبان الدولتين الأموية والعباسية عن «تصويب» ما وقع فيه بعض
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 91]
هؤلاء المفسرين الذين تصدوا بغير علم – ولا سند من قرآن أو سنة – لتفسير معاني الأعلام الأعجمية في القرآن – وخاصة أعلام أنبياء بني إسرائيل وكلها عبراني – بالعربية وحدها، فقالوا على سبيل المثال إن إسحاق من «السحق»، ويوسف من «الأسف»، ويونس من «الإيناس»، في حين أن أبسط علم بالعبرية – ناهيك بيهودي من أهلها – يكفي كي تعرف أن يونس يعني حمامة، وأن يوسف يعني يزيد، وأن إسحاق يعني ضحوك، لا سحق ثم ولا انسحاق.
وربما بلغ بك العجب وقد علمت أن من علماء بني إسرائيل هؤلاء من أسلم على عصر الرسول حقًا وصدقًا فحسن إسلامه، بل ومنهم من زكاه الحق تبارك وتعالى فقال فيه: {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم} [الأحقاف: 10] كما قال عز وجل: {أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} [الشعراء: 197].
فكيف سكت أمثال هؤلاء عن هذا العبث، وهم من هم في العلم بالعبرية التي يتدارسون بها التوراة؟
يدفع هذا الاعتراض أن تفسير أسماء الأنبياء لم يثر على عهده صلى الله عليه وسلم، ولم يؤثر عنه في المسألة حديث صحيح، وإذن فلم يكن بأمثال ابن سلام ومن في طبقته ورتبته حاجة إلى الرد أو إلى التصويب.
أما من جاءوا من بعدهم، من يهود أسلموا فحسن إسلامهم، أو يهود أسلموا تقية ولما يدخل الإسلام في قلوبهم، أو يهود ظلوا على يهوديتهم، فهؤلاء وأولئك فِرَق: الفرقة الأولى مسلم حسن إسلامه فانقطعت صلته بتوراته وعبريته، والثانية يهودي أسلم على دَخَل يريد أن يترك وشأنه لا يزن بريبة فيبرأ من توراته ومن عبريته، لا يسمع له في المسألة قول وإن علم، والثالثة يهودي في دار إسلام انقطعت صلته بالعبرية ولم تنقطع بالتوراة، ولكنه لا يعلم التوراة إلا «أماني» أي تلاوة فحسب، ولا يفقه كثيرًا مما يردده في صلواته وأذكاره، شأن مسلم فلبيني لا يعرف من العربية إلا «الفاتحة» التي لقنها في طفولته ليقرأ بها في صلاته، أو شأن قبطي في مطلع القرن الرابع الهجري لا يفهم إلا العربية وحدها يقرأ في صلواته من إنجيله اليوناني. مثل هذا ينأى بنفسه عن مواطن الزلل فيحاذر الخوض فيما لم يعد له به علم.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 92]
أما الفرقة الرابعة، المعنية باللوم، أو المعنية بالتساؤل، فهم أحبار اليهود، ورؤساء الملة، المتضلعون من العبرية ومن التوراة، المتقنون العربية كأبنائها ومثقفيها. لماذا سكتوا؟
أفلم يكن من بينهم من يعلم أن يوسف ليست من الأسف وإنما هي بمعنى «يزيد»؟ أو ليس تفسير اسم يوسف واردًا بنصه العبراني على لسان والدته «راحيل» حين وضعته: «وتقرا إت – شمو يوسف ليمر يوسف يهوا لي بن أحير» (يعني) ودعت اسمه يوسف قائلة يزيدني يهوا ابنا آخر، أي سميته يزيد ويزيدني الله ابنا آخر؟ (تكوين 30/24).
هل سكتوا يأسا أن يصدقهم أولئك المفسرون، وقد وصم القرآن آباءهم من قبل بالكذب على التوراة؟
أم سكتوا ضنا بعلمهم أن يعينوا أولئك المفسرين على تصويب أخطائهم، أي سكتوا ضغنا على الإسلام وأهله أن يمنعوا من اللغو في قرآنهم؟
أم لم تكن لمفسري القرآن وأصحاب السير صلة بأحبار يهود؟
كيف، وقد نقلوا عنهم ما نقوله من «إسرائيليات» واضحة الزيف، ليس أقلها ما يروى عن «كعب الأحبار» من قوله في سورة «آل عمران»: اسمها في التوراة طيبة فلا تدري – وليس في التوراة من هذا شيء – أساءت طوية كعب فقالها تملقًا وتدليسًا، أم قالها تعالما بما لا يعلم؟
قل في هذا أو ذاك ما شئت، فقد كان من هؤلاء الأحبار مخلص ليهوديته، باقٍ على وهمه، القرآن عنده مدسوس كله على الله عز وجل، حبذا لو لغا فيه بعض أهله، ولكنه يئس من مناطحة القرآن بالتوراة أو لعله جبن، فانصرف على توراته لا يسمع منه قول في غيرها. وكان منهم أيضًا الذي كاد للقرآن وأهله، بكتمان ما علمه الله، أو بالتزييف على التوراة، آمنًا ألا يفضحه مسلم يجهل العبرية ويصدف عن مطالعة التوراة. وكان من هؤلاء الأحبار أيضًا – لا نشك في هذا – أولئك الذين وصفهم الحق تبارك وتعالى بقوله: {لا يعلمون الكتاب إلا أمان}.
أما الذي يجب أن تعلمه أنت وتطمئن إليه، فهو أن التوراة عصر تصنيف تفاسير القرآن، بل وإلى عصر جد متأخر، لم تحظ ببحث لغوي نقدي تحليلي جدير بهذا الوصف، وأن الذين ضربوا بسهم موفور في هذا البحث كانوا – على عكس ما
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 93]
قد تظن – مسيحيين مؤمنين أو ملحدين يرون جميعًا أن التوراة جزء لا يتجزأ من كتابهم المقدس، على خلاف ما بينهم في التفسير بالهوى أو بالعقيدة.
ولكن القرآن سبق ففصل.
ليس «يوسف» من الأسف، وليس بالضرورة «يزيد»: القرآن يدلك على معنى آخر لاسم هذا النبي الكريم، الذي ائتمر به أخوته فكان «ضيف» الله في «الجب»، وكادت له النسوة والتي هو في بيتها فكان «ضيف» الله في «السجن». وشاء عز وجل – بيوسف – أن يوطئ لبني إسرائيل في مصر كي يخرج من بينهم – وليس شيء على الله بعزيز – من ينشأ في بلاط طاغوت علا في الأرض، يتخذه ولدًا ليكون له من بعد عدوًا وحزنا: يلتقط موسى من اليم ليدسه موسى في ظلمات اليم الأعظم، بعد أن أقام الله عليه الحجة: ما كان لرسالة موسى عليه السلام أن تولد في قصر فرعون لو لم يأت الله بيوسف من قبل «ضيفا» على مصر عند ملك يستخلصه لنفسه فيقيمه على خزائن الأرض، ويستأذن يوسف الملك فيأذن له في الإتيان بأهله إلى مصر جميعًا، ليتم الدور المقدور لهذا النبي الكريم: «ايواء» بني إسرائيل أو «حضانتهم» في مصر إلى حين، فتنة لفرعون سيأتي حينه، وإرصادًا له بنبي مصري، من ذرية إبراهيم الآرامي – العبراني، عبر إسحاق، كما سيحدث بعد نحو ألفي سنة أو أقل، بنبي عربي من ذرية إبراهيم أيضًا، عبر إسماعيل، صلوات الله وسلامه على رسله وأنبيائه، يهدم به الله الطواغيت أجمع، على فارق في مدى ما بين الرسالتين عظيم.
نعم، كان يوسف عليه السلام «ضيف» الله في مصر، وكان عليه السلام أيضًا لبني إسرائيل في مصر «الآوى» المضيف.
وتندهش إذ تعلم – كما سترى – أن اسم النبي يوسف عليه السلام الذي ينطق في العبرية بكسر السين، يعني أيضًا، بنفس النطق في العبرية، «الآوي» المضيف.
فأي إعجاز، وأي علم!
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 94]
على أنك قد تلتمس العذر لأولئك المفسرين الذين اعتمدوا في تفسير أسماء أنبياء بني إسرائيل على المعجم العربي وحده، فالتشابه القوي بين جذور اللغتين من نفس الفصيلة – أي بين العربية والعبرية على ما مر بك – قمين بالاشتباه، إن تصب مرة فقد أخطأت مرات. لا يكفي أن تكون لفظة «عين» العربية هي نفسها «عين» العبرية – الآرامية، كي تقرر دون تثبت، ودون الرجوع إلى المعاجم العبرية – الآرامية، أن اسم زوج إبراهيم عليهما السلام «سارة» من السرور، أو أن اسم نبي الله «نوح» عليه السلام من النواح، أو أن اسم «يوسف» عليه السلام مشتق من الأسف على نحو ما قال بعضهم، كما مر بك. نعم، قد أصابوا في أن «يعقوب» من العاقبة، وهو صحيح، ولكن ما كل مرة تسلم الجرة كما يقول المثل.
وأنا أيها القارئ العزيز – إن كنت لا تعرف عبرية التوراة أو يونانية الأناجيل بما في هذه وتلك من أعلام آرامية بل ومصرية أحيانًا – لا أريد لك أن يفوتك شيء من حلاوة بحث أريد أن أحبره لك تحبيرًا: أريد منك أن تشترط علي توثيق ما أحدثك به، فلا أكيل لك القول جزافًا آمنًا ألا تكشف زيفي، لأنك لا تعلم شيئًا من أمر تلك اللغات التي ذكرت لك. ليس هذا من العلم في شيء، وإنما هو من التدليس، كمن قال لك إن «إبراهيم» تعني «الأب الرحيم» لمجرد أنه يرى أن «رحيم» العربية تقابل «رهيم» في الآرامية، ولا تملك أن ترد عليه، فهي كما قال، لأنك لا تدري ما الخطأ وما الصواب في لغة لا تفهمها، ولا علم لك بأن «رهيم» هذه لا وجود لها في الآرامية، ولا في العبرية كذلك، وأن «الرحمة» في هذه وتلك جميعًا، بالحاء لا بالهاء، كالعربية تمامًا. كان على مثل هذا القائل أن يدلك علام استند في اشتقاق تلك اللفظة التي ابتدعها في الآرامية، أو على معجم آرامي وجد جذرها فيه، أو على موضع في التوراة (أو ترجمتها العربية) يفسر معنى «إبراهيم» بالأب الرحيم. مثل هذا القائل الذي لا يحترم عقلك لا يصح أن توليه ثقتك، بل عليك أن تكون منه دائمًا على حذر في كل ما يقوله لك. بل ما أدراك أن «إسحاق» هي «يصحاق» أو أن «يصحاق» تعني «الضحوك»، أو أن «يونس» هي «يونا» وأن «يونا» يعني «حمامة»، إلى آخر ما دبجته لك أنا فيما سبق وأمثاله مما سوف يلي؟ لا تقبله مني إلا إذا وثقته لك، ورجعت بك معي إلى مراجعي فيه.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 95]
فأنا لا أرضى لك متابعتي متابعة صماء فيما أحدثك به، فتسلم لي بكل ما أقول، تاركًا العهدة علي فيما أقصه عليك. ولا أرضى لك أيضًا أن تقفز على التفاصيل سريعًا إلى نتيجة تشبع لديك فضولاً ربما استثاره عنوان هذا الكتاب، أي إلى معرفة مجملة لمعنى العلم الأعجمي في القرآن – أشخاصًا ومواضع – غير مبال بالاشتقاق والتأصيل وكأن هذا أو ذاك لا يعنيك. إن فعلت، فسوف يفوتك الكثير، لأن هذه التفاصيل لا تخلو من أسرار هذا اللون من إعجاز القرآن الذي أريد أن أدلك عليه.
ثق أنني لن أشق عليك بعون الله. عليك فقط بالتؤدة والأناة، وأنا ضامن لك بإذن الله ألا تمل.
على أن القرآن لا يكتفي بتفسير أعلامه الأعجمية – موضوعنا في هذا الكتاب – ولكنه يفسر أيضًا اللفظ العربي الأصيل المجعول في حكم العلم من مثل «الملك» واحد الملائكة صلوات الله عليهم، أو من مثل «الشيطان»، إبليس اللعين، مما تفاوت اللغويون العرب في تحديد أصل اشتقاقه في العربية، ومن ثم تفاوتوا في تأصيل معناه، لا يقطعون فيه بيقين. ولكن القرآن سبق فحسم الخلاف، وأصل المعنى.
من ذلك ما تلاحظه من تردد المعجم العربي في اشتقاق لفظة «الملك» واحد الملائكة، أو مطلق جنس الملائكة، هل هو من «المُلْك» و«الملكوت»، أم هو من «الإلاكة» و«الملأكة» إن كانت الأولى فهو الملك المملوك، وإن كانت الثانية فهو الرسول المرسل.
أما «الملك» في القرآن فهي تسمية بالمصدر الميمي «مَفْعَل» من الجذر لأك ومقلوبة ألك، فهو «الملأك» على المصدر، بمعنى الرسالة والرسول، سهلت فيها الهمزة فصارت «الملك». وهي نفسها على التطابق في الآرامية والعبرية، بل وفي الحبشية أيضًا، ملاك، بإثبات الهمزة وتسهيلها وتنطق في الآرامية والعبرية بالخاء: «ملآخ» و«ملاخ» لتحرك ما قبل الكاف كما مر بك. وعبرية التوراة لا تفرق بين «ملآخ» و«ملاخ» لتحرك ما قبل الكاف كما مر بك. وعبرية التوراة لا تفرق بين «ملآخ» بمعنى «الملك» وبين «ملآخ» بمعنى «الرسول». وإنما هما فيها واحد، كما تجد في سفر حجاى: ويمر حجاى ملآخ يهوا بملأخوت يهوا،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 96]
أي: «وقال حجاى رسول الله برسالة الله» (حجاي 1: 13) فتفهم أن «ملآخ» و«ملأخوت» العبريتين بمعنى الرسول والرسالة، لا «الملك» أو «الملكوت».
الملك والرسول إذن واحد في أصل معناهما، ولكن عربية القرآن تخصص لفظ الملك لرسل الله من أهل السماء، تفرقة بينهم وبين رسل الله من أهل الأرض، صلوات الله وسلامه على ملائكته وأنبيائه. ولعلك تلمس هنا الدقة البالغة لهذا القرآن من نصه في سورة الأحزاب على «خاتم النبيين» ولا يقول «خاتم الرسل»، ليس فقط اكتفاء بدلالة العام على الخاص كما مر بك، وإنما وبالأخص لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم إنما خُتمت به الرسل من أهل الأرض فحسب، ولا ختام لرسول الله من أهل السماء أي الملائكة صلوات الله عليهم، لأن الرسالة بهم في ملكوت السموات والأرض لا تنقطع.
أما أسلوب القرآن في النص على أن «الملك» معناها «الرسول»، فهو التفسير بالترادف على التجاور، كما تجد في قوله عز وجل: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا} [الإسراء: 95] في مقابل قوله عز وجل: {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا} [الإسراء: 93]، وقس على ذلك قوله عز وجل: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} [الحج: 75]، وإبدال «الرسل» من الملائكة مطلقًا، أي إثبات «الرسل» في موضع الملائكة، في مثل قوله عز وجل: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} [الأنعام: 61]، {قل الله أسرع مكرا * إن رسلنا يكتبون ما تمكرون} [يونس: 21]، {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى} [هود: 69]، {ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا} [هود: 77] إلخ، والرسل في هذا كله تعني الملائكة بلا خلاف.
أما لفظة «الشيطان» علمًا على إبليس اللعين، فقد اختلف اللغويون والمفسرون في نونه هل هي زائدة فتكون «شيطان» على وزن «فَعْلان» من شاط يشيط شَيْطا أي احترق، حُكْما على الرجيم بمآله، أم هي أصلية فتكون «شيطان» على وزن «فَيْعَال» من شَطَن يشْطُن شُطونا، أي بعد فهو الخاسئ المبُعد، أو شطنه شَطْنَا أي ناوأه وخالفه في القصد والوجهة، فهو المناوئ المعاند؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 97]
والصحيح – بمقتضى «النحو» وحده – أنها «فيعال» من شطن، وليست «فعلان» من شاط، لأن «فعلان» كما تعلم يمتنع تنوينه، و«شيطان» مصروفة في كل القرآن، منونة بالألف نصبًا، ف يمثل قوله عز وجل: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قري} [الزخرف: 36]، فهو الخاسئ المبعد المناوئ المعاند.
أما «سطن» العبرية – الآرامية، ومنها «ساطان»، أي «شيطان» العربية، فهي في العبرية – الآرامية بمعنى المناوئ المخاصم، أي العدو. والعداوة في العربية من المعاداة، أي المباعدة والمناوأة والمخالفة، ومنها «العدوة» أي شاطئ الوادي وجانبه، تقف فيه قُبالة الواقف في «العدوة» الأخرى.
ولأن «الشيطان» عند الجاهليين لم يكن علما على إبليس اللعين، وإنما كان مرتبطًا في ذهنهم الوثني بنقيض معناه اللغوي، فكان عندهم بمعنى المُوالي المعين على الإتيان بالأمر العبقري أو الطريف المعجب، كما تجد في مثل «شيطان» الشعر وغيره، فقد رده القرآن إلى أصل معناه في اللغة، أي العدو المناوئ المخالف.
أما أسلوب القرآن في تفسير الشيطان بالعدو، فهو إيراد اللفظتين على التجاور في أكثر من آية: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} [البقرة: 168، 208]، {إن الشيطان للإنسان عدو مبين} [يوسف: 5]، {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو} [الكف: 50]، {قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين}[القصص: 15]، {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} [فاطر: 6]، {أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} [يس: 90]، {ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين} [الزخرف: 62]. وغيره كثير.
لو التفت اللغويون والمفسرون إلى هذا التنصيص القرآني على معنى «المَلَك» ومعنى «الشيطان» لما ترددت فيهما المعاجم، ولما تخبط المتحذلقون المتفيهقون.
ولكن ... لم يفطن إلى هذا من اللغويين والمفسرين أحد.
هذا الجناس المعنوي المفسر، إعجازٌ مقصود.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 98]
وكما فات هذا الإعجاز مفسري القرآن من أهله، فقد اعتجم أيضًا على أدعياء الاستشراق المتطفلين على مباحث اللغة، الذين وهموا أن القرآن – على أصالة لفظي «المَلَك» و«الشيطان» في العربية – استعارهما رأسًا من «التوراة» على العلمية المجردة من المعنى في «ملآخ» و«ساطان».
ولكنك لا تستكثر شيئًا على مرضى الهوى والغرض. أما إن أضفت الجهل والجهالة، فحدث ولا حرج: قد قالوا مثله في «فرقان» و«صديق» و«طهارة» و«صدقات» و«زكاة»، بل وفي «سلم»، ناهيك برب العالمين. هذا كله صغار يضلون به القارئين لهم، وما يضلون إلا أنفسهم. فأولى لهم، ثم أولى لهم).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 91-99]

صفية الشقيفي 16 ربيع الثاني 1443هـ/21-11-2021م 10:40 PM

(4) تاريخ كتابة التوراة والإنجيل وبيان حفظ الله للقرآن وهيمنته على الكتب السابقة:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (4)
مر بك أننا نكتفي في هذا الكتاب بتفسير العلم الأعجمي في القرآن، لا نتجاوزه إلى أعجميه المعنوي – إن سلمت بوجوده – لأن مقصد الكتاب هو استجلاء إعجاز القرآن في تفسير المختلف فيه، الذي لا علم للعرب بمعناه، لا الأعجمي المعنوي الذي عربوه من قبل وتكلموا به.
أما لب هذا الوجه من إعجاز القرآن، فمداره أيضًا على «العلم»: القرآن يعلم علماء التوراة والإنجيل، أحبار الآرامية والعبرية على عصر النبي صلى الله عليه وسلم وفي كل عصر، السابق واللاحق، والخائضين في أسرار اللغة المصرية القديمة منذ القرن الماضي فحسب، علم ما لم يعلموه، أو ترددوا فيه، جهلوه أو أنسوه.
ولعلك تذكر أن كفار قريش وأهل الكتاب في يثرب ونجران، شأنهم شأن أدعياء الاستشراق في هذا العصر، اتهموا القرآن بالأخذ من الكتب السابقة، وبالنقل عن الأحبار والرهبان، من يهود ونصارى. قالوا حين يتفق القرآن مع التوراة والإنجيل: سمع فأدى، ما أحفظه وما أوعاه! وقالوا عكس هذا تمامًا حين يعارض القرآن كتبهم التي بين أيديهم: تشوشت في ذهنه الأمور، واختلطت الرؤى والأحلام، وتحرفت عليه الوقائع والمواقع والأعلام فما «آزر» هذا الذي يسميه أبا لإبراهيم وهو «تارح»؟ أليس قد تحرف عليه اسم «لعازر» خادم إبراهيم فظنه أباه؟ وما «طالوت» تلك التي يسمى بها «شاءول» ملك بني إسرائيل؟ وما «مريم» أخت موسى وهارون التي يخلط بينها وبين «مريم» أم عيسى؟ أين ذهبت حافظته؟ أين إتقانه؟ وما شأن ذلك السامري الذي صنع العجل من ذهب لبني إسرائيل في التيه؟ ألم يلقنه الأحبار أن الذي صنع العجل هارون؟ وما باله ينكر الصلب على «عيسى» ويثبت تشريف الله إياه برفعه إليه؟ أغاية همه تبرئة الطبقة التي ينتسب إليها – الأنبياء
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 100]
بزعمه – من الدنية والنقيصة، كما فعل في «سليمان» الذي أسجدته زوجته الوثنية للصنم فسجد، وأبى عليه هو ذلك، فقال في «قرآنه»: «وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا»؟ إلى آخر ما قالوه، فخبوا وأوضعوا.
ولعلك تذكر أيضًا رد القرآن على هؤلاء الخائنين أنفسهم: جادلهم في دعوى النقل بمحض عربية القرآن، الذي تحدى العرب أنفسهم أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله، فكيف بعي أعجمي يلقنه إياه؟
ولعلك تعلم أيضًا أن التوراة والإنجيل لم يترجما إلى العربية إلا بعد قرون من نزول القرآن، فمن أين أوتي العلم بهما؟ بل وما كان يقرأ قبله من كتاب؟
ومن أين له العلم بالعبرية واليونانية وهو يلحن في أسماء الأعلام ويخلط بين خادم إبراهيم وأبيه؟ كيف يسمعها «لعازر» وتتحرف عليه إلى «آزر»؟ أثمة عربي لا يحسن نطق العين، أم إنجليزي هو أو فرنس، تتحرف عليه «لعازر» على «لازار»؟
والقرآن لا يلتفت إلى هذا الهراء، ولكنه صفع المكابر المتعنت المتعالم بالقاطعة الباترة من قوله عز وجل: {فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم * والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [آل عمران: 66].
وقد كان من بين الذي علمه الله ولم يعلموه، «آزر» هذه نفسها التي يحاجون بها القرآن، كما سترى.
أما الذي لا يعلمه كثيرون، فهو أن علماء الآرامية والعبرية الذين عابوا «آزر» على القرآن، لا يعرفون إلى اليوم معنى «تارح» اسم أبي إبراهيم في التوراة،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 101]
لا يهتدون إلى الجذر المشتق منه في الآرامية والعبرية، ولا يتفقون على معنى «إسرائيل»، شهرة يعقوب عليه السلام، ويسيئون فهم معنى اسم «موسى» عليه السلام بإصرارهم على تفسيره بالعبرية «موشيه» على زنة الفاعل في العبرية من «مشا» (ومقابلها في العربية مسا/ يمسو بمعنى سل أي أخرج، ومنه مسا الناقة يعني أخرج الولد من بطنها ميتا) فيخطئون النحو العبري، لأن مرادهم من التسمية أنه «الممسو» (من الماء، إشارة على التقاط آل فرعون إياه من اليم) لا «الماسي» (والماسي هو فرعون وآله لا موسى)، والتسمية بالفاعل على قصد المفعول غير واردة في العبرية، فالتفسير مفتعل. وهم أيضًا لا يقطعون برأي في معنى «هارون» (أهارون في العبرية) اسم أخي موسى عليهما السلام، هل هو من الخفة والنشاط (من الجذر «أرَنْ») أم هو من العلو والاستكبار والنفج (من الجذر «يهر»)، إلى آخر ما نعرض له فيما يلي من فصول هذا الكتاب، استكشافًا لمعنى العلم العبراني في القرآن.
والذي يجب أن تعرفه أيضًا، وبالأخص، أن أقدم نسخة للتوراة التي بين يديك لم تكتب على عصر موسى وخلفائه، ولم تكتب على عصر داود وسليمان، وإنما كتبت «من الذاكرة» بعد هدم الهيكل وعودة اليهود من سبى بابل. وأيا ما قلت في أمانة الكاتب وحفظه وتقواه، فأنت لا تحيل عليه الخطأ في الحرف والكلمة: آية ذلك ما تجده في حواشي التوراة العبرانية تعليقًا على صحة النطق في بعض الكلمات بعبارة: «كثيف ...: قرى ...» (أي كتبت كذا وتقرا كذا). ومن ذلك أيضًا التردد في هجاء بعض الأعلام، من مثل «يوسف»، التي كتبت «يهوسف» مرة واحدة لم يعلق عليها أحد.
والذي يجب أن تعرفه أيضًا أن النص العبراني للتوراة التي بين يديك، والذي مر بك أنه مستنسخ من الذاكرة إثر عودة بني إسرائيل من سبى بابل بعد حوالي ثمانية قرون من وفاة موسى عليه السلام، ظل أيضًا نصا غير معجم، أي غير مقيد بالشكل والنقط، يلحن فيه قارئه، مثقفًا وغير مثقف، لا سيما بعد تراجع
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 102]
العبرية على الألسنة وحلول الآرامية محلها في ربوع فلسطين منذ القرن الثالث قبل الميلاد. وقد تصدى لتحقيق النص بالنقط والشكل والتعليق على صحة النطق، في مدى ثمانية قرون، من القرن الثاني الميلادي إلى القرن العاشر، طائفة يدعون «بعلى ماسوار» أي «أهل الأثر»، حفاظ المأثور المتلقن.
ولك أن تتصور ماذا يمكن أن يحدث لنص أعيدت كتابته من الذاكرة بعد وفاة موسى عليه السلام بحوالي ثمانية قرون، غير مضبوط بالشكل والنقط، وظل كذلك، إلى القرن الثاني لميلاد المسيح، واستغرق «تحقيقه» بالشكل والنقط والتعقيب ثمانية قرون أخرى فما اكتمل إلا في القرن العاشر الميلادي.
هذا وذاك يقوي لديك شبهة وقوع الإضافة والحذف في النص الذي بين يديك. أما الحذف، فهذا ما لا سبيل لك اليوم إلى إثباته. وأما الإضافة، فإثباتها هين بين، تحفظ المسيحيون من قبل على بعضها بالنسبة إلى أسفار برمتها سموها «أبوكريفا» أي المنحولة، وتستطيع أنت التحفظ على كثير مما تضمنه صلب أسفار موسى الخمسة نفسها من سفاسف وشناعات لا يقبل ورودها في نص إلهي مقدس، ليس أشنعها زنى بنتي لوط بأبيهما ليكون له منهما «نسل» كما مر بك. وهو يقوي لديك أيضًا شبهة صرف النص في بعض مواضعه – بمجرد النقط والشكل – عن أصل معناه. وهو يقوي لديك أخيرًا – وهنا بيت القصيد في مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب – احتمال وقوع التحريف في نطق الأسماء الأعلام.
وتستطيع أن تقول الشيء نفسه – أو قريبًا منه – في الأناجيل الأربعة المتداولة، التي لم يخطها عيسى عليه السلام بيده، كما خط موسى عليه السلام بإزميله في الألواح، لولا أن أصحاب هذه الأناجيل لا ينسبونها ابتداء إليه، أي إلى عيسى عليه السلام: لم يُمْلِها عليهم، ولم يراجعوها عليه، وإنما هم ينسبونها إلى ذات أنفسهم، كتبوها من الذاكرة أيضًا بعدما تمادت بهم السن. أو كتبها آخذون عنهم لم يروا المسيح ولم يسمعوا منه. وهؤلاء وأولئك لم يكتبوا ما نطق به المسيح بلغته (الآرامية – العبرية) وإنما ترجموا ما وعوه إلى لغة ليسوا من أهلها (اليونانية)، لا تستثنى «لوقا» الطبيب اليوناني، لأنه بنى إنجيله على ما سمعه منهم مترجمًا إلى اليونانية من قبل. وهذا يفسر لك بعض أخطائهم في الترجمة، سواء في ترجمة ما
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 103]
استشهدوا به من التوراة العبرية في الأناجيل اليونانية، أو في اختيار اللفظ اليوناني المناسب للمقابل العبري أو الآرامي: ظنوا «باتر» Pater اليونانية (أي «الأب» الوالد لا غير) تصلح ترجمة للفظة «آب» العبرية – الآرامية حيثما وردت، على بَوْنِ ما بينهما في مجاز اللغات السامية ومنه معنى الفاطر المنشيء البارىء. وظنوا باسيليا Basileia اليونانية (وهي المُلك والمملكة) تصلح دائمًا أبدًا لترجمة اللفظين العبرين الآراميين «مَلْخُوت» و«مَلَخُوت» على السواء، الأولى بمعنى الملك والملكوت، والثانية بمعنى الرسالة والرسول (على ما مر بك في مقابلهما العربي)، فيتجافى بك المنطق أن تفهم عبارة من مثل: «من يسمع كلمة الملكوت ولا يفهم» (متى 13/19)، إلا أن يكون أصلُها: «من يسمع كلام الرسول». أو مثل عبارة: «فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السموات! ليتقدس اسمك! ليأت ملكوتك» (متى 6/9 و 10) التي تقرؤها فيأخذك العجب: وهل ملكوت الله عز وجل إلا حاضر في كل آن؟ أليس قد قال عليه السلام في تلك الأناجيل نفسها: «ملكوت الله فيكم» (لوقا 17/21) يعني نفسه، أي الرسول والرسالة؟ إذن فما معنى طلبهم في صلواتهم: «ليأت ملكوتك!»؟ أليس الأرجح أن يكون معناها: «ليأت رسولك!»؟ يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، الذي بشر به عيسى عليه السلام مصداقًا لما جاء في القرآن على لسانه: {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6]. نعم، قد استفاد من هذا – وغيره كثير – بطاركة يونانيو اللسان ذهبوا إلى «مجمع نيقية» عام 325م لإقرار ألوهية المسيح، على نحو ما تعرف من عقيدة التثليث، أو «الثلاثة في واحد»، التي يدين بها المسيحيون إلى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 104]
اليوم، ولكنه وضع مترجمي الأناجيل إلى مختلف اللغات، ومنها العربية بالطبع، ناهيك بالمفسرين، في عسر شديد. من ذلك عبارة «وبعدما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله» (مرقس 1/14) وأصل عبارة «يكرز ببشارة ملكوت» في إنجيل مرقس اليوناني Kerusson to euaggelion tou theou ومعناها بنفس ترتيبها اليوناني «مبشرا بإنجيل الله»، ليس فيها «ملكوت»، وليس فيها أيضًا «بشارة»: أضاف المترجم «ملكوت» من عنده ليمنع إضافة البشارة إلى الله، وترجم euaggelion (وتنطق إيفانجليون) إلى «بشارة». أما «يكرز» في النص العربي فليست عربية (وبمعنى أدق ليست هي يكرز العربية بمعنى يلجأ ويعتصم)، وليست هي أيضًا عبرية، بل ليست سامية، وإنما هي آرامية منحولة عن الفارسية، التي جاءت منها Kerussein اليونانية بمعنى يعلن ويبشر (قارن herald الإنجليزية)، ولكن المترجم العربي اضطر إلى استعمال تلك اللفظة الآرامية المنحولة كراهية التكرار في النص العربي، كأن يقول «يبشر ببشارة» وهو ممجوج ... العبارة إذن في النص اليوناني ليست «يكرز ببشارة ملكوت الله» وإنما هي ببساطة «يبشر بإنجيل الله». ولكن إضافة الإنجيل إلى الله تسبب مشاكل لا تخفى، إذ ما هي تلك البشارة التي هي لله؟ إنها الإنجيل نفسه، أي «إيفانجليون» اليونانية، التي يفسرونها بالخبر السار، أو البشارة. ومن قال (eu) + angelion اليونانية تعني الخبر السار؟ أليس «أنجليون» angelion اليونانية معناها الرسالة والرسول مثلها مثل «ملآخوت» الآرامية – العبرية، ومنها «أنجلوس» angelos يعني المَلَك، أي الرسول؟ إلا إذا ظننت أن اليونان يسمون المَلَك «أنجلوس» angelos يعني المَلَك، أي الرسول إلا إذا ظننت أن اليونان يسمون المَلَك «المُخْبِر»، وهذا غير صحيح بالطبع. ومن قال إن المقطع اليوناني eu يعني «السار» ليس له بالسرور أدنى صلة، وإنما معناها حين تكون بادئة في الكلمة، «المرضى المحمود»، كما في (eu) legein اليونانية، بمعنى حمده وأثنى عليه. ولو ترجمت «إيفانجليون» اليونانية إلى العبرية (وأنت تعلم أن أنجليون تعني الرسالة) لقلت «ملآخوت حمد». أفيكون المعنى «رسالة أحمد»؟ ربما.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 105]
ليس لديك الدليل في هذه أو في غيرها: ليس لديك النص الأصلي لأقوال المسيح عليه السلام بلغته ولغة قومه (العبرية – الآرامية). وإنما لديك ترجمة يونانية لعبارات ربما قالها عليه السلام، ولكنك لا تقطع بصحة الترجمة إلا أن تطابقها على الأصل العبري – الآرامي، وهو غير موجود للأسف. ومهما سلمت بأن رسل الله جميعًا قادرون على الحديث بكل لغة يلهمون الحديث بها، فأنت تحيل على المسيح عليه السلام أن يتحدث مع المرسل إليهم وإلى أهله وعشيرته وحوارييه بلغة يونانية لا يفهمونها، لا سيما حين يتحدث في صُلب الرسالة والعقيدة. من ذلك حديثه عليه السلام عن الذي يأتي بعده، الذي إن لم يذهب، لا يجيء. أعني «الفرقليط» (Parakletos في الأناجيل اليونانية) غير الموجودة أصلاً في لغة اليونان قبل عصر المسيح، والتي حار في فهمها تراجمةُ الأناجيل إلى مختلف اللغات، هل هي المعزى أم الناصر أم الشفيع أم المحامي. والأصوب أن يقال إنها عبرية آرامية، تركت في إنجيل يوحنا اليوناني على أصلها، بعد تهذيبها إلى صورتها اليونانية Parakletos نحوا ونطقا: إنها إذن اسم مزجي مركب «فرق + ليط» (التي تنطق فاؤها البادئة في العبرية – الآرامية باء ثقيلة «P» كما مر بك) فهي «برقليط» آراميا وعبريًا. الشق الأول «فرق» جذر آرامي – عبري بمعنى حط عنه ووضع، أي حط عنه الذنب أو الخطيئة (قارن «فرك» العربي بمعنى حكه ليزيل عنه وسخًا علق به). والشق الثاني من الجذر العبري الآرامي «لاط / يلوط» بمعنى ستره وحجبه وغطاه (قارن «لاط/ يلوط»، «لط/ يلُط» العربيتين بمعنى ستره وأخفاه)، أو هي بمعنى لزق به وعلق (وهي «لط» العربية أيضًا) كما يعلق الذنب وتعلق الخطيئة. الشق الأول «برق» ينطق «بارق» (بإطالة مد كسرة الراء) زنة الفاعل آراميا من «برق»، فهو الحاط الواضع الكاشف، والشق الثاني «لاط» ينطق «لايط» (بإطالة مد كسرة الياء)، زنة الفاعل آراميا أيضًا من «لاط». فهو في الأصل «بارق + لايط، يعني «كاشف الحجاب» أي «كاشف الغشاوة» (والكاشف من أسمائه صلى الله عليه وسلم)، أو هو «واضع الذنب والإصر»، ولكن المزجية أحالت النطق إلى «برقليط» (مدًا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 106]
بالكسر لا بالياء). يقوي هذا الفهم بشاهد من أهلها وجود «برقليط» هذه (مدًا بالياء لا بالكسر) في العبرية المعاصرة بمعنى المحامي الذي يقف إلى جانبك يحاول «إسقاط» التهمة عنك، والتهمة هي مظنة الخطأ والذنب. «الفرقليط» إذن هو «واضع الإصر» أي محمدٌ صلى الله عليه وسلم: {الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 157] والإصر من معانيه «الذنب» كما تقرأ في تفسير القرطبي رحمه الله.
وتستطيع أن تقول الشيء نفسه في لفظة «إنجيل». لم لا تكون آرامية – عبرية في أصلها؟ أليست اسمًا علمًا على الكتاب المنزل على عيسى عليه السلام؟ أفيحتاج المسيح إلى تسميته باليونانية «إيفانجليون» على معنى البشارة ولديه في لغته المقابل العبري «بسورا» وإذا افترضت أن أصحاب الأناجيل اليونانية ترجموا «بسورا» العبرية إلى اليونانية «إيفانجليون» التي لم ينطق بها اليونان قبل عصر المسيح، أما كان أمامهم في اليونانية لفظ يفيد معنى «البشارة» سوى ذاك اللفظ المركب (eu) + angelion أليس في اليونانية الفعل «كروسين» بمعنى يعلن ويبشر (herald الإنجليزية) المنقول في اليونانية الكنسية إلى معنى «يعظ« و«يدعو»، منعًا للخلط بين «الكرازة» والبشارة، وهما واحد.
تستطيع أن تقول هذا أو بعضه، ولكننا لا نستطرد بك إليه، وإنما نرجئ الحديث عنه إلى فصل تال في تفسير القرآن لأعجمية العلم، ومنه لفظة «إنجيل».
انقطعت سلسلة السند إذن في التوراة وفي الإنجيل. ولكن الانقطاع في الإنجيل أفدح. لأن القائل في الإنجيل رواة يتحدثون غير اللغة. يزيد من فداحة هذا أن الأناجيل كثيرة، قاربت فيما يروى ثلاثمائة إنجيل تتفق وتختلف، اعتمدت منها الكنيسة بعد استقرار عقيدة التثليث تلك الأناجيل الأربعة التي بين يديك لا سبيل لك اليوم إلى ما كان في غيرها، فقد حرمت وطوردت وأعدمت. بل حتى ما ظهر منها بعد ذلك، كالإنجيل المسمى «برنابا» المكتشف حوالي القرن الثامن عشرة بلغة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 107]
إيطالية تسكانية، مهما اتفقت كمسلم مع الكاتب في مضمونه، لا تستطيع الارتفاع بنسبة ما جاء فيه يقينًا على المسيح عليه السلام، لا لشيء إلا لكونه مكتوبًا – على الترجمة – بلغة غير لغته عليه السلام، شأنه شأن الأناجيل الأربعة المتداولة نفسها، لا أكثر ولا أقل.
وليس كذلك «القرآن»، المقطوع من الخصم ومن الصديق على السواء بنسبة تلاوته إلى محمد صلى الله عليه وسلم بنصه «العربي» الذي بين يديك الآن، لا خلاف على حرفه ولفظه، المكتمل نزوله حوالي سنة 532م، وتلاه صلى الله عليه وسلم الآية بعد الآية، والسورة بعد السورة، على الكاتبين من صحابته، يكتبون ويراجعون عليه ما كتبوا، والمجموع في المصحف الذي بين يديك مراجعًا على حفاظه وكتبته ولما ينقض عقدان على وفاته صلى الله عليه وسلم. نعم، لم يكن «المصحف الأم»، مصحف عثمان، مضبوطًا بالشكل والنقط، ولكنه «مقروء» عليه هو نفسه صلى الله عليه وسلم بقراءة أقرها، كل ما عداها مردود. ولم يظل «مصحف عثمان» غير مقيد بالشكل والنقط حوالي 2200 سنة كما وقع لتوراة موسى عليه السلام، وإنما ضبط بالشكل والنقط على عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ولما تنقض سبعون سنة على وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وهو لم يضبط بالشكل والنقط على عصر اضمحلال الفصحى وتراجعها على الألسنة، كما وقع لعبرية التوراة منذ القرن الثالث قبل الميلاد بعد حوالي ألف سنة من نزول التوراة، ولكنه ضبط بالشكل والنقط وعربيةُ القرآن هي لغة الخاصة والعامة، بل وهي مقياس عربية العرب.
نعم، يستطيع المكابر المعاند أن ينكر الوحي على القرآن، شأن كل كافر بوحي السماء. ولكنه لا يستطيع التسليم بالوحي لما بين يديه من الكتب السابقة وهو ينكر الوحي على القرآن، لأن إنكار الوحي على القرآن إبطال لدعوى الوحي كله: قد ضاعت أدلة الوحي الأول بضياع معجزات الأنبياء السابقين، وبقي القرآن – المعجزة بذاته – شاهدًا أوحد على معجزات كل من سبقوه.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 108]
وتستطيع أيضًا – منصفًا غير متعنت – أن تدفع بانقطاع السند في التوراة والإنجيل اللذين بين يديك. وتستطيع أيضًا – مصيبًا غير مخطئ – أن تدفع بضياع الأصل الآرامي – العبري الذي ترجمت عنه أقوال المسيح عليه السلام في تلك الأناجيل اليونانية الأربعة، بل وفي إنجيل برنابا أيضًا. ولكنك لا تستطيع أن تفعل هذا أو بعضه مع القرآن إلا وأنت موتور، متعنت، غير مصيب: لا مشاحة في حرف واحد من حروف القرآن، الأصل، واللغة، والسند.
من هنا تفهم قوله عز وجل في وصف القرآن: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب * ومهيمنا عليه} [المائدة: 48] يعني القرآن يصدق «ما صدق» في التوراة والإنجيل، أي هو الشاهد لهما بالصواب حين الإصابة، أما عند الاختلاف فالقرآن هو المصوب الفيصل البات، قوله الحق.
وتستطيع أن ترتب على هذا أيضًا أن القرآن لا يحاج بما في التوراة والإنجيل، ولكنهما هما اللذان يحاجان به عند الاختلاف.
ولكن لا تتوقع مني أن أقول لك: قد قالها القرآن «آزر» فهي كما قال وعلى الذين يريدون لأبي إبراهيم اسما آخر أن يعودوا إلى معاجمهم يبحثون عن جذر عبري أو آرامي يشتقون منه «تارح» أو يهتدون إلى وجه في هجائه ومعناه، وليتخبطوا كما يتخبطون في أمثال «موسى»، هارون. بل مثل ما يجدفون في «إسرائيل» («يسرئيل» في عبرية التوراة) التي استنفج بعضهم ففسرها بأنها «مصارع الله»، واستخذى بعضهم فقال بل هي «أمير مع الله» وكلتاهما شهرة يفرق من انتحالها إبليس نفسه، فكيف بعبد الله يعقوب، النبي ابن النبي أبى الأنبياء؟
لا تنتظر مني أن أقولها، وإلا ما كان هذا الكتاب.
على أني لا أكتب لهؤلاء، وإنما أكتب لك أنت، كي نستبين معًا كيف علم القرآن ما جهلوا، وكيف أخطأ هؤلاء وأصاب.
ولكنهم لا تهزم ملاكما بأن تطرده من الحلبة، وإنما تستدعيه إليها لتصرعه على أرضها. ولا تستدنيه إليك لتباغته بالقاضية على أم رأسه، ولكنك تصاوله حتى يسلم لك بالقاضية، «الفنية».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 109]
قال عز وجل: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن * إلا الذين ظلموا منهم} [العنكبوت: 46].
وإني بها ملتزم بعون الله فيما بقى من فصول هذا الكتاب.
وبعد، ثق أنني لا أبتغي بما أكتب وجه الجدل ولا يستهويني النزال. فليست الشحناء من طبعي. بل «حلاوة الإعجاز» هي كل ما نبغي: نور الحق، ينبوع الجمال.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 100-110]

صفية الشقيفي 16 ربيع الثاني 1443هـ/21-11-2021م 10:42 PM

قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( الفصل الثالث
العلم الأعجمي في القرآن).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 111]
(1) أنواع العلم الأعجمي في القرآن:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (1)
يجيء العلم الأعجمي في القرآن على ثلاثة أنواع: علم الذات، وعلم الجنس، وعلم الموضع.
أما «علم الذات» فهو أسماء الأشخاص، ملائكة وأنبياء وصديقين، وملوكًا وجبابرة وطواغيت. وربما أضفت «إبليس» اللعين – هامة العصاة – إن سلمت بعجمة «إبليس»، وسيأتي.
وأما «علم الجنس» فهو أسامي القبائل، منها بائد كعاد وثمود، ومنها الذي غيبه الغيب كيأجوج ومأجوج، وأسامي الشعوب، ورد منها في القرآن «الروم». وربما أضفت أهل الملل على النسب. اليهود، والنصارى، والصابئين، والمجوس. ولكنك تضيف حتما تحت «علم الجنس» أسامي كتب ثلاثة: التوراة والزبور والإنجيل، على خلاف في عجمة الزبور.
أما «علم الموضع» فأسامي الأماكن والبلدان، أمثال مصر ومدين وغرم (ذات العماد). وربما جازت إضافة «فردوس» و«عدن» استقصاء لشبهة عجمتهما، وربما أيضًا «جهنم» (المقول بأنها «جي – هنوم» العبرية). ولكنك لن تجري وراء كل من هب ودب من أدعياء الاستشراق تبحث عجمة ألفاظ بينة العربية من أمثال «عليين» و«سجين»، فليس العبث من مقاصد هذا الكتاب.
في باب العلم على الذات، تندرج أسامي الملائكة رضوان الله عليهم، وقد سمى القرآن منهم خمسة: جبريل، ميكال، مالك، هاروت، ماروت، ولا يعلم جنود ربك إلا هو.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 112]
وتندرج في باب العلم على الذات أيضًا أسامي الأنبياء والصديقين رضي الله عنهم ورضوا عنه، بدءًا بآدم أبى البشر وانتهاء بعيسى المبشر بخاتم النبيين، صلوات الله وسلامه على رسله وأنبيائه، وهم: آدم، إدريس، نوح، هود، صالح، شعيب، إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق، يعقوب (وشهرته إسرائيل)، يوسف، موسى، هارون، داود، سليمان، إلياس، اليسع، ذو الكفل، يونس، أيوب، عزير، لقمان، زكريا، يحيى، مريم، عيسى. فهؤلاء سبعة وعشرون شخصًا علما، على خلاف في نبوة بعض وصديقية بعض، وفي عجمة الاسم وعربيته، تزداد إلى ثمانية وعشرين بإضافة «إسرائيل» شهرة يعقوب عليه السلام.
أما الملوك والجبابرة، فمن أعجميها في القرآن اثنان: طالوت، ملك بني إسرائيل، (شاءول في التوراة)، جالوت، جبار الفلسطينيين، (وهو في التوراة جليات).
وأما المقبوحون في الدنيا والآخرة، الكفرة البغاة الطغاة، فقد سمى القرآن منهم أعلامًا أربعة: آزر، فرعون، هامان، قارون. وربما أضفت رأس الضلالة إبليس اللعين، استقصاءً لعجمته. فيكون مجموعهم خمسة أعلام.
أما أسامي الأصنام في القرآن، فنحن نضرب الصفح عنها استخفافًا، فلا ذات لها، فضلاً عن أن القرآن لا يفسرها للعرب، لأنها عربية الأصل والاشتقاق.
وأما العلم على الجنس في أعجمي القرآن، فمن القبائل أربعة: عاد، ثمود، مدين، يأجوج ومأجوج. ومن الشعوب واحد: الروم. ومن الكتب ثلاثة: التوراة، الزبور، الإنجيل (وإن كانت الزبور عربية كما سترى). وربما أضفت على النسب أهل الملل الأربع: اليهود، النصارى، الصابئين، المجوس. فيكون مجموع هذا الصنف اثنى عشر علما.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 113]
ولم نذكر في علم الجنس «سبأ»، كما لم نذكر في علم الذات «تبع» ملوك اليمن، لعربية هذين العلمين بلا خلاف.
أما علم الموضع، أي أسامي الأماكن والمواقع، والمنازل والقرى والبلدان، فمن الأماكن والقرى والبلدان أربعة: بابل، إرَم، مصر، سيناء. ومن المواقع واحد: الجودي (مرسى نوح). ومن المنازل ثلاثة: الفردوس، عدن، جعلنا الله من أهلهما بمنه وفضله، و ... جهنم، أعاذنا الله منها. فيكون مجموع هذا الصنف ثمانية أعلام.
ومن هنا ترى أن العلم الأعجمي الذي تتبعناه في القرآن، ولا يستقصى على الله عز وجل أحد، ستون اسما علما – أو في حكم العلم كالأعلام على النسب من أهل الملل – سوف تتناولها بإذن الله مباحث هذا الكتاب. من هذه الأعلام مقطوع بعجمته، ومنها المقول بعربيته. ومنها أيضًا العربي في صورته وهو محض ترجمة كما سترى.
ويلاحظ أنه لم يرد في القرآن من أعلام النساء سوى اسم واحد، هو مريم أو عيسى عليهما السلام (لا أخت موسى وإن تشابه الاسمان).
ولكن القرآن أشار إلى نساء أخريات على النسب إلى الابن أو الزوج، وهن خمس: ثلاث فضليات، أم موسى، امرأة فرعون، امرأة عمران (جد عيسى، وليس أبا موسى وإن تشابه الاسمان)، وثنتان من الخائنات، امرأة نوح، امرأة لوط.
وليس في المنسوب إليه علم جديد يضاف إلى ما ذكرناه سوى عمران جد المسيح صلوات الله عليه وعلى رسل الله أجمعين.
وهذا يرتفع بالعلم الأعجمي، أو المقول بعجمة أصله، الذي نعرض له في هذا الكتاب، إلى واحد وستين اسمًا علما).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 112-114]

صفية الشقيفي 16 ربيع الثاني 1443هـ/21-11-2021م 10:45 PM

(2) بيان شيوع الرسم اليوناني قبل نزول القرآن في ترجمة التوراة والإنجيل وعلاقته بإعجاز القرآن في تفسير أعجمي القرآن:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (2)
الأعلام الأعجمية المذكورة في القرآن ورد أغلبها على أصل لفظه الأعجمي في أسفار اليهود والنصارى، أو – اختصارًا – في التوراة والإنجيل.
وقد ضم المسيحيون أسفارهم إلى أسفار اليهود (على خلاف بينهم في إنكار بعض وإضافة بعض) في مجلد واحد من جزأين هما «العهد القديم» (التوراة) و«العهد الجديد» (الإنجيل)، تحت اسم «الكتاب المقدس»، سلموا لهما جميعًا بالوحي من الله، ليس فقط لأن اللاحق يبنى على السابق فحسب كما مر بك، وإنما أيضًا وبالأخص اتباعًا لقول المسيح عليه السلام في الأناجيل: ما جئت لأهدم الناموس (أي التوراة)، وإنما جئت لأكمل (أي بالإنجيل).
أما اليهود فهم بالطبع لا يسلمون بالوحي لكتابات «العهد الجديد»، وإلا لما بقوا على يهوديتهم. وهم لا يسلمون بالوحي أيضًا لأسفار أضافتها الكنائس المسيحية إلى أسفارهم المعتبرة عندهم (على خلاف في هذا بين الكنائس المسيحية).
وقد توقفت «النبوات» في بني إسرائيل قبل قرون من مولد عيسى عليه السلام. ومن هنا يفهم خلو أسفار التوراة من النص على أعلام المسيحية الأربعة: زكريا، يحيى (يوحنا)، مريم، عيسى، عليهم السلام. ولم تذكر أيضًا عمران جد عيسى.
ويلاحظ أن أسفار «العهد القديم» (أي التوراة) مكتوبة كلها بالعبرية، ما عدا أجزاء قليلة كتبت بالآرامية رأسًا أو متأثرة بها، منها عبارات في سفر
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 115]
التكوين نفسه، أول أسفار العهد القديم، ومنها بعض إصحاحات متفرقة في أسفار ثلاثة هي أسفار أرميا، ودانيال، وعزرا (عزيز في القرآن). وإذا علمت أن عزرا – كاتب «شريعة الله» بعد سبى بابل – كان من أعلام القرن الخامس قبل الميلاد، فقد علمت مدى طغيان هذه الآرامية على السنة الناس، حتى حلت تمامًا أو تكاد محل العبرية في ربوع فلسطين منذ ثلاثمائة سنة على الأقل سبقت مولد المسيح، فكان بها جل كلامه عليه السلام.
ولكن أسفار «العهد الجديد» لم تكتب بالآرامية أو العبرية أو بمزيج من هذه وتلك، وإنما الموجود منها بين يديك الآن مكتوب كله – عدا بضع كلمات آرامية أو عبرية – بلغة «يونانية» متأخرة، تعرف باليونانية «الكنسية» لاصطناعها ألفاظًا وتراكيب لم تسمع في اليونانية قبل عصر المسيح. ومهما قيل من أن إنجيل «متى» وبعض رسائل الحواريين والآخذين عنهم قد كان لها أصل عبراني ترجمت منه إلى تلك «الأصول» اليونانية التي بين يديك، فهذا الأصل «العبراني« مفقود، لا سبيل لك إليه لتطابقها عليه: ليس لديك من «العهد الجديد» سوى هذه الأصول اليونانية التي بين يديك، وترجمات منها مباشرة إلى مختلف اللغات.
ولئن كان موضوع «العهد الجديد» هو رسالة عيسى عليه السلام، آخر رسل الله إلى بني إسرائيل، فهو لا يسمى فقط أعلام المسيحية المذكورين في القرآن، ولكنه يتحدث أيضًا بالتوراة فيذكر بعضًا من أعلامها الذين سماهم القرآن. ولأن «العهد الجديد» يوناني اللسان، فهو حين يذكر أعلامًا من التوراة يسميهم بالطبع على اللفظ اليوناني، لا اللفظ الآرامي – العبري. ومن هنا اختلاف نطق العلم «الإنجيلي» عن سميه في التوراة.
من ذلك أن اليونان لا ينطقون الشين، فأبدلوا كل شينات التوراة سينًا. واليونان أيضًا لا يستطيعون الحاء والعين. ويهمسون الهاء، فأهملوها جملة، إلا أن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 116]
تكون الحاء والعين بادئتين، فتبدل منهما الهمزة، وفي اليونانية كذلك علامات «إعراب»، منها إضافة السين للرفع وإضافة النون للنصب، فتظهران هذه أو تلك في نهاية الاسم العلم بحسب موقعه من «الإعراب» في الجملة، ويظنها من لا يعرف أصل الاسم جزءًا منه: فعلوا هذا في أعلام التوراة وفي أعلام الإنجيل.
من ذلك «يونا» (يونس في القرآن): يونانيتها «يوناس» Ionans (السين للرفع) وهي نفسها «يونان» التي تقرؤها في الترجمات العربية للعهد الجديد، أخذوها بصورة الاسم منصوبًا. من ذلك أيضًا «يوحنا» (يحيى في القرآن): ذهبت حاؤه، وأضيفت سينُ الرفع فصار Ionnes أي «يُوَنِّس». ناهيك بالاسم العلم الأكبر في المسيحية، عيسى عليه السلام، واصله العبري «يشوع» فصار «يسوس» في الرفع، و«يسون» في النصب، و«يسو» في غير ذلك.
ورغم أن «مسيحي المشرق» ساميون يستطيعون نطق أعلام الإنجيل على أصل لفظها العبري – الآرامي، فقد التزموا في حالات كثيرة الاقتراب من رسمها اليوناني في العهد الجديد، ضاربين صفحًا عن أصلها العبري – الآرامي، وإن خالف الرسم اليوناني أصل الاسم في التوراة. وما كان لك أن تتوقع غير هذا وهم يقرأون في صلواتهم من إنجيل يوناني، يحتاج فهمه وتدارسه إلى علم كاف بتلك اللغة. وقد كانت اليونانية هي اللغة «الرسمية» للكنيسة طوال قرون المسيحية الأولى: بها كتبت مباحث اللاهوت، وبها دارت المناظرات واحتدم الجدل. أضف إلى هذا – بل قل قبل هذا – الرغبة في «التبرك» الناشئ عن التقديس: المسيحي يؤمن بأن «العهد الجديد» كلام موحي به من الله، أو من الروح القدس، على كتبة الأناجيل، وهو يرتب على هذا أن الله هكذا تكلم، أو هكذا أوحى، بتلك الأعلام في لفظها اليوناني ويرسمها المكتوب في تلك الأناجيل اليونانية، أو في أقل القليل أن الإنجيلي، «كاتب الوحي»، كتب ما كتب و«روح القدس» عليه، إنه إذن كلام مقدس لا بمصدره فحسب، وإنما بأصل لفظه أيضًا في رسمه اليوناني الذي جرى به قلم الكاتب.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 117]
وعلك تعلم أيضًا أن أسفار «العهد القديم»، أي أسفار التوراة، قد كانت لها قبل عصر المسيح ترجمات إلى اليونانية أشهرها قاطبة الترجمة السبعينية، التي سبقت مولد المسيح بنحو ثلاثة قرون، موجهة إلى يهود الإسكندرية ومتهوديها، وإلى من «تأغرق» منهم في غيرها، الذين أنسوا عبرية التوراة. وقد تضمنت الترجمة بالطبع تحويل صورة العلم التوراتي عن أصله العبري – الآرامي إلى «صورة» يونانية، جرت بالتأكيد على ألسنة «متأغرقي» اليهود في أوروبا فقط بل وفي مصر والشام أيضًا.
وتستطيع أن تقول – مصيبًا غير مخطئ – أن كتبة الأناجيل اليونانية استفادوا من هذا الرسم اليوناني «الجاهز» في الترجمة السبعينية فنسجوا على منواله في «العهد الجديد». وتستطيع أن تقول أيضًا أن كتبة الإنجيل حين اقتبسوا من التوراة نصوصًا يستشهدون بها في العهد الجديد، لم يرجعوا إلى أصل التوراة العبراني، وإنما رجعوا رأسًا إلى تلك «السبعينية»، يستقون منها ترجمتهم اليونانية لما أرادوا اقتباسه من التوراة. وهذا يفسر لك سببًا من أسباب عدم تطابق بعض تلك الاقتباسات مع أصلها في التوراة كما مر بك، لأن في «السبعينية» أخطاء استدركت بعد عصر المسيح بقرون.
ولأنك – مسيحيًا كنت أو مسلمًا – تحيل على المسيح صلوات الله عليه أن يخطئ في الاقتباس من التوراة في عبارات نسبت الأناجيل اقتباسها إليه، فليس أمامك إلا التسليم بأن كتبة الأناجيل اليونانية كتبوا ما كتبوه بوحي من ذاكرة تسعف وتخون، أو رجعوا إلى الأصل العبراني ولكنهم لم يحسنوا الفهم أو الترجمة، أو تعجلوا فاستخدموا ترجمات يونانية جاهزة شاعت من قبل، أو أنهم كتبوا لجمهور يوناني اللسان، جادلوه بما يقرأ من ترجمات يونانية للتوراة في السبعينية أو في غيرها. وربما اشتطت بك الغلواء فقلت إن كتبة الأناجيل اليونانية الأربعة أو معظمهم، وبالذات لوقا ويوحنا، ما كانوا يتقنون العبرية شأنهم شأن يهود مصر والشام على عصر المسيح، وما كانوا بالتالي يقرأون من توراة عبرية، بل من ترجمات لها. هذا وذاك أبرأ لدينك من أن تقول أصاب كتبة الأناجيل وأخطأ المسيح
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 118]
معاذ الله – ناهيك بروح القدس جبريل – صلوات الله وسلامه على جميع ملائكته وأنبيائه.
على أننا – في مقاصد هذا الكتاب على الأقل – لا يعنينا هذا أو ذاك – وإنما الذي أردنا التنبيه إليه هو شيوع الرسم اليوناني والنطق اليوناني قبل نزول القرآن بقرون، لا لأعلام المسيحية فحسب، وإنما أيضًا لأعلام ذكرت في التوراة بلفظها العبري وتأغرقت في الأناجيل، بين مسيحي المشرق ومن سمعوا منهم أو اتصلوا بهم من العرب.
هذا يفسر لك لماذا عرب القرآن أعلامًا في التوراة على رسمها الذي شاع بين الناس، أي على رسمها اليوناني لا العبري، من ذلك «إلياس» المعربة لا عن العبرية «إيليا» وإنما عن اليونانية «إيلياس»، وأيضًا «يونس» المعربة لا عن العبرية «يونا» وإنما عن اليونانية «يوناس»، بإضافة سين الرفع اليونانية في اللفظين.
نخلص من هذا إلى أن التعريب القرآن لأعلام المسيحية لا ينظر إلى «التوراة» التي لم تنص بداهة عليهم، وإنما ينظر إلى رسمها اليوناني الوارد في «العهد الجديد». أما أعلام التوراة المذكورة في الأناجيل، فهو يعربها غير ناظر بالضرورة إلى رسمها العبري في التوراة، إنما يعربها على لفظها الشائع عصر نزوله، أي المتأثر بالرسم اليوناني، وإن خالف أصلها في التوراة.
ولكن القرآن، وهذا إعجازه، «يعلم» الذي كان، فيفسر العلم الأعجمي المطموس معناه في رسمه اليوناني، بأصله في لغة المتسمى به من أعلام التوراة – أيا كانت لغته – متقدمًا بقرون وقرون على «تفاسير» لعلماء تلك اللغات بدأت ولم تنته بعد، أو توقفت دون القطع بيقين).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 115-119]

صفية الشقيفي 16 ربيع الثاني 1443هـ/21-11-2021م 10:46 PM

(3) أسلوب القرآن في تفسير أعجمي القرآن بتعريبه:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (3)
يحدثك سفر التكوين – أول أسفار التوراة – عما كان من شأن آدم عليه السلام وزوجته في الملأ الأعلى، وعن الجنة التي «أزلهما الشيطان عنها» فاهبطوا إلى الأرض جميعًا. كما يحدثك عما كان من شأن «قاين» و«هبل» (قابيل وهابيل في المراجع الإسلامية) ابني آدم الأولين، ويسمى «شيث» ابنه الثالث وذريته إلى نوح وإبراهيم، ثم يمضي على عمود النسب حريصًا عليه كل الحرص، لا يترك علما من أعلامه إلا ويصعد به إلى آدم أبى البشر. وقد ورث «العهدُ الجديد» هذا الحرص (راجع الإصحاح الأول من متى والإصحاح الثالث من لوقا)، تنصيصًا على موضع المسيح من عمود النسب الذي يصعد به إلى «آدمَ بن الله».
والذي يستوقف النظر – في مقاصد هذا الكتاب على الأقل – أن الأعلام على عمود النسب من آدم إلى نوح (وهم ليسوا عبرانيين بالقطع)، ناهيك بالملأ الأعلى، هي في التوراة أعلام عبرية – آرامية. والتوراة لا تقف عند إيراد الاسم عبرانيًا آراميًا، وإنما هي أحيانًا كثيرة تفسره بالعبرية، لا على الترجمة، فالاسم الذي تفسره عبراني – آرامي في أصله، وإنما على البيان، أي أنها تدلك على مناسبة التسمية وسببها بعض هذه التفاسير مقبول، وبعضها مفتعل، من مثل: «ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي» (تكوين 3: 20) وحواء كما تعلم ليست «أم كل حي» بإطلاق، وإنما هي أم كل حي من البشر فحسب، باستثناء «آدم» بالطبع.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 120]
والأكثر استيقافًا للنظر – لا سيما في آدم والملائكة من مثل جبريل وميكال رضوان الله عليهم – أن القرآن يتابع التوراة على تسمياتها هذه لهؤلاء الأعلام الثلاثة، بل قد أثبت القرآن لآدم اسمه هذا العبري – الآرامي على النداء من الله عز وجل: {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} [الأعراف: 19].
أفكان آدم رجلاً عبرانيًا أو آراميًا؟ كيف، وهو أبو كل البشر؟
أفكانت العبرية أو الآرامية هي اللغة التي علم بها آدم «الأسماء» كلها؟ أكانت هذه أو تلك هي لغة الملأ الأعلى؟ أكانت هذه أو تلك هي اللغة الأولى التي هبط بها آدم من الجنة؟
ليس لك أن تخوض في لغة الملأ الأعلى. هذا من غيب الله. ليس لك أن تفترض ضرورة وجود «لغة» لفظية – صوتية ما، أيا كانت، أداة للتلقي والفهم والخطاب فيما بين الملأ العلى. ليس لك أن تخوض فيما لم يعلمك الله.
أما لغة آدم التي تكلم بها على الأرض مهبطه من الجنة، فالراجح عندي – ولا ألزمك إياه – أنها هي نفسها اللغة التي علم بها آدم الأسماء في الملأ الأعلى، لا سيما اسمه هو نفسه الذي خاطبه به الله في الجنة، وثبت له عَلَما في الأرض بين زوجته وبنيه. والذي أقطع به – ويُلزمك المنطق الصرف إياه – أن ثبوت العلمية لأبي البشر في الجنة وعلى الأرض – وكذلك لجبريل وميكال – بأسماء لا تفسر إلا بجذور ألفاظ تستخدمها اللغات السامية إلى الآن، يعني أن لغة أبي البشر آدم كانت لغة سامية ما، بل قد كانت هي أم اللغات السامية جميعًا، أو أن اللغات السامية – دون سائر اللغات – هي الأحفظ لما بقي من لغة آدم بعد ما تفرقت في لغات البشر. لا أقول لك – وإن كنت أرجح – أن العربية الأولى، قبل أن تتطور إلى اللغة التي نزل بها القرآن، قد كانت هي لغة آدم. يكفي العربية فخرًا أن قد كان بها ختام كلام الله إلى أهل الأرض: يكفي العربية فخرًا قرآنها.
أما لماذا يتابع القرآن التوراة في تسمياتها العبرية – الآرامية، وإن تعلقت بذوات غير آرامية وغير عبرية البتة، من مثل الملائكة رضوان الله عليهم، ومن مثل الأنبياء من آدم إلى نوح، فيعرب صورتها الآرامية – العبرية على نحو ما وردت في الصحف الأولى، ولا يعربها عن الصورة المجهولة لنا الآن التي كانت عليها في لغة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 121]
أصحابها قبل مولد هاتين اللغتين الآرامية والعبرية، فهذا هو منطق «العلمية» كما مر بك: قد سبق الوحي الأول بتلك الأعلام على صورتها في التوراة فثبتت، أي صارت علما على الذات التاريخية لأصحابها، إن عدلتها ولو بقصد التصحيح فقد حرفت وصحفت، بل لما جاز: قد ضللت سامعك إذن، ونكرت عليه شخص الذي تعني.
ولكن القرآن في تفسيره الفذ لأعلامه الأعجمية يعمد أحيانًا إلى التفسير بالتعريب وحده، كما سترى في «ميكال» صلوات الله عليه، فيجمع بين المعنى وبين الصورة التي استقر عليها الاسم العلم، في مزيج جل من أوحى.
من خصائص العربية التنوين في الأسماء، أي الوقوف بالاسم – في اللفظ لا في الرسم – على نون ساكنة تلي حركة الإعراب. ولعلماء العربية وعلماء الصوتيات أيضًا وجوه في «تعليل» التنوين، ليس موضعها هذا الكتاب.
وقد شذت كما تعلم صور وأوزان وأعلام، منع تنوينها. والاسم الذي يقبل حركة الإعراب ويمتنع تنوينه، يسميه النحاة «الممنوع من الصرف».
والاسم الممنوع من الصرف – الاسم المعنوي والاسم العلم – لا يمتنع تنوينه فحسب حيث يجب التنوين، وإنما أيضًا يجر بالفتح في موضع الكسر.
ولأن الأصل في «العلم الأعجمي» منعه من الصرف «للعجمة»، فما كان أيسر عليك أن تحصى العلم الأعجمي في القرآن استنادًا إلى هذه القاعدة وحدها، فتسلم بعجمة تلك الأعلام التي امتنع تنوينها حيث يجب التنوين، أو جرت بالفتح في موضع الكسر، ثم ترفض دعوى العجمة في غيرها.
ولكنك لا تستطيع الاستناد إلى هذه القاعدة وحدها في التسليم بدعوى العجمة أو رفضها، فقد «صرف» العرب – أي نونوا وجروا بالكسر – أعلامًا أعجمية لخفة أوزانها، تجد منها في القرآن «نوحا»، «لوطا» المقطوع بعجمتهما، ومنعوا من الصرف في المقابل أعلامًا مقطوعًا بعربيتها مثل «أحمد» لمجيئه على وزن «أفعل» الممنوع من الصرف. تجد على هذا الوزن في القرآن «آدم»، «آزر» الممنوعين من الصرف في كل القرآن، فلا تدري أمنُعا من الصرف للعجمة أم للوزن.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 122]
كذلك يمنع من الصرف في العربية للعلمية والتأنيث، أي العلم المؤنث، مثل «فاطمة»، «زينب» عربيا كان الاسم العلم أم أعجميًا، ومثاله من الأعجمي المؤنث في القرآن الاسم «مريم»، الممنوع من الصرف في كل القرآن للعلمية والتأنيث قبل العُجمة، فلا تقطع بعُجمته مستندًا على منعه من الصرف فحسب، وإنما تنتظر حتى تؤصل الاسم في لغة صاحبه.
يمنع من الصرف أيضًا للعلمية والتأنيث قبل العجمة أسامي القبائل، إلا إذا أردت «القبيلة» أي القوم، ولم ترد «الحي» أي الموضع. من هذا في القرآن أمثال «ثمود»، «مدين»، الممنوعتين من الصرف في القرآن. ولكن «ثمود»، «مدين» لا يمنعان من الصرف في القرآن على الموضع فحسب، وإنما هما ممنوعان من الصرف في كل القرآن حتى حين يراد منهما «القبيلة» صراحة، أي القوم، بدلالة ورودهما على جمع المذكر صريحًا، في مثل قوله عز وجل: {وإلى ثمود أخاهم صالحا}، {وإلى مدين أخاهم شعيبا}، فتستدل من هذا على أن «ثمود»، «مدين» لفظان أعجميان منعا من الصرف للعجمة. أما «عاد» فصرفت لخفة الوزن فحسب. إلى غير ذلك من موانع الصرف وشواذه مما لا نستطرد بك إليه، لأن مرادنا التمثيل فقط.
على أن كثرة الشواذ في القاعدة لا تبطل حكمها، متى راعيت إعمالها بضوابطها. مثال ذلك أن تنعدم في الاسم كافة موانع الصرف إلا العجمة، كأن يكون اسمًا علمًا مذكرًا، من مقطعين فأكثر، على زنة لا يجوز فيها إلا الصرف. عندئذ تكون العجمة هي الوجه الوحيد لامتناع صرفه. من هذا اسم النبي «صالح»، المصروف في كل القرآن، فتقطع لهذا السبب وحده بعربية هذا الاسم غير منازع.
ولكن عربية الاسم لا تعني عربية «صاحبه» بدليل عجمة من أرسل إ ليهم: ثمود. لأن «ثمود» أو بالأحرى «قرى صالح»، لم تكن جغرافيًا على عصر صالح عليه السلام من منازل العرب الناطقين بالعربية التي نزل بها القرآن. كان صالح النبي آراميًا من قوم آراميين، ولكن اسمه الآرامي «صاليح» (والمد فيها بعد اللام مد بالكسر لا مد بالياء)، تواطأ لفظه ومعناه مع «صالح» العربية في القرآن، فصرف لخفة وزنه. وربما كانت «صالح» أبين الأمثلة على أسلوب القرآن في التفسير بالتعريب، وسيأتي هذا في موضعه.

وردت في التوراة أعلام أنبياء لم يذكرهم القرآن، مصداقًا لقوله عز وجل: {ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} [غافر: 78]. وبالمثل، سمي القرآن أنبياء ثلاثة لم تذكرهم التوراة، ولم تذكرهم أيضًا الأناجيل، وهم «هود»، «صالح»، «شعيب».
وسمي القرآن أيضًا «إبليس» المختلف في عجمته، ولم ترد في التوراة إلا «ساطان» (شيطان)، المترجمة في الأناجيل اليونانية إلى «ذيبلس» Diabolos وإن كانت الترجمة اليونانية غير دقيقة، لأن «ذيبلس» تعني «الرجيم»، لا العدو أو المناوئ – الذي تعنيه «ساطان» العبرية – الآرامية. ويزعم أدعياء الاستشراق، وتابعهم للأسف علماء عرب، أن القرآن نحت «إبليسه» من ذيبلس اليونانية هذه، كما عرب من قبل «ساطان» العبرية إلى «شيطان»، دون أن يدري أن الأولى ترجمة للثانية، لا أكثر ولا أقل.
والملاحظ أن «إبليس» ممنوعة من الصرف في كل القرآن، لا يلحقها التنوين، ولا تجر إلا بالفتح. والمنع من الصرف كما تعلم من دلائل العجمة، ولكنه ليس بدليل كاف في «إبليس» بالذات، لمجيئه على زنة «إفعيل»، وهو وزن نادر في العربية واقترنت الندرة بالعلمية فأشبه الأعجمي، فمنع صرفه.
والرأي في «إبليس» وأمثالها، مما أخبر به الله عز وجل في القرآن على غير سابقة في التوراة والإنجليل، ومنه من الأنبياء هود وصالح وشعيب، أو من الملائكة مالك وهاروت وماروت، صلوات الله وسلامه على ملائكته وأنبيائه، أنها من أنباء الغيب غير المتحدث به في التوراة والإنجيل اللذين بين يديك اليوم، وأن القرآن الذي لا يحاج بما في التوراة والإنجيل، لا يحاج من باب أولى بما ليس فيهما.
على أن لنا في «إبليس» رأيًا آخر، يأتي في موضعه.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/124]
أما ما جاء من أعلام القرآن على المخالفة الصريحة لنظرائها في التوراة والإنجيل، فمنها مرسى سفينة نوح عليه السلام، «الجُودِي»، وهي في التوراة «آرارط»، ومنها اسم أبي إبراهيم عليه السلام، «آزر» الذي سمته التوراة «تيرح» (بإمالة الألف في «تارح») وحرفته الأناجيل اليونانية إلى «ثارا» Thara (انظر النص اليوناني الأصلي لإنجيل لوقا 3: 34). ومنها أيضًا «طالوت» المسمى في التوراة «شاءول». ومنها «يحيى» عليه السلام، المرسوم في النص اليوناني للأناجيل بالرسم «يونس» Ioannes على أصل عبري مظنون هو «يوحنان»، أو آراميه «يوحنا» أبدلت حاؤه همزة (سهلت لكونها غير بادئة)، وختم – على خلاف صورته الآرامية – بالكسر لا بالفتح، وأضيفت سين الرفع. وأخيرًا علم المسيحية الأكبر، عيسى عليه السلام، المرسوم في الأناجيل اليونانية «يسوس» Iesous على الرفع، «يسون» على النصب، «يسو» في غير ذلك، وكأنها من يشوع العبرانية ذهبت عينها وأبدلت شينها سينًا.
هذا الاختلاف البين في تلك الأعلام الخمسة بين رسمها في القرآن ورسمها في التوراة والإنجيل، ليس كما ترى ناشئًا عن مجرد «التعريب»، وإنما هو خلاف في جذر الاسم نفسه، رغم أن القرآن ينص تنصيصًا على أنه يعني على القطع بأعلامه هذه نفس مسماها في التوراة والإنجيل، فالجوي هو نفسه مرسى سفينة نوح، وآزر هو أبو إبراهيم وجد إسماعيل وإسحاق، وطالوت هو الملك شاءول الذي خرج داود من عسكره لمبارزة جالوت، ويحيى هو نفسه يوحنا بن زكريا المصدق بالذي هو «كلمة من الله»، وعيسى هو نفسه المولود من عذراء، الذي أبرأ الأكمه والأبرص، وأحيى الميت.
أتظن أن القرآن الذي يقص عليك بدقة مذهلة وعلم محيط، أنباء أولئك وهؤلاء، يخفى عليه أسماء أبطال «قصصه» في رسمها الآخر، وهو شائع ذائع بين معاصريه من أهل الملتين، يهود يثرب، ونصارى نجران؟ كيف يدقق في النبأ ويخطئ في البطل؟ كيف يذكر لك من أنباء الطوفان ما سكتت التوراة عنه، ثم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/125]
«يختر» لمرسى السفينة اسمًا مخالفًا لما سمته التوراة؟ ألم يقع في سمع محمد صلى الله عليه وسلم من أحبار يهود أسلموا أن اسم أبي إبراهيم في التوراة هو تيرح، فلماذا يصر على تسميته آزر؟ كيف يسمي داود وجالوت فيصيب، ثم «يفقد الذاكرة» فجأة في شاءول فيسميه طالوت؟ ألم يحاوره أساقفة نجران ثلاث ليال في مسجده بيثرب وهو يعرض عليهم الإسلام، أفجادلوه بيوحنا ويسوع، أم جادلوه بيحيى وعيسى؟ أيتقن في «قرآنه» كل هذا الإتقان، ثم يسفسف ويخلط في أعلام خمسة؟ أما كانت له في «الناسخ والمنسوخ» مندوحة، فيصوب «أخطاءه» في أعلام التوراة والإنجيل برجال أسلموا من أهلهما أمثال ابن سلام اليهودي وصهيب الرومي؟ أم هو يتحدى بالخطأ ويصر عليه؟
لا يظن هذا من خصوم القرآن إلا هازل. ولكن من علمائهم وأحبارهم من فعلوه.
كان أحرى بهؤلاء وأولئك ألا يطيلوا الوقوف عند أوجه التطابق بين «كتابهم المقدس» وبين القرآن، مطنطنين بدعوى النقل والاستنساخ: إن صح لهم الوحي فالموحي واحد بنص القرآن، وقد تابع الإنجيل التوراة، ولم يعيبوا عليه. بل كان عليهم أن يتوقفوا فيطيلوا الوقوف حقًا عند نقاط مخالفة القرآن الصريحة عامدًا متعمدًا لمحفوظ، مأثور، مسجل في كتبهم، ليتبينوا أي الوجهين أصوب وأدق. ولكنهم لم يفعلوا.
بل من خصوم القرآن هؤلاء ملحدون يدعون اصطناع المنهج العلمي في مقارنة «الأديان» يستوي عندهم – في بطلان دعوى الوحي – التوراة والإنجيل والقرآن جميعًا، فتندهش كيف استباحوا مجادلة القرآن – ثابت الأصل والسند باعترافهم هم أنفسهم – بتوراة مقطوعة السند عندهم، قالوا إنها كتبت من الذاكرة بعد صاحبها بعدة قرون، أو بأناجيل أو ترجمات أناجيل يقولون إن أصلها العبراني المفترض مفقود، لا تدري أين أخطأ المترجم أو أصاب، إلا أن تسلم بالوحي لكتبة الأناجيل اليونانية – كما ارتأت الكنيسةُ من قبل – والملحد المتعالم ينكر الوحي على كائن مَنْ كان.
ولكنك تعلم أن هؤلاء ليسوا بعلماء، وإنما هم «خدام سياسة»، والهوى والغرض كما تعلم داء عضال لا يرجى منه برء.
أما علماء الملتين، فما أنصفوا وما سددوا: القرآن هو السند الأوحد لرأب ما انقطع سنده في التوراة والإنجيل، وهو سند أي سند!
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/126]
بل ماذا ينكرون من القرآن وقد جاءهم القرآن بالخلق والبعث، وبالتوحيد «الخالص» غير ملبوس وغير مهموس؟
ألأنه جاء «بالنبي» الخاتم من نسل إسماعيل لا من نسل إسحاق؟ أليس كلاهما نسل إبراهيم؟
ألأنه وقد أله الواحد، أثبت لعيسى وجبريل عليهما السلام، الربانية والملأكة، ونزهما عن دعوى الربوبية والتأله؟ وهل يؤمن في قرارة قلبه حقًا بتعدد الآلهة أحد؟
أليس أبلغ في تكريم المسيح عليه السلام – وقد شرفه الله برفعه إياه إليه – أن يستجيب الله لابتهالات نبيه، فيخلصه من كيد الذين كفروا، ويجيز عنه «الكأس»، فلا يوقع الصلب عليه؟
أيهما أبين في الإعجاز، وأيهما أنبل وأشرف، أن يولد «ابن الإنسان» بشرًا من عذراء، أم أن يتأنس الإله ويتأله الإنسان؟
ما ضرهم لو آمنوا بالقرآن مصدقًا لم معهم، محققًا، مصوبًا، مهيمنًا؟
ولكن ... لا أحد يلزمه في عقيدته أحد. بل يهدي الله لنوره من يشاء.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/127]
أما الوجه الذي خالف به القرآن كلا من التوراة والإنجيل في تلك الأعلام الخمسة، فالحديث عنه يأتي بإذن الله في موضعه، عندما نتناول بالتحليل أعلام القرآن المعنية في هذا الكتاب، علما علما.
لم يبق من هذا الفصل إلا الحديث عن «أساليب القرآن» في تفسير علمه الأعجمي، وعن خطة البحث فيما بقى من فصول الكتاب. وهذا هو ما ننتقل إليه الآن بعد تمهيد ليس منه بد.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/128]).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 120-128]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 01:39 AM

(4) بيان بعض الفوارق الإضافية بين العربية والعبرية:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة:( (4)
استعرضنا في الفصل الأول من هذا الكتاب الفوارق الأساسية التي تفصل ما بين العربية وبين أختيها العبرية والآرامية على رغم اتحاد الجذور وتقارب مخارج الأصوات، وعللنا إسهابنا هناك بأنه يفيد في استجلاء معنى العلم العبراني في التوراة والإنجيل. ونحن نضيف هنا فوارق أخرى بين العربية والعبرية يتعين الإلمام بها قبل المُضي في البحث، كي يسهل على القارئ الذي لا يعرف تلك اللغة متابعةُ المقابلة بين لفظ العلم العبراني في التوراة والإنجيل وبين صورته الواردة في القرآن.
وسنقتصر بالطبع من تلك الفوارق على الضروري منها لمباحث هذا الكتاب دون أن نُغْفِل فوارق ما بين العبرية والآرامية حالَ ضرورتها لما نتحد عنه.
1- أداة التعريف:
أداة التعريف في العبرية ليست هي الألف واللام (الـ)، وإنما هي الهاء والألف (هَا). وعلماء العبرية يقولون إن أصلها قد كان الهاء واللام (هَلْ)، وكأنها هي نفسها (الـ) العربية، أبدلت ألفها هاء. والعبرية أيضًا تسقط الحرف الثاني من أداة التعريف «ها»، أي ألف المد، وتستعيض عنه بتضعيف أول الاسم المعرف. من ذلك، «هاتورا» (أي التوراة)، التي تصبح «هتورا»، حذف ألف «ها» وضعفت التاء. يستثنى منذ لك أن يبدأ الاسم بأحد أحرف خمسة: أ – هـ - حـ - عـ - ر، عندئذ تظل «ها» ممدودة على أصلها ولا يضعف ما بعدها، كما في «ها أرص» (أي الأرض). وهذا يذكرك بما يسمى «اللام الشمسية»، «اللام القمرية»، في العربية.
أما أداة التعريف في الآرامية فليست (الـ) العربية، ولا (ها) العبرية، وإنما هي ألف مد، يختم بها الاسم ولا تبدؤه، وكأنها كما يقول علماء الآرامية أثارة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/129]
من ألف تنوين المنصوب في العربية سقطت نون تنوينه عند الوقف عليه في مثل «وبالوالدين إحسانا»، لا يظهر التنوين في «إحسانا» وإن بقيت علامته في النطق ألفا ممدودة في آخر الاسم، لوقوفك على رأس آية وانتهاء الكلام. من ذلك في الآرامية «مَلْكا» (أي المَلِك) عرفت بزيادة ألف ممدودة في آخرها.
وأداة التعريف الآرامية، وكذلك العبرية، تصلح أيضًا أداة للنداء. من ذلك في الآرامية قول عيسى عليه السلام للصبية التي حسبت ميتة: «طاليثا قُومي» (مرقس 5/41)، أي «قومي يا طلوة»، واصلها «طاليث» زيت بألف التعريف على النداء في آخرها. ومنه أيضًا في الآرامية «أبا»، واصلها «آب» زيدت بألف التعريف الممدودة في آخرها على النداء، وضعفت الباء بديلاً من تقصير مد الألف البادئة، فأصبح معنها «أيها الأب». تجد «أبا» هذه على لسان المسيح في الأصول اليونانية (مرقس 14/36) في عبارة Pater o Abba اليونانية: أضاف مرقس Pater اليونانية على التكرار ليترجم «أبا» الآرامية لقارئه اليوناني. وإن لم يقلها المسيح بالطبع، الذي اكتفى بـ «أبا» الآرامية التي لا يفهم غيرها حواريوه، لا يحتاجون أن يترجمها لهم المسيح، ناهيك بأن يترجمها لربه الذي يناجيه. ولكن المترجم العربي لم يرد أن يسقط حرفًا مما قاله مرقس في إنجيله اليوناني، فترجم عبارة مرقس اليونانية هكذا: «يا أبا الآب»، فأعضلت على القارئ العربي. صحيح أن «أبا» عربيًا لغةٌ في «أب» كما يقول المعجم العربي، ولكن ما الداعي للمجيء بلفظة «الآب» بعدها؟ أيترجم عربيا بعربي؟ ألا يخشى على القارئ المتعجل الذي يفوته الشكل والنقط أن يفهمها على المنادى المضاف إلى «الآب»، وكأن المسيح يناجي بها أبًا للآب؟ إن أراد التبرك بلفظ المسيح «أبا» فاستبقاه على آراميته، لكان يجمل به أن يقول: «أبًا! أيها الآب!» كما فعل مرقس في إنجيله اليوناني. أو لقال على الترجمة: أبًا! (يعني أيها الآب).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/130]
2- ألف التحلية:
يحدث في العبرية إضافة ألف في أول بعض الأسماء، لا لمعنى، ولا لوزن أو اشتقاق، وإنما للاسمية فقط، فهي الألف الزائدة للتحلية. يحدث هذا في الاسم المعنوي، كما يحدث في الاسم العلم. من ذلك في الاسم المعنوي أمثال «أكزاب» (وتنطق كافها خاء لتحرك الهمزة قبلها كما مر بك)، وأصلها «كزاب» يعني «كذوب» تطلق على الجدول الذي يغيض ماؤه. ومنها أيضًا «أدون» يعني «سيد»، وأصلها «دون» تسمية بالمصدر من دان / يدون العبري (وهو دان / يدين العربي). ومن ذلك في الاسم العلم أمثال «أهارون» وهي «هارون» في القرآن، وسيأتي.
3- المزيد بالنون:

يُزاد بالألف والنون في العربية لمعانٍ منها الصفة، مثل غضبان، ومنها النسب، مثل إنسان (المنسوب إلى الإنس) أو دعامة للنسب مثل رباني (المنسوب إلى الرب)، ومنها المصدر واسم الفعل مثل غُفران وعصيان وغليان وطُوفان، ومنها مجرد الاسم مثل عقربان (ذكر العقرب)، وثعبان، وعثمان (فخر الثعبان أو فخر «الحبارى» الطائر المعروف). وقد تقع الزيادة أيضًا في العربية بالواو والنون وصفا على المبالغة، كما في مَيْسون، وحَيْزَبوُن، وهو قليل.
والأكثر في العبرية هو وقوع الزيادة بالواو والنون. وتجيء أيضًا لمعان منها إفادة التصغير مثل «إيشون» مُصَغر «إيش» (إيش = إنسان) أي «أنيسان»، ومنها المبالغة مثل «عليون» على المبالغة في العلو، ومثل «شمرون» (شمر = حفظ) فهو «حفيظ»، ومنها الصفة على النسب مثل «إشتون» (إشت = امرأة) فهو «المتأنث» الذي يحاكي النساء، ومنها الصفة على الفاعلية مثل «حارون» (حَرَا = حَمِىَ أو احْتَر) فهو الحمي أو الحرور المحتر، ومنها كذلك المصدرية واسم الفعل مثل «هريون» (هرا = حبلت المرأة) فهو الحمل والحبل.
على أن العبرية لا تخلو أيضًا من الزيادة بالألف والنون، والأمثلة كثيرة، منها «هاران» اسم أخ لإبراهيم (هار = جبل) فهو «الجبلى» المنسوب إلى الجبال،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/131]
ومنها «زمران» (زَمَر = غنى) أي «المغني»، ومنها «كوشان» يعني الحبشي (نسبة إلى «كوش» بن نوح)، إلخ.
وأحيانًا تضع العبرية الميم موضع النون في هذا وذاك، فتقول «فديوم» تريد «فديون» يعني «الفدية» وتقول «مريام» والأصل «مريان» مصدرًا من «مرا» العبري بمعنى المراء والتمري، وهو قول علماء العبرية وعلماء التوراة في تفسير معنى اسم أخت موسى وهارون «مريام» وسيأتي. وربما قلت إن «عمرام» اسم أبي موسى في التوراة هو نفسه «عمران» الذي في القرآن أبدلت نونه ميمًا.
ويحدث في العربية أيضًا حذف النون جملة، استخفافًا، كما تجد في «يثرو» اسم حَمِى موسى في التوراة، من الثراء والثروة والتنعم، وأصلها «يثرون»، وكما تجد في «شلومو» وهو سليمان بن داود عليهم السلام، وأصلها «شلومون».
وكما تحذف العبرية النون أحيانًا من الوزن «فعلون»، تحذف أيضًا ياءه البادئة استخفافًا حين تكون مادة الجذر مبدوءة بالياء، في مثل «يَشَر» العبري بمعنى الاستواء والاستقامة، فتقول «يشرون»، ثم تخففها فتقول «شارون» أي السوي المستقيم. وهذا أحد وجوه تفسير الاسم «هارون»، تأخذه من «يهر» العبري بمعنى علا، فتقول أولا «يهرون» ثم تخففها إلى «هارون» ثم تضيف ألف التحلية، فتصبح «أهارون» كما تقرؤها في التوراة العبرانية. ومن هذا أيضًا «قارون» التي في القرآن كما نرجح نحن: صيغت على حذف الياء من يَقَر العبري (وهو «وقر» العربي) فقيل «قارون» أي «الموقر غنى». وسيأتي.
4- المبادلة بالأحرف والأصوات:
تتألف الأبجدية العربية (وهي نفسها الأبجدية الآرامية) من 22 حرفًا يجمعها قولك: أبجد – هوز – حطى – كملن – سعفص – قرشت، ليس فيها المجموعتان (ثخذ – ضظغ) اللتان تختص بهما العربية وحدها. وقد أدى افتقادُ العبرية والآرامية هذه الأحرف الستة الموجودة ي العربية (ث – خ – ذ – ض – ظ – غ) إلى مغايرة بين العربية وبين هاتين اللغتين في أحرف الجذر المشترك حين يدخل في أصله العربي واحد من أحرف المجموعتين (ثخذ – ضظغ) فتبدل منه العبرية والآرامية حرفًا آخر
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/132]
قريبًا من مخرجه. وقد مر بك من هذا «ضحك» العربية، «صحق» العبرية بنفس المعنى، كما مر بك «ظبي» العربية التي تقابلها «صبي» في العبرية، وهلم جرا. من ذلك أيضًا «غدن» العربية بمعنى استرخى ولان، ومنه «اغدودن»، بمعنى طال والتف، أو كان ناعمًا متثنيًا، واغدودن النبت أي أخضر حتى مال إلى السواد من شدة ريه: ليس في العبرية أو الآرامية «غين»، فتستعملان «العين» (غير منقوطة) موضع الغين، في «غدن» العربية، فتصبح «عدن»، وهو اسم جنة عدن في التوراة بمعنى «جنة النعيم»، فلا تدري هل عرب القرآن «عدن» العبرية إلى «عدن»، أم أن القرآن يريد المعنى الآخر من «عدن» العربية بمعنى «أقام»، وتكون «جنات عدن» جنات إقامة، وسيأتي. كذلك ليس في العبرية والآرامية خاء أصلية، وحين تشتركان مع العربية في جذر تدخل فيه الخاء، يتحول توا في العبرية والآرامية إلى حاء (غير منقوطة)، فتصبح «خلق» العربية مثلا «حلق» في العبرية والآرامية، أما ما كان أصلاً في العربية بالحاء فيظل على أصله العربي، فلا تدري هل اسم نوح عليه السلام في التوراة (وينطق «نوح») من النواح، أم هو من الإناخة والتنوخ، أي البقيا والتلبث، وقد فصل القرآن في هذا كما سترى، ولكن المفسرين لم يفطنوا إليه، سيأتي. وقس على ذلك باقي الحروف الستة المشار إليها، مما يأتي في موضعه حين الحاجة إليه.
5- التحورات في الجذر الثلاثي:
لا تكتفي العبرية والآرامية بمغايرة العربية لضرورة أملاها افتقارهما إلى تلك الأحرف الستة التي ذكرت لك، ولكن العبرية (والآرامية أيضًا) تغاير العربية بتنويعات في أحرف الجذر الثلاثي رغم وجود نفس الأحرف في الأبجدية العبرية – الآرامية. وهي تنويعات لا بد أن تتوقعها في لغات من نفس الفصيلة، وإلا لما اختلفت. من ذلك أن الفعل العربي «نصر» بمعنى أيد وأعان، لا وجود له في العبرية بهذا المعنى، رغم امتلاك العبرية لهذه الأحرف الثلاثة، وإنما «نصر» العبري هو بمعنى «نطر» العربي، أي حفظ وراقب (ومنه النواطير في بيت المتنبي «نامت نواطير مصر عن ثعالبها» أي الرقباء الحراس الحفاظ، (أو حرام الكرم خاصة)، أما الجذر العبري «نطر» فهو ليس نطر العربي، وإنما معناه احتجز، ومنه «مطارا»
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/133]
(وأصلها «منطارا») بمعنى «السجن». هذا وغيره كثير يجعلك تلتزم الحذر في تفسير العبري بالعربي عند تطابق الحروف، بل لا بد لك من استشارة المعجم العبري.
من ذلك أيضًا أن السين العربية تنقلب شينا في العبرية، ومن ثم تفهم أن «يسوع» أصلها العبري «يشوع»، والخاء العبرية أصلها كاف في العبرية، فتفهم لماذا أصبحت «ميخائيل» ميكائيل (ميكال في القرآن).
كل هذا وما جرى مجراه، يسمى الإبدال، أي وضع حرف مكان حرف. سواء تطابق المعنى أو تفاوت. ومن أهم أنواع الإبدال التي تغاير العبرية بها العربية وضع الياء موضع الواو البادئة في الجذر العربي (وهي قاعدة لا تتخلف في العبرية والآرامية)، من ذلك أن «وسع» العربية تصح «يشع»، ولكنه في العبرية بمعنى «نجا» أي «أوسع له وفرج عنه»، ومنه اسم عيسى عليه السلام كما سترى. أما الفعل العربي المعتل الآخر بالألف (وقد ترسم في الخط العربي ياء مثل «جرى») فهو في العبرية ينتهي أيضًا في النطق بالألف الممدودة، ولكنه يرسم ألفًا في النادر، ويرسم غالبًا بالهاء، ولكنها هاء خاملة، لا صوت لها إلا المد. ولكننا سنلتزم في هذا الكتاب رسمها دوما بالألف منعًا للخلط بينها وبين الجذر العربي. من ذلك «ورى» العربية تصبح «يرا»، ومنها اشتقت «هتورا» (أي التوراة)، وسيأتي. والمهم أن تلاحظ أن هذه الياء في «يرا»، «يشع» وأمثالهما ليست ياء المضارعة وإنما هي ياء فعل ماض بدئ جذره بالياء، مثل «يسر» العربية بمعنى سهل وأمكن.
ومن الفوارق أيضًا في تصريف الأفعال وصيغ الفعل، أن صيغة «أفعل» التي يسميها النحاة (صيغة التعدية بالهمزة)، تصبح في العبرية «هفعيل» بتغيير الهمزة هاء، وتظهر الهاء في المصدر (إفعال في العربية) أيضًا، مثل «هوشيع» أي «إيساع» العربية، من التوسعة، وهي في العبرية بمعنى الإنجاء والتخليص والنصرة (وهو شيع اسم نبي لبني إسرائيل). ومن ذلك أيضًا صيغة «انفعل» (المسمى بصيغة المطاوعة من فعل)، وهي في العبرية «نفعل» بحذف الهمزة تمامًا وإسقاط كسرتها على النون. وتظهر هذه النون في اسم الفاعل، فيصبح «نوشع» بمعنى «منصور» أو «منتصر)
ونحن نكتفي بهذا القدر، على سبيل التمهيد لما سنوضحه بالنسبة لكل علم عبراني نتناوله بالتحليل في موضعه.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/134]
في اللغة العربية – كما في غيرها من اللغات – جذور أميتت، أعني خرجت من نطاق الاستعمال كفعل يشتق منه ويتصرف فيه، وتبقى منها فقط في الاستعمال صيغ جامدة يعكف اللغويون على ردها إلى أصل مفترض، مستعينين بالسياق الذي تستخدم فيه، فيقتربون من الصواب، ولكنهم لا يحسمون.
أما اللغويون الأثبات فهم يلجأون إلى أداة أكثر حسمًا، وأقمن بالإصابة، فيبحثون عن الجذر المفقود في لغة من ذات الفصيلة، وقد يتسعون فيلتمسون الجذر المفقود في جميع لغات الأسرة اللغوية بكل فصائلها. وهم يستندون في هذا إلى حقيقة ثابتة: الجذر الممات في لغة ما قد يظل حيا في أخواتها، وفي بنات عمومتها.
والجذور التي أميتت في العبرية والآرامية وبقيت حية نابضة في لغتنا العربية، كَمُّ ضخم. أما الذي أميت في العربية وبقي حيًا في العبرية والآرامية، فهو نزر قليل. والذي يعنينا من هذا النزر القليل من مقاصد هذا الكتاب لفظتان اثنتان: «ليس»، «ويب».
أما النحاة فيقولون لك إن «ليس» فعل جامد (ناقص) لا ماضي له ولا مصدر ولا اسم فاعل، يستفاد منه نفي المضارعة من الفعل «كان»، أي أن «ليس» تفيد نفي الكينونة، نفي الوجود، نفي الحدوث، نفي التحقق. ولكن، مم اشتقت «ليس»؟ أصح ما قيل في هذا أنها: لفظ مزجي «مركب من شقين (لا + أيس) أي هي نفي أيس».
ولكن ما «أيس» هذه؟ إنها صيغة ممماتة الجذر أيضًا، يقول لك المعجم العربي إنها ضد «ليس»، بدليل عبارة وقعت في كلام العرب: ائت به من حيث أيس وليس. أي ائت به على كل حال، من حيث وجد أم لم يوجد. لم تقع «أيس» في كلام العرب إلا في هذه العبارة، على التضاد من «ليس». وإذا كانت «ليس» موضوعة لنفي الصفة والحال، ونفي الوجود والتحقق، فلا بد أن تكون «أيس» لإثبات الصفة والحال، وإثبات الوجود والتحقق. أفتكون «أيس» بمعنى الوجود و«ليس» بمعنى العدم؟
ولكن «أيس» أميتت، وبقيت «ليس».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/135]
على أن «أيس» لم تمت في الآرامية والعبرية. فهي في العبرية «يش» بمعنى التحقق والوجود، ومنها عبارة «يش لي»، أي يوجد لدي. ومنها أيضًا عبارة «برا يش مئين» أي برأ الوجود من عدم، تقولها متحدثًا عن الباري عز وجل. ولكن «ليس» هي التي أميتت في العبرية، وحلت محلها «إين» (على الإمالة) وهي التي في «مئين» في «برا يش مئين»، وأصلها (مِنْ + إين). أما في الآرامية، فقد عاشت «أيس» وعاشت «ليس» كلتاهما، ولكن بالتاء المنقوطة ثاء، فهما «إيث» و«ليث»، الأولى لإثبات الوجود والصفة، والثانية لنفي الوجود والصفة. وتجيء «ليث» الآرامية أيضًا اسمًا بمعنى البطلان والعدم.
هذا الائتناس بالجذر الحي في لغة من ذات الفصيلة يجلي فهمك «أيس» بمعنى الوجود والتحقق، ويجلي فهمك «ليس» بمعنى الانتفاء والبطلان واللاوجود.
أفتكون «إبليس» من «ليس»، أي «أبو ليس» بمعنى «أبو الباطل»، مركبة من (أب + ليس) و- وهي في الآرامية «آب + ليث» - كنية صارت عليه علما لحظة فسق اللعين عن أمر ربه ألأنه أول من تأبى على خالقه واستن به بعده كل العصاة، ألأنه أول من قال «لا» لمولاه؟ ألأن عصيانه بدأ بقوله حين أمر بالسجود لآدم: لست بساجد (وهي بالآرامية «ليث أنا يسجد»)؟ إن صح هذا، كانت «إبليس» اسما مزجيا (أب + ليس)، صيغ على زنة نادرة في العربية (إفعيل).
ولن الاسم المزجي يمنع من الصرف وجوبًا، مثل «حضرموت» و«معد يكرب» و«تأبط شرا»، فربما كانت «إبليس» ممنوعة من الصرف في القرآن لهذا السبب وحده، لا لعجمتها.
هذا ما لم تكن «إبليس» عربية من «الابلاس» كما قال بعض المفسرين. ولنا في هذا كلامٌ يأتي بإذن الله في موضعه من هذا الكتاب عند تحليل اسم «إبليس».
ولا عليك الآن من «ويب» بمعنى الويل والضر والمكروه، فقد فهمت ما أعني.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/136]
من أعلام التوراة والإنجيل ما يجيء على النبوءة، وكأن الذي سماه يتنبأ له بما سيصير إليه، فيصدق. وهذا سائغ مقبول إذا كان المسمى هو الله تبارك وتعالى. أي بوحي منه عز وجل. من ذلك قوله تباركت أسماؤه: {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم} [آل عمران: 45] تنصيصًا على تسميته من الله عز وجل باسمه هذا الذي تقرؤه في الأناجيل اليونانية «يسوس» كما تقرؤه في الترجمات العربية «يسوع»، تأصيلاً على جذر عبري هو «يشع / ييشع» أو «شاع / يشوع» (مقلوب الجذر العربي «وسع») من السعة والفرج، أي الذي يوسع له ويفرج عنه، فيخلص وينجو، فهو الناجي، الذي يخلصه الله من كيد شانئيه ومبغضيه وطالبي دمه، فيرفعه إليه، فكان كما سماه الله عز وجل.
أما أن يجيء الاسم العلم على النبوءة من غير الله عز وجل، أي بغير وحي منه تبارك وتعالى، ثم تصدق النبوءة بحذافيرها في المسمى، فهذا رجم بالغيب لا يصح أن تفترضه في المسمى، ولا يليق بك أن تظن به القدرة عليه، وإن صَدف: قد يولد لك ابن فتسميه باسم «صادق» فيكون أو لا يكون. أما أن يولد لك ابن فتسميه يوم مولده «السقا»، وإذا هو يشب فيمتهن «السقاية» بالفعل، فهذا بعيد وغير مقبول. الصحيح أن أصحاب تلك الأسماء وأمثالها لم يتسموا بها يوم ولدوا، وإنما هم شهروا بها بعد تحقق الصفة والحال. من ذلك اسم «أيوب» عليه السلام، حين تشتقه – لا من الأوب والتوب كما فعل المفسرون الذين افترضوا عربية هذا الاسم – وإنما من «الويب» بمعنى الويل والضر والمكروه كما يفعل العبرانيون الذين يشتقونه من جذر عبري غير ممات هو «أيب» العبري بمعنى ضار / يضير أو ضر / يضر، فهو «الضرير المبتلى، أي ذو الضر، كما تجده في القرآن مفسرًا بهذا المعنى ذاته: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} [الأنبياء: 83]، فلا تكاد تشك لحظة في أن أبا أيوب لم يسم ابنه بهذا الاسم يوم مولده «تيمنًا» بما سيقع لابنه من صنوف الضروالبلوى، بل تجرح أن «أيوب» شهرة شُهِرَ بها إمام المبتلين بعد أن «تأيب».
وغير «أيوب» من الأعلام كثير، حتى لتظن أن من أعلام التوراة والإنجيل من لم يسموا حتى أسنوا، ولكنها ألقاب وأسماء شهرة كما مر بك.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/137]
على أن الشهرة كالاسم تمامًا، علم على صاحبها عُرِف به. وهذا يوضح لك لماذا يفسر القرآن أحيانًا العلم المقصود بشهرة صاحبه، فيظن الجاهل أن القرآن أخطأ ولم يصب، كما في شاءول وطالوت، ولكن القرآن المعجز لا يترك مثل هذا الجاهل على وهمه، وإنما هو يلم في ثنايا الآيات بما ظن الجاهل أنه جهله أو غفل عنه، فيصوره لك بمعناه، حتى ليخيل إليك أنه ينص عليه نصًا. بل ربما «شخص» لك القرآن العلم المقصود دون أن يتقدم له ذكر في سياق الآيات، وكأنه يكنى عنه، فتفهم اسم من ذا الذي يعني.
ولكن هذا بعض أساليب القرآن في تفسير أعلامه الأعجمية، تلك الأساليب التي ننتقل إليها الآن).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/129-138]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 01:57 AM

(5) طرائق القرآن في تفسير العلم الأعجمي وبيان منهج المؤلف في كتابه:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (5)
للقرآن في تفسير علمه الأعجمي طرائق شتى، وقع لي بفضل من الله ونعمة استظهار ست منها وهي:
التفسير بالتعريب (ومثاله «ميكال») – التفسير بالترجمة (ومثاله «ذو الكفل») – التفسير بالمرادف (ومثاله «موسى») – التفسير بالمشاكلة (ومثاله «زكريا») – التفسير بالمقابلة (ومثاله «عاد) – التفسير بالسياق العام (ومثاله «لوط»).
وقد تجتمع في تفسير علم واحد أكثر من أداة، فيفسر مرة بالترادف، ويفسر أخرى بالسياق العام، إلخ.، بنفس المعنى أو بقريب منه.
أما التفسير بالتعريب فهو تعريب العلم الأعجمي على وزن عربي يفيد بذاته أصل معناه في لغته.
من ذلك أن القرآن في «ميكائيل» (وتنطق كافها في العبرية خاء لتقدم الياء عليها كما مر بك) لا يعربها على «مكئال»، ولا على «مكئيل»، ولا على «مئكال»، وإنما يعربها على «ميكال»، فيصيب التعريب ويصيب المعنى في آن واحد، كما سترى.
وشرط إمكان التفسير بالتعريب، اتحاد الجذر في اللفظين، الأعجمي والمعرب. ولا يتسنى هذا إلا في لغتين من نفس الأسرة اللغوية، كما هو الحال في اللغتين العربية والعبرية.
ويتعين التنبيه إلى أن «التفسير بالتعريب» ليس هو التفسير بالترجمة: التعريب كما مر بك هو استبقا ءاللفظ الأعجمي في صورته الأعجمية بعد تهذيبه على مقتضى مخارج أصوات العربية وأوزانها، من مثل «جيورجيوس» التي عربت إلى «جرجس»، باستيفاء أحرف الاسم الصحيحة (ج – ر – ج – س) والاستغناء عما عداها،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/139]
فاستقام نطقُهُ على وزن عربي، أي أصبح الاسم الأعجمي عربيًا بصورته، وإن بقي أعجميًا بمعناه، إذ لا معنى للفظ «جرجس» في العربية، لأن اللغتين اليونانية والعربية ليستا من نفس الأسرة اللغوية، فلا تفهم معنى «جرجس» إلا أن يُقال لك إن أصلها في اليونانية «جيورجيوس» وأن معنى «جيورجيوس» هذه في اليونانية «الحارث»، أعني أنك في التعريب تبقى محتاجًا إلى من «يترجم» لك، أما إن ترجمت الاسم العلم إلى معناه في لغتك، غير عابئ بأصل صورته في لغته، كأن تسمى «جيورجيوس» باسم «الحارث» مباشرة فقد أصبت «المعنى» وفاتك المبني»، وينتج عن هذا أن من يسمعك تقول «الحارث» لا يدري إن كنت تقصد رجلاً عربيًا اسمه الحارث، أم تقصد رجلاً يونانيًا اسمه «جيورجيوس» ترجمت أنت معناه إلى «الحارث».
من ذلك في القرآن «ذو الكفل»، الذي لا خلاف على عربيته مبني ومعنى ولا مجال لاشتقاقه من العبرية أو الآرامية، فتتوقف فيه: هل هو نبي عربي لم تتحدث عنه التوراة، أم هو علم من أعلام التوراة، نص القرآن على معناه، ولم ينص على مبناه، وسيأتي.
أما لماذا يعمد القرآن أحيانًا إلى الترجمة ويهمل التعريب، فهذا إعجاز من ثلاثة أوجه: الوجه الأول «العلم»، أصل كل إعجاز في القرآن، والوجه الثاني تحاشى التعريب حين تفيد الصورة التي يعرب عليها الاسم عكس معناه في لغته، مثل «يشوع» بمعنى «الناجي» في العبرية (عيسى في القرآن) المعدول عن تعريبها «يسوع» (كما فعل المترجم العربي في الأناجيل اليونانية) لأن «يسوع» معناها في العربية «الهالك». وأما الوجه الثالث فهو خصيصة من خصائص لغة القرآن: تحاشى الوحشي وتحرى الجمال. ولو علمت أصل «ذي الكفل» في التوراة لأدركت ما أعني، ولما جوزت فيه إلا الترجمة. وسيأتي.
التفسير بالتعريب والتفسير بالترجمة، هو كما ترى متضمن في بنية الاسم ذاته، معربًا أو مترجمًا، لا يحتاج من ثم إلى مزيد بيان، فلا يفسر بغيرهما من أدوات التفسير الست في القرآن: الترادف، والمشاكلة، والمقابلة، والسياق العام.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/140]
أما التفسير بالمرادف، فهو الإتيان بالعلم الأعجمي على التجاور مع مرادف له في العربية يفيد معناه في لغة المتسمى به، كما رأيت من قبل في «ملك / رسول» وكما رأيت في «شيطان / عدو». ولا يشترط في المرادف العربي أن يأتي على صيغة اسمية تفسر معنى العلم الأعجمي، كما في «موسى»، ومعناها في المصرية القديمة «وليد»، تجدها في: {ألم نريك فينا وليدا * ولبثت فينا من عمرك سنين} [الشعراء: 18]، وإنما قد يأتي المرادف أيضًا على صيغة جملة اسمية أو فعلية، كما في: {لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا}[القصص: 9]، والمقصود في الحالتين «موسى»، المحذوف لدلالة السياق عليه. وسيأتي. من ذلك أيضًا «إسحاق» في قوله عز وجل: {وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق} [هود: 71]، وفي ميلاد مريم عليها السلام: {قالت رب إني وضعتها أنثى – والله أعلم بما وضعت – وليس الذكر كالأنثى، وإني سميتها مريم} [آل عمران: 36]، وكما في قوله عز وجل: {يا مريم اقنتي لربك} [آل عمران: 43]، وسيأتي بيان هذا كله في موضعه إن شاء الله.
وليس التفسير بالمرادف كالتفسير بالترجمة كما لعلك حدست: في التفسير بالمرادف يظهر العلم الأعجمي إلى جوار مرادفه العربي الدال على معناه. أما في التفسير بالترجمة فالعلم الأعجمي يختفي تمامًا في كل القرآن، ولا يظهر في القرآن إلا باسمه العربي ترجمة، كماس ترى في «ذي الكفل».
أما التفسير بالمشاكلة، فهو ذلك الجناس المعجب الذي مر بك من قبل في قوله عز وجل: {كهيعص * ذكر رحمة ربك عبده زكريا} [مريم: 1] بين «زكر» العبرية، «ذكر» العربية، لا فرق بينهما إلا إبدال الزاي العبرية ذالاً، مع اتحاد المعنى. إنه فرع من التفسير بالمرادف، ولكنه ليس هو: لاتفاق المرادف العربي مع مرادفه العبري في اللفظ والمعنى، لا في المعنى فقط. والتفسير بالمشاكلة ليس هو أيضًا التفسير بالتعريب، لأن المفسر بالتعريب لا يظهر في القرآن إلا بصورته المعربة، كما في «ميكال»، أما المفسر بالمشاكلة، مثل «زكريا» فيظهر بصورته المعربة هذه، مفسرًا بغيرها.
وأما التفسير بالمقابلة – والمقابلة هي «الطباق» عند أهل البديع – فهي الإتيان بالعلم الأعجمي مقابلاً بعكس معناه، أي أنها عكس الترادف تمامًا. من ذلك في
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/141]
القرآن «عاد» قوم هود، وهي في العبرية – الآرامية من «الأبد»، «الخلود»، و«عدني» عبريًا بمعنى ما زلت وما أزال. ولكن القرآن يقول: {وأنه أهلك عادا الأولى * وثمود فما أبقى} [النجم: 50 – 51]، أي أنه سبحانه أزال الباقية الخالدة التي لا تزول، فيفسرها بما آلت إليه. وسيأتي.
أما التفسير بالسياق العام فهو أنك تستخلص من سياق الآيات وصفًا لبطل الحدث المروي في القرآن، يلابسه ويلازمه حتى تكاد تسميه به، وإذا هو نفسه معنى اسمه العلم في التوراة.
من ذلك اسم «لوط»، ومعناه بالعبرية «محجوب»، الذي تجده مفسرًا بالمقابلة في قوله عز وجل: {وجاء أهل المدينة يستبشرون * قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون} [الحجر: 67 – 68]. ولكنك تجده أيضًا مفسرًا بالسياق العام أو الجو العام الذي توحي به إليك الآيات التي تصور لك لوطًا وهو «يراود» عن ضيفه ولا يملك ما يدافع به إلا أن يفتدي ببناته فلا يقبل منه، ويهمون به ليبطشوا به إلا أن يخلى بينهم وبين ضيفه هؤلاء ليفعلوا بهم ما أرداوا، ويجزع لوط أشد الجزع وقد غلب على ضيفه فيتوجع: {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} [هود: 80]، ولكن ضيفه يهونون عليه: {قالوا يا لوط إنا رسل ربك * لن يصلوا إليك} [هود: 81]، ولكن الملائكة المكرمين لا يحاجزون عن لوط، ولا يبطشون بالكفرة الفجرة، فلم تحن بعد ساعتهم، بل يضربون بينه وبينهم بحجاب، فتغشى الذين ظلموا الظلمة: {فطمسنا أعينهم} [القمر: 37] فيحتجب منهم لوط كما تحتجب الملائكة، ويضرب الليل بأستاره على القرية المجرمة، ويمضي لوط في ساتر الليل متبعًا ما أمر به: {فأسر بأهلك بقطع من الليل} [هود: 81]، لينجو بسحر: {إلا آل لوط نجيناهم بسحر * نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر} [القمر: 34 – 35]، ولا ينجلي الليل عن القرية إلا وقد صبحهم عذاب مستقر: {ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر} [القمر: 38]. وهلك الظلمة ردمًا وعميانًا: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون * فأخذتهم الصيحة مشرقين * فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل} [الحجر: 72 – 74].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/142]
هذا الحجاب المضروب على لوط في إفلاته من بطش الذين كفروا، وفي فراره من القرية الظالم أهلها، حجاب باطنه من قبله الرحمة، وظاهره من ورائه العذاب، ولذلك قيل له: {فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد} [الحجر: 65]. أي النجاء أمامك، وكل ما وراءك هالك، فاجعل القوم وراءك، ولا تلتفت.
هذا الجو العام، الذي توحيه الآيات، سمة يتفرد بها القصص القرآني من دون كل قصص: الحدث المروي في القرآن لا يسرد عليك كما يسرد الخبر ولكنه – على خلاف ما تجد في التوراة والإنجيل – يبعث لك من غياهب التاريخ حيا ناضبا مشخصًا، وإذا أنت في قلب الحدث، تسمع وترى، وقد طويت المسافات واستدار الزمن. تجد قريبًا من هذا في قصة نوح مع قومه (الآيات 25 – 48 من سورة هود) حين يبلغ الحدث ذروته، فتحسب أنك من ركاب السفينة مع نوح وهي تجري بك في موج كالجبال، وربما اشتد بك «الحضور» فهممت بأن تمد يدك إلى قمة جبل حاذاها الماء، تريد أن تلتقط الابن العاق وهو يغرب، ولكن موجة عاتية تحول دونك، فتسترجع ويسترجع نوح، فقد نهى عن ذلك من قبلك، ولا يفرخ روعك إلا بانتهاء المشهد وقيله عز وجل: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك} [هود: 49]، فتثوب إليك نفسك.
هذا لون من وجوه الإبداع الفني المعجز في القرآن، ولو كان موضوع كتابنا هو هذا الإبداع لزدناك، ولكنك تعلم منه ما أعلم، ولم أرد من هذا إلا التمثيل لأسلوب القرآن في التفسير بالسياق العام، أي التفسير بالتصوير.
والذي يجب التنبيه إليه أن التفسير القرآني لأعلامه الأعجمية، أيا كانت أداة التفسير المستخدمة، تفسير به خفاء، ليس هو خفاء التطابق بين المُفَسَّرِ والمُفَسَّرِ به، فالتطابق تام، ولكنه خفاءُ القصد، لأن النسيج القرآني نسيجٌ محكم، بالغ الإيجاز، برئ من الحشو والافتعال، كل لفظ فيه موزون بميزان، معناه مطلوب لذات معنى الآية، واللفظة أو العبارة المفسرة لمعنى الاسم العلم جزءٌ في هذا البنيان المتضام المتكامل، أو أداة لتصوير الحدث نفسه، لا لتفسير الاسم، فلا تفطن إن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/143]
كنت لا تعرف لغة الاسم العلم لوجه «التناسب» بين المفسر والمفسر به، أو لوجه المشاكلة بين هذا وذاك، كما تجد في تفسير اسم «إسحاق» بقوله عز وجل: {وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق} [هود: 71]، فالعبارة هنا تعطيك وقائع الحدث المروي عليك بالكلمة والصورة باختصار بليغ اقتضى من كتبة التوراة عدة أسطر، دون أن يلم «سفر التكوين» (تكوين 18/9 – 15) بكل ما ألمت به تلك الألفاظ الخمسة من سورة هود، فقد سقط منها على سبيل المثال اسم المبشر به «إسحاق» فتنتظر إلى الإصحاح 21 (2 – 5) كي تعلم أن إبراهيم هو الذي سمى ابنه «إسحاق»، وأن امرأته سارة قالت في تفسير الاسم: «قد صنع إلي الله ضحكا . كل من يسمع يضحك لي». ولكنك أمام تلك الألفاظ الخمسة في القرآن بمحضر من مشهد متكامل: ترى سارة قائمة تخدم ضيف إبراهيم، وتفهم بغير كلام أن الضيف (وهم وفد من الملائكة صلوات الله عليهم) قالوا شيئًا ما يتعلق بسارة رضي الله عنها، ضحكت له عجبا وحياء، فأعيد عليها القول، فتفهم أن الذي قالوه قد كان بشارة بالمحال وقوعه لعجوز عقيم أياستها السنون، وكأن الملائكة قالوا: «ضحكت يا أم ضحاك»، تسمية من الملائكة للمولود المبشر به، ولكنك لا تفطن لوجه التناسب بين «ضحكت» و«إسحاق»، لأنك لا تعلم أن «إسحاق» هي «ضحاك»، كما لا تفطن لوجه المشاكلة في عبارة من مثل: أحسنت يا حسن! إن قيلت لك بالإنجليزية هكذا: “Well-done, Hassan!”.
ولكن علمك بلغة الاسم العلم لا يكفي وإن كان شرطًا أول، لأن القرآن لا يفسر لك أعلامه الأعجمية بمثل تلك الصورة المباشرة الفجة: أحسنت يا حسن! فلا يقول لك مثلاً: «وامرأته قائمة فضحكت ولذا سمينا «إسحاق»، حتى يستثار فضولك إلى معرفة معنى «إسحاق» في لغة إبراهيم وسارة، ولا يقصد إلى التفسير قصدا كما فعل كتبة التوراة، فيخطئ الكاتب ويصيب، كما رأيت في تفسير اسم حواء الذي تصدى الكاتب لتفسيره فقال: «ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي» (تكوين 3/20)، يريد أن اسمها أخذ من «الحياة»: (وإن كان آدم أول الأحياء من البشر كما تعلم). القرآن لا يعلل لك تسمية إسحاق بِضَحِكِ سارة،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/144]
فضحكها واقع وقع، وجزء لا يتجزأ من صور الحدث المروي عليك، ملتحم بالمعنى العام للآية، لا حشو ولا افتعال، ولا خروج عن القصد، بل تأتي العبارة سلسلة، ويجيء «إسحاق» في موضعه، غير مقحم، فتظن أنت أن التفسير عارض عرض، بعد علمك بأن «إسحاق» هي «ضحاك»، لا مدخل له البتة في مقصود الآية، فلا تلتفت إليه.
ولكن هذا الذي لا تلتفت إليه بتواتر في كل علم أعجمي مذكور باسمه أو بكنيته في القرآن. فتتساءل أمقصود هو أم غير مقصود؟ أم أنه الإعجاز البياني الذي يؤلف بين الألفاظ والصور على هذا النسق المتناغم المتجانس لا يراد منه إلا هذا؟
وأنا لا أقول لك إن المقصود هو هذا أو ذاك، فلا يملك مخلوق تقييد مقاصد الخالق عز وجل، وإنما الذي أقوله لك هو أن لإعجاز القرآن وجوها هذا أحدها: إنه دليل العلم، ودليل القدرة.
ثمة محاذير في تفسير معنى العلم الأعجمي من القرآن وبالقرآن. وأهم هذه المحاذير ألا تقع فيما وقع فيه بعض قدامى المفسرين، كأن تقول إن «يوسف» من الأسف، معتلاً بالمشاكلة والتجاور بين اللفظين في قوله عز وجل على لسان يعقوب: {يا أسفا على يوسف} [يوسف: 84]، دون أن تمحص معنى «يوسف» من العبرية نفسها، وكأن «يوسف أصلها «يؤسف» لأن يوسف كان سببًا في أسف أبيه. هذه تخريجات لا تفيدك شيئًا، لأن «أسف» العربية ليست بالضرورة جذرًا مشتركًا بين اللغتين، بل هي بالأحرى من جذر عربي آخر لحقه القلب والإبدال: إنها في العبرية من «ضفا» العربية بمعنى نما وكثر، وهي أيضًا من ضاف / يضيف العربية بمعنى أماله إليه وضمه وأضافه، وأيضًا آواه واستضافه، وهذا كله لا صلة له بالأسف الذي تعنيه مادة «أسف» العربية.
والذي أقصده من هذا ألا تتلمس معنى العلم الأعجمي مستدلاً عليه بقرينة التجاور وحدها، فالتجاور ليس هو بالضرورة «الترادف»، وإلا خبطت خبط عشواء فظننت أن «إسحاق» بمعنى «العلم» في اللسان العبراني، مستدلاً على ذلك بتواتر
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/145]
وصف «إسحاق» بالعلم في القرآن مرتين: {قالوا لا توجل * إنا نبشرك بغلام عليم} [الحجر: 53]، {فأوجس منهم خيفة * قالوا لا تخف * وبشروه بغلام عليم} [الذاريات: 28] – يريدون إسحاق. هذا عبث لا يليق ببحث جاد، ولغو لا يصح في كتاب الله عز وجل.
وإنما الصحيح أن تؤصل أولاً معنى العلم الأعجمي في لغته، ثم تتلمس هذا المعنى نفسه في الآيات من القرآن التي تتحدث عن هذا الاسم، مصرحًا به، أو مكني عنه، أو محذوفًا لدلالة السياق عليه، وأنا زعيم لك بأنك ستجد هذا المعنى في كل علم، مرة واحدة على الأقل، وهذا كاف. وحبذا لو تواتر هذا الترادف في أكثر من موضع، إذن لاستبان لك أن هذا الترادف لم يأت عَرَضا. وحبذا أيضًا لو أتيح لك ترجمة تلك الآية من القرآن إلى لغة ذلك الاسم العَلَم، كي يتجلى لك كالشمس سطوعًا تطابق اللفظين في تلك اللغة: الاسم العلم ومعناه. من ذلك قوله عز وجل: {ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه} [يوسف: 69]، وترجمتها الحرفية بالعبرية هي: «ويبؤر إل يوسف ويوسف إلاو أحيو»، ومرة أخرى في قوله عز وجل: {فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه} [يوسف: 99]، وترجمتها العبرية هي: «ويبؤر إل يوسف ويوسف إلاو أبوتاو». في الترجمة العبرية (والترجمة من عندي فلا ذكر لهذا في التوراة العبرانية) تجد لفظة «يوسف» مكررة على التلاصق – يوصف ويوسف – الأولى هي الاسم العلم يوسف عليه السلام، أما يوسف الثانية فهي فعله (ترجمة «آوى»: فلما دخلوا على يوسف آوى إليه) فتستخلص أن القرآن يدلك على معنى اسم «يوسف» عليه السلام بفعل صدر منه – الإيواء والاستضافة – كان بحق محور دوره عليه السلام في تاريخ بني إسرائيل، وكأن الاسم يلخص لك هذا الدور أصدق تلخيص: كان يوسف لبني غسرائيل في مصر نعم «الآوى – المضيف».
ولكن علماء التوراة – وعلماء العبرية أيضًا – يرون أن «يوسف» مشتق من
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/146]
جذر عبري آخر هو «يسف» الذي يفيد الإضافة بمعنى الزيادة، ولا يفيد الإضافة بمعنى «الضيافة»، فهو عندهم بمعنى «يزيد»، ربما لأن أم يوسف قالت في سفر التكوين وهي تضعه إنها سمته يوسف و«يزيدها» الله ابنًا آخر. نعم، قد استجيبت دعوة راحيل فولدت ليعقوب وهي تجود بنفسها ابنًا آخر هو «بنيامين» (أي ابن اليمن والسعد)، وكأنها وهي تسمى يوسف تريد معنى يزيد. وليس لنا بالطبع – ولا لعلماء التوراة أيضًا – ادعاء العلم بمقصد راحيل رضي الله عنها من تسمية مولودها «يوسف» - إن صح أنها هي التي سمته ولم يسمه أبوه – وإنما الذي يعنينا من الاسم منطوقه ودلالته: النطق على المعنيين (يزيد، يستضيف) في العبرية واحد، ولم يتسم باسم يوسف من العبرانيين قبل يوسف بن يعقوب أحد، ودلالة الاسم على مسماه تصح بالمعنى الذي تستخلصه من القرآن (يستضيف) ولا تصح بالمعنى الذي يريده علماء التوراة (يزيد)، لأن «يوسف» لم يكن أكثر الأسباط الاثنى عشر نسلاً، ولكنه كان وحده لبني إسرائيل جميعًا الآوى المضيف، والتسمية على قصد النبوءة فاشية كما تعلم في أعلام التوراة (أو في سفر التكوين على الأقل)، لا يكاد يخلو علم من النص على أن التسمية تنظر إلى ما سوف يؤول إليه، والذي أفسر لك به اسم «يوسف» الآن مفيد لعلماء التوراة في هذا الباب، ولكنهم لم يفطنوا إليه.
والذي يعنينا في هذا المقام أن نسجل للقرآن هذه الأستاذية السامقة في فقه اللغة العبرية، فيستخلص «الإيواء» من يوسف التي تفيد أيضًا «يزيد»، فيصيب المنطوق والمعنى كما يصيب الدلالة التاريخية ليوسف في بني إسرائيل، وسبحان العليم الخبير. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله عند تحليل اسم يوسف في موضعه.
ويعنينا أيضًا في هذا المقام التنبيه على محذور ثان، وهو فرط الوثوق بما ورد في نصوص التوراة من تفاسير تبرر التسمية، فليست هذه التبريرات جزءًا من وحي الله على رسله، وإنما هي اجتهادات الكابت الذي يخطئ ويصيب. بعض هذه الاجتهادات متناقض مع نحو اللغة، فتحيل على الله عز وجل أن يكون هو الموحي،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/147]
وبعض حشو مقحم يتعالم به الكاتب فيزل القلم، ويفتضح الجهل. من ذلك ما تقرؤه في سفر التكوين (تكوين 11/1-9) من تفسير الكاتب لاسم مدينة «بابل» فيقول على لسان الله عز وجل: «وقال الرب هو ذا شعبٌ واحد ولسانٌ واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه. هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض. فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض. فكفوا عن بنيان المدينة. لذلك دُعِي اسمها بابل. لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض. ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الأرض». تصدى الكاتب هنا لما لا يعرف فتردى في أخطاء جسيمة لا تصح من كاتب وحي: أخطأ في حق التاريخ، فظن أن أهل بابل كفوا عن بناء المدينة فلم يكتمل بناؤها، والواقع التاريخي أنها بنيت وحسن بناؤها، بل وكانت من أعظم مدائن التاريخ. وأراد تفسير ظاهرة اختلاف لغات البشر، فوقع في خطأ علمي بين، لأن الناس لا تتباين ألسنتهم فيتفرقون، وإنما يتفرقون فتتباين الألسنة. ولم يكتف بهذا بل افترى على الله عز وجل الغيرة من عباده الذين أتقنوا الصنعة، فبدد شملهم كيلا يتموا ما بدأوه، كما افترى على الله من قبل (تكوين 3/22 – 24) الخشية من أن يغافله آدم، الذي «صار كواحد منا عارفًا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا (بعد أن أكل من شجرة المعرفة) ويأكل ويحيا إلى الأبد. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها. فطرد آدم وأقام شرقي جنة عدم الكروييم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة». وهذا كله أدخل في باب الأساطير والقصص الشعبي، لا يصح في جنب الله عز وجل، فتقطع بأن هذا النص من عند غير الله، لا يلزمك. أما خطأ الكاتب في جنب اللغة، فقد توهم أن «بابل» من البلبلة، فبنى على هذا الوهم كل ما سبق. والصحيح أن «بابل» لفظة أكادية (أي بابلية – أشورية) أصلها «باب + ايلو» تحورت في الآرامية إلى «باب + ايل»، أي «باب الله»، وظنها الكاتب العبراني من الجذر العبري «بَلَلْ» بمعنى خلط واختلط،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/148]
ضعف كما في «زل»، «زلزل» العربية، فصار «بلبل»، ولكن كيف تأتي «بابل» من «بلبل»؟ لا يستقيم هذا بالطبع في نحو اللغة، فيضطر علماء العبرية رغمًا عنهم من بعد هذا الكاتب إلى افتراض ما لا يصح افتراضه، وهو أن بابل كان أصلها بَلْبِلْ! كل هذا ولا يتوقف أحد ليتساءل: ولماذا يستعير البابليون اسمًا من العبرانية لمدينتهم؟
عليك أن تكون من هذه التخريجات وأمثالها على حذر، فليست لها حجية النصوص الموحي بها. تقطع بهذا آمنا مطمئنًا، لأن نسبة الخطأ إلى الله عز وجل لا تصح. بل ينبغي لك أن تؤصل معنى العلم الأعجمي في لغة صاحبه غير متأثر بتفاسير ساذجة أو مغرضة، كما رأيت من قبل في اختراع قصة زنى لوط بابنتيه ليكون لهما نسل من ماء الأب (مو + آب) فيكون منه الموآبيون، تشنيعًا على قبائل الموآبيين بعد أن قهروا بني إسرائيل، رغم أن الموآبيين أسبق وجودًا على الأرض من لوط وابنتيه. أو بتفاسير أملتها العقيدة من بعد، كما تقرأ في إنجيل متى (متى 1/21 -23): «فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع. لأنه يخلص شعبه من خطاياهم. وهذا كله كان ليتم ما قيل من الرب بالنبي القائل هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا يدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا». فتفهم أن الكاتب يفسر لك هذا الاسم العبراني «يشوع» بأن معناه «المخلص»، بل هذا هو ما تصر عليه كل المعاجم المسيحية، رغم تصادم الترجمة مع منطق اللغة العبرية، ولكنهم يقولون لك إن أصلها «يهى – يهى شوع» اختزلت إلى «يشوع»، فلا تفهم لماذا وكيف، ولا تفهم لماذا يتفرد عيسى عليه السلام بهذا التفسير المفتعل من دون كل «يشوع» قبله في بني إسرائيل وقد تسمى به كثيرون، ولا تفهم أيضًا لماذا يستدل متى بنبوءة النبي القائل بأن العذراء تحبل وتلد ابنا يدعون اسمه «عمانوئيل» (الله معنا) وهو ينص في العبارة السابقة على أن اسم المولود سيكون «يسوع»، وقد كذبت النبوءة بهذا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/149]
المفهوم، لأن ابن مريم عليهما السلام دُعي بالفعل يسوع، ولم يدع عمانوئيل. أيريد «متى» أن يعرض بأن هذا المولود هو «الله»، صار جسدًا وحل «بيننا» كما قال يوحنا في إنجيله (يوحنا 1/14)؟ وإذا كان هو الله فكيف «يخلص شعبه» كما قال متى آنفًا؟ أفلله شعب يختص به من دون البشر؟ إن صح هذا في عقيدة اليهود (شعب الله المختار) فهو لا يصح البتة في دين المسيح عليه السلام، الذي شدد النكير على دعوى اختصاص «أبناء إبراهيم» بالخلاص، فقال إن الله عز وجل قادر على أن يخلق من الحجارة أبناء لإبراهيم، ولكن «متى» كما تعلم يهودى تنصر. إلى هذا ومثله يفضي التفسير بالهوى والتفسير بالعقيدة، أو التفسير بغير علم، وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله عند تحليل اسم عيسى عليه السلام في موضعه.
أما المحذور الثالث، فهو أن تظن أن أعلام التوراة والإنجيل جميعًا أعلام ع برانية، تفسر بالعبرية وحدها، غير ملتفت إلى الإطار الجغرافي التاريخي لصاحب الاسم العلم. فأنت لا تتصور مثلاً أن يلتقط آل فرعون موسى من اليم، ثم يتكلفون تسميته تسمية عبرانية «موشيه» بمعنى «اللقيط» (أو الممسو من الماء) وإنما المنطقي أن يتحدث آل فرعون فيما بينهم بالمصرية القديمة، فيسمون الذي عثروا عليه في التابوت باسم مشتق من لغتهم هم، ولا ينتظرون حتى تسميه أخته «التي قصته»، أو أمه التي صارت مرضعًا له. ولا تظن أيضًا أن أم موسى رضي الله عنها ألهمت تسميته «موشيه» يوم وضعته أو يوم قذفت به في اليم، تفاؤلاً بما سيكون من أمر التقاطه من الماء، لو صح هذا لما أخطأت التسمية، ولما قالت «موشيه» على الفاعلية (أي الماسي)، بل لقالت «ماشوى» على المفعولية (أي الممسو)، كي لا يحار من بعدها علماء العبرية في تعليل سبب التسمية على زنة الفاعل، لا على زنة المفعول، عليك إذن أن تلتمس للفظ «موسى» معناه في لغة «آل فرعون»، وستجد أن أصله «مسو» ومعناها «وليد». وسيأتي.
من ذلك أيضًا اسم مريم أم عيسى عليهما السلام، تجدها في أصول الأناجيل اليونانية مرسومة MARIAM بفتح الميم والياء (أي بنفس نطقها في القرآن). كما تجدها أيضًا في تلك الأناجيل اليونانية مرسومة أحيانًا MARIA «ماريا» محذوفة الميم في آخرها، على غير علة من «الإعراب» في اللغة اليونانية. ولكن أحدًا لم يتوقف ليتساءل لماذا فتح كتبة الأناجيل اليونانية «ميم» مريم ولم يكسروها كما في
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/150]
«مريام» أخت موسى عليه السلام، بل أجمعوا على أن مريم أم عيسى عليهما السلام سمية «مريام» أخت موسى (مكسورة الميم) التي يفسرونها في العبرية من «التمري»، «الامتراء». بل ذهب أدعياء الاستشراق إلى أن القرآن، بقوله في سورة مريم: {فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} [مريم: 27، 28]، يخلط بين مريم أم عيسى ومريام أخت موسى وهارون، بدلالة تقريعهم إياها في القرآن بعبارة: «يا أخت هارون»، أي ما كان يليق بك هذا وأنت من أنت، أخت هارون! وسيأتي تفنيد هذا في موضعه إن شاء الله عند تحليل اسم مريم عليها السلام. ولكن أحدًا لم يلتفت إلى أن «الجليل»، موطن مريم عليها السلام شمالي فلسطين، لم يكن عصر المسيح وقبله بثلاثة قرون على الأقل يتكلم العبرية، بل كانت اللغة الفاشية على ألسنة الناس هي «الآرامية»، بعد أن توارت عبرية التوراة في كل فلسطين منذ القرن الخامس قبل الميلاد، فلا تسمع إلا من حبر أو «رباني» (وهي «ربوني» كما تقول الأناجيل) يقرأ من التوراة فلا يفهم منه إلا أن يفسر ما يقرؤه. وقد مر بك أن إصحاحات كاملة من سفر «عزرا» (القرن الخامس قبل الميلاد) كُتبت بالآرامية مباشرة، كما تقرأ في سفر «نحميا» (معاصر عزرا) ما يلي: «وقرأوا في السفر في شريعة الله ببيان وفسروا المعنى وافهموهم القراءة» (نحميا 8/8). وبهذه الآرامية نفسها كان كلام المسيح عليه السلام مع عشيرته وحوارييه. ولا بد أن تتوقع لهذه الآرامية تأثيرًا في نطق الأسماء الأعلام، بل وفي صياغة الأسماء الأعلام، على الأقل بالنسبة لأعلام المسيحية الواردة في الأناجيل، فلا تستبعد أن «تبتكر» في بني إسرائيل عصر غلبة الآرامية على ألسنة الناس، أعلام آرامية التركيب والصياغة يستشكل تفسيرها بالعبرية، ولا يفهم معناها إلا أن ترد إلى الآرامية التي اشتقت منها. من ذلك اسم «مريم» بفتح الميم البادئة لا يصح أن تكون هي «مريام» العبرية مكسورة الميم البادئة، ممدودة الياء، إلا إذا خطأت كتبة الأناجيل اليونانية في رسمها مفتوحة الميم، والإنصاف يقتضي منك – وتوجب نزاهة البحث عليك – ألا تبادر إلى تخطئة كتبة الأناجيل في «تهجئة» الأسماء الأعلام خاصة، قبل أن تلتمس لهم العلة، فقد كانوا – ومنهم خلصاء المسيح وحواريوه – ينطقون تلك الأعلام على الوجه الذي به كتبت، لا سيما والخط اليوناني لا يحتاج إلى الشكل والنقط، بل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/151]
تكتب «مريم» مثلاً: ما – ري – ام MARIAM، لا شبهة في فتح ميمها البادئة. فهي إذن غير «مريام» MIRIAM العبرية، أخت موسى وهارون، من المراء والمرية. ولا يجوز أيضًا افتراض جواز كسر الميم وفتحها في «مريام» العبرية، لأن هذا غير جائز في نحو تلك اللغة. ولا يصح افتراض أنهم «لحنوا» في نطق «مريام» العبرية بتأثير «آرامي» لأن الآرامية لا تفتح مكسورًا في العبرية، وغلا لفتحوا ياء «يشوع» اسم المسيح عليه السلام، وهو اسم عبري خالص، تسمى به قبله في بني إسرائيل أعداد لا تحصى. وإنما الذي يصح منك هو افتراض آرامية اسم مريم أم عيسى عليهما السلام، لا شأن لك بمريام أخت موسى وهارون.
ونحن في هذا البحث نفترض آرامية اسم مريم أم عيسى عليهما السلام، مفتوح الميم، لأنه لا يصح لدينا وجه في تفسير معناه إلا بافتراض آراميته. وهو عندنا اسم مزجي، مركب من عنصرين آراميين: «ماري + أما»، سهلت همزته، ثم رخم، فأصبح «ماري + م»، أي «مريم» (قارن «فاطمة» العربية التي ترخم «فاطم»). أما «ماري» فمعناها بالآرامية «الرب»، أو «رب» على النداء والمناجاة والابتهال، أما «أم» الآرامية فهي نفسها «أمة» العربية، مؤنث العبد، فهي عليها السلام «أمة الرب». والذي يستوقف النظر أنها عليها السلام فسرت اسمها بهذا المعنى نفسه فيما يرويه على لسانها لوقا في إنجيله، ولم يفطن إليه من قارئ هذا الإنجيل أحد: «فقالت مريم هو ذا أنا أمة الرب. ليكن لي كقولك. فمضى من عندها الملاك» (لوقا 1/38)، ولو ترجمت عبارة «أنا أمة الرب» إلى الآرامية، لغة مريم وعشيرتها، لجاز لك أن تقول باللسان الآرامي: أنا لـ «ماري» أما، أي أنا للرب أمة. أما القرآن فيقول: «يا مريم اقنتي لربك» ومعنى القنوت في العربية كما يقول معجمك العربي هو «الإقرار بالعبودية لله»، كما تقرأ في القرآن في مناسبة تسمية مريم قوله عز وجل: {فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى * والله أعلم بما وضعت * وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم * فتقبلها
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/152]
ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا} [آل عمران: 36 – 37]. كانت أم مريم رضي الله عنهما في الآية 35 من سورة آل عمران قد نذرت ما في بطنها للرب محررًا، أي خالصًا لعبادته عز وجل، أي للخدمة في المعبد، عابدًا متحنفًا، وكانت ترجوه ذكرًا تهبه لله، وسألته عز وجل أن «يتقبل منها». وتنبئك الآيتان 36، 37 بأن المولود جاء أنثى على خلاف رجائها فخشيت ألا يصح نذرها بأنثى فقالت «رب إني وضعتها أنثى»، وكأنها حين فوجئت قالت: «أمة يا رب أمة!»، وهي بالآرامية: «ماري! أما!»، ولكن العالم بما وضعت تقبلها بقبول حسن، فهو عز وجل هكذا أراد وقدر، ليخرج منها «علم للساعة»، عيسى عليه السلام، المولود لغير أب، مولودًا من عذراء، لا تزن بريبة، كما قال عز وجل: {يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك * واصطفاك على نساء العالمين} [آل عمران: 42].
أظنك أيها القارئ العزيز قد تهيأت الآن لمصاحبتي فيما بقى من فصول هذا الكتاب، لنحلل معًا العلم الأعجمي في القرآن، علمًا علمًا: معناه في لغة أصحابه، قول مفسري القرآن فيه (إن وجد)، تفسيره من القرآن بالقرآن، وهو المقصد النهائي لهذا الكتاب الذي نكتب.
أما من حيث ترتيب تناولنا لتلك الأسماء الأعلام علمًا علمًا، فقد كانت أمامنا خيارات ثلاثة:
الخيار الأول: أن نتناولها بترتيب «ألفبائي»، أي بترتيب أوائلها على حروف المجم العربي، فنبدأ بإبراهيم وننتهي بيحيى عليهما السلام مُراعين ذات الترتيب في أحرف الاسم التالية للحرف الأول، فيجيء بعد إبراهيم «إبليس» وبعد «إبليس» آدم، وبعد آدم «آزر»، إلخ.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/153]
الخيار الثاني: وهو تناول الأعلام بترتيب نوعها، كأن نبدأ بأعلام الذات، ونثني بأعلام الجنس، وننتهي بأعلام الموضع.
الخيار الثالث: وهو تناول تلك الأعلام بترتيبها التاريخي، فنبدأ بالملائكة وآدم، وننتهي بعيسى ابن مريم، صلوات الله وسلامه على ملائكته ورسله وأنبيائه، غير مفرقين بين علم الذات وعلم الجنس وعلم الموضع، بل يجيء كل في إطاره، فتجيء مثلاً التوراة ومصر مع موسى، ويجيء هود مع عاد، وثمود مع صالح، وشعيب مع مدين والجودي مع نوح، والإنجيل مع المسيح ابن مريم.
وقد آثرنا في هذا الكتاب الأخذ بالخيار الثالث الذي يتناول الأسماء الأعلام بترتيبها التاريخي، لأن الخيار الأول – الألفبائي – وإن كان ييسر رجوع القارئ إلى الاسم العلم بترتيبه «المفهرس»، يعيبه أن ترتيب الأسماء الأعلام ترتيبًا أصم على حروف المعجم يقتطعها من إطارها الجغرافي – التاريخي – اللغوي، فتجيء توراة موسى العبرانية بعد إنجيل عيسى الآرامي اليوناني، ويجيء عيسى آخر أنبياء بني إسرائيل قبل نوح خليفة آدم، بل وقبل أمه مريم رضي الله عنها. أما الخيار الثاني الذي يفصل بين علم الذات وعلم الجنس وعلم الموضع، فيعيبه أنه يقطع مثلاً ما بين الإنجيل وصاحبه، وبين مدين ورسولهم، وبين فرعون ومصر.
أما الخيار الثالث، الذي يحترم وحدة الأرض والتاريخ واللغة، ويراعي التسلسل التاريخي للأسماء الأعلام، فهو في رأينا أفضل الخيارات الثلاثة جميعًا، لأنه يضع الاسم العلم على أرضه، وبين معاصريه، حيًا مشخصًا، يفسر بعضه بعضًا. وهو النهج الذي نلتزمه في أغراض هذا البحث.
أما «الترتيب التاريخي» فنحن نستدل عليه من القرآن حين ينص القرآن عليه، ضاربين صفحا عما سواه، وإن خالفه وتعارض معه، ونستدل عليه من «التوراة» حين لا ينص عليه القرآن. أما أعلام الإنجيل الخمسة التي يتناولها البحث «زكريا – يحيى – عمران – مريم – عيسى، فترتيبهم التاريخي منصوص عليه في القرآن، الواحد بعد الآخر، ترتيبًا يتفق فيه الإنجيل مع القرآن.
ولأن الملائكة رضوان الله عليهم الذين يتناولهم هذا البحث: جبريل وميكال
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/154]
ومالك وهاروت وماروت، هم خارج الزمان والمكان، وكذلك «الفردوس»، «عدن»، «جهنم»، «إبليس»، فسوف نفتتح بحثنا بفصل يتناول هذه الأعلام التسعة مع «آدم» عليه السلام.
ولأنه ليس في القرآن – ما بين آدم إلى نوح – أعلام، باستثناء «إدريس» عليه السلام، الذي اختلف المفسرون في ترتيبه التاريخي على عمود الأنبياء، أهو قبل نوح أم بعده، وإن كانت الكثرة على أنه قبل نوح، فنحن نلحقه أيضًا بالفصل الذي يتحدث عن «آدم»، لا على وجه التسليم لرأي الجمهور، وإنما استدلالاً عليه باسمه في التوراة، لأن «إدريس» في رأينا ترجمة قرآنية دقيقة للفظة «أخنوخ»، جد «لامك» أبى نوح، و«أخنوخ» أصلها العبراني «حنوك» (التي تنطق كافها خاءً لاعتلال ما قبلها)، ومعناها «المحنك» المحنوك، وسيأتي.
أما باقي الأعلام من نوح إلى عيسى عليهما السلام، فتجيء موزعة على خمسة فصول، بترتيبها التاريخي.
وكما لعلك حدست، سيأتي تفسير أعلام الجنس وأعلام الموضع في سياقها المناسب، أي في سياق تفسير أعلام الذوات المتصلة بها.
والله سبحانه ولي التوفيق.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1 / 139-155]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:00 AM

الفصل الرابع: آدم في الملأ الأعلى
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( الفصل الرابع
آدم في الملأ الأعلى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/157]
يتناول هذا الفصل تفسير اثنى عشر اسمًا علمًا، هي: جبريل – ميكال – مالك – هاروت – ماروت – بابل – الفردوس – عدن – جهنم – إبليس – آدم – إدريس.
يتقدم الملائكة، والجن أيضًا، في الخلق على آدم، أي كانوا قبل أن يوجد. تستدل على هذا بمثل قوله عز وجل: {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين * قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين * قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين}[ص: 71 – 85].
تستدل من هذا، ومثله في القرآن كثير، على أن الملائكة رضوان الله عليهم أسبق وجودًا من آدم، لأنهم نبئوا بخلقه من قبل أن يخلق، وأمروا بالسجود له من قبل أن يشرع الله عز وجل في خلقه، وقبل أن يفرغ عز وجل من تسويته، وينفخ فيه من روحه.
وتستدل منه أيضًا على أن «إبليس» كان موجودًا في الملأ الأعلى يوم فرغ الله عز وجل من خلق آدم، بدلالة توجه الأمر إليه بالسجود لآدم. وإبليس من الجن بمقتضى قوله عز وجل: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} [الكهف: 50]. بل الجن أسبق وجودًا من الإنس بنص قاطع في القرآن: {ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون * والجان خلقناه من قبل من نار السموم} [الحجر: 25 – 26]، والجان هم الجن بلا خلاف.
وتستدل من هذا أيضًا على أن اسم «جهنم»، علمًا على النار التي يعذب بها العصاة والكفرة كان معلومًا لإبليس لحظة أن «فسق عن أمر ربه»، لأن الله عز
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/158]
وجل توعده بها هو ومن اتبعه، والوعيد لا يكون إلا بموجود معلوم، فدل هذا على أن جهنم أسبق وجودًا من آدم، لأن إبليس علم أمرها قبل أن يتابى على السجود، أي قبل النفخ في آدم.
بل الجنة أيضًا، أعني «الفردوس»، «عدن»، أسبق وجودًا من آدم، لأن الحكم باللعن تضمن طردَ إبليس منها لحظة تأبى على السجود: {قال فاهبط منها * فما يكون لك أن تتكبر فيها * فاخرج إنك من الصاغرين} [الأعراف: 13]، وقوله عز وجل عقيب هذا مباشرة لآدم: {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} [الأعراف: 19]. وهي نفسها الجنة التي أهبط منها آدم وزوجه بإتيان ما نُهيا عنه، استجابة لوسوسة إبليس. وهي نفسها أيضًا الجنة التي وعد بها المتقون يوم توفى كل نفس ما كسبت. وما «عدن» إلا نعت لتلك الجنة على الإضافة: لا «عدن» في كل القرآن إلا ولفظ الجنة مضاف إليها، منعوت بها. أما «الفردوس» التي وردت مرتين فقط في كل القرآن، فهي كما قال صلى الله عليه وسلم «أوسط الجنة». وسيأتي بيان هذا في موضعه.
ومن المفسرين من غلبت عليه إسرائيلياته فظن أن «إبليس» لم يكن من الجن، وإنما كان من الملائكة، بل كان رفيع الرتبة فيهم، فكان قائد جند الملائكة الذين حاربوا الجن حين أفسد الجن في الأرض قبل خلق آدم، فدخله من ذلك خيلاء وعجب أهلكاه حين أمر بالسجود لمن ظن أنه خير منه. ومنهم من قال بل كان إبليس من الجن الذين حاربهم الملائكة فاسروه صغيرًا وربى فيهم، حتى أسجد الله الملائكة لآدم فشمله الأمر بالسجود. وهي تعلات لتبرير وجود إبليس في الملأ الأعلى يوم أمر الملائكة بالسجود لآدم ودخوله من ثم في جملة المأمورين بالسجود لآدم، أو لتبرير الاستثناء في قوله عز وجل: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس ...} [ص: 73 – 74]. وهي في رأينا تعلات افتعلوها لحل إشكالٍ ما كان لهم أن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/159]
يفتعلوه، فقد نص القرآن على أن إبليس كان من الجن: {إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} [الكهف: 50]. ولم يخبر القرآن ولا الحديث الصحيح بأن صنف الجن كانوا قبل زلة إبليس ممنوعين من دخول الجنة. أما القول بأن إبليس كان من الملائكة المأمورين بالسجود بدليل استثنائه بالحرف «إلا»، فليس بشيء. لأن «إلا» هاهنا يتعين فهمها بمعنى «لكن» - وهذا من فصيح العربية – أي سجد الملائكة، لكن إبليس لم يسجد. يتعين هذا لأن النص القرآني المحكم، أي الذي لا يحتمل إلا معنى واحد فقط، يحكم النص القرآني الذي يحتمل معنيين فأكثر، وليس لعبارة «كان من الجن» إلا هذا المعنى القاطع.
أما دخول إبليس في جملة المأمورين بالسجود لآدم، رغم اتجاه الأمر بالسجود للملائكة وحدهم وليس إبليس منهم، فلك أن تفسره على أحد قولين:
الأول – الذي نرجحه – أن الأمر للملائكة بالسجود يتجه إلى كل من شهده حتى النبت والشجر، فهو سجود الطاعة والإذعان لله عز وجل، لا لآدم، وإن كان مناسبة لتشريفه، وإشعارًا بما سيكون من شأنه. فلا يجوز لكائن من كان أن يحضر سجدة لله عز وجل في غير الصلاة ولا يسجد. ولا يجوز لكائن من كان أن يشهد الملائكة سجدًا ولا يخر على جبهته. وما يكون لك أن تتخيل الملائكة سجدا خشعا وإبليس منتصب في مكانه لا يخنع. وما كانت هذه لتفوت إبليس لولا أن الحقد أطغى قلبه، وأعمى بصيرته. لم تكن هذه السجدة امتحانًا للملائكة، فقد علم عز وجل أنهم لا يعصون له أمرًا، ولكنها كانت امتحانًا لإبليس، فكشف اللعين عن مكنونة نفسه. فأثم بها في حق الله. لا في حق آدم، وأصر عليها فلم يعتذر منها ولم يتب، بل استدرك على مولاه: {قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون} [الحجر: 33]، أي ليس لك أن تأمرني بهذا، فأنا أرفع منه، يحيل على خالقه عز وجل أن يحكم في ملكه كيفما شاء، ويؤصل حجته بما يفندها، فيقول: {خلقتني من نار وخلقته من طين} [ص: 76] مقرًا بأن الله خالقه، فكيف يعصيه؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/160]
أما على القول الثاني فهو أن إبليس أمر بالسجود لآدم أمرًا مباشرًا لحظة إسجاد الملائكة لآدم، ولم ينص القرآن عليه اكتفاءً بدلالة ما تلاه من قوله عز وجل: {قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟} [الأعراف: 12].
كيفما كان الأمر، فإبليس ليس بالقطع من الملائكة رضوان الله عليهم، فهم {لا يسبقونه بالقول * وهم بأمره يعملون}[الأنبياء: 27]. ولم يسو القرآن بين الجن والملائكة، بل هو يضع الجن والإنس في زمرة واحدة، هي زمرة المبتلين بالطاعة والمعصية، من كليهم مؤمن وكافر، ومنهم الفاسق والبار، فريق في الجنة وفريق في السعير، مصداق هذا قوله عز وجل على لسان نفر من الجن: {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا * وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا} [الجن: 14 – 15]، ومنه أيضًا سورة الرحمن التي تخاطب الإنس والجن على سوءا، وفيها: {فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} [الرحمن: 56]، أي أبكار لأصحاب الجنة من الإنس لم يطمثهن إنس فيمن طمثوا من نساء الإنس، وأبكار لأصحاب الجنة من الجن لم يطمثهن جان فيمن طمثوا من نساء الجن.
وهذا يفسر لك بأجلى بيان قوله عز وجل: {إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} [الكهف: 50]، التي تفهم على التفسير كما تفهم على الخبر، أي أنه لو لم يكن من الجن لما فسق عن أمر ربه، ولكنه كان في زمرة المبتلين بالطاعة والمعصية، فغلبته شقوته، وأهلكته كبرياؤه، ولا يظلم ربك أحدا.
ولكن إبليس – وقد خرب آخرته بيديه – استمهل الله عز وجل ألا يزج به من فوره فيدار العذاب ريثما ينتقم لنفسه من آدم وبنيه إلى قيام الساعة، متبجحا على الله عز وجل بأن نسب إليه غوايته بآدم: {قال فيما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم * وعن أيمانهم وعن شمائلهم * ولا تجد أكثرهم شاكرين} [الأعراف: 16 – 17]. لم يطلب التوبة والمغفرة، بل آثر أن يزداد رجسًا إلى رجسه. لم يقل فأنظرني إلى يوم يبعثون
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/161]
أندم وأتب، بل قال فلأضلنهم كما ضللت، ولأغوينهم كما غويت، فنكون في النار سواء: لا أهلك أنا وينجو آدم وبنوه. ولو تاب إبليس لتاب الله عليه، ولكنه الحسد الأسود، والحقد المهلك.
وليست زلة إبليس بالتي تعدل زلة آدم، لأن إبليس زين المعصية لآدم، فكان لإبليس كفل منها، وشرك فيها. أما إبليس فزل بنفسه، أزلته كبرياؤه، فقصد المعصية قصدًا، واستكبر بها استكبارًا.
كانت زلة آدم زلة الغافل الناسي: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى}[طه: 115]. وكانت زلة إبليس على علم، ولا أفدح من سقطة عالم.
على أن الدرس المستفاد من الزلتين واحد: إنه درس الطاعة، أمرك مولاك فأطعه، لا تتمحك بطلب العلة، وكأنك مفوض في الطاعة والمعصية، أو كأن الطاعة والمعصية رهن باستحسانك.
ولا شك أن إبليس كان قبل أن «يبلس» في عداد الجن المؤمن، يعمل في طاعة الله عز وجل، بل سكن الجنة، وجاور الملائكة رضوان الله عليهم، بدليل طرده منها فور عصيانه: {قال فاهبط منها * فما يكون لك أن تتكبر فيها * فاخرج إنك من الصاغرين} [الأعراف: 13] خرج منها الرجيم {مذءوما مدحورا} [الأعراف: 18] لإصراره على المعصية، كما خرج منها أيضًا آدم وزوجه حين استجابا لإغواء إبليس. ولكن آدم وزوجه اعترفا بذنبهما وسألا الله الرحمة والمغفرة: {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 23]. طلبا التوبة فلقنهما الله عز وجل ما يسألان به التوبة: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه * إنه هو التواب الرحيم} [البقرة: 37]. ولم يسألها إبليس، لأنه شغل بعداوته لآدم عما سواها، وإن كان فيها هلاكه هو ذات نفسه. وهذا هو الضلال المبين.
أخرج الله آدم وزوجه من الجنة تائبين، قد أخذ عليهما العهد أن يخلصا له الدين. وما الدنيا بكل ما عليها إلا تمحيص من الله عز وجل لعباده أيهم باق على
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/162]
هذا العهد، مخلص له الدين. وما كان آدم الذي شهد وعاين بالذي ينخدع مرة أخرى بإبليس، فيعصى الله في الأرض بعد زلته في الجنة، ولكن الاختبار لبنيه.
ولأن نسل آدم لم يشهد ولم يعاين: لم يشهد إسجاد الله الملائكة لآدم، ولم يشهد عصيان إبليس، ولم يشهد زلة آدم، ولم يسمع إبليس يستعلن له بالعداوة إلى يوم الدين، فما كان من العدل أن يُتركوا في جهالتهم، يصول فيهم إبليس ويجول. بل شاء الله عز وجل – عدلاً منه ورحمة – أن يودع فيهم دين الحق فطرة، فأشهدهم قبل الاختبار على أنفسهم: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} [الأعراف: 172]، ووصى بها آدم حين مهبطه من الجنة، وقد أهبط معه إبليس عدوًا: {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه: 123 – 124]، فكان آدم عليه السلام أول الرسل والأنبياء، يقص ما كان: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف: 27]، وتتابعت الرسل تترى، كي لا تكون للناس على الله حجة من بعد الرسل، ومن ضل من بعد فإنما يضل عليها، وما ربك بظلام للعبيد.
ويرى المفسرون بحق أن إبليس لم يسم «إبليس» إلا بعد أن أبلس، لأن هذا الاسم – إن اشتققته من العربية – فيه مذمة، والمذمة تكون بعد اجتراح الذنب لا قبله. وهي تكون مساوية للذنب، دالة عليه، أو صفة لصاحبه بما آل إليه. ويروي المفسرون أن إبليس قبل أن يبلس كان اسمه «عزازيل» ثم أبلس بعد، ولم يتعرض المفسرون لمعنى «عزازيل» هذه، لأنهم لا يعرفون العبرية التي يسهل اشتقاق هذا الاسم منها، فتفهم أن الرواية من أقاصيص أهل الكتاب، تصح أو لا تصح، فالله عز وجل أعلم بغيبه. ونحن في هذا الكتاب لا يعنينا في المقام الأول اسم إبليس قبل أن يُبْلِس، لأننا لا نتعرض إلا للأعلام المنصوص عليها في القرآن، لا المروية في غيره.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/163]
ولكن الطريف أن «عزازيل» هذه اسم عبراني مركب (عزاز + إيل) يفسره علماء العبرية بمعنى «الذي أعزه الله»، فهو «العزيز بالله». وهو علم وقعت التسمية به في العبرية، ومثله عزيئيل» (عُزّي + إيل)، أي: «عزة الله» وكأن اللعين حين أقسم بعزة الله: {قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين} [ص: 82]، كان يورى باسمه هو، يقسم بنفسه، لا بعزة الله عز وجل. والله بغيبه أعلم.
والذي يجب التنصيص عليه في هذا السياق، هو النعي على أهل التفسير والسير، وأيضًا على أهل الفن والفكر والأدب، الذين تناقلوا ما دسه إبليس على أوليائه من أساطير وتهاويل لا يخلو منها «أدب الخرافة» في كل الشعوب، تتحدث عن «أمجاد» إبليس قبل أن يُبلس، تريد تفخيمه وتعظيمه وغرس المهابة منه في صدور الناس، حتى خصوه بأضوأ كوكب في السماء الدنيا، كوكب الصبح! أي كوكب «الهرة»، وجعله بعضهم ندًا لله، وجعله بعضهم شهيد البطولة في محنة السجود لآدم، وأول من قال «لا». ليس التنكر للخالق عز وجل بطولة، لا صحيحة ولا زائفة، وإنما هو وضاعة. هذا كله فسوق وصغار: لا يجوز لمؤمن تجميل ما قبحه الله، ولا يجوز لمؤمن إعلاء ما وضعه الله أسفل سافلين. لا يجز لمؤمن تمجيد ما رذله الله، ولا يجوز لمؤمن تعظيم من لعنه الله، ناهيك بموالاة عدو الله. بل لا يجز لعاقل موالاة من أقسم ليجرنه وراءه إلى قاع جهنم.
أيما كان الأمر، وأيما كان حال إبليس قبل أن يبلس، فقد ضرب لك الله بإبليس المثل: لا يتعظمن أحد على الله، ولا يستكبرن أحد على طاعة الله، ولا يستنكفن أحد من الخضوع لله. قد هلك بها إبليس أول هالك، فحذار أن تزل به، فتشركه المصير الذي اختار لنفسه.
لا يترحمن أحد على إبليس، وقد أقسم لا يرحمك. ولا يتباكين أحد على إبليس، فلم تدمع لإبليس عين: كان إبليس عدو نفسه، قبل أن يكون عدوك.
أما الملائكة رضوان الله عليهم، ولا يعلم جنود ربك إلا هو، فقد سمى القرآن منهم خمسة: جبريل – ميكال – مالك – هاروت – ماروت.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/164]
والملائكة من غيب الله عز وجل. وغيب الله عز وجل حضور غير مشهور، إلا من ارتضى من نبي أو رسول. إنهم جند الله عز وجل، العاملون بأمره، المتنزلون برسالاته، الساعون في قضائه. منهم حملة عرش ذي الجلال، ومنهم الحفظة الكتبة، ومنهم السفرة الكرام البررة. أثنى الله عليهم في القرآن الثناء الحسن، ونعتهم بكل جميل: امتدحهم بالإخبات والطاعة: {لا يسقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 27] وضرب بهم المثل في القدر والقدرة: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي} [الأنعام: 50] وأنعم عليهم بالقرب: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون} [النساء: 172]، وخصهم بالجوار منه عز وجل: {إن الذين عند ربك} [الأعراف: 206]، وشرفهم بالمعية: {وجاء ربك والملك صفا صفا} [الفجر: 22] وبسط لهم في الخلق: {الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء} [فاطر: 1].
وهم رضي الله عنهم رُتَبٌ ومَراتب، كما تجد في قوله عز وجل: {والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} [الحاقة: 17]، أعلاهم الروح الأمين، وأدناهم إليك رفيق عمرك، الحافظ الكاتب: {إن كل نفس لما عليها حافظ} [الطارق: 4]. وهما اثنان: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ منق ول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 16 – 18]، لا يتركانك حتى يسلماك إلى ما قدمت لنفسك: {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} [ق: 21]. كلهم من أمر الله، وبأمر الله، وفي أمر الله، محمود بالطاعة فيما أمر، سواء ملائكة الرحمة وملائكة العذاب: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: 6]، يمتدحهم بالغلظة والشدة في طاعته عز وجل، صدوعا بأمره، وتحقيقًا لوعيده. ومنهم أيضًا رضي الله عنهم الذين يصلون عليك: {هو الذي
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/165]
يصلي عليكم وملائكته} [الأحزاب: 43]، ويستغفرون لكل من آمن: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم} [غافر: 7-9]. والملائكة الذين يستغفرون للذين آمنوا في هذه الدنيا، يتلقونهم في الجنة بالسلام، وقد استجاب الله دعاء الملائكة فيهم: {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد: 23 – 24]. والسلام الذي هو تحية الملائكة رضوان الله عليهم لأهل الجنة، نشيد في الجنة دائم: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما}[الواقعة: 25-26].
ولأن الملائكة رضوان الله عليهم أقرب الخلق من الله عز وجل، فهم أعبد الخلق لله: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 19-20]، لا يملون ولا يسأمون: {فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون} [فصلت: 38]. ولأنهم رضي الله عنهم أعرف الخلق بالله عز وجل، فهم أخشاهم له: {ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته} [الرعد: 13]، {وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء: 28]. وهم على مكانتهم رضي الله عنهم ورضوا عنه لا يتجاوزون أقدارهم، فلا يسبقونه عز وجل بالقول، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى: {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} [النجم: 26].
عصم الله الملائكة من أن يفتتنوا بأنفسهم، ولكن من الناس من افتتنوا بهم فعبدوهم، بل اتخذ بعضهم من الملائكة أصنامًا إناثًا آلهة، من مثل العزى واللات
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/166]
ومناة، وقد رد الملائكة على أولئك الذين ظلموا أنفسهم بعبادتهم: {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} [سبأ: 40-41].
هذا قول الملائكة رضوان الله عليهم فيمن عبدوهم من أهل الجاهلية الأولى، وهو قولهم فيمن يعبدون إلى اليوم «روح القدس» جبريل عليه السلام: {كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا} [مريم: 82].
ومن الملائكة أيضًا من جعله الله فتنة وابتلاء. ذكر الله من هؤلاء في القرآن اثنين: هاروت وماروت.
وشبيه بفتنة هاروت وماروت في بابل، فتنة السامري الذي صنع لبني إسرائيل في التيه «عجلاً جسدًا له خوار». صنعه من ذهب القوم. أوقد عليه ثم ألقى فيه «قبضة من اثر الرسول» أي من جبريل الروح الأمين، فصارت به صورة من حياة، هي ذلك الخوار: {قال فما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي} [طه: 95- 96]. ضل السامري بما انكشف له، فأضل بني إسرائيل معه على علم: {فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى} [طه: 88]، أي ذهب موسى لموعدة ربه في جانب الطور الأيمن، ناسيًا أن «العجل» الذي خلفه وراءه هو إلهه!.
وشبيه بهذا أيضًا محنة داود عليه السلام، حين افتتن بامرأة صاحب جنده، فضمها إلى نعاجه، ولديه من قبل تسع وتسعون، فتسور عليه الملائكة المحراب، يضربون له المثل ويذكرونه: {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/167]
ليبغي بعضهم على بعض، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} [ص: 21 – 25]. فهم داود عليه السلام أنه مدعو إلى الحكم في قضيته هو نفسه. أفتأخذه العزة بالإثم؟ كلا، بل تاب وأناب: أدان نفسه قبل أن تدان. وكانت فتنة الملائكة لداود تذكرة: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [ص: 26].
والذي يجب التنبيه إليه أن الفتنة من الله عز وجل هي على أصل معناها في اللغة: تمحيص واختبار. ليست هي الغواية والإضلال، بل هذان هما عاقبة الفتنة حين يسوء المآل. إنها امتحان فرض عليك، وموقف زج بك فيه: تخرج منه إما إلى الهدى وإما إلى الضلال. وطوق النجاة ذكر الله عز وجل. إن ذكرته ذكرك فنجاك. وإن عميت فقد اخترت لنفسك.
وليست الفتنة بالملائكة كغواية إبليس. فتنة الملائكة تمكين وتعليم. ثم تنبيه وتحذير، كما تجد في قوله عز وجل على لسان هاروت وماروت: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} [البقرة: 102]. أما غواية إبليس فإملاء واستدراج إلى الزيغ والضلال. إنه يعمي عليك أمره. لا يقول لك أنا إبليس، جئت أضلك وأغويك! ولكنه يأتيك في ثوب الوسواس الخناس، يخامر عقلك، ويحدثك بلسانك، فتظنه حديث النفس. وربما ضبطته وهو يفسد قراءتك ويقطع عليك صلاتك. وهو حين يحدثك يجمل لك السيئة ويحسن القبيح، وربما أطراك فأرداك. وهو يقعد بك عن النهوض في طاعات الله عز وجل، ويهيجك إلى الفحشاء والمنكر والبغي. وهو لا يكتفي منك بمعصية الله خالقك، وإنما لا يزال بك حتى يوئسك من رحمته، فتمعن ولا تبالي، وتصر على ما أنت فيه، قد أخذتك العزة بالإثم، فيعي البصر والبصيرة، ولا يفلتك حتى تنطق بكلمة الكفر، فيهوي بك معه في قاع جهنم، وكأن الله لم يحذرك وينذرك.
وقد تتساءل: أو لم يكف بني آدم الغواية بإبليس، حتى يفتنهم الله بالملائكة؟ لا عليك. هذا من تلبيس إبليس: الله عز وجل لا يفتنك بالملائكة فحسب، وإنما هو
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/168]
يفتنك بهذه الدنيا جميعًا خيرها وشرها: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35]، لأن هذه الدنيا بكل ما عليها هي دارُ الفتنة، أي دارُ التمحيص والابتلاء، على أصل معنى الفتنة في اللغة كما مر بك. وإبليس يريد منك أن تنسى هذا، فتضيع فرصتك، وتسقط في الامتحان. يريد منك أن تنسى الغاية الوحيدة في وجودك في هذه الدنيا، فتجعل الدنيا غايتك، وتظن أنه ليس بعد هذا الحياة حياة: {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} [الأنعام: 29]. والله عز وجل لا يفتنك ليرديك، وإنما هو يفتنك ليكشف لك عن معدنك، ويشهدك على نفسك، وهو بها أعلم: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة} [الأنفال: 42]. فكن منه عز وجل على ذكر لا يغيب، فلا تضل ولا تنسى. وذكر الله عز وجل أكبر من العبادات كلها، وهو أكبر منها لأنه الغاية من ورائها جميعًا: الصلاة تُريك نفسك في صورة العبد خمسَ مرات في اليوم والليلة، فتذكرك بمن أنت. والزكاة تدلك على أنك عامل في أرض الله بأمر الله، تؤدي خراجها في سبيله عز وجل وفق ما أمرك. والصوم يذكرك بأنك طاعم من رزق الله، إن شاء أطعمك، وإن شاء حرمك، والحج لمن استطاع إليه سبيلا يذكرك بالمنتهى، في يوم مجموع له الناس، وقد تقطعت بهم الأسباب إلا من وجهه عز وجل، كلهم ضارع إليه، يستغفره ويسأله ويستعينه. إن أحسنت الذكر أحسنت العمل. لا سبيل إلى هذا إلا بذاك: العبادات غايتها الذكر، والذكر غايته العمل، أي أن تعمل في هذه الدنيا بما ذكرت به في كتاب ربك وسنة نبيك، منهاجًا وتطبيقًا. هذه هي غايتك العظمى لا غاية بعدها، لأنها وحدها مدخلك إلى الجنة التي أهبط منها أبواك من قبل بإغواء إبليس وتريد رغم أنفه أن تعود إليها.
أكرم العباد على الله أعبدهم. وأعبد العبد أعمله بما أمر: قد أصاب من قال «العمل عبادة» إن أراد هذا المعنى وحده، لا من أضله إبليس فقطع ما بين العبادة والعمل.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/169]
ولا يكتمل الحديث عن الملائكة رضوان الله عليهم إلا بالحديث عن «الروح» وقد ورد لفظ «الروح» بفتح الراء في القرآن ثلاث مرات، وورد لفظ «الروح» بضم الراء في القرآن عشرين مرة. وليست هذه كتلك، وإن اشتق اللفظان كلاهما من مادة لغوي واحدة، تدور معانيها على الحركة والخفة والانتشار.

أما «الروح» مفتوح الراء، فمن الراحة والترويح، أي الفرج وذهاب الهم والغم، وقد وردت في القرآن مرتين مضافة إلى الله عز وجل في قول يعقوب لبنيه: {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف: 87]، وفسرت في الموضعين بمعنى «فرج الله»، وقيل بل «رحمة الله»، وليس للرحمة هنا مكان من أصل معنى اللفظ في اللغة، ولكنه تفسير بمجمل المعنى المستفاد من السياق العام للآية، وقد درج على هذا كثير من المفسرين، فأقحموا على معاني المادة اللغوية في المعجم العربي «مجازات» لا داعي لها: لا شك أن فرج الله رحمة منه عز وجل، ولكنك هنا تفسر الشيء لا بماهيته وإنما بالدافع إليه. وهذا لا يصح في اللغة، إلا أن يقال لك إنه تأويل ارتآه بعض المفسرين لا أصل له من ذات مادة اللفظ، أرادوا به تقريب المعنى للقارئ، وغيره كثير. أما المرة الثالثة التي وردت فيها كلمة «الروح» مفتوحة الراء، فهي في سورة الواقعة: {فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم} [الواقعة: 88 – 89]، وهي على أصلها بمعنى الراحة والاسترواح، وإن تأولها بعض المفسرين على معنى النعمة والنعيم.
وليست كذلك «الروح» مضمومة الراء، وهي التي تعنينا هنا. «الروح» بضم الراء معناها النفس، أو ما تكون به حياة النفس. والنفس من النفس. هكذا هي في كل اللغات (قارن Psyche اليونانية وأيضًا Spiritus و Anima اللاتينيتين وما اشتق منهما في اللغات الأوروبية الحديثة)، لأن الرُّوح من «الرِيح» أي الهواء إذا تحرك.
أما لماذا جاءت «النفس» من النفس، واشتقت «الروح» من الريح، فلأن الناس منذ أن وجدوا أدركوا أن النفس والتنفس هما علامة بدء الحياة في الحي يوم ولد، وأن انقطاعهما علامة موته حين يموت. فاستنبطوا من هذا أن الحياة هي تلك النسمة التي بها قوام الجسد، إن دخلته حيًا، وإن فارقته عاد كأن لم يكن. ولكنها
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/170]
خفيت ودقت كما تخفي النسمة وتدق، يحس أثرها، ولا يرى شخصها. وهي تدخل أنف المولود رغم أنفه لحظة يولد، وتخرج منه رغم أنفه حين يموت، لا يملك استبقاءها، ولا يملك استرجاعها. فمن أين جاءت، وإلى أين تذهب؟ أما الجسد الذي خلفته وراءها فقد عرفوه: رأوه يفسد بذهابها، ثم ينحل ترابًا وكأنه من التراب جبل. أما هي، فإلى أين صعدت؟ أمن العلاء جاءت وإلى العلاء تؤوب؟ فمم هي؟ بل ما هي؟ قد كانت في الجسم هي صاحبة الأمر والفعل، وفارقته فلا حس ثم ولا كيان ولا شأن. أتكون هي عين وجوده؟ أتكون هي هو؟ بل هي ذاته، اتخذته رداء تلبست به زمنا، ثم انسلت منه.
وللروح في القرآن معنى آخر. فأنت تعلم مثلاً أن الملك المتنزل بالقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم هو جبريل عليه السلام: {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} [البقرة: 97]، كما تقرأ في مصحفك قوله تبارك وتعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} [النحل: 102]، فتستدل من هذا على أن «روح القدس» هو جبريل بلا خلاف. وتقرأ في مصحفك أيضًا قوله عز وجل: {نزل به الروح الأمين} [الشعراء: 193] فتعلم أن جبريل هو «الروح الأمين»، أي أنه روح أو هو الروح. وهو أيضًا رسول الله إلى مريم: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [مريم: 17ي، النافخ في التي تبتلت لله عز وجل: {ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا} [التحريم: 12]. وهو أيضًا روح القدس الذي أيد الله به عيسى: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} [البقرة: 253]. كرم الله جبريل عليه السلام بالإضافة إليه جل وعلا، كما رأيت في قوله عز وجل {فأرسلنا إليها روحنا}، وكرمه أيضًا بإفراده بالذكر مع الملائكة: {تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4]، {يوم يقوم الروح والملائكة صفا} [النبأ: 38]، {تنزل الملائكة والروح فيها} [القدر: 4]. ولا يصح أن تقول في جبريل عليه السلام – بَلْهَ في كائن من كان – إنه «روح الله»، لأن في هذا شبهة الإلحاق بالذات، وذات الله عز وجل أعظم وأجل من أن يخوض فيها بالقول ذو علم، وإنما تقولها كما قال القرآن مضافة إلى ضمير منه عز وجل، على التبعية والملك، أو تقول كما قال القرآن «روح من أمره» أو «روح منه».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/171]
ليست الروح إذن – في كل القرآن – هي تلك الذات المتلبسة بالجسد، فهو لا يستعمل في معنى تلك الذات إلا لفظ «النفس»، كما تجد في قوله عز وجل: {ونفس وما سواها} [الشمس: 7]، {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا} [الانفطار: 19]، {الله يتوفى الأنفس حين موتها} [الزمر: 42]، {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم} [الأنعام: 93]، {وإذا النفوس زوجت}[التكوير: 7]، {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخل في عبادي وادخلي جنتي} [الفجر: 27 – 30]، فتقطع بأن النفس غير الجسد بدليل خطابها على حدة بعد خروجها منه، وتوقن أنها باقية بعد فنائه، لأنها تؤمر بالدخول فيه يوم النشور.
وليست الروح أيضًا هي القرآن، كما فسر بعض المفسرين قوله عز وجل: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى: 52] لأن الروح هاهنا هو جبريل، وأوحينا إليك يعني أرسلنا إليك، تنسيقا على قوله عز وجل في الآية السابقة مباشرة: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه من يشاء إنه علي حكيم وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ...}، والرسول هنا هو الملك بلا خلاف. ولكن هؤلاء المفسرين يتوسعون كما مر بك، فيأخذ عنهم أصحاب المعاجم، ويقحمون على المعجم العربي أن «الروح» مضموم الراء من معانيه «القرآن»، كما أقحموا عليه من قبل أن «الروح» مفتوح الراء من بعض معانيه «الرحمة».
أما قوله عز وجل: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} [النساء: 171] فتفهم منه أن عيسى عليه السلام كلمة من الله عز وجل، أي كان بكلمة منه: قال له كُنْ فكان، شأن الخلق أجمع. وأنه عليه السلام روح منه أي نفخة منه عز وجل، كنفخته في آدم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/172]
أبى البشر، لا أب لآدم ولا أم، والنفخة في اللغة والنفثة والنفس أيضًا واحد، ومن هنا جاءت تسمية النفس روحا، لأنها كانت به.
أفكان النافخ جبريل عليه السلام بأمر منه عز وجل؟ قد تستظهر هذا من قوله تبارك وتعالى على لسان جبريل: {قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا} [مريم: 19]، واسند فعل «النفخ» إلى الله عز وجل: «فنفخنا فيه من روحنا»، لأنه تبارك وتعالى هو الآمر به، لا حول ولا فعل إلا بأمره، أي هي نفخة من الملك بأمر من مالك الملك.
وتستطيع أن تنسق على هذا قوله عز وجل: {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [ص: 72 – 72]، فتفهم أن جبريل روح من الله عز وجل، وأن النفخة في آدم كانت به. كما كانت في عيسى عليه السلام، شأن الخلق أجمع. وربما قلت إن جبريل عليه السلام هو الملك الموكل بنفث الحياة في الأحياء بأمر الله عز وجل، كما قيل إن ميكال عليه السلام هو الملك الموكل بقبضها. هذا يفسر لك فتنة النصارى بجبريل عليه السلام، الذي أيد الله به عيسى حين صنع من الطين كهيئة الطير ونفخ فيه فصار طيرًا بإذن الله، كما أيده في إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الميت. ويروى بعض المفسرين أن جبريل عليه السلام ما وطئ ترابا إلا صارت فيه نسمة من حياة. وهذا يفسر لك فتنة «السامري» بجبريل: بصر بما كان من أثره، فقبض قبضة منه، ونبذها في مصهر الذهب الذي صنع منه العجل، صنمًا ليس له من الحياة نصيب إلا هذا الخوار الذي كان فيه من أثر جبريل.
وإذا كان القرآن قد خص جبريل عليه السلام تنصيصًا باسم هو «روح القدس»، «الروح الأمين»، وبعبارة «روحنا» في قوله عز ولج «فأرسلنا إليها روحنا»، والمعنى بها جبريل بلا خلاف فلك أن تقول إن «الروح» مضمومة الراء في القرآن معناها الملك، أو ملك رفيع الرتبة في ملائكة الله عز وجل، ولا يعلم جنود ربك إلا هو، لا تستطيع أن تخص بها جبريل وحده، فالله بغيبه أعلم. وربما جاز لك أن تقول إن «الروح» مضمومة الراء في القرآن هي تسمية على المصدر من «راح» بمعنى «ذهب»، أي الذاهب في أمر الله، فهي بمعنى الرسول، تماما كما تعني لفظة «المَلَك».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/173]
ولكنك لا تخوض في غيب الله، فأنت مكفوف عن استقصاء ماهية «الروح» بمقتضى قوله عز وجل: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: 85]. وسواء أكانت الروح المعنية هنا هي جبريل كما قال بعض المفسرين، أو هي النفس المتلبسة بالجسد كما قال أكثرهم، فأنت منهي عن الخوض في هذا أو ذاك، محجوب عنك في هذه الدنيا حقيقة هذا أو ذاك. ومن إعجاز الله في خلقه – إن كانت «النفس» هي المعنية في الآية – أن السائل يتساءل عن نفسه، لا يدري ما هي، وهي ذاته، فما بالك بالخائضين في ذات الله عز وجل؟
نقول لهذا السائل وأمثاله من الخائضين في «عالم الروح»: لن تعلم النفس حقيقة ما هي، حتى تغادر هذا الجسد، في يوم جد قريب، طال الأجل أم قصر. فسح الله لك في عمرك بالخير، فلا تتعجل.
وقد جعل الله الإيمان بالملائكة رضوان الله عليهم فرعًا من الإيمان به عز وجل: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} [البقرة: 177]، وجعلهم شهوده: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون} [النساء: 166]، وجعل الكُفْرَ بهم فرعًا من الكفر به عز وجل: {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا}[النساء: 136]، وجعل عداوتهم من عداوته سبحانه: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} [البقرة: 98].
حسبك هذا في الملائكة رضوان الله عليهم، فليس بعده مزيد يقال.
كان هذا أيها القارئ العزيز تمهيدًا لا بد منه للتعرف على أعلام هذا الفصل، التي نتناول إن شاء الله تسير معناها من القرآن بالقرآن، وهي: جبريل – ميكال – مالك – هاروت – ماروت – الفردوس – عدن – جهنم – إبليس – آدم، نضيف إليها من علم الذات نبي الله «إدريس» على افتراض تقدمه في الترتيب التاريخي على نبي
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/174]
الله نوح عليه السلام. كما نضيف من علم الموضع «بابل»، التي وقعت بها الفتنة بهاروت وماروت، ومجموع هذا وذاك اثنا عشر اسما علمًا.
ولأن الله عز وجل قدم جبريل، فنحن نبدأ به، متوكلين على الله عز وجل، نستلهمه الصواب، ونعوذ به من الجهل والجهالة، ونسأله الصفح والمغفرة إن نسينا أو أخطأنا).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/157-175]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:02 AM

(1) جبريل
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (1)
جبريل
«جبريل» علم أعجمي بلا خلاف: إنه تعريب «جبريئيل» العبرية. وهو اسم «مزجى»، مركب من شقين عبريين: جبري + إيل.
أما الشق الأول، جبري، فاصلها «جبر» زيد بياء علامة على الإضافة إلى ما بعده، وتحولت حركة حرفيه الأولين – بسبب الإضافة أيضًا – من كسرتين متتابعتين (جبر)، إلى فتح فسكون (جبر). أما معناها في العبرية فهي اسم صفة على الفاعلية من الجذر العبري «جبر» بمعنى «قوي» و«اشتد»، فهو الشديد القوي. وهذا هو أصل معنى مادة جبر في لغتنا العربية: جمد في العبرية على أصله، وفرعت منه العربية معاني تدور، إن تمعنت، على هذا الأصل نفسه، من مثل «جبر عظما»، «جبر خاطرا»، «جبر ناقصا» (وهذا أصل معنى علم الجبر)، ومنها أيضًا «أجبره» أي قهره وغلبه وألزمه، أي كان عليه مكينا متمكنا، تجبر عليه أي كان عليه «جبارا». «جبر» العبرية إذن من الشدة والقوة. لهذا تستخدم العبرية الاسم «جبر» بمعنى «رجل»، والمقصود منه تمام الرجولة، أي الفحولة، فتجيء «جبر» بمعنى الزوج والبعل، كما تجيء بمعنى السيد القرم الشجاع (وهي نفسها «جبار» العربية)، وتجيء أيضًا بمعنى الجندي الشديد المراس في الحرب، أو البطل. وهذا كله لا يخرج باللفظ عن أصل معناه: القوة والشدة والجبروت («جبورا» العبرية». ويلاحظ أن الآرامية والعبرية في هذا كله – أو معظمه – سواء.
أما الشق الثاني من «جبريئيل» العبرية – الآرامية فهو «إيل» اسم الله عز وجل.
معنى «جبريئيل» إذن في العبرية – الآرامية هو «جبار الله» أي ملك الله الشديد القوي.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/176]
ولا عليك ممن يترجمون «جبريئيل» العبرية إلى الإنجليزية God of Man (رجل الله)، أو God of Soldier (جندي الله)، فهؤلاء لا يتعمقون أصل المادة في اللغات السامية: الملائكة كلهم «رجال» الله وجنده، والعلمية لقب للمنعوت يميزه بصفة فيه. الصحيح أن تترجم «جبريئيل» إلى الإنلجيزية مثلاً هكذا: The God of one mighty أي «جبار الله».
وهذا هو نعت «جبريل» عليه السلام في القرآن: شديد القوى ذو المرة.
أما مفسرو القرآن، الذين تصدوا لتفسير اسم «جبريل»، فمنهم الماوردي، الذي وهم أن «جبريل» تعني عبد الله، ينسبه إلى عبد الله بن عباس، وهذا لا يصح أيا كان القائل والناقل، ناهيك بحبر في رتبة ابن عباس، لأن الافتعال واضح والخطأ بين: لا مجال لاشتقاق معنى «العبد» من «جبر» العربية وما كان هذا ليفوت ابن عباس أو غير ابن عباس. أما أن «جبر» العبرية – الآرامية معناها «العبد» فلا يقول هذا إلا جاهل بهاتين اللغتين، أو عابث يخبط خبط عشواء، آمنا ألا يرد عليه أحد.
إن صحت الرواية عن ابن عباس أو غيره من أهل التفسير، فربما دسها عليه قوم من يهود لغوا في القرآن ونقل عنهم المفسرون دون تثبت. أو من يهود أبغضوا جبريل لمجرد تنزله بالقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، فوصمهم القرآن بالكفر (راجع الآيتين 97، 98 من سورة البقرة): ظنوا أنهم ينالون من جبريل عليه السلام حين يفسرون اسمه للمسلمين بمعنى العبد، ولم يفطنوا إلى أن العبودية لله عز وجل ليست فحسب شرفا لا يعدله شرف، وإنما هي تقرير لواقع الحال: الخلق كلهم عبيد الله، شريفهم ووضيعهم، مؤمنهم وكافرهم، وإن بطر وجحد.
على أن القرآن لم ينتظر من يفسرون له معنى اسم «جبريل»، بل سبق فنص على معناه بالمرادف في أكثر من موضع كما سترى.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/177]
ورد اسم «جبريل» في القرآن ثلاث مرات فقط: {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} [البقرة: 97]، {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} [البقرة: 98]، {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} [التحريم: 4]. وليس في أي منها كما ترى تفسير لمعنى «جبريل».
ولكن اسم «جبريل» المحذوف لدلالة السياق عليه في سورتي «النجم»، «التكوير» يظهر بمرادفه الدال على معناه في قوله عز وجل {والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم: 1 – 10]، وأيضًا في قوله تبارك وتعالى: {إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين} [التكوير: 19 – 23]. أم «صاحبكم» في السورتين فهو محمدٌ صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، والذي «علمه»، أي تنزل عليه بالوحي، هو «جبريل» بلا خلاف أيضًا، إنه الذي دنا فتدلى، فأوحى إلى محمد ما أوحى الله لجبريل أن يوحيه إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وليس أبلغ من تفسير معنى «جبريل» بأنه ذو قوة عند ذي العرش، فهي نفسها «جبار الله» أي الجبار عند الله بتمكين الله إياه، الممكن فيما يكلف به من أمر الله، تستجيب له قوى الكون بأمر الله، وتطيعه الملائكة في أمر الله، لأنه الأمين على أمر الله. ولكنك لا تفطن إلى هذا التفسير لأن السياق يوجبه، ولا تلمح «مقصودا» آخر من ورائه، لأن عبارة «ذي قوة عند ذي العرش»، على متانتها، سلسلة، والكلام في موضعه، غير مقحم، بل هو وصف مطابق لمن هو «شديد القوى ذو مرة»، الذي استوى بالأفق الأعلى، وما أدراك ما الأفق الأعلى، وهو مع ذلك يدنو ويتدلى، فيكون من محمد صلى الله عليه وسلم في مكة قاب
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/178]
قوسين أو أدنى: إنه جبريل الذي رآه الصادق المصدوق في شعاب مكة يملأ الأفق بعدما جاءه بالوحي الأول في صورة إنسان، ورآه الصادق المصدوق ليلة المعراج نزلة أخرى: {ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى} [النجم: 13 – 17]. هذا التمكين من الله عز وجل لجبريل تمكين يهولك، ويملأ عليك أقطار نفسك، فتذهل عما سواه، بل تهاب مجرد التفكير فيه، فتخشع النفس، ويخشع العقل، وتخشع المدارك.
ولإعجاز القرآن وجه آخر في تعريبه «جبريئيل» العبرية على «جبريل»، حين تنطقها بفتح الجيم – جبريل – وقد صحت بها قراءات: أنت تعلم من معجمك العربي أن «جبر» العربية وصف بالمصدر من «جبر»، والوصف بالمصدر يفيد بذاته المبالغة التي في «جبار»، وتعلم من معجمك العربي أن العرب تكلموا بـ«إيل» العبرية (وتكتب أيضًا «إل») علمًا على الله عز وجل، كما تجد في قول الصديق رضي الله عنه حين أسمع قول مسيلمة الكذاب: هذا كلام لم يخرج من إل! أي ليس مصدره الله تبارك وتعالى. ومن هنا تدرك أن جبريل (جبر + إيل) تعني بذاتها، عربيًا، على المضاف والمضاف إليه، «جبر الله»، أي جبار الله (على ما مر بك من معنى «جبر» العربية كاسم صفة)، ولكنها مزجت، أي صارت اسمًا مزجيًا، اتخذ وزنًا نادرًا في العربية هو «فعليل» (مثل عتريس)، فكسرت جيمه.
ومن ثم تكون «جبريل» ممنوعة من الصرف في كل القرآن للمزجية قبل العجمة، شأن حضرموت وأمثالها.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/179]
فسر القرآن «جبريل» بالمرادف، كما فسرها بالتعريب. ولم يفطن إلى هذا أو ذاك من تصدوا لتفسير معنى هذا الاسم من مفسري القرآن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع منه فيه حديث، ولو شاء الله لحدث به. ولم يفطن إلى هذا أو ذاك أيضًا من لغوا في «جبريل» من خصوم القرآن أدعياء العربية وأدعياء الاستشراق على عصر النبي وإلى هذا العصر. وها قد رأيت أن القرآن كان أسبق من هؤلاء إلى صحيح معنى «جبريل»، وأفقه بالعبرية من أهلها على عصر النبي وإلى هذا العصر. وكفى بهذا – وغيره كثير كما سترى – ردًا على دعوى التلقين، ودعوى النقل والاقتباس.
سلامُ الله على جبريل الروح الأمين، وصلوات الله وسلامه على جميع ملائكته ورسله وأنبيائيه).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/176-180]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:03 AM

(2) ميكال:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (2)
ميكال
ميكال عليه السلام مَلَكٌ مقرب، رفيع الرتبة في ملائكة الله عز وجل، أفرده الحق تبارك وتعالى بالذكر على التعظيم قرينًا لجبريل عليهما السلام في قوله عز من قائل: {من كان عدوا لله وملائكته ورسوله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} [البقرة: 98]. ولم ترد «ميكال» في كل القرآن إلا مرة واحدة، وفي هذه الآية فحسب.
و«ميكال» تعريب «ميكائيل» العبرية، تكتب بالكاف في العبرية، وتنطق بالخاء (ميخائيل) لاعتلال ما قبلها، على ما مر بك من قواعد النطق في تلك اللغة.
أما علماء العبرية، وعلماء التوراة أيضًا، فهم يفسرون «ميكائيل» بأنها اسم مزجى، يتكون من ثلاثة أجزاء: مِي – كا – إيل (أي مَن – كَـ - الله)، وليست هي عندهم على التقرير، بل على الاستفهام، أو إن شئت، على التعجب: «من كالله!»، لأن «مى» العبرية (والآرامية أيضًا) لا تصلح إلا لهذا، فلا تقع اسمًا موصولاً بمعنى «الذي» كما يحدث في «من» العربية.
ونحن لا نحيل على العبرية والآرامية اشتقاق الأسماء الأعلام من صيغ الاستفهام أو التعجب، فقد وقع هذا بالفعل لعبرية التوراة في تسمية «رئوين» (رأويين في الترجمات العربية لسفر التكوين) ابن يعقوب البكر من زوجته «ليئة» التي صاحت فرحًا حين وضعت بكرها ذكرًا: رئو! بن! (أي انظروا ابن «ذكر») فسمي به رئو بن. فلا يبعد أن يقع هذا في تسمية ميكال عليه السلام مَنْ كالله؟! أي «ميكائيل».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/181]
بل قد فعلناه نحن أيضًا كما مر بك في اشتقاقنا اسم «مريم» عليها السلام من قول والدتها حين فوجئت بها أنثى: ماري أما أي «أمة يا رب أمة».
وربما قلت إن «مى» العبرية كانت قبل عصر التوراة (وميكائيل بالطبع أقدم ظهورًا لأنبياء الله ورسله من نزول التوراة على موسى) تصلح لكل ما تصلح له «من» العربية، فتجيء على الاستفهام أو التعجب، كما تجيء على الاسم الموصول بمعنى الذي، فيكون معنى «ميكائيل» الذي هو كالله، على التقرير، أي ممثل الله عز وجل، المفوض منه تبارك وتعالى. وهذا نفسه غاية ما يستفاد من قولها على الاستفهام أو التعجب: مَنْ كالله؟!.
وتستطيع أن تقول أيضًا – وأنت هنا إلى الصواب أقرب – إن الألف في الخط العبري، على خلاف الحال في الخط العربي، تكتب دائمًا غير مهموزة، وإنما هي تهمز نطقًا فحسب إن وقعت في أول الكلمة أو وقعت في وسطها مشكولة بإحدى حركات الفتح والكسر والضم والسكون، وتسهل فيما عدا ذلك فتنطق ألفًا لينة، أي مفتوحة ممدودة غير مهموزة. وتقول أيضًا إن الشكل والنقط في النص العبراني لأسفار التوراة التي بين يديك، ليست لهما حجية الشيء الموحي به، وإنما هما كما مر بك من صنع طائفة غلبوا على أمرهم من أهل الأثر (بعلى ماسورا) ما بين القرن الثاني والقرن العاشر للميلاد في ظل المسيحية ثم في ظل القرآن، عصر اضمحلال عبرية التوراة وتراجعها على الألسنة والأقلام، لم يخل عملهم مع ذلك من نقد، وأنه لو خلى بينك وبين حروف ميكائيل بالخط العبري في التوراة دون شكل أو نقط (م – ى – ك – ا – ل) لجاز لك أن تنطقها «ميكال» كما نطقها القرآن، وتكون «ميكال» لا اسمًا مزجيًا مؤلفًا من ثلاثة أجزاء (مَنْ كالله؟!)، بل اسم وحيد الجذر، على زنة «مفعال» من الجذر العبري «يكل»، وصفا بالمصدر على المبالغة، وهو جذر عبري مكافئ لـ «وكل» العربي في أصل معناه: أوكلت إليه الأمر، ووكلته
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/182]
إليه، فهو موكل ووكيل، بمعنى فوضته فيه وخليت بينه وبينه، أصلها أمكنته منه، وأقدرته عليه، فأصبح عليه قديرا. هذا هو أصل المعنى الرئيسي للجذر العربي «وكل» - لازما غير متعد – بمعنى القدرة، وبه يكون التفسير الجيد لقوله عز وجل: {والله على كل شيء وكيل} [هود: 12]، أي قدير مقتدر. لم تستبق العربية «وكل» - لازما غير متعد – بمعنى قدر وتمكن. ولكن هذا وحده هو المعنى الباقي في الجذر العبري «يكل» - لازمًا متعديًا باللام – بمعنى قدر عليه وتمكن منه. فيكون معنى «ميكال» - عبريًا – الوكيل الموكل المفوض، بمعنى القدير الممكن.
وهذا هو نفسه معنى «ميكال» - عربيًا – وإن لم تسمع من العرب، إن اشتققته على «مفعال» من «وكل» لازمًا غير متعد، بمعنى الوكيل، الذي يفيد القادر المقتدر، أو الموكل المفوض. وهكذا هو ميكال صلوات الله عليه وعلى من عنده عز وجل من الملائكة المقربين.
أما مفسرو القرآن الذين تصدوا لتفسير اسم «ميكائيل»، فأنت تذكر ما رواه الماوردي في تفسير اسم «جبريل» منسوبًا إلى عبد الله بن عباس (راجع تفسير القرطبي للآيتين 97، 98 من سورة البقرة)، وقد زاد فيه أن «ميكائيل» معناها في العبرية – الآرامية «عبيد الله»، كما قال من قبل إن «جبريل» معناها في هاتين اللغتين «عبد الله»، يريد أن «ميكال» هي تصغير «جبر»، أي تصغير «عبد»، فهو «عبيد»، فلا تدري كيف استجاز أن تجيء تصغيرًا لـ «جبر» وهي من غير مادتها، بل لا وجود لـ «ميكا» هذه في العبرية – الآرامية أصلاً، ولا تدري – إن صحت الرواية – كيف استجاز الراوي لنفسه – دون سند من حديث صحيح – الخوض في لغات لا يعرف من أمرها شيئًا. إن أحسنت الظن بالراوي – وأنت بإحسان الظن في كل الأحوال مأمور – فربما تعللت له – كما تعللت له في «جبريل» - بأنها دست عليه من أهل كتاب تحسن بهم الظن أيضًا فتقول إنهم لا يعلمون الكتاب إلا أماني. ولكنك لا تعذر الراوي: كان عليه أن يتثبت قبل أن يحمل وزرها ابن عباس.
فسر القرآن كما ترى «ميكائيل» بالتعريب وحده، فأصاب المعنى وأصاب التعريب. وقطع أيضًا بعجمة هذا الاسم فجره بالفتح في موضع الكسر: {ما كان
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/183]
عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} معطوفًا بالواو على المجرور باللام في لله، ممنوعًا من الصرف غير منون، ولا علة لهذا إلا العجمة.
ومن إعجاز القرآن أنه يصحح لأهل العبرية نطق «ميكائيل»، ويصحح لهم أيضًا اشتقاقه: لا يجمل اشتقاق «الوكيل» على المماثلة بالله عز وجل في عبارة «مى – كا – ايل» (من هو كالله) لا على الاستفهام، ولا على التعجب والإكبار، بل ولا على التقرير. إن جاز هذا لغة، وهو بعيد، فلا يصح البتة في أدب الحديث عن الله عز وجل).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/181-184]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:05 AM

(3) مالك:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (3)
مالك
مالك صلوات الله عليه وعلى ملائكته أجمعين، ملك كريم، شرفه الله عز وجل بتسميته في القرآن، على غير سابقة في التوراة والإنجيل: {إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون} [الزخرف: 74 – 78]، فتستدل من هذا على أن «مالكا» رضي الله عنه وأرضاه هو خازن النار، أي الملك الموكل بعذاب من حق عليه العذاب. وتستدل من قوله رضي الله عنه «لقد جئناكم بالحق» إن أسندته إليه كما هو السياق، على أنه يتحدث باسم الملائكة جميعًا، فهو ملك مقرب رفيع الرتبة في ملائكة الله عز وجل. وقد مر بك أن ملائكة الرحمة وملائكة العذاب في رضوان الله سواء، وفي القرب منه عز وجل سواء، لا فرق بين المنفذين وعده والمنفذين وعيده.
وربما لبس عليك إبليس فأشفقت على ملائكة العذاب من جوار أهل النار: ماذا جنى مالك وأعوانه المكرمون، بل وزبانية النار، حتى يخلدوا مع الأشرار {في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم} [الواقعة: 42 – 44]؟ في حين أن خزنة الجنة رضوان الله عليهم مع أصحاب اليمين: {في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود} [الواقعة: 28 – 30]؟
لا عليك. ليس الملائكة إنسا ولا جنًا. الملائكة لا ينعمون كالذي تنعم، ولا يألمون كالذي تألم. لا يلذهم الذي تلذ به، ولا يمضهم الذي تمض أنت به أو تجوى. بل نعيمهم وعذابهم رضوان الله أو سخطه، وقد أعاذهم الله من سخطه بأن خلقهم – وليس بعد إنس ولا جان – على الطاعة، لا يعصون له أمرًا، فهم في رضوانه عز وجل منذ أن خُلقوا، لأنهم في شُغلٍ بأمره عز وجل عما سواه. هذا ومن النار برد
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/185]
وسلام: قد ألقى بإبراهيم في جوف نار أكلت كل ما حوله، وهو في جوفها كمن في روضة من رياض الجنة. كانت هذه تكرمة لإبراهيم خليل الرحمن، وخزنة النار – رضوان الله عليهم – بهذه التكرمة أولى.
ولفظ «مالك» عَلَمُ عربيٌ مقطوعٌ بعربيته بلا خلاف، لا مدخل فيه لشبهة عجمة. ومن ثم فهو يقع خارج نطاق مباحث هذا الكتاب.
ولكنك تستنبط من عربية هذا الاسم أمرًا خطير الدلالة: العلم غير الموحي به في التوراة والإنجيل، ولا ذكر له في كتبهم وقصصهم، يجيء في القرآن على أصله عربيًا، على خلاف الأعلام التي ثبتت لها العلمية من قبل بغير لغة القرآن، فيعربها القرآن.
وربما استنبطت من هذا أيضًا مستدلاً بقوله عز وجل: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} [الزخرف: 77] – أن ثبوت العلمية على النداء من أهل النار لمالك باسم عربي – وأهل النار أمم شتى يتفاوتون لغات وأجناسًا – يعني أن لسان الخلق أجمع سيرتد في الآخرة عربيًا. وهو نفس ما تستنبطه من قيل الملائكة: {سلاما سلاما} [الواقعة: 26] لأهل الجنة عربًا وغير عرب، فتفهم أن لسان أهل الجنة عربي، وقد روي بمعناه عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/185 -186]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:06 AM

(4) هاروت (5) ماروت (6) بابل:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ((4) هاروت (5) ماروت (6) بابل
ليس في التوراة والإنجيل «هاروت وماروت» ولا ذكر في قصص أهل الكتاب لفتنة هاروت وماروت في بابل على نحو ما يقصه القرآن: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمنا من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} [البقرة: 102].
ولم تأت «هاروت» و«ماروت» و«بابل» في كل القرآن إلا مرة واحدة فقط، هي هذه الآية.
وقد حار المستشرقون المنكرون للوحي على القرآن في تفسير أصل «هاروت» و«ماروت»، لأنهم يبنون مقولاتهم في أعلام القرآن على فرض بات مسلما عندهم، لغوا به حتى حسبوه حقيقة: القرآن يتوكأ على التوراة والإنجيل، ولا علم له بما وراء أقاصيص أهل الكتاب. وقد خلت التوراة والإنجيل من ذكر «هاروت» و«ماروت»، فمن أين أتى القرآن بهما؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/187]
قالوا: ربما أخذهما القرآن نقلاً عن الديانة الزرادشتية من «خردت»، «أمردت» في الفارسية البهلوية (هرقوتت»، «أمورتت» في الفارسية الأفستية) ومعناها «الكمال»، «الخلود»، جائزة المتقين بعد الموت. ثم استدركوا على أنفسهم فقالوا إن العرب الجاهليين لم يستقوا عقائدهم من الفرس، فضلاً عن أن التسمية بهذين الاسمين الفارسيين تشخيصًا لملكين هبطا من السماء إلى الأرض ليعملا عمل هاروت وماروت، تسمية لا تنطبق ومن ثم لا تصح.
وقالوا أيضًا: ربما أخذ القرآن «هاروت» و«ماروت» من كتاب ينسب إلى أخنوخ (إدريس في القرآن على ما نرجحه نحن)، ضاع اصله وبقيت منه ترجمة باللغة السلافية القديمة، وفيه أن ملكين أحدهما «أريوخ» والآخر «مريوخ» أمرا بإغلاق الكتاب على نبوءات أخنوخ حتى تمام الدهور. وهي كما ترى ليست مهمة هاروت وماروت في بابل على نحو ما وصفها القرآن. ولكنهم وجدوا في كتاب بالحبشية يُنسب إلى أخنوح أيضًا، أن ثمة ملائكة هبطوا يعلمون الناس فنون السحر والشعوذة وقطع الأرحام، فربما أخذ القرآن التسمية من أخنوخ السلافي، وأخذ الوظيفة من أخنوخ الحبشي. إلى آخر ما قالوا.
لم يهتد المستشرقون إذن إلى وجه في «هاروت وماروت» إلا هذا، وهو ركيك كما ترى، ولكنه يريك إلى أي مدى يتخبط أولئك المستشرقون المنكرون الوحي على القرآن: زعموا أن القرآن يتوكأ على معاصريه من أهل الكتاب فكيف علم القرآن ما جهلوه؟ كيف حفظ هو أخبار أخنوخ السلافي وأخنوخ الحبشي، وأضاع أصحاب التوراة الأصل العبري لسفر ينسب إلى أخنوخ؟ أكانت أبناء أخنوخ أخبارًا يتناقلها الرواة على عصر النبي، خفي أمرها على يهود اليمن والحجاز والشام؟ فكيف خفيت على مفسري القرآن وقد توقفوا في هاروت وماروت؟ ولماذا اختلفت رواية أخنوخ السلافي عن رواية أخنوخ الحبشي؟ أترجم المترجمان كل بمعزل عن «أخنوخ» واحد أم عن «أخنوخين» اثنين؟ فكيف أخذ القرآن نتفة من هنا ونتفة من هناك؟ كيف تسنى له الجمع بين هاتين الروايتين في نسيج واحد؟ أفقد اطلع القرآن على الترجمتين معًا فانفرد وحده بعلم السلاف والأحباش وخفي علم هؤلاء على هؤلاء؟ أو قد فرغ القرآن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/188]
نفسه لجهد استنفد من جمهرة المستشرقين سنين في تتبع أخبار السلاف والأحباش والجمع بينها كي يصوغ منها في النهاية خبرًا يأتي عرضًا في آية أو بعض آية؟ فما بالك بغير «هاروت وماروت» من أخبار القرآن، ومن علوم القرآن، وما أدراك ما علوم القرآن؟ أنى يتسع لبعض هذا جهد بشر، أو عقل بشر، أو عمر بشر، فردًا أو جماعة، وإن عكفوا عليه أجيالاً؟
على أن أحدًا من هؤلاء المستشرقين – يهود ومسيحيين، ومنهم المؤمن والملحد لم يتوقف لمناقشة «سفر التكوين» في روايته لفتنة الملائكة ببابل، على ما مر بك من قوله إن «الله» هبط ببابل ليبلبل ألسنة الخلق فيتفرق شملهم ولا يتموا بناء المدينة، ومقصوده بالطبع أن «الملائكة» هم الذين هبطوا، لا الله عز وجل: صاغ كاتب سفر التكوين روايته ليؤصل بها فهمه لمعنى «بابل»، وليفسر رأيه في سبب اختلاف ألسنة البشر، ولم يصب الكاتب كما مر بك في هذا وذاك جميعًا، ناهيك بوهمه أن المدينة لم يتم بناؤها، وربما شهد فيها أطلالاً ظنها أبنية لم تكتمل.
هبط الملائكة إذن في بابل كما يقول سفر التكوين، ولكن لمهمة غير التي ذكرها الكاتب، لأن الملائكة إذا أمروا فعلوا، فتحقق مراد الله عز وجل، ولكن الملائكة لم يؤمروا بهذا الذي ذكره سفر التكوين، فلم يهبطوا من أجله ولم يفعلوه، بدليل أنه لم يحدث، وهو لم يحدث – تقولها بيقين لا شك معه – لأن ألسنة الناس لم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/189]
تتبلبل في «بابل» التي بُنيت أول ما بنيت في مطلع الألف الثالثة قبل الميلاد، وإنما هي تبلبلت قبل مولد بابل – ومن ثم قبل نزول أولئك الملائكة المكرمين – بقرون لا يعلم عدتها إلا الله: حسبك أن المصريين وجدوا في مصر قبل أن توجد بابل، وهم كما تعلم يتكلمون لغة غير اللغة، بل حسبك أن الشومريين الذين غلبهم الساميون البابليون على أرض العراق (بابل من بعد) عاشوا على أرض بابل قبل وفود البابليين على تلك الأرض، ولا صلة محققة بين اللغتين الشومرية والبابلية. قد تباينت ألسنة الناس إذن وتفارق الخلق من قبل أن تولد بابل، ولا حاجة من ثم بالملائكة إلى إحداث ما هو حادث.
فيم إذن كان نزول الملائكة ببابل؟ أليس أقرب إلى المعقول ما ذكر في سفر أخنوخ الحبشي من أن ملائكة هبطوا إلى الأرض يعلمون الناس فنون السحر والشعوذة و«قطع الأرحام» ألا يذكرك «قطع الأرحام» بما قاله القرآن في شأن هاروت وماروت: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} [البقرة: 102].
كيفما كان الأمر، فقد كان هاروت وماروت فتنة للناس. ولكنها لم تكن فتنة معماة، وإنما فتنة على بصيرة: {إنما نحن فتنة فلا تكفر}، أي تعلم منا هذا كيلا تعمله، إن حدثتك به النفس، أو علمك إياه شيطان.
وإتيان السحر – تعلمه وتعليمه والاستعانة به – إثم منهي عنه في القرآن، بل هو في القرآن كفر بواح: «ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر». وتستدل على هذا أيضًا من قوله عز وجل على لسان سحرة فرعون: {إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر} [طه: 73]، فتفهم أن تعاطي السحر خطيئة يستغفر منها الذي آمن. والساحر أول من يعلم هذا، فقد باع آخرته بدنياه: {ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق}، ولكنه لا يدري كم هو في الصفقة مغبون: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} [البقرة: 102].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/190]
أما حقيقة السحر – وللسحر حقيقة لا يجحدها إلا مكابر – فهي كما قال القرآن على لسان نفر من الجن المؤمن: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا} [الجن: 6]. الإنس والجن عالمان منفصلان، بينهما حجاب حاجز، لا ينخرق إلا لغوي فاسق من هؤلاء وهؤلاء، يدعوه فيستجيب. الجن المؤمن لا يفعله، والإنس المؤمن لا يطلبه، وإنما يفعله الجن الكافر، إبليس وقبيله، إن عذت به أعاذك، وإن استعنته أعانك. وهو لا يعينك في خير مهما توهمت، لأنه مكفوف بكفره عن فعل الخير: لا يستطيعه لك ولا يريده بك، وإنما هو يعينك على الشر والضر والأذى. يمهد لك بادئ بدء بما يستهويك، حتى إذا آنست في نفسك به قوة، ركنت إليه، فصرت في قبضته، تظن «الخاتم» في أصبعك، وهو فيك الآمر الناهي، الفعل له والإثم عليك، فأنت الساحر والمسحور معًا، وإن شدهت أبصار الناس وثملت بهتافهم، ولذ لك انبهارهم بك، وتوجسهم منك، وتحيرهم في أمرك.
السحر إذن هو استخدام الجن الكافر، أي الشياطين (والشياطين علم على صنف الجن الكافر) – وقد علمت أن الشيطان معناها العدو – في الإتيان بخارق يهولك. وهو يهولك لأنك لا تعلم القوى الفاعلة فيه، ولا علم لك بالوسائل التي يتحقق بها الفعل. أنت مثلاً لا تسمي المعجزة سحرًا لأنك تعلم يقينًا أن الله عز وجل هو الفاعل. ولا تهولك عجائب العلم في هذا العصر ومخترعاته، فقد علمت ما وراءها. حتى الصعود إلى القمر ونقل صور صوتية – مرئية منه إلى الأرض في ثوان لم يعد يهولك، لأنك أنت نفسك تستطيعه متى توسلت إليه بوسائله المعروفة لك الآن. وهو بلا شك أعتى وأدهى من إتيان ذلك العفريت من الجن بعرش «بلقيس» من سبأ في اليمن إلى «سليمان» في فلسطين قبل أن يقوم من مقامه (النمل: 39)، أي في نحو ساعة أو ساعتين، وهو ما تستطيعه اليوم طائرة متوسطة الحجم، غير بالغة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/191]
السرعة. ولكن اقتراح هذا العفريت ما زال إلى اليوم يهولك، لأنك لا ترى هذا العفريت، ولا ترى الوسيلة التي يتحقق بها الفعل، وإنما ترى العرش أمامك. على أن سليمان لم يشده باقتراح هذا العفريت من الجن الذي سخره الله له، فقد مكنه عز وجل فيما هو أعظم: {قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} [النمل: 40]، قالها بشر من ملأ سليمان علمه الله، فهو مستجاب الدعوة، تطوى له المسافات وينعدم الزمن، ساءه أن يستعلى هذا العفريت فرد عليه بما أسكته، وألزمه مكانه لا يتعداه. الجن مهما عظم – شأن هذا العفريت من جن سلميان – محدود القدرة، محكوم بمدى الاستطاعة، لأن استطاعته من ذاته بقدر طاقته، تعوقه المسافة، ويعوزه الزمن. أما الملك فمن أمر الله تبارك وتعالى، كلى القدرة سبحانه. وكأن تلك الآيات من سورة النمل وهي تقص عليك من أنباء سليمان عليه السلام، تريد أن تبين لك الفرق بين فعل الجن محدود القدرة، وبين فعل الملك العامل بأمر الله لا يحد من قدرته حد. وهو نفسه الفرق بين السحر والمعجزة. إنه الفرق بين «عصا موسى» وبين حبال السحرة وعصيهم: الأولى عاملة بأمر الله عز وجل، نافذ بها أمره، لا يعجزها شيء، والأخرى «كيد ساحر» يستعين الجن على باطله.
وليس فعل الجن – أي السحر – تخييلاً كله، وإنما هو تخييل فحسب إن تعلق بتغيير الصورة المادية لشيء مادي ما، كما مر بك في حبال السحرة وعصيهم: {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} [طه: 66]، قد خلت الساحة من الحبال والعصى وامتلأت حيات وأفاعي. أما ثعبان موسى الذي خلق الله عز وجل من تلك العصا وأعادها من بعد سيرتها الأولى، فقد أكل الحيات والأفاعي، لا على التخييل، وإنما على الحقيقة. دليلك في هذا أنه أتى أيضًا على الحبال والعصى، أصل تلك الحيات والأفاعي: التقط موسى عصاه، ولم يستطع السحرة استعادة حبالهم وعصيهم، فقد أعدمها الله عز وجل، بارئ كل صورة ومفينها. على أنك مهما قلت في هذا «التخييل» الحادث بفعل السحرة، فهو واقع
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/192]
وقع، ليس تهاويم نائم، منوم أو مخدور، دليلك في هذا أن الذي «خيل إليه» في الآية السابقة هو موسى نفسه، البريء من ذلك.
ومن السحر أيضًا فعل محض، أي باق أثره في المادة بعد زوال المؤثر، لا كالتخييل الموقوت بزواله، بل منه الذي تلمسه بيديك، وتسجله عدسات التصوير البريئة من التخييل والوهم، كالذي تراه في ألعاب السحرة التي يحتشد لها الناس، ومنها خارق لا تفسير له بمنطق العقل والعلم، والحق أنه لا محال فيه عقلاً وعلمًا، متى سلمت بوجود الجن، الذي خلقه الله من «مارج من نار» لا تعكس صورته الأشعة الضوئية التي ترى أنت بها، ولا تنقل صوته ذبذبات الصوت التي تسمع أنت في نطاقها، وكم في خلق الله عز وجل من كائنات تلمس آثارها، وإن لم تدرك أجسامها أو تحس حسيسها.
من عمل الجن إذن أفعال مادية متحققة في الزمان والمكان، مدارها على مدى الاستطاعة، يستطيعها المؤهل لها، أي يستطيعها الجن، ولا يستطيعها الإنس. ولكن الجن محجوب عنك، غير مرئي لك، فتنسبها إلى الساحر، الذي «علمه» الجن كيف ينصب له الأدوات، ويهييء له المسرح، والذي لقنه «التعازيم» التي يستدعيه بها، وعلمه الإشارات والرموز التي «يتراسل» بها معه: يضعها له في قاع بئر معطلة، أو يدسها في نواحي خربة، أو تحت وسادة المراد تسحيره، وربما أضاف إليها شيئًا من «أثر» الشخص الذي يراد الكيد له، حتى إذا مر بها الجن في تطوافه فهم المطلوب، وقام بالمهمة غير مرئي ولا محسوس. وقل الشيء نفسه في ألعاب السحرة: الفاعل هو الجن، والظاهر لك هو الساحر. وليس علم السحر وتعلمه وتعليمه إلا هذا.
أما الهدف فهو افتتان الإنس بالجن، أي استهواء الإنس بالجن، {كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران} [الأنعام: 71]، وغرس المهابة في
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/193]
صدور الناس من إبليس وصنائعه، قد خومر عقلك، وذهب علمك، وضاع إيمانك. ومتى انهزم العقل والعلم، فقد انتصر الجهل وسادت الخرافة، فزادك خبالاً على خبالك، تخاف ظلك، وتؤرقك أشباحك، تأتمر بالدجال والعراف والكاهن، وتنحت لك من الوهم أصنامًا وأوثانًا، ومعبودك في واقع الأمر هو الشيطان نفسه، قد أسلست له قيادك، وكفى بهذا إثمًا وخسرانًا.
قد كفر الشياطين إذن الذين علموا الناس السحر، وزينوا لهم ما أنزل على الملكين ببابل، وكفر أيضًا صنائعهم الذين تقبلوا منهم هذا السحر وعملوا به، أي الذين استعاذوا بالشياطين فأعاذوهم، {وما كفر سليمان} [البقرة: 102]، لأنه لم يستعذ بالجن، وإنما سخرت له الجن تسخيرًا: {ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات} [سبأ: 12 – 13]. سأل سليمان ربه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده: {قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} [ص: 35 – 39]. كانت الجن في هذا كله مأمورة، وكان سليمان فيها حاكمًا محكمًا بسلطان الله. على أن سليمان عليه السلام لم يستخدم الجن فيما يفتن الناس، ولم يستخدمه فيما يضل عن سبيل الله، بل في الهداية إليه سبحانه، كما تجد في قصته مع ملكة سبأ: {قيل لها ادخل الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} [النمل: 44].
وتستطيع أن تنسق على هذا أن «هاروت» و«ماروت» الملكين المكرمين لم يكفرا بما علماه الناس في بابل، لأنهما كانا به مأمورين فتنة للمتلقين منهما، تبصيرًا للناس، وزجرًا للناس عن إتيان السحر وعن تعلمه وتعليمه.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/194]
أما قول مفسري القرآن في «هاروت» و«ماروت» و«بابل» (راجع تفسير القرطبي للآية 102 من سورة البقرة)، فقد توقفوا في تفسير معنى «هاروت» و«ماروت» مكتفين بأنهما علمان أعجميان منعا من الصرف للعجمة، وهذا يدلك على أن أهل الكتاب المعاصرين لهؤلاء المفسرين لم يكن لديهم هم أيضًا شيءٌ في تفسير معنى هذين العلمين، فتستنبط من هذا أن أهل الكتاب هؤلاء كانوا إلى ما بعد عصر نزول القرآن لا يعلمون شيئًا عن «أريوخ» و«مريوخ» في أخنوخ السلافي، ولا عن الملائكة الذين هبطوا إلى الأرض يعلمون الناس فنون السحر والشعوذة وقطع الأرحام في أخنوخ الحبشي، لا بأصل هذه الرواية ولا بترجمتها السلافية أو الحبشية اللتين استخرجهما المستشرقون من أوراق الكنيستين البلغارية والحبشية، وأن القرآن كان أسبق من هؤلاء وهؤلاء إلى مجمل هاتين الروايتين.
وأما قول مفسري القرآن في معنى «بابل»، فقد تابعوا أهل الكتاب في تفسير معناها بالبلبلة، ورددوا دون تثبت رواية سفر التكوين في المقصود من ذلك وهو التعليل لتفاوت ألسنة الخلق، ولم يلتفتوا إلى قوله عز وجل: {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم} [الروم: 22]، أي أن المخالفة بين ألسنة الناس آية ماضية في الخلق منذ بدء الخلق بآدم، شأنها شأن المخالفة بين ألوانهم، لا شأن لها ببلبلة الملائكة في بابل: لو صح هذا الذي رواه سفر التكوين لتوقف عدد لغات أهل الأرض عند الذي انتهت إليه محنة بابل، ولكن الذي حدث هو أن لغات البشر لا تزال إلى اليوم تموت وتتوالد.
على أن «أريوخ»، «مريوخ»، لم يجيئا في «أخنوخ السلافي» عبثًا: إنهما على الراجح عندي الرسم السلافي لهذين العلمين القرآنيين «هاروت»، «ماروت». ولكن القرآن لم يعربهما عن السلاف كما ظن أدعياء الاستشراق على ما مر بك، ولكنه عربهما عن الأصل الذي تكلم به الناس في بابل، والذي تحرف على قلم مترجم كتاب «أخنوخ السلافي».
فأنت تعلم أن مهبط هذين الملكين قد كان ببال، فتقطع بأنهما تعرفا – أي تسميا – لأهل بابل بلغة أهلها. والبابلية لغة سامية بادت، وما تجمع للغويين من
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/195]
ألفاظها نزر يسير، على شك في صحة نطقه ومعناه، استظهروه من كتابات بخط مسماري سبق إليه شومريون – غير ساميين – فلا من أصوات تختص بها اللغات السامية، واستخدمه من بعدهم البابليون على علاته، فلا تدري أفسد لسانهم باستخدام ذلك الخط أم اعتجم علينا نطق ما كتبوه، أم كلا الأمرين معا. ومن ثم لا يستطاع رد اشتقاق هذين الاسمين «أريوخ»، «مريوخ» إلى أصل بابلي مقطوع بمعناه. على أن في عبرية التوراة الاسمين العلمين «أريوخ»، «مريوت»، الأول بمعنى «الأسدي» (أي الشبيه بالأسد) والثاني بمعنى «المراء» على الجمع (أي «مراءات») وكلاهما في عبرية التوراة علم مذكر. واللفظ «آرا»، «آرى» في كل من البابلية والعبرانية والآرامية معناه «الأسد» (وهي «هر» العربية بضم الهاء وتشديد الراء ومعناها الأسد لا «هر» مكسورة الهاء بمعنى «القط»)، أما الواو والخاء في «أريوخ» فهي في البابلية الفارسية كاسعة تفيد النسب على الصفة. وربما قلت إن «مريوت» العبرانية أصلها «مريوخ» البابلية الفارسية (مرى + وخ) على النسب إلى «مري» يعني العجل المسمن (وهو «الماري» في العربية). ومن ثم يكون معنى هذين الاسمين «أريوخ»، «مريوخ»، هو المنسوب إلى الأسد والمنسوب إلى العجل «الماري». وليس على هذا أو ذاك دليل تستريح إليه.
أما الذي نقوله نحن، فهو أن العلمين «هاروت»، «ماروت» لم تثبت لهما العلمية في الكتب السابقة حتى يلتزم القرآن بالإتيان بهما على ما جاءا به في التوراة والإنجيل على نحو ما مر بك في شأن «جبريل»، «ميكال». وإنما جاء بهما القرآن على أصلهما في العربية الأولى. وقد جاء بهما القرآن على زنة المبالغة «فعلوت»، كما تجيء «طاغوت» من «طغى»، «جالوت» من «جلا»، «طالوت» من «طال». إنهما على الراجح عندي تعريب على التفسير من الهراء والمرية، أو الهرء والمار (أي القطع والإفساد)، تسمية لهما بذلك «العلم» الذي علماه الناس في بابل، وكانت به «الفتنة» التي تعرفا بها للناس: {إنما نحن فتنة فلا تكفر} [البقرة: 102].
أما «بابل» في القرآن فهي مفسرة بذاتها لا تحتاج إلى تفسير، وقد علمت أنها من البابلية «باب + ايلو»، أي «باب + إل»، يعني «باب الله»، سهلت همزتها على المزجية، ورغم أنها جاءت على وزن شائع في العربية وهو «فاعل»، فقد منعت من الصرف للعلمية والتأنيث قبل المزجية وقبل العجمة.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/196]
ولكنك تستشف من القرآن تفسيرًا لمعنى بابل بالتصوير، أي بالسياق العام. فأنت تعلم أن البابليين كانوا من عبدة الكواكب، يديمون النظر في النجوم، وأنهم بنوا ذلك «البرج» الذي سميت به المدينة من بعد «باب ايلو»، والمقصود بالطبع «باب السماء»، معبدًا لإلههم الأكبر «مرودخ» (كوكب المريخ على الراجح)، كوة نافذة في السماء يرصدون منها آلهتهم هذه، على نحو ما فعل فرعون: {فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى}[القصص: 38]. أرادوها كوة نافذة في السماء يرقبون ويتسمعون، فكان لهم ما أرادوا: كان «الباب» الذي صنعوا، بابًا نزل عليهم منه هاروت وماروت بالفتنة: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} [البقرة: 102]).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/187-197]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:08 AM

(7) الفردوس (8) عدن:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (7) الفردوس (8) عدن
ليس في التوراة «فردوس» - وهي برديس العبرية (بإمالة الياء). وليس في التوراة أيضًا «عدن» - وهي عدن العبرية – لا بمعنى «النعيم» (من عدن العبري المكافئ في العربية للجذر «غدن»)، ولا بمعنى «الإقامة» (من «عدن» العربي)، وإنما «عدن» في التوراة اسم موضع في هذه الأرض التي نعيش عليها، يطلقه علماء التوراة على إقليم ما فيما بين النهرين (العراق). أما «الجنة» (جان العبرية) فهي «حديقة» لا أكثر ولا أقل في إقليم «عدن» هذا (جان بعدن، أي جنة في عدن) «غرسها الرب الإله في عدن شرقًا»، ووضع آدم هناك كالبستاني «يفلحها ويحفظها». ومن عدن هذه خرج نهر يسقي تلك الحديقة «الجنة»، ومن هناك ينقسم أربعة رؤوس أنهار، أصل كل أنهار الأرض (راجع في هذا كله سفر التكوين 2/8 – 15). ليست الجنة المعنية في التوراة هي «الجنة» المعنية في القرآن، وإنما هي حديقة صنعها الله لآدم ثم طرده منها لعصيانه، لا يعود إليها من بعد، لا هو ولا بنوه. ليست هي في السماء كما تستظهر من قوله عز وجل: {قال اهبطا منها}[طه: 123]، {إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة} [الأعراف: 40]، {ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى} [النجم: 13 – 15]، {فهو في عيشة راضية في جنة عالية} [الحاقة: 21 – 22]، {وفي السماء رزقكم وما توعدون} [الذاريات: 22]، وأكبر من هذا كله وأبين قوله عز وجل: {إن إلى ربك الرجعى} [العلق: 8]. وليست كذلك الجنة في التوراة. «جنة التوراة» هي جنة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/198]
آدم، بقعة في إقليم من هذه الأرض، لا «جنة عرضها السماوات والأرض» كما أخبر القرآن: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين} [آل عمران: 133]، لا تسعها «عدن» التي في العراق، ولا العراق أجمع، ولا هذا الكوكب كله.
والحق أنك لا تجد في التوراة، ولا في الإنجيل أيضًا، حديثا عن الدار الآخرة، لا مستفيضًا ولا مجملاً، وكأن «أهل الكتاب» أعرف بتلك الدار من أن تعرف لهم. فقد شغل كتبة أسفار التوراة بالأخبار والأنساب والسير، وشغل كتبة الأناجيل بسيرة عيسى عليه السلام وأعمال «الرسل»، ومجيء المخلص «عند اكتمال الزمان يضعون عليه أحمالهم. كان على الذين يؤمنون بالله ورسله واليوم الآخر أن ينتظروا نزول القرآن حتى يعلموا علم تلك الدار مبسوطًا مفصلاً، مبينًا ومعرفًا: {ويدخلهم الجنة عرفها لهم} [محمد: 6].
والإنجيل أيضًا يتابع التوراة في قصرها «الجنة» على تلك «الحديقة» التي طرد منها آدم وحواء (وهي باليونانية «يكبوس» Kipos). أما الجنة بمعنى دار النعيم في الآخرة فالإنجيل يسميها «ملكوت السماوات» (في أحد معاني هذا التعبير الإنجيلي)، و«بنو الملكوت» في لغة الإنجيل هم «أصحاب الجنة» بالمعنى القرآن، أما «أصحاب النار» فهم الممنوعون من دخول الملكوت. ولكنك لا تعلم من الإنجيل شيئًا في وصف نعيم «بني الملكوت» هؤلاء إلا أنهم في صحبة الملائكة والأنبياء والصديقين الأطهار. من هنا كانت السماء (Heaven) مرادفًا لمعنى الجنة عند الأوروبيين المسيحيين. ولئن كان الإنجيل – بوضعه الجنة في السماء قد سجل تقدمًا بالغ الخطورة على التوراة التي بين يديك، فقد كان التعبير لفظ «الملكوت» عن دار النعيم في الآخرة غير دقيق، لأنك تعلم من القرآن أن هذا الملكوت الذي في السماء يتجاور فيه على سواء أهل الجنة وأهل النار: {وبينهما حجاب}[الأعراف: 46] يتنادون: {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة} [الأعراف: 50].
وينفرد الإنجيل من دون التوراة التي بين يديك بالنص في ترجمته العربية على «الفردوس» بالاسم: «فقال له يسوع الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس» (لوقا 23/43)، ترجمة لليونانية «براذيسو» Paradeiso التي أخذتها اللاتينية على علاتها Paradisus، ومنها Paradis الفرنسية و Paradise الإنجليزية.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/199]
وقد أعضلت «براذيوس» اليونانية هذه على الذين ترجموا من بعد الأناجيل اليونانية الأصل إلى العبرية (لغة المسيح)، ولكنهم فهموا من السياق وحده أن المسيح يعني «جنة عدن»، أي «الجنة التي في عدن»، أعني «جان بعدن»، فترجموا «اليوم تكون معي في الفردوس» إلى العبرية هكذا: «تهيه هيوم عمادى بجان عدن»، وقد مر بك أن «جنة عدن» في التوراة هي «جنة آدم»، لا شأن لها بدار النعيم في الآخرة، فتفهم أنهم لا يعرفون للفردوس مقابلاً في العبرية هو «برديس»، أو بالأحرى أنهم لا يفهمون من «برديس» العبرية المعنى الذي أراده المسيح والمفهوم من السياق. وتدرك أيضًا أن مترجمي الأناجيل إلى العربية ما كانوا ليضعوا «الفردوس» موضع «براذيسو» اليونانية لو لم يتنزل القرآن بتسمية «الفردوس»، وإلا لقالوا «البستان» أو «الحائط» (بمعنى البستان)، وهي الترجمة الدقيقة للفظ «براذيسو» اليونانية، كما تدرك لماذا لم يقولوا «الجنة»، لأنهم يعلمون أن «جان» العبرية هي «جنة آدم»، لا دار النعيم في الآخرة. وتدرك أخيرًا كم استفادت اليهودية والمسيحية من القرآن في جلاء الضباب عن كثير من غوامض تلك المعاني العليا.
ولكن المستشرقين مرضى الهوى والغرض يقولون لك إن القرآن نحت «فردوسه» من «براذيسو» التي في إنجيل لوقا، وأخذ «جنات عدن» عن تلك الجنة التي في عدن، «جان بعدن» من سفر التكوين.
أما «براذيسو» اليونانية هذه فليست يونانية، ولا علم لليونان بها قبل عصر المسيح، وإنما هي منحولة كما يقول اللغويون من الفارسية (بيري + ديزا) pairia + Deaza (بيري = حول، ديزا = جدار) فهي السور أو الحائط، استعير للبستان أو الحديقة، كما استعارت العربية لفظ «الحائط» أي المحوط، لهذا المعنى نفسه، باعتبار السور الذي يحوطه ويحفظه، لا باعتبار محتواه. فلا تدري لماذا يأخذ كتبة الأناجيل من الفارسية القديمة ولديهم في اليونانية «بريبولي» Periboli بنفس المعنى – أي الحائط بمعنى البستان – ولديهم أيضًا مطلق الحديقة Kipos، أما إن أرادوا حديقة الفاكهة خاصة فلديهم «أبوروكيبوس» Oporokipos. لا يفعل كتبة الأناجيل اليونانية هذا إلا إذا كان قد سمعوه من المسيح عليه السلام ملفوظًا على نحو قريب من «براذيسو» فتأول لها اللغويون هذا الأصل الفارسي القديم كما مر بك، دون أن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/200]
يتساءلوا عن سبب نطق المسيح عليه السلام بهذا اللفظ الفارسي القديم، ولديه في لغته «جان» و«جنا»، إلا إن كان عليه السلام يقصد جنة بعينها، كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ما معناه: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة».
وهذا يعود بك مباشرة إلى «برديس» العبرية، التي تنكر لها مترجمو «براذيسو» في الترجمة العبرية للأناجيل اليونانية.
ولكن «برديس» العبرية اسم جامد، لا اشتقاق له في المعجم العبري ولا جذر له في العبرية يرد إليه، فهو إما دخيل على تلك اللغة، وإما اسم أميت جذره وبقى الاسم بمعناه.
وردت الفردوس في القرآن مرتين فحسب، الأولى مضافًا إليها «الجنات» على النسب: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا} [الكهف: 107]، والثانية منفردة: {أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} [المؤمنون: 10 – 11]. والجمع بين حديثه صلى الله عليه وسلم في وصف الفردوس بأنه أوسط الجنة، وبين الفردوس في سورتي الكهف والمؤمنون، يقتضي فهم الفردوس بأنها علم على موضع متميز في قلب الجنة يرثه الأخيار من عباد الله الذين اكتملت فيهم صفة المؤمن على ما تعرف من أشراطها في أول سورة المؤمنون، تحيط به جنات تنسب إليه - «جنات الفردوس» في سورة الكهف – يرثها المؤمنون الذين يعلمون الصالحات بعامة، أي مطلق المؤمن، لا خيار المؤمن.
مصداق هذا التمييز بين «أصحاب اليمين» بعامة، وبين «السابقين المقربين»، أي الخيرة: {ثلة من الأولين وقليل من الآخرين} [الواقعة: 13 – 14]، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه، لا بعملنا وهو في جنب الله عز وجل قليل. ومصداقه أيضًا في سورة الرحمن، تمييزًا بين الجنتين اللتين لمن خاف مقام ربه: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46]، وبين الجنتين اللتين لمن دون هذا في المنزلة: {ومن دونهما جنتان} [الرحمن: 62]، أي لعموم المؤمن.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/201]
والقائلون بعربية الفردوس يشتقونها من «الفردسة»، أي التوسعة والتعريش، من فردس الكرم أي وسعه وعرشه، وفردس قرنه يعني صرعه، وفردس وعاء التمر ونحوه يعني حشاه وغلا ف يحشوه، ورجل فرادس يعني ضخم العظام، والفردوس بضم الفاء الزيادة والسعة في الحنطة ونحوها. وهذا كله يقطع ما بين اشتقاق «الفردوس» في العربية وما بين اشتقاق «براذيسو» اليونانية و«بيري + ديزا» الفارسية ومعناها السور أو الحائط: العربية من الضخامة والسعة والبسط، والأعجمية من التسوير والإحاطة.
«فردس» العربية كما ترى جذر رباعي. والمادة الرباعية في اللغات السامية ليست بالجذر الأصيل: إنها غالبًا إما على التضعيف مثل «زل + زل»، وإما ثلاثي زيد بحرف مثل «خثر + م» بمعنى غلظ الشفة أو طرف أرنبة (وخثر بمعنى غلظ)، وإما مزجى يجمع بين معنيين مثل «دح + رج» أي دفعه متحدرا، من الدحى والرجرجة.
أصل «فردس» إذن إما «فرد + س» من فرد بمعنى نثر وفرق وباعد مزيدا بالسين على المبالغة، كما في «قسط + س»، وإما أن تكون على المزجية «فر + دس» من الفراهة والدياسة، أو من الفرة والديسة. الولى - «فرد + س» - تطابق معاني «فردس» في المعجم العربي، أي البسط والسعة والتعريش، والثانية «فر + دس»، التي لم يقل بها أحد، تطابق تعريفه صلى الله عليه وسلم معنى «الفردوس» بأنه أوسط الجنة وأعلى الجنة. أما «الديسة» فمعناها العشب الطري (وهي «ديشه» العبرية و«ديثه» الآرامية)، ومعناها أيضًا – الذي أعنيه هنا – الغابة الكثيرة الشجر. وقد علمت أن «الجنة» في اللغة معناها الحديقة ذات النخل والشجر، من «جنه» يعني ستره، فالديسة بهذا المعنى تكافئ الجنة. وأما «فره» من الفراهة فمعناها جمل وحسن. وأما الفر والفرة (من الجذر ف/ر/ر) فهو خيار الشيء. فيكون معنى الفردوس «خيار الجنة» كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
وقد عرف العرب «الفردوس»، «الفراديس» قبل القرآن، يطلقونها على بساتين الكرم خاصة، ومنه «فراديس الشام»، ومنه أيضًا قول أمية بن أبي الصلت في عجز بيت له: «فيها الفراديس والفومان والبصل». ولأن «الكروم» هي «أكرم»
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/202]
البساتين عند العرب – وليس مصادفة أن يشتق الكرم من الكرم أو العكس – فقد شاع «الفردوس» على بساتين الكرم خاصة، وإن كان المعجم العربي يطلقه على «البستان الجامع لكل ما يكون في البساتين»، وهذا عندي محدث، متأثر في تأصيله بمعنى «الفردوس» في القرآن والحديث.
«أما» برديس «العبرية، فالمعجم الحديث لألفاظ التوراة «هملون هحداش لتتاخ» يعرفها دون تأصيل بأنها «جان عصى بري (جدور)»، أي «جنة الشجر المثمر (مسورة)»، فلا تدري كيف أقحم «التسوير» على اللفظ إلا إذا كان قد تاثر بلفظ «براذيسو» اليونانية بمعنى السور أو الحائط، المنسوبة إلى المسيح عليه السلام في إنجيل لوقا، وليس في «براذيسو» من الشجر المثمر شيء، رغم أن «جان» العبرية تفيد بذاتها التسوير والستر.
إن صحت نسبة «براذيسو» اليونانية إلى المسيح عليه السلام في إنجيل لوقا، فالراجح عندي أنه عليه السلام نطقها على العبرانية «برديس»، التي ترد آخر الأمر إلى العربية «فردوس»، لا حاجة به إلى اصطناع «براذيسو»، التي جاء بها لوقا في إنجيله – لا على الترجمة كما يُظن – وإنما على الرسم «اليوناني»، شأنها شأن كثير من ألفاظ الإنجيل العبرية – الآرامية.
لا يحتاج المسيح إلى «براذيسو» اليونانية وعنده «برديس»، وإنما احتاج إليها لوقا اليوناني. ولا يحتاج القرآن إلى «براذيسو» اليونانية، فليس «الفردوس» في القرآن سورًا أو حائطًا، وليس بستانا كأي بستان. ولا يحتاج القرآن من باب أولى إلى «برديس» العبرية ولديه العربية «فردوس»، خيار الجنة.
أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 107 من سورة الكهف والآية 11 من سورة المؤمنون)، فهم يجمعون على عربية «الفردوس» من فَرْدَسَهُ» بمعنى وسعه وعرشه. وشذ بعضهم فقال بل هي يونانية (على ما مر بك من معنى «براذيسو»)، أو هي فارسية (على ما مر بك من إرجاع «براذيوس» الإنجيلية إلى «بيري + ديزا» الفارسية). وهذا يدلك على أن «براذيسو» و«بيري + ديزا»
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/203]
وقعتا في كلام الفرس والروم على السواء عصر تصنيف تفاسير القرآن. ولم يصب هؤلاء فيما قالوه – وتوكأ عليه من بعد أدعياء الاستشراق في العصر الحديث – لأن جعل «الفردوس» بمعنى الجنة أو البستان يصطدم بقوله عز وجل في سورة الكهف «جنات الفردوس» التي تؤول على هذا القول إلى «جنات الجنة» أو «جنات البستان»، وهو لغو يتنزه عنه القرآن، لأن إضافة الشيء إلى مرادفه لا تصح إلا بزيادة في معناه. وهو يصطدم أيضًا بتعريفه صلى الله عليه وسلم معنى الفردوس بأنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، أي «خيار الجنة».
الفردوس إذن عربية لا مشاحة. وسترى الآن توًا أن «عدن» كذلك.
عدن بالمكان عدنا يعني أقام. وعدن البلد عدنا يعني توطئه، لا يريم ولا يبرح. فـ«جنات عدن» يعني «جنات إقامة». مصداق هذا قول عز وجل: {ويبشر المؤمنين الذين يعلمون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا} [الكهف: 3]. ودفع عز وجل مظنة السأم من هذا التأبيد وإن كان في الجنة بقوله في ختام السورة: {لا يبغون عنها حولا} [الكهف: 108]. إنها جنة المأوى: {عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى} [النجم: 14 – 15]، {فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون} [السجدة: 19]، وهي دار المُقامة: {الذي أحلنا دار المقامة من فضله} [فاطر: 35]، وجنة الخلد: {جنة الخلد التي وعد المتقون}[الفرقان: 15]، ودار الخلود: {أدخلوها بسلام ذلك يوم الخلود} [ق: 34].
وردت «عدن» في كل القرآن إحدى عشرة مرة. وهي لا تجيء قط في القرآن منفردة، وإنما تجيء تسبقها «جنات» على الإضافة التي تفيد النعت، أي جنات يعدن بها، لا ريم ولا براح.
ولم تجيء قط في القرآن «جنة عدن» على إفراد لفظ «الجنة»، لأن مفرد «الجنة» معرفًا بالألف واللام، علم بذاته على دار النعيم في الآخرة بكل درجاتها، فدروسا وغير فردوس: إنه اسم جنس لمجموع «الجنات» التي في تلك الدار، يختص فيها كل مؤمن بجنته. ولأن الجنس لا يكون إلا مفردًا، فلم يقل القرآن «جنة عدن» على
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/204]
الإفراد، كي لا يظن أن «جنة عدن» اسم جنس لمطلق الجنة، كما وهم سفر التكوين، وكي لا يظن أن «جنة عدن» - كالحال في «فردوس» - جنة متميزة عما دونها من الجنات، كما تروى إسرائيليات دست على تفاسير القرآن، بل الجنات كلها جنات عدن على سواء، أي جنات إقامة، فردوسًا وغير فردوس: إنها {دار المقامة} [فاطر: 35]، {عطاء غير مجذوذ} [هود: 108].
ومن إعجاز القرآن – بل ومن دقيق القرآن – أنه في حديثه عن قصة آدم لا يسميها قط – على خلاف سفر التكوين - «جنة عدن»، لأنها لم تدم لآدم. وهذا يدلك على أن «عدن» ليست وصفًا للجنة بذاتها، لا على النسب إلى إقليم أرض كما وهم سفر التكوين، ولا بمعنى النعمة والتنعم من «عدن» العبري المأخوذ من «غدن» العربي، كما قال علماء العبرية من بعد، فقد كانت الجنة لآدم وزوجته نعيمًا أي نعيم: {وكلا منها رغدا حيث شئتما} [البقرة: 35]، ولكن «عدن» وصف لدوام الحال في تلك الجنة، فلا توصف به إقامة آدم فيها قبل إهباطه منها، وإنما توصف به الإقامة في تلك الجنة لمن حقت له الجنة في الدار الآخرة، ليطمئن القلب إلى أنها إقامة خالدة لا تزول، كما زالت من قبل عن آدم، وإيناسًا لآدم نفسه بعد أن تاب الله عليه كي يخرج منها على رجاء العودة إليها خالدًا فيها لا يخشى الخروج منها كرة أخرى.
إلى هذه الجنة «الدائمة» الخالدة، دعا آدم أبناء جيله، وتحدث بها من بعده أبناؤه وذراريه أجيالاً بعد أجيال، حثًا على طلب الجنة التي لا تزول، حتى التصق النعت بالمنعوت، فصار في العبرية الأولى «جان عدن»، نقلاً عن العربية الأم – أعني عربية آدم وبنيه – أي «جنة المقامة»، علمًا على مطلق تلك الجنة.
ولكن العبرية على عصر سفر التكوين تخلط بين العين والغين، أي بين «عدن»، «غدن»، تكتبهما وتنطقهما سواء بالعين غير منقوطة. وقد سقط من المعجم العبري «عدن» بمعنى أقام، وبقيت فيه «عدن» بمعنى «غدن» العربي، أي خصب ولان ونعم، ففهمها الكاتب بهذا المعنى، وراح كدأبه يلتمس لها التفاسير، حتى استقام له إسقاط تلك الجنة من السماء إلى الأرض، ينسبها إلى موضع في ذلك الإقليم الخصيب في العراق، إقليم «عدن»، وفاته ما كتبه هو نفسه (تكوين 3/22 – 24)
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/205]
من أن الله عز وجل خشى أن «يغافله» آدم إلى شجرة الحياة في «جان عدن» بعد طرده منها، فأقام على تلك الجنة حرسًا يمنعونه من دخولها، فكيف عاد إليها أبناء آدم الذين سكنوا إقليم «عدن» يحرثون ويزرعون ويأكلون ويتناسلون؟
شرط الوحي «الصادق» ألا تكذبه السنون: لم تعد على أرض هذا الكوكب، لا في العراق ولا في غيره، بقعة أرض لم تزر إن لم تعمر، ناهيك بأرض تمنع الملائكة الناس أن يطأوها. فهل غافل الإنسان الملائكة من بعد، أم حرمت الجنة على آدم، وأبيحت من بعدُ لبنيه؟
أما علماء العبرية الذين قالوا من بعد أن «جان عدن» يعني «جنة النعيم»، فليس بشيء، لأن سفر التكوين يضع الجنة «في عدن شرقًا» ، وينص تنصيصًا على «جان بعدن»، أي جنة في عدن (والباء في العبرية تكافئ «في» العربية). ليست «عدن» في سفر التكوين من أسماء المعاني، وإنما هي بيقين لا يصح فيه جدل اسم موضع، كيفما اخترت له الأرض والموقع).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/198-206]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:09 AM

(9) جهنم:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: (
(9)
جهنم
ليس في التوراة من أسماء النار «جهنم»، وإنما فيها «شئول» أي الهاوية، وهي Hades اليونانية في الترجمة السبعينية للتوراة، والهاوية من أسماء النار في القرآن. وليس في المعجم العبري أصلاً «جهنم» أو «جهنام» العربيتان بمعنى البئر البعيدة القعر، وهي نفسها «الهاوية» إن تمعنت.
وإنما في العبرية «جي – بنى - هنوم»، أي وادي أبناء «هنوم»، التي اختصرت إلى «جي - هنوم»، أي «وادي هنوم»، وموضعه بالحي الجنوبي الشرقي من أورشليم كما يقول علماء التوراة. ضحى فيه «أحاز»، «منسا» بأبناء لهما قربانا للإله «مولخ»، وغدا من بعد مزبلة ومحرقة للنفايات، تحقيرًا.
ولعلماء العبرية في اشتقاق «شئول» قولا: إما أنها من دشأل» العبري (وهو «سأل» العربي ومن معانيه «الطلب») فيكون معناها التي تطلب ولا تشبع، شأن جهنم في قوله عز وجل: {يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد} [ق: 30]، وإما على القول الثاني – وهو غير قوي – أنها متحرفة عن «شعول» من «شعل» العبري بمعنى خوى وتجوف، فهي «الهاوية» أيضًا.
أما الإنجيل فهو يذكر في ترجمته العربية «جهنم» بالاسم: «بل أريكم ممن تخافون. خافوا من الذي بعد ما يقتل، له سلطان أن يلقي في جهنم» (لوقا 12/5)، يترجم به «جهنا» Gehenna في الأصل اليوناني، وهي باتفاق ليست يونانية، وإنما هي عبرية أو ىرامية، فالأصيل في اليونانية «كولاسي» Kolasi، ومعناها «دار العقاب»، جهنم أو الجحيم أو الهاوية أو ما شئت من أسماء النار، ولكن لوقا كدأبه آثر استبقاء «جهنا» على أصلها، أقرب ما تكون إلى ما نطق به المسيح.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/207]
والراجح عندي أن المسيح عليه السلام نطق بها على أصلها العربي «جهنام»، حذف لوقا ميمها في الرسم اليوناني، على نحو ما فعل في إنجيله أحيانًا من حذف ميم «مريم» التي رسمها في بعض مواضع Maria، أو أنه عليه السلام نطقها «جهنا» بحذف الميم ترخيمًا على نحو ما كتبها لوقا، وأن «جهنا» هذه أو «جهنام»، هي المقابل الآرامي – لا العبري – لجهنم أو جهنام العربية، بمعنى البعيدة القعر، أي الهاوية، يعني بها «شئول» العبرية لا أكثر ولا أقل.
ولكن «اليونانية الكنسية» التي لم تجد في المعجم العبري أصلاً تشتق منه «جهنا» الإنجيلية هذه أقرب من «جي - هنوم» ظنتها الصورة الآرامية لـ «جهنا» أو «جهنام»، وفاتها أن المسيح عليه السلام في السياق المتقدم يخوف السامع بما بعد الموت، أي يخوفه بدار العذاب في الآخرة، لا بمحرقة للنفايات على أطراف أورشليم، أعني «جي - هنوم»، التي لا تخيف أحدًا مات أو قتل، فلا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها. وعلى هذا النحو مضى أدعياء الاستشراق يطنطنون بأن القرآن أخذ «جهنم» من «جي - هنوم» كما فعل لوقا من قبل في إنجيله.
وقد ضل هؤلاء المستشرقون على علم، لأنهم أرادوا لأنفسهم هذا الضلال: القرآن لا يسمى «جهنم» اعتباطًا، وإنما هو يصورها ابلغ تصوير وأبينه بمعنى الهاوية البعيدة القعر، تمامًا كمعنى جهنم وجهنام في العجم العربي: {ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} [التوبة: 49]، {أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم} [التوبة: 109]، {جهنم يصلونها وبئس القرار} [إبراهيم: 29]، {فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا} [النساء: 145]، {حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم} [الأعراف: 38]، إلخ.
أفي «جي - هنوم» العبرية من هذه المعاني شيء؟ أليست «جي – هنوم»، أعني ذلك الوادي الذي لأبناء هوم، اسم موضع معلوم؟ أليست «جي» العبرية (وهي من «جواء» العربية) تعني «الوادي»، بل الواسع من الأودية، فكيف تجيء جهنم (الهاوية) من «الجواء» وهي أقرب إلى الضد منه؟ أليست الهاوية في المعجم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/208]
العربي تعني البعيدة القعر؟ أليست هي وجهنام في المعجم العربي على الترادف والتطابق؟ أفي معنى «الوادي: و«الجواء» من هذا شيء؟
والذي يستوقف النظر أن المعاجم العبرية الأحادية اللغة، أي العبري – عبري، لا تفسر «جي – هنوم» بأنها تعني «دار العذاب» في الآخرة، وإنما تدرجها في ثبت الأعلام على الموضع والمكان، أي ذلك الوادي في الجنوب الشرقي من أورشليم. أما المعاجم العبرية الثنائية اللغة، عبري – فرنسي على سبيل المثال، فهي لا تترجم «جهنا» الإنجيلية إلى «جي – هنوم» العبرية وإنما تترجمها إلى «شئول» أي الهاوية، وحين تترجم «جي – هنوم» العبرية إلى الفرنسية تقول: «وادي هنوم» الذي في أورشليم، ثم تثنى فتقول: ومجازًا = جهنًا». وقد أتى هذا «المجاز» بالطبع تأثرًا بما جاءت به المسيحية من بعد، في تصورها، أن «جهنا» الإنجيلية مشتقة من «جي – هنوم»، وليس بصحيح في ديانة اليهود.
على أن القرآن لم يحتج إلى «جهنا» ولديه في أصيل العربية «جهنام»، ولم يعرب لفظ «جهنم» عن «جي - هنوم» البعيدة كل البعد عن معناه.
جهنم في القرآن عربية لا مشاحة، وإن رغمت أنوف.
أما أن «جهنم» ممنوعة من الصرف في كل القرآن فليس هذا لعجمتها، وإنما هو فقط للعلمية والتأنيث).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/207-209]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:10 AM

(10) إبليس:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (10)
إبليس
ليس في التوراة «إبليس»، وإنما فيها «ساطان» بمعنى العدو، وهي نفسها «شيطان» العربية، كما مر بك.
وفي العبرية أيضًا «عزازيل» اسمًا علمًا لإبليس، ومعناها «عزيز الله»، على ماي روى من شأنه قبل أن يُبلس في أقاصيص أهل الكتاب، وتابعهم فيه لفيف من مفسري القرآن الذين قالوا بأن إبليس كان من الملائكة ثم «أبلس» بعد، وهذا لا يصح فيه عن الصادق المصدوق حديث، بل يعارض صريح القرآن: {كان من الجن} [الكهف: 50]، على ما ذكرناه آنفًا. وربما جاء الخلط عند أهل الكتاب من افتقار العبرية إلى اسم لصنف الجن، بل تسوى في الاسم بين الملائكة والجن: كلاهما فيها «روح»، «ملآخ»، أي روح، ملك.
وليس في الأناجيل اليونانية أيضًا «إبلس»، بل فيها «ساتان» Satan وهي نفسها «ساطان» العبرية على الرسم اليوناني، وتُرجمت في الأناجيل العربية بلفظ «شيطان»، وبلفظ «إبليس» أحيانًا، لا على الترجمة، وإنما استئناسًا باسمه الوارد في القرآن.
وفي الأناجيل اليونانية اسم آخر للشيطان، وهو «ذيبليس» Diabolos (والسين فيه للرفع وتحذف في غيره) ومن هذه جاءت Diable الفرنسية و Devil الإنجليزية، وأشبهاههما في اللغات الأوروبية الحديثة بمعنى «الشيطان» لا أكثر ولا أقل. وقد خالفت تلك اللغات بين أصل وضع اللفظين «ساطان» و«ذيبليس»، فهي تجعل «ساطان» اسمًا علمًا للشيطان يناظر «إبليس» في العربية، وتأخذ «ذيبليس» على أنه «اسم معنى» يقبل التنكير كما يقبل الإفراد والجمع.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/210]
أما «ذيبليس» اليونانية فليست ترجمة يونانية للفظ «ساطان» العبري (بمعنى العدو) كما قد يظن، وإنما هي على الفاعلية من اليونانية «ذيابولي» Diaboli وهو «القذف» بالمعنى القانوني أي الرجم بالباطل، فهو الرجيم بمعنى الراجم، لا رجيم بمعنى مرجوم كما تجد في القرآن. وربما تعللت لهم في هذه التسمية بقولهم إن الشيطان أفترى على الله الكذب، ينسبه إلى الظلم لأنه عز وجل فضل عليه آدم، فلما اعترض – وكأنه محق في هذا الاعتراض – سلبه الله عز وجل كل جماله، وأودع فيه كل قبح، أي مسخ الملك الذي كانه، على نحو ما تجد في أقاصيص أهل الكتاب وفي الأساطير التي نسجت حول إبليس. وربما أيضًا لأنه أبو الباطل، أي أصل كل تجديف على الواحد الأحد جل جلاله، من عقائد باطلة وآلهة مصنوعة، كما تجد في قوله عز وجل على لسان نفر من الجن المؤمن: {وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا} [الجن: 3 – 5] ومن هنا ترى أن «ذيبليس» اليونانية هذه ليست ترجمة للفظ «ساطان» العبري بمعنى العدو، وهي شيطان العربية، وإنما هي بالأحرى صفة لإبليس بمعنى القاذف الراجم، أي الذي يفتري الباطل. وربما ظننت أن «ذيبليس» Diabolos اليونانية هذه ليست أصلاً يونانية، بل عبرية – ىرامية نطق بها المسيح وتحرفت في الأناجيل: ربما كانت «دي - هبل»، تحرفت إلى «ذيبليس» عند من يهمسون الهاء وينطقون دالهم ذالا – اليونان كما مر بك – أما «دي» عبريا فمعناها «ذو»، وأما «هبل» عبريا فمعناها الباطل الذاهب هباء.
ومن المستشرقين من قال بأن «إبليس» معربة في القرآن عن «ذيبليس» التي في الأناجيل، كما أخذ «شيطان» من ساطان العبرية.
ومن مفسري القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 34 من سورة البقرة) من قال بعجمة «إبليس»، وأنها منعت من الصرف لهذا السبب وحده، ولكنهم لم يذكروا الأصل الذي عرب عنه، ولم يسموا اللغة المشتق منها.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/211]
ومن اللغويين العرب كذلك من يرون أن «إبليس» من الأعجمي المعرب، يكتفون بذلك ولا يسمون اللغة المشتق منها.
أما الكثرة من مفسري القرآن (راجع القرطبي في نفس الموضع) فهم يقولون بعربية «إبليس» يشتقونها من الإبلاس، ويعللون امتناع الصرف بالعلمية وانعدام النظير في أسماء المعاني، فشبه بالأعجمي.
والذي يستوقف النظر، أن أشهر معاجم اللغة الإنجليزية، على شغفه برد الألفاظ والأعلام الأعجمية (أعني غير الإنجليزية) إلى جذورها البعيدة في شتى اللغات الحية والميتة على السواء، يتوقف في «إبليس» فيقول: اسم عربي يطلقه المسلمون على الشيطان، ولا يذكر أصله من العربية أو غيرها.
هذا وذاك يدلانك على أن عجمة «إبليس» أو اشتقاقها من «ذيبليس» اليونانية بالذات، مسألة فيها شك عند اللغويين الأثبات لا يقطعون فيها بيقين، لأن القول بعجمة لفظ في لغة ما يتطلب – أول ما يتطلب – التدليل على وجود أصل لهذا اللفظ في لغة بعينها استعير منها.
والملاحظة الأولى على خطأ القول بأن «إبليس» معربة عن «ذيبليس» بحذف دالها البادئة (المنطوقة في اليونانية ذالا) وإبدال الهمزة منها، أنه قول لا يصح في حق القرآن، الذي يتنزه عن هذه الصورة «البتراء» من صور التعريب، التي لم يقع مثلها قط في «معربات» القرآن. هذا ما لم يسلم أولئك المستشرقون للقرآن بالتضلع من فقه اللغة اليونانية، فيدرك أن المقطع «ذيا» dia من مقاطع الزيادة في تلك اللغة، يجوز الاستغناء عنه. والفقيه باليونانية لا يستعصى عليه أصلاً معنى لفظ «ذيبليس» في تلك اللغة – وقد مر بك معناه – فلا يستعيره ولديه من العربية في معناه ما هو أبلغ وأبين.
أما الملاحظة الثانية فهي أن العرب لم يعرفوا «ذيبلس» اليونانية هذه قبل القرآن أو بعده، لا على أصلها ولا في صورة محرفة، وإلا لوقعت في تفاسير المفسرين. وليس من شأن القرآن كما مر بك أن يتعاجم على المنزل إليهم بالأعجمي الأعجم.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/212]
إبليس عربية. ولكنها من «العربي» المشكل.
ووجود اللفظ المشكل في القرآن مقصود: إنه يستثيرك إلى تحري المعنى، فتزداد علما، وتزداد فهمًا، وتزداد إيمانًا. وقد روى عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ما معناه: ثوروا القرآن أي ابحثوا وتمعنوا. والمشكل يستوقفك للبحث والنظر، فتكون ممن قال فيهم الحق سبحانه: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا} [الفرقان: 73].
وقد أشكلت «إبليس» على القائلين بعجمتها وعلى القائلين بعربيتها معًا.
أما الأولون فهم ذلك الفريق من المفسرين واللغويين الذين إذا استغلق عليهم لفظ في العربية سارعوا إلى افتراض عجمته، وتلمسوا له النظير في غيرها من اللغات. وقد أسرفوا في هذا أيما إسراف، بل كانوا التكأة التي توكأ عليها أدعياء الاستشراق الذين بَهروا تلاميذَهم، وقد ظنوا أنهم أتوا بجديد. من ذلك قولهم (راجع مقدمة تفسير القرطبي) إن «غساق» يعني اللحم البارد المُنتن في لغة الترك فلا تدري كيف يجتمع الحميم والغساق في قوله عز وجل: {لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا} [النبأ: 24 – 25]، وقولهم إن «القسطاس» يعني الميزان بالرومية، وليس في الرومية من هذا شيء، بل «قسط» العربي، «قاشاط» العبري، أولى، وقد مر بك القول في «قسطاس». ولكن «إبليس» استعصت على هؤلاء المفسرين فلم «يهتدوا» إلى أصل لها في لغة أعجمية، واهتدى إلى هذا الأصل المستشرقون من بعد في دعواهم أن «إبليس» من «ذيبليس» الإنجيلية، وكأن القرآن يخاطب العرب بيونانية يفهمونها، كما ظنوا أن المسيح عليه السلام يخاطب قومه الآرامي اللسان بيونانية فشت فيهم.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/213]
أما الفريق الثاني القائل بعربية «إبليس» فلم يكن أمامه إلا اشتقاقها من الإبلاس. يعني أنها «إفعيل» من «أبلس»، فهو المبلس على المبالغة. وقد ورد لفظ «الإبلاس» في القرآن خمس مرات: {ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون} [الروم: 12]، {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} [الأنعام: 44]، {حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون} [المؤمنون: 77]، {إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون} [الزخرف: 74 – 75]، {فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين} [الروم: 48 – 49]. وليس في هذه الآيات ما يشهد لمعنى الإبلاس إلا الشاهدان الثاني والخامس، أي وضع الإبلاس في مقابلة الفرح والاستبشار، وربما استنبطت من «إبلاس المجرمين يوم تقوم الساعة» في الشاهد الأول أن الإبلاس حال من اليأس وانقطاع الرجاء، ومن الشاهدين الثالث والرابع كذلك.
أما المعجم العربي فيقول لك إن «أبلس» يعني سكت لحيرة أو انقطاع حجة، وليس في العربية إلا أبلس بالهمزة غير متعد، وكأنها من «بلسه فأبلس» إلا أنه لم تسمع «بلس». وفي «العبرية» بلس يعني قطف، أي جمع ثمار التين خاصة. والبلس في العربية نوع من التين. هذا وذاك يدلانك على أن المعنى الأصلي لمادة «بلس» هو القطع، وكأنه مبدل من «بلت» يعني «قطع». والانقطاع يفسر «الإبلاس» أبين تفسير في الآيات التي تلوت توا، تطبقه على الشواهد القرآنية الخمسة فيستجيب. وهو يفيد أيضًا في تأصيل معنى «أبلس» في المعجم العربي، وهو الإطراق تحيرا والسكوت لانقطاع الحجة. وفي العربية أيضًا «بلسم» وهي «بلس» مزيدة بالميم، ومعناها أطرق وعبس وجهه، وهي من «أبلس» قريب. وكأن معنى «إبليس» المقطوع الحجة في الامتناع عن السجود لآدم، أو هو – كما ذكر القرطبي – الآيس من رحمة الله وقد فعل ما فعل.
هذا إن اشتققت «إبلس» من الإبلاس، وليس عندي بوجيه، كما سترى.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/214]
مر بك أن العلم المذكور في القرآن على غير سابقة في التوراة والإنجيل يرد في القرآن على أصله عربيًا، لأنه لم تثبت له العلمية من قبل بلفظ مغاير يوجب على القرآن التزامه، كما ثبتت العلمية لجبريل وميكال ونوح ولوط، إلخ، على اللفظ الآرامي – العبري في صحف إبراهيم وموسى. ولم يرد ذكر للفظ إبليس في التوراة والإنجيل بنصهما المعاصر لنزول القرآن.
وقد ثبتت العلمية لإبليس بهذا الاسم في الملأ العلى على النداء من الله عز وجل: {قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين} [الحجر: 32]، وهذا قاطعٌ في أن إبليس سمي بهذا الاسم قبل إهباط آدم من الجنة، أي على اللفظ العربي قبل أن تتفرق ألسنة البشر لهجات فلغات، شأنه شأن آدم، خلافًا لجبريل وميكال اللذين لم يخاطبا في القرآن على النداء من الله عز وجل لسبق ثبوت العلمية لهما على اللفظ الآرامي – العبري في التوراة والإنجيل. أما إبليس وآدم فقد خوطبا على النداء من الله عز وجل باسميهما هذين، فهما كما قال سبحانه، لا يبدل القول لديه.
والذي يتعين التنبيه إليه، أن تسمية إبليس بهذا الاسم في القرآن جاءت مقترنة بعصيانه، أي بامتناعه عن السجود لآدم، فور هذا الامتناع مباشرة، قبل صدور الحكم الإلهي بإدانته وانقطاع رجائه: {قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاخرج منها فإنك رجيم وأن عليك لعنتي إلى يوم الدين} [ص: 75 – 78]، والذي يلعنه الله فقد انقطع رجاؤه.
وهذا يعني أن إبليس سمي بهذا الاسم لمجرد امتناعه، وقبل انقطاع رجائه. فلا يصح أن تكون «إبليس» بمعنى الآيس من رحمة الله، كما تجد في «القرطبي»، لأن إبليس لم يكن قد يئس بعد. ولا يصح أن تكون بمعنى المقطوع الحجة، فلم يكن قد أدلى بعد بحجته: «خلقتني من نار وخلقته من طين». ولا يصح أن تكون بمعنى الذي أطرق تحيرا، لا يُحير جوابا، فقد استعلن إبليس بمكنونة نفسه مجترئًا على خالقه، مستدركًا على مولاه، فضلاً عن أن «الإطراق تحيرا» قليل في وصف حال إبليس. وإنما الذي يصح هو أن تكون «إبليس» بمعنى العاصي، الرافض، المتأبي، الممتنع. وليس في «الإبلاس» من هذه المعاني شيء.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/215]
الراجح عندي، والله عز وجل بغيبه أعلم، أن «إبليس» تعني الذي أبى، كنية له بحال امتناعه وتأبيه، جاءت على المزجية من «أب + ليس، أي هو «أبو لس»، وقد مر تفصيل هذا في موضعه من «الفصل الثالث» من هذا الكتاب، في اشتقاق «ليس» ومعناها، فارجع إليه.
وقد وردت «إبليس» في القرآن إحدى عشرة مرة، معقبًا على سبع منها بالتأبي والامتناع والرفض: {إلا إبليس أبى} [البقرة: 34]، {إلا إبليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} [الأعراف: 11 – 12]، {إلا إبليس أبى} [الحجر: 31]، {قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون} [الحجر: 31 – 33]، {إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} [الكهف: 50] – وفسق عن المر يعني خرج عليه -، {إلا إبليس أبى} [طه: 116]، {قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [ص: 75] وجاءت أيضًا معقبا عليها بالاستكبار الذي يفيد الامتناع مرتين: {إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين} [ص: 74]. أما في المرتين العاشرة [الشعراء: 95] والحادية عشرة [سبأ: 20] فهما فقط اللتان جاءت فيهما «إبليس» على العلمية المجردة غير معقب عليها بشيء.
«إبليس» إذن هو «هامة العصاة»، أي: «أبوهم».
والله عز وجل بغيبه أعلم).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/210-216]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:13 AM

(11) آدم:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (11)
آدم
من دلائل قدم العربية على العبرية، أن اسم «آدم» أبى البشر (وينطق في العبرية «أدام» بألف ممدودة بعد الدال)، ليس له جذر في العبرية يشتق منه إلا الجذر العبري «أدم» أي «إحمر» بمعنى كان أحمر اللون. و«أدوم» في العبرية يعني «الأحمر»، ومنه كما يقول علماء العبرية لفظ «دام» أي «الدم، فلا تدري هل اشتق «آدم» من الدم أم اشتق «الدم» من آدم. وفي العبرية أيضًا «أدما» بمعنى الأرض، أي التربة، ومنه ما جاء ف يسفر التكوين: «ويصر يهوا إلوهيم إت – ها أدام عفر من ها أدما ويبح بأباو نشمت حاييم» وهي في الترجمة العربية «وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض ونفخ في أنفسه نسمة حياة» (تكوين 2/7). والأرض هنا يعني التربة، أي قشرة الأرض، يعني أديمها الظاهر منها، لا الأرض نفسها وهي في العبرية «ها آرص». ولا سبيل لك إلى اشتقاق «أدما» هذه – إن أردتها عبرية – إلا من الجذر العبري «أدم»، أي «إحمر»، يعني كان أحمر اللون، فهي «الحمراء»، وكأن «آدم» يعني «الأحمر» المجبول من «الحمراء». ولو قابلت هذا بمكافئه العربي لقلت إن «آدم» يعني «الأغبر» المجبول من «الغبراء» (وهو الاسم الذي يطلقه العرب على أديم الأرض)، وكأن الحمرة هي اللون الغالب على تربة الأرض عند العبرانيين فسميت به. ولا يصح هذا بالطبع، وإنما الصحيح هو أن العبرية لم تشتق «أدما» من الجذر العبري «أدم»، وإنما نقلتها نقلاً عن العربية («الأدمة»)، اسمًا جامدًا لا اشتقاق له عندها.
أما «أدم» العربي، فهو جذر غزير المعاني، ليس فيه من الحمرة شيء. من معانيه الامتزاج والخلط والإيلاف: من ذلك «الائتدام» أي المزاوجة بين أنواع الطعام
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/217]
كأكل الأرز باللحم، والخبز بالخضر. و«الإدام» هو المضاف من الطعام إلى بعضه ليستمرأ. و«آدم» بين الزوجين يعني آلف بينهما وأصلح. و«أدم الصانع الجلد» يعني أصلحه بنزع الزائد من «أدمته» و«الأدمة» هي باطن الجلد تحت البشرة اللصيق باللحم «المخالط» له. و«أدمة الأرض» ما يلي وجهها، أي غلافها، ومنه «الأديم» بمعنى الجلد، وأديم الأرض يعني «جلدها»، وهو «التربة». و«أدم يأدم»، وأيضًا «أدم يأدم» فهو «آدم» (نسبة إلى «الأدمة» أي «التربة») يعني من كانت بشرته في لونها، أي الشديد السمرة. و«آدمته الشمس» يعني لوحت لونه، أي صيرته إلى السمرة.
وهكذا ترى أن «أدما» العبرية بمعنى الأرض والتربة، ليست بعبرية، وإنما هي دخيلة على تلك اللغة، استعارتها رأسًا من العربية.
وتستطيع أن ترتب على هذا مباشرة أن العبرية ورثت أيضًا اسم «آدم» عن هذه العربية نفسها، أعني العربية الأولى – عربية آدم – ذلك الاسم الذي سماه الله به في الجنة، وهبط به إلى الأرض، فصار له علما بين زوجه وبنيه وحفدته وذراريه. دليلك في هذا أن سفر التكوين ينص تنصيصًا على أنه لا يشتق «آدم» من لون بشرته عبريًا، أي الحمرة، ولكنه يشتقه من الأرض التي أخذ منها وإليها يعودن أي من «الأدمة» (وهي عربية لا عبرية كما مر بك): «عاد شويخا إل – ها أدما، كي ممنا لقحتا، كي – عفر أت، وإل – عفر تشوب» أي «حتى تعود الأرض التي أخذت منها لأنك تراب وإلى التراب تعود» (تكوين 3/19).
آدم من الأدمة في التوراة، ليس من الحمرة، وهو كذلك في العربية، كما سترى، بل هو أولى.
أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 31 من سورة البقرة) فهم على أنه مشتق من أدمة الأرض وأديمها، وهو وجهها، فسمي بما خلق منه. وقال بعضهم إنه مشتق من الأدمة (بضم الهمزة) وهي السمرة. وزعم بعضهم أن الأدمة هي البياض، وأن آدم كان أبيض. وليس هذا وذاك بشيء، لأن الأدمة نفسها مشتقة من الأديم، أي من لون الأدمة، وهي إلى السمرة أقرب، ثم إنه لا مدخل للون آدم في تسميته: ليكن آدم أسمر أو أبيض أو ما شئت من أبشار البشر إن صح في لونه عن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/218]
الصادق المصدوق حديث، ولكنه قبل كل شيء منسوب إلى هذه الأدمة التي جبل منها أيا كان لونها وأيا كان لونه.
وقد عقب القرطبي رحمه الله على أقوال المفسرين في هذا بقوله: والصحيح أنه مشتق من أديم الأرض.
وهذا هو «التفسير القرآني» لمعنى «آدم»، كما سترى.
ورد آدم في القرآن منفردًا – أي ليس مضافًا إليه بنوه كما في «بني آدم»، «ابني آدم» - 18 مرة، منها أربع على النداء من الله عز وجل في الملأ الأعلى، ومنها واحدة خاطبه بها إبليس يغريه بالأكل من الشجرة، والباقي في الحديث عن قصة آدم في الملأ الأعلى، إلا اثنين: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} [آل عمران: 33]، {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم} [مريم: 58]. وليس في هذا كله من تفسير معنى آدم شيء إلا قوله عز وجل: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب} [آل عمران: 59]. ولكنك تجد هذا المعنى فصيحًا بينا في مثل قوله عز وجل: {إني خالق بشرا من طين} [ص: 71]. في هذه – وغيرها من مثلها في القرآن كثير – الكفاية كل الكفاية في تفسير معنى «آدم»: أما الطين فقد علمته، وأما «البشر» فمن البشرة، وهي وجه «الأديم»، و«بشر» الأديم يعني قشره.
«آدم» عربية كما ترى، تخرج عن مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب، ولكن القرآن فصل في وجه اشتقاقها: إنها من «الأدمة» و«الأديم»، لا من «البياض» و«السمرة».
ويَخرج عن مقاصد هذا الكتاب أيضًا تفسير اسم «حواء»، زوج «آدم» في الجنة، لأنها لم تذكر بالاسم في القرآن.
ولكنا وعدناك فيماس بق بتفسير هذا الاسم مع «آدم». وقلنا لك أيضًا فيما سبق إن القرآن – حين لا ينص على اسم علم – يلم بمعناه أحيانا في ثنايا الآيات،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/219]
فيصوره لك حتى لتكاد تسميه به، وإذا هو نفسه اسم العلم المعني في التوراة. و«حواء» من هذا كما سترى.
يشتق علماء العبرية اسم «حواء» من الجذر العبري «حوا»، ويقولون إنه من «الحياة»، أي أن «حواء» يعني «الحياة». وهم يقسرون الجذر العبري «حوا» على هذا المعنى قسرا، رغم أن لفظ الحياة في العبرية هو «حاييم»، المشتق من جذر عبري آخر هو «حَيَا» بالياء، المطابق لنظيره العربي بنفس المعنى. ولكنهم يقولون لك إن «حوا» (وهو اسم «حواء» في العبرية غير مهموز) يعني «الحياة» في اسم «حواء» فقط، لا يجز استخدامه بهذا المعنى في غيرها، بل تستخدم «حاييم» على أصلها. وقد «اضطر» علماء العبرية إلى هذا اتباعًا لسفر التكوين الذي ينص تنصيصًا على أن «حواء» من الحياة. وقد مر بك هذا في موضعه. ولا تستطيع أن تقول إن كاتب سفر التكوين تورط في هذا التفسير مدفوعًا بتغيير طرأ في زمنه على معنى الجذر «حوا»: لو صح هذا لما جاز لعلماء العبرية حظر استخدام «حوا» بمعنى الحياة في غير اسم «حواء». وإنما تستطيع أن تقول إن كاتب سفر التكوين تورط في هذا فألزم به من جاءوا بعده، مثل ما فعل في تفسير اسم «بابل» بالبلبلة، فشاعت شرقًا وغربًا في كل اللغات. دليلك في هذا من العبرية المعاصرة التي تستخدم الفعل «حوا» بمعنى عاش، أي عاش حدثًا ما أو تجربة ما، بمعنى «شهد» ، ولكنها لا تستخدمه قط بمعنى «حيا». على أن «عاش»، «حيا» ليسا سواء: عاش بمعنى شَهِد يسهل اشتقاقه من أصل معنى الجذر العبري «حوا»، وهو يطابق «حوى» العربي.
وقد تابع مفسرو القرآن أهل التوراة في تفسيرهم اسم «حواء» بالحياة، لا تجد لهم في تفسيره قولاً يغايره (راجع تفسير القرطبي للآية 35 من سورة البقرة).
أما الفعل «حَوَى» في العربية فأصل معناه التجمع والاستدارة والتقبض، ومنه «الحية» لأنها «تتحوى» أي تستدير على نفسها، ومنه أيضًا «حواه» بمعنى استولى عليه وملكه، وكأنه «استدار عليه»، ومنه كذلك «الحواء» أي المكان الذي يحوي الشيء، ويجمع على «أحوية»، و«الأحوية» يعني البيوت التي تحوي الناس،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/220]
والباقي الآن منها في معناه البيوت من الوبر مجتمعة على ماء. والحواءة من الرجال يعني اللازم بيته.
وقد رجع «علماء العبرية» إلى هذه المعاني حين أرادوا تأصيل معنى الجذر العبري «حوا» - بعيدًا عن اسم «حواء» بالطبع الذي لا يملكون له تعديلاً – عندما تصدوا للفظ العبري «حووت» (على جمع التأنيث العبري من «حوا» بمعنى «القرية» - الذي لا يستقيم معناه بالإصرار على أن الفعل «حوا» العبري يعني «حيا»)، فتبينوا أن «حووت» العبري يعني بالضبط «الأحوية» العربي وانتهوا إلى أن «حوا» العبري يأخذ من «حوى» العربي معنى التجمع والاجتماع.
وقال آخرون من علماء العبرية هؤلاء إنه لا داعي لأخذ «حوا» العبري من «حوى» العربي، لأنه إذا كان «حوا» العبري يعني «حيا» كما يريد سفر التكوين، فإن معنى «الحياة» Living يفيد معنى «السكنى» و «الإقامة» أيضًا. ومهما قلتَ في تأثر هذا القائل بلسانه الأوروبي، فهو في أعماقه يريد أن يوفق بين ما قاله سفر التكوين في معنى «حواء» بأنها «من الحياة»، وبين تلك «الأحوية» (حووت العبرية)، أي تلك «القرى» الماثلة أمامه، ليس فيها من اشتقاقات «الحياة» شيء إلا إن أخذتَ «الحياة» بمعنى «المعيشة»، وهو بعيد عما أراده سفر التكوين بقوله إن حواء هي واهبة الحياة (أم كل حي).
أيُّما صح هذا أو ذاك، فأنت لا بد منته إلى أن «الفعل حوا» العبري أصل معناه من التجمع والانضمام والسكنى والتوطن والإقامة، لا شأن لك بما آل إليه معناه عند كاتب سفر التكوين، فأم البشر «حواء» ليست فقط أقدم من مولد هذا الكتاب ولكنها أقدم بقرون لا يعلم عدتها إلا الله من مولد تلك اللغة العبرية نفسها.
والذي لا شك عندي فيه أن «حواء» عرفت بهذا الاسم في الملأ الأعلى، وأنه قد تكلم به معها آدم الذي علم الأسماء كلها، وأنها هبطت بهذا الاسم إلى الأرض مع آدم، فصار لها علما في أجيال بنيها، يتوارثونه جيلاً بعد جيل، حتى آل إلى ما صار إليه في سفر التكوين، لا على النحت من العبرية ذاتها، وإنما على النقل من «العربية الأولى»، عربية آدم وحواء، شأنه شأن اسم «آدم» سواء بسواء.
والذي لا شك عندي فيه أيضًا – ولا خلاف فيه مع سفر التكوين – أن دلالة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/221]
الاسم على مسماه قد روعيت في تسمية «حواء» كما روعيت من قبل في تسمية «آدم»: أما آدم فقد سمى بما خلق منه وأما حواء فقد سميت بما خلقت له.
وقد أصاب سفر التكوين في آدم، ولم يصب في حواء، التي تعلل في تسميتها بمعنى الحياة (لأنها أم كل حي): «ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي» (تكوين 3/20)، أي أنها سميت بما خلقت له وهو «الإنجاب»، أي ولادة الأحياء.
ولم يصب الكاتب في حواء من وجهين: الأول لغوي بحت، لأنه لا يصح اشتقاق الحياة من الجذر العبري «حوا» إلا بافتعال شديد كما مر بك. والثاني بيولوجي بحت: لا يصح أن يقال إن المرأة هي «واهبة الحياة»، فبالذكر والأنثى معًا يكون النسل، لا نسل إلا باجتماعهما معًا. وفي الكون كائنات «وحيدة الجنس» تتناسل لا حاجة بها إلى ذكر وأنثى، ولو شاء الله لآدم أن يكون من هذه الكائنات لفعل. وسفر التكوين نفسه ينص على سبب إيجاد «حواء» أنثى: «وقال الرب الإله ليس جيدًا أن يكون آدم وحده. فأصنع له معينًا نظيره» (تكوين 2/18)، أي أن يكون لآدم زوج. بل وراء جعل النسل من ذكر وأنثى هدف أجل منه، وهو إلزام شطري الخلق بالعيش في جماعة من نوعها. تجد هذا في الأحياء كافة حتى الحشرة. وفي إطالة أمد طفولة النوع الإنساني – وهي في الإنسان من دون كافة الأنواع أطولها أمدًا – إلزام الأبوين بالإيلاف والتضام، و«التحوى» عمرهما كله لرعاية هذا النسل وإعالته وتنشئته، فتكون «الأسرة». وفي المخالفة بين نسل الأسرة والأسرة – عددًا ونوعًا – إلزامُ الأسر بالتزاوج فيما بينها، فتنشأ بالنسب والصهر شعوب وقبائل، يتعارفون على أصول وقيم يتبارون في السبق إليها. ولا يتحقق هذا إلا بالخلق مع ذكر وأنثى. تجد هذا كله في قوله عز وجل: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} [الحجرات: 13]. و«جعلنكم» في هذه الآية على التقرير والتفسير معًا، أي خلقناكم من ذكر وأنثى لنجعلكم شعوبًا وقبائل.
وقد شاءت حكمته عز وجل أن يجعل المرأة للرجل «سكنا»، مستقرًا له ومقامًا. إنها الزوج والإلف والسكن. وهذا هو ما خلقت له «حواء» فسميت به، لا «ولادة الأحياء» كما تجد في سفر التكوين، فما كان لآدم وحواء وهما في الجنة التفكير في الإنجاب والتناسل.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/222]
ليست «ولادة الأحياء» هي العلة من التسمية وإنما العلة هي أنها «الحواء» لآدم: السكينة والسكنى.
والقرآن لا ينص على اسم «حواء»، فلا يسميها بما سماها به آدم، إن صح ما قاله سفر التكوين من أن آدم هو الذي سمى، وغما القرآن يسميها «زوج آدم»، أي إلفه: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} [البقرة: 35].
ولكن القرآن يفسر اسم «حواء» بما فسرناه به نحن فيصوره أبلغ تصوير في قوله عز وجل: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها} [الأعراف: 189]، {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها} [الروم: 21]، {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع} [الأنعام: 98]).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/217-223]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:14 AM

(12) إدريس:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (12)
إدريس
ليس في التوراة والإنجيل اسم «إدريس»، وإنما ذكر إدريس عليه السلام في القرآن وحده في زمرة من ذكرهم القرآن من النبيين والصديقين.
وقد وردت «إدريس» في القرآن مرتين فحسب: {واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ورفعناه مكانا عليا} [مريم: 56 – 67)، {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين} [الأنبياء: 85].
وقد اختلف مفسرو القرآن في «إدريس» (راجع تفسير القرطبي للآية 56 من سورة مريم)، أعجميٌ اسمه أم عربي، سبق نوحا أم كان من ذرية نوح. والمشهور عند الرواة أن اسمه في العبرية «أخنوخ»، وأنه أول نبي من ذرية آدم سابق على نوح. ومنهم من أصر على أن «إدريس» لفظ أعجمي لأنه ممنوع من الصرف في القرآن لغير علة إلا العجمة، دون أن يذكروا من أي لغة أعجمية هو، كدأبهم حين يعضل الاشتقاق عليهم. والكثرة على أنه من «دَرَسَ» العربية فهو «الدارس» من المدارسة والتدارس على المبالغة، الكثير العلم. وليس في «إدريس» حديث صحيح يَفْصِلُ في المسألة، إلا ما جاء في صحيح مسلم من حديث الإسراء قوله صلى الله عليه وسلم: «لما عرج بي أتيت على إدريس في السماء الرابعة»، تفسيرًا لقوله عز وجل في شأن إدريس: {ورفعناه مكانا عليا} [مريم: 57) وهذا لا يفصل في الترتيب التاريخي لإدريس عليه السلام بين الأنبياء صلوات الله عليهم، ولا يقطع أيضًا بأن إدريس رُفع إلى السماء الرابعة ومات هناك، كما وقع في إسرائيليات نُسبت إلى ابن عباس وكعب الأحبار وغيرهما من الناقلين عنهما، فقد التقى الصادق المصدوق في معراجه بأنبياء غير إدريس ماتوا على هذه الأرض ودُفنوا فيها.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/224]
على أن منشأ القول بأن إدريس في القرآن هو «أخنوخ» في التوراة يرد بالقطع إلى يهود من أهل الكتاب عرفوا أن «إدريس» في العربية تكافئ «أخنوخ» في العبرية، وربطوا بين ما جاء في القرآن عن إدريس: {ورفعناه مكانا عليا} [مريم: 57] وبين ما جاء في سفر التكوين في شأن أخنوخ، أبى متوشالح، أبى لامك، أبى نوح: «وعاش أخنوخ خمسا وستين سنة وولد متوشالح. وسار أخنوخ مع الله بعد ما ولد متوشالح ثلاث مائة سنة وولد بنين وبنات. فكانت كل أيام أخنوخ ثلاث مائة وخمسا وستين سنة. وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه» (تكوين 5/21 – 24). اللفظ العبري «أخنوخ» يفيد بذاته الدارس الإدريس، و«سيرته مع الله» تفيد «الصديقية» التي في قوله عز وجل: {إنه كان صديقا نبيا} [مريم: 56]، وعبارة «ولم يوجد لأن الله أخذه» تجد صداها في قوله تبارك وتعالى: {ورفعناه مكانا عليا} [مريم: 57]. ولم يقع هذا في القرآن في شأن أي نبيّ على ارتفاع مكانتهم إلا في إدريس، وهذا يدلك على أنه ارتفاع على الموضع حقيقة لا مجازًا. لا تستثنى من هذا إلا عيسى عليه السلام في قوله عز وجل: {يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55].
لهذا كله فنحن مع القائلين بأن أخنوخ في التوراة هو نبيُّ الله إدريس عليه السلام. والله عز وجل بغيبه أعلم.
أما المستشرقون المنكرون الوحي على القرآن فلم يقولوا بهذا، ولم يلتفتوا إلى وحدة المعنى في «إدريس» و«أخنوخ» وإنما ذهبوا يتلمسون لاسم «إدريس» نظيرًا أعجميًا في أقاصيص أهل الكتاب، فلما أعياهم البحث رأى بعضهم أن أقرب الأسماء إليه «أندرياس» اليوناني، وهذا عبثٌ لا يليقُ بنا الالتفات إليه، ناهيك عن مناقشته والإفاضة فيه.
أما أن «أخنوخ» - لغة – هي «إدريس» فقد علمت أن «الإدريس» هو الدارس الفاقه الحاذق. وأما «أخنوخ» فأصلها العبري «حنوك»، التي تنطق كافها
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/225]
خاء، على ما مر بك من قواعد النطق في العبرية التي تنطق الكاف خاء إذا تحرك أو اعتل ما قبلها، فهي عندهم «حنوخ» عربها العرب إلى «أخنوخ». وأما معنى «حنوك» العبرية هذه فهي على المفعولية من الفعل العبري «حنك» على معنى «حنكه» العربي، أي فقهه وثقفه وعلمه، فهو المحنك المحنوك.
وقد جاءت «إدريس» في القرآن على الترجمة لا غير، تحاشيا لثقل «أخنوخ» التي شهر بها هذا الاسم العلم قبل القرآن.
وأما لماذا كانت «إدريس» ممنوعة من الصرف في القرآن، فهذا من إعجاز القرآن الذي لم يفطن إليه الزمشخري وغيره (راجع تفسير القرطبي للآيتين 56 و 57 من سورة مريم) الذين لم يستطيعوا الجمع بين عربية هذا الاسم في لفظه، وبين عجمته في أصله: القرآن – بمنعه «إدريس» من الصرف – يدلك على أصله الأعجمي، وكأنه يوصيك بأن تتلمسه في «أخنوخ» لا في نبي مجهول من بني إسماعيل عليه السلام.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/224-226]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:15 AM

الفصل الخامس:
آدم الثاني: من نوح إلى إبراهيم
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( الفصل الخامس
آدم الثاني: من نوح إلى إبراهيم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/227]
يتناول هذا الفصل تفسير تسعة أعلام: نوح، ومرساه «الجودي»، هود، عاد، إرم، صالح، ثمود، شعيب، مدين.
ولا يعرف أهل الكتاب من هذه الأسماء التسعة على التقابل سوى ثلاثة أسماء: نوح وثمود ومدين. لا علم لهم البتة بهود وعاد وصالح وشعيب. أما «الجودي»، مرسى نوح، فهي في التوراة «أراراط»، وأما «إرم» فهي في العبرية الآرامية «آرام»، وإليها تنتسب اللغة الآرامية كما لعلك حدست.
وعاد في القرآن هم قود هود، وإرم مدينتهم. وثمود هم قوم صالح. ومدين قوم شعيب.
وقد فصل القرآن في الترتيب التاريخي لهؤلاء الأنبياء الأربعة: نوح، ثم هود، ثم صالح، وأخيرًا شعيب. وإن كان «لوط» بين صالح وشعيب، ولكننا نرجئ الحديث عن لوط ليجيء في سياق الحدث عن نبي الله إبراهيم، عم لوط.
تَستظهر هذا التتابع من قوله عز وجل على لسان هود: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} [الأعراف: 69] فتفهم أن «هودا» أرسل بعد نوح وتفهم أيضًا أنه ليس بين هذين نبي مذكور في القرآن، لأن هودا لا يحذر قومه إلا مصير قوم نوح، لا علم له بما سيئول إليه مصير قوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب الذين جاءوا بعد هود. وأما صالح فيقول القرآن على لسانه: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد} [الأعراف: 47] فتفهم أن صالحا جاء بعد هود ليس بينهما نبي لأنه يحذر قومه مصير قوم هود، لا علم له بما سيكون من شأن قوم لوط وقوم شعيب اللذين جاءا بعده. وأما شعيب فيقول القرآن على لسانه: {ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد} [هود: 89] فتفهم أن لوطا بين صالح وشعيب.
وأما أن «إرَم» مدينة قوم هود فتستظهره من قوله عز وجل: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد} [الفجر: 6 – 7].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/228]
ولقد شهر نوح عليه السلام بأنه آدم الثاني، لأن الخلق كلهم بعد الطوفان ينسبون إليه: قال عز وجل في نوح {وجعلنا ذريته هم الباقين} [الصافات: 77]، وهذا من مجاز المجمل، والصحيح أنهم ذريته وذرية من آمن معه وركب الفلك: {ذرية من حملة مع نوح} [الإسراء: 3].
والذي بين آدم ونوح عليهما السلام قرون لا يعلم عدتها إلا الله، والذي بين نوح وإبراهيم عليهما السلام كذلك. تستطيع بالحساب التقريب أن تضع إبراهيم عليه السلام بين أعلام القرن الثامن عشر قبل الميلاد أو التاسع عشر لا تزيد: أنجب إبراهيم وقد ناهز المائة عام ابنه الثاني إسحاق، وأنجب إسحاق بدوره ابنيه التوأمين «عيسو»، «يعقوب» وهو «إسرائيل» أبو يوسف الذي وطأ لبني إسرائيل في مصر فمكثوا بها كما تقول التوراة أربعمائة وثلاثين سنة (خروج 12/40)، وكان خروجهم على الراجح عندي – كما مر بك – أواخر عصر «رمسيس الثاني» الذي كان مهلكه حوالي 1225 ق م. تستطيع بالتقريب إذن (1225 + 430 = 1655) أن تضع يعقوب بين أعلام القرن السابع عشر قبل الميلاد وأن تضع جده إبراهيم عليهما السلام بين أعلام القرن التاسع عشر. ولكن ليس لديك من معالم التاريخ ما تستدل به على عصر نوح، إلا أن تستظهر من علم الآثار تاريخًا تقريبيًا لعصر الطوفان، وليس بين يديك من هذا شيء. ناهيك بأن تحدد تاريخًا تقريبيًا لمهبط آدم وحواء إلى هذه الأرض، فتقدر الفترة ما بين آدم ونوح، والأحافير تنبئك بالعثور على عظام بشرية في طبقاتي رجع تاريخها إلى ما بين مائة ومائتي ألف عام.
ولكن سفر التكوين – كدأبه في النص على المحالات – يتورط فيحصر الفترة ما بين آدم إلى نوح في تسعة آباء، هي على النسب الصاعد: نوح – لامك – متوشالح – أخنوخ – يارد – مهللئيل – قينان – أنوش – شيث – آدم، ولا يكتفي بهذا بل يحدد لكل منهم تاريخ مولده وتاريخ وفاته، فتستخلص منه (راجع الإصحاح الخامس من سفر التكوين)، أن آدم توفى سنة 930 ب خ (ب خ = بدء الخليقة)، وأن نوحًا ولد سنة 1056 ب خ، وأن الطوفان – الذي حدث ونوح عمره ستمائة سنة – كان سنة 1656 ب خ. ولعلك تعلم أن التقويم اليهودي يبدأ ببدء الخليقة، وأن بدء الخليقة هذا – القائم على حسابات سفر التكوين – يناهز عام 3761 قبل الميلاد، وهذا يعني أن المصريين على الأقل – الذين كان لهم وجودٌ في مصر منذ حوالي 4200 قبل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/229]
الميلاد كما يقول علماءُ الآثار والحضارات – ولدوا قبل بدء الخليقة لا قبل مهبط آدم فحسب. ويعني أيضًا أن الطوفان الذي حدث على هذا التقدير عام 2105 قبل الميلاد، حدث بعد بناء بابل (2800 ق.م) بنحو سبعة قرون ويعني أيضًا أن نوحًا – الذي عاش ثلاثمائة وخمسين عامًا بعد الطوفان – مات سنة 1755 ق م، أي أواسط القرن الثامن عشر قبل الميلاد، فكان من معاصري إبراهيم.
هذا كله يقطع الصلة ما بين سفر التكوين والعلم، وما بين سفر التكوين والوحي الصادق، فلا تلتفت إليه. ولكن هذا الذي تورط فيه سفر التكوين فألزم نفسه ما لا يلزمه، لم يسيء إلى أسفار التوراة فحسب، ولكنه نال من «جدية الوحي» بعامة، وزعزع هيبة الدين في صدور الذين نشئوا على أن التوراة والإنجيل معًا «كتاب مقدس»، الذي لا يرون في غير التوراة والإنجيل وحيًا منزلاً، فلم يبحثوا عن الحق في غيرهما، والحق منهم قريب، في القرآن المصدق «المهيمن».
على أن موسى عليه السلام – صاحب التوراة – لم يتورط فيما تورط فيه سفر التكوين، بل فوض العلم بالقرون الأولى إلى الخلاق العليم. جهل فرعون ما كان من شأن تلك القرون – والمصريون على عصره أوفر أهل زمانهم علمًا وحضارة – فسأل موسى أن ينبئه بأبنائهم: {قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} [طه: 49 – 52].
والقرآن يباعد ما بين نوح وإبراهيم: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا} [الفرقان: 37 – 38].
والقرآن يباعد أيضًا ما بين آدم ونوح. تستظهر هذا من قوله عز وجل: {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} [المؤمنون: 23 – 24]. قد مضت القرون إذن من بعد آدم إلى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/230]
نوح حتى أنسوا ما نزل به آدم. ولو صح ما قاله سفر التكوين كما مر بك لكان من بين وفاة آدم (930 ب خ) ومولد نوح (1056 ب خ) مائة وستة وعشرين عامًا لا تزيد، ولكاد آدم نفسه يرد على هؤلاء المعاندين المكذبين، أو لرد عليهم «أنوش»، ابن «شيث»، بن «آدم»، الذي ما مات حتى ناهز نوح الرابعة والثمانين!
لا يعارض القرآن التوراة إلا ويصح القرآن. ولا يعارض القرآن علوم «العصر» إلا ويصح القرآن. ولا «يتفق» العلم مع القرآن إلا وقد سبق القرآن العلم ومهد الطريق).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/227-231]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:17 AM

(13) نوح:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (13)
نوح
«نوح» في القرآن هي تعريب «نوح» في التوراة، التي تنطق في العبرية لا مدًا بالواو وإنما مدًا بالضم بعده فتح (نُو – وَح)، ومن هنا كتابتها بالإنجليزية Noah.
وهي في العبرية من الفعل العبري ناح / يَنُوح، مشتقة على المصدر أو اسم الفعل، فهي «نوح» (نُو – وَح).
أما معاني هذا الفعل في العبرية فهي: البقيا والتلبث – الدعة والسكون – الكف والتوقف – الراحة والاسترواح والتنعم. وهو في العبرية والآرامية سواء.
على أنك تستطيع أن ترد هذه المعاني جميعًا إلى معنى الفعل الرئيسي، وهو البقيا والتلبث. والمعنى الرئيسي للفعل هو أقدم معانيه، أي أسبقها وجودا.
وقدم نوح على عبرية التوراة – وهو قدم جد بعيد – يجعلك تؤثر أخذ معنى اسمه من المعنى الرئيسي لهذا الفعل «ناحْ / يَنُوح» العبري – الآرامي، أعني تأخذه من البقيا والتلبث، غير ملتفت إلى عبارة في سفر التكوين يحاول بها الكاتب تفسير هذا الاسم بمعنى العزاء والراحة: «ودعا اسمه نوحا. قائلا هذا يعزينا عن عملنا وتعب أيدينا من قبل الأرض التي لعنها الرب» (تكوين 5/29). تأخذه من البقيا والتلبث، ولا تأخذه من العزاء والراحة، لا حبا في مخالفة كاتب سفر التكوين، وإنما تفعله انحيازًا للتأصيل اللغوي العلمي لمعنى هذا الجذر العبري – الآرامي «ناحْ / يَنُوح».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/232]
فقد مر بك أن ما كان في العربية أصيلاً بالخاء (المنقوطة) يرد في العبرية والآرامية فورًا إلى الحاء (غير المنقوطة). وما كان في العربية أصيلاً بالحاء (غير المنقوطة)، يظل في العبرية والآرامية على أصله بالحاء. مثال ذلك «خلق» العربي يصبح في العبرية والآرامية «حلق» بينما «جلح / يجلح» العربي يظل في العبرية – الآرامية بالحاء «جلح / يجلح».
«ناحْ» العبري إذن هو إما «نَاحَ» العربي نفسه، من «النُّواح»، كما ظن بعض مفسري القرآن، ولم يوفقوا فيه، فليس في «ناحْ» العبري من معاني «النُّواحِ» شيء كما مر بك، وإما هو «نَاخَ» العربي بخاء منقوطة، من الإناخة والتنوخ، أي التلبث والبقيا، وهو الصحيح، لأن هذا هو المعنى الرئيسي للفعل العبري «ناحْ / يَنُوحُ».
ليس مسموعًا في العربية نَاخَ يَنُوخ، ولكنك تأخذه من أناخ / يُنيخ بنفس معناهك أناخَ بالمكان، أقام، وأناخ به البلاء، حل به ولزمه، ومنه أناخ الجمل يعني أبركه، والمناخ، محل الإقامة، والنوخة مثله.
«نوح» إذن من النوخة والإناخة، فهوى النائخ المتنوخ، أي اللابث لا يريم. صار له علمًا لطول مكثه في قومه (ألف سنة إلا خمسين عامًا كما في التوراة وفي القرآن) وطول ملاحاتهم له.
وهذا هو التفسير القرآن لمعنى «نوح»، فسره بالمرادف في مثل قوله عز وجل: {وقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} [العنكبوت: 14]، {واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت} [يونس: 71]، {وجعلنا ذريته هم الباقين}[الصافات: 77].
صحح القرآن معنى «نوح» لمفسري القرآن الذين تكلموا فيه، وصححه أيضًا لكاتب سفر التكوين كما مر بك. وسبحان العليم الخبير).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/232-233]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:19 AM

(14) الجودي:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (14)
الجودي
الجودي هو اسم مُرسَى سفينة نوح في القرآن. وردت في القرآن مرة واحدة في قوله عز وجل: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين} [هود: 44].
ولم يتعرض مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 44 من سورة هود) لتفسير معنى «الجودي»، مكتفين بأنه اسم جبل في الموصل شمالي العراق، القريبة من حدودها مع تركيا، ومن مقاطعة «أرمينية» في تركيا على حدوها المشتركة مع إيران.
والمعروف عند أهل الكتاب من «سفر التكوين» (تكوين 8/4) أن مُرسَى سفينة نوح هو «أراراط» واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط».
وإذا علمت أن «أراراط» في عبرية التوراة يعني «أرمينية» نفسها، فقد علمت أن سفر التكوين لم يسم جبلاً بعينه لمرسى نوح، وإنما قال ببساطة إن السفينة رست على «جبال أرمينية».
ولكن الناس تناسوا هذا أو أنسوه، فوهموا أن ثمة جبلاً بعينه اسمه «أراراط» رست عليه السفينة، وأن رحالة عثروا في قمته على حطام رجحوا أنه حطام «الفلك المشحون»، رغم أن الفلك لم يتحطم على قمة القبل، بل رست السفينة بسلام: {قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك}
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/234]
[هود: 48]. ولكن التسمية ثبتت وانتهى الأمر، تجدها في المعاجم الأوروبية علمًا على جبل بعينه في أرمينية شرقي تركيا، قرب حدود أرمينية المشتركة مع إيران، يبلغ ارتفاع إحدى قمتيه حوالي 5.128 مترًا.
من هنا طنطن مستشرقون عدوا بغير علم: قال القرآن «الجودي» وقالت التوراة «أراراط». ولكن التوراة لم تقل «أراراط» كما مر بك، وإنما قالت (جبل من جبال في «أراراط»)، أي في أرمينية، لم تسمه، وسماه القرآن.
أما ذلك «الجودي» الذي في الموصل على ما ذكره مفسرو القرآن، فليس هو بالضرورة الجودي المعنى في القرآن، بل الراجح عندي أنه جبل تسمى بهذا الاسم بعد نزول القرآن.
لا خلاف إذن بين التوراة والقرآن في تسمية مرسى نوح، لا لأنهما تطابقا، وإنما لأن التوراة عممت، وخصص القرآن.
وقد مر بك أن الأعلام الموحي بها في القرآن على غير سابقة في التوراة والإنجيل تجيء في القرآن «عربية» على أصلها. أما معنى «الجودي» في العربية فلك أن تفسره بأنه المنسوب إلى الجود، أي «ذو الجود» وجاد المطر يعني كثر، والجود بفتح الجيم يعني المطر الغزير الذي لا مطر فوقه. وأنت تعلم أن الجبال العالية التي تذوب ثلوجها في الربيع تفيض منها المياه سيولاً وأنهارًا ومنها جبال «أرمينية» منابع الفرات.
ولكنك إن تمعنت في مراحل بدء الطوفان وانحساره ورسو الفلك، وقارنت بين ما ذكره سفر التكوين من ذلك وبين ما قاله القرآن، تجد أن سفر التكوين ينبئك أن السفينة رست على جبال «أراراط» في السابع عشر من الشهر السابع لبدء الطوفان، «وكانت المياه تنقص نقصًا متواليًا إلى الشهر العاشر. وفي العاشر في أول الشهر ظهرت رؤوس الجبال» (تكوين 8/4 – 5). فتفهم أن السفينة رست قبل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/235]
نحو 73 يومًا من ظهور رؤوس الجبال، فعلى أي الجبال رست إذن إن لم تكن قد رست على أعلاها، بل وعلى أمعنها ارتفاعًا، الذي يصل ارتفاع إحدى قمتيه كما تقول المعاجم إلى 5.182م؟ وهذا غير منطقي لأنه بالغ المشقة على نوح والذين معه، شبابًا وشيوخًا ونساء وأطفالاً، الذين سيهبطون إلى السهول من هذا الارتفاع الشامخ. أما القرآن فيقول لك إن الماء «غيض أولا»، ثم استوت السفينة، استوت بعد أن غيض الماء تمامًا حتى استوت السفينة على «قاع» من الأرض، هبط إليه نوح والذين معه بسلام (هود: 44).
كان بسم الله مجراها ومرساها، أي كان بسم الله حملها على سفح الماء، وكان باسمه عز وجل أيضًا إهباطها إلى سفح من الأرض، شاطئ نهر أو ناحية جبل.
والعرب يسمون شاطئ النهر وناحية الجبل، «الجد»، «الجدة» (ومنه اسم الميناء المعروفة «جدة» بالمملكة العربية السعودية).
أفيكون «الجودي» أصله «الجدي» المنسوب إلى «الجد»، فهو المرسى، استعيض عن تشديد داله بمد حركة جيمه؟
إن صح ذلك – وهو غير بعيد – كان معنى «استوت على الجودي»، والله بغيبه أعلم، أن السفينة رست على مرساها، لا أكثر ولا أقل، دون تحديد لموقع).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/234-236]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:20 AM

(15) هود (16) عاد (17) إرم:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (15) هود (16) عاد (17) إرم
لا يعرف أهل الكتاب «هودا» ولا «عادا» ولكنهم يعرفون «إرم»، وهي عندهم «آرام» يعني «العالية» أو «المعلاة»، من الجذر العبري «رام / يروم» أو «رام / يرام»، أي ارتفع وعلا، فهو عال وعلى، ومن هذه «أبرامج، أي «أبو العلاء»، اسم إبراهيم عليه السلام في التوراة، قبل أن يبتليه الله بكلمات فيتمهن، فيسميه باسمه المعروف «إبراهيم». وسيأتي. ولا تزال أحرف هذا الجذر باقية في العربية تجدها في «رامه» يعني طلبه، وكأنها من استشرفه وتطلع إليه، وتجدها أيضًا في «رمى» (لازما غير متعد) بمعنى ربا وزاد، وتجدها كذلك في «رام عليه» بمعنى فضل عليه وزاد. ولكن «رام» بمعنى علا وارتفع، غير معروف في العربية، فتستظهر من هذا أن «إرم» أعجمي غير عربي، يحتاج إلى تفسير في القرآن. وإلا لظننت «إرم» عربية من «أرمه» يعني استأصله وأفناه، أو أنها «الإرم» بمعنى الحجارة أو نحوها تنصب في المفازة ليهتدي بها (وتجمع على آرام وأروم) أو ظنتها بمعنى الأصل و«الأرومة»، وقد فصل القرآن في هذا كما سترى.
على أن عجمة «غرم»، وهي مدينة عاد قوم هود، توحي إليك بأن عادا وهودًا لفظان أعجميان كذلك، أعني أنهما من «العربية الأولى»، التي يحتاج فهمها أحيانًا إلى بحث في فصائل سامية عن جذور أميتت في العربية وبقية حية في غيرها تقول بعجمة «هود» و«عاد» على الإتباع لعجمة «إرم» جازمًا قاطعًا، لأن الرسول والمرسل إليهم واحد.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/237]
أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآيات 65 – 69) من سورة الأعراف والآيات 50 – 60 من سورة هود) فقد اتفقوا على عُجمة «عاد»، اسم رجل تسمت به قبيلته، نسبه ابن إسحاق إلى نوح فقال: هو عاد بن عوص بن غرم بن شالح ابن أرفخشد بن سام بن نوح (وكأنه يستقي من أحبار يهود ولكنهم لا يعلمون الكتاب إلا أماني كما قال الحق سبحنه فليس هذا هو عمود النسب في سفر التكوين بل ليس فيه أصلاً «عاد»). ولكنهم تفاوتوا في عجمة «هود» (الاسم لا المسمى بالطبع) فقال بعضهم هو عربي تشتقه من الجذر العربي «هاد / يهود» أي تاب ورجع إلى الحق، وقال الباقون ومنهم ابن إسحاق إن «هودا» أعجمي، فهو هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوص بن إرم إلخ. وهذا أيضًا على خلاف عمود النسب في سفر التكوين، بل ليس فيه أصلاً هود، ناهيك بعبد الله والجلود. أما قول مفسري القرآن في «إرم» (راجع تفسير القرطبي للآيتين 6 – 7 من سورة الفجر) فمنهم من قال جد عاد، نسبت إليه القبيلة فجاء اللفظ على التأنيث (ذات العماد) ومنهم من قال بل هو اسم مدينتهم، وشرحوا «ذات العماد» بأنها الأبنية العالية المرتفعة – وهو الصحيح في اللغة – وكأنهم يبنون أبنيتهم على العمد. ومنهم من أشكلت عليه «عاد الأولى» [النجم: 50] فظن أنهم «عادان»، أولى وثانية، «عاد إرم»، «عاد هود»، والصحيح ما قاله الآخرون، فليس إلا «عاد» واحدة، أهلكها الله أولاً، ثم ثنى بـ «ثمود»، فالقرآن لا يذكر عادا قوم هود إلا وهو يُتبعها بثمود قوم صالح.
على أن في حضرموت نبعا يُدعى «برا - هوت»، اشتهر منذ القدم بأدخنته الكبريتية، بجواره قبر يدعى قبر «هود» يزوره الناس إلى اليوم ويتبركون به. يصح هذا أو لا يصح فنحن لا نستطرد بك إليه، ولكن المستشرقين الذين ذكروه يلفتون النظر إلى ما قاله المفسرون من أن «عادا» كانت منازلهم ما بين اليمن وحضرموت، فهو إذن من أنبياء العرب. ويرى هؤلاء المستشرقون أيضًا أن هودا هو نفسه «عابر» الذي يرتفع بنسبه إلى سام بن نوح. وإلى عابر هذا ينتسب «العبرانيون» كما تعلم. وربما شجعت الجالية اليهودية في شبه الجزيرة هذه المقولة رغبة في إيجاب نسب موغل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/238]
في القدم بينهم وبين مضيفيهم، تأليفًا لقلوب العرب عليهم، فقالوا إن «يهود» جاءت من «هود»، فهم إذن بنو – هود، النبي العربي. وليس بشيء إن أردت قرابة النسب، فاليهود أنفسهم يشتقون «هو» من «يهودا» بن يعقوب (وتنطق داله في العبرية ذالاً لاعتلال ما قبلها كما مر بك) وليس تأصيل الأنساب من مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب. ولكن لا باس بهذا الذي قيل في أخذ «يهود» من «هود» إن أردت القرابة اللغوية في النحت والاشتقاق، ولو أن اللغات السامية جميعًا في هذا سواء.
أما «هود» - إن أردتها عربية – فهي تسمية مشتقة من الجذر العربي هَادَ / يَهُودُ / هُودْاَ، فهو «الهائد»، أي التائب الراجع إلى الحق (وتاب وثاب وآب كله واحد). تجد تأصيل هذا في القرآن من قوله عز وجل على لسان موسى في فتنة السامري: {إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك} [الأعراف: 155 – 156]، أي رجعنا وأنبنا. لا تجد لها تأصيلاً في العربية إلا من القرآن، وفي هذه الآية بالذات. ومنها أيضًا يشتق القرآن معنى اسم اليهود (وسيأتي في موضعه) فيسميهم الذين هادوا في عشرة مواضع من مثل قوله عز وجل: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين} [البقرة: 62]، ويسميهم أيضًا «هود» (جمع «هائد» أي الذي هاد) في ثلاثة مواضع من مثل قوله عز وجل يحكي مقالتهم: {وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا} [البقرة: 135] نافيًا أن يكون هذا هو اسمهم قبل أن يقولها موسى: {أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى} [البقرة: 140].
وليس معنى القول بعربية اسم «هود» - على إيغاله في القدم كما مر بك – أنه بالضرورة من هذه العربية نفسها التي نزل بها القرآن، وإنما المعنى أن اسمه من «العربية الأولى» التي تكلم بها سكان شبه الجزيرة جميعًا منذ أزمان سحيقة لا يعلمها إلا الله، وتفرقت من بعد في الساميات جميعًا، وإنما نفهم نحن مفرداتها الآن بخاصية في تلك اللغة الفذة، هي «جذرها الثلاثي»، الذي تدور معانيه على أصل حروفه. وقد أصل القرآن معنى «هاد» على التوبة والإنابة، فهو كما قال، لأن القرآن هو الشاهد لتلك اللغة العربية في كافة مراحل تطورها، لا حاجة بك معه إلى غيره.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/239]
وربما قلت إن «الهائد» تفيد «المهدي»، لا لقرابة ما بين الجذرين «هدى» و«هاد» فحسب، وإنما أيضًا لأن «الهائد» هو عكس «الضال». وفي هذا لفتة بعيدة المغزى قد تفوت على كثيرين: إنه نعت ينطبق على كل نبي بعث في قوم ضلوا جميعًا سواء السبيل، ليس فيهم إلا هو وحده الذي انسلخ من ضلالتهم: هاد إلى الله وحده، فبعثه الله إليهم ليهديهم به، ولا يهدي غيره إلا الذي هاد من قبل، فهو الهائد المهدي، وهو الهادي المهتدي.
لم يكن «هود» عليه السلام من أنبياء التوراة، فجاء اسمه في القرآن على أصله عربيًا، على ما مر بك من منهجنا في هذا الكتاب، لا يحتاج إلى «فك عجمته» بالتفسير، إلا ما كان من تأصيل معنى الجذر «هاد» في قوله عز وجل على لسان موسى: «إنا هدنا إليك».
على أن في أسفار التوراة (أخبار الأيام الأول 7/37) الاسم «هود» (مدًا بالضم لا بالواو كما في «يُوم» العربية العامية أو في Home الإنجليزية) علمًا على رجل من عامة سبط أشير، ليس بنبي أو رسول. ولكن علماء التوراة لا يشتقون «هود» الإسرائيلي هذا من التوبة والإنابة، ولكنه عندهم مصدر أميت جذره وبقى المصدر في لغتهم بمعنى الجلال والجمال والسناء، ومنه في العبرية المعاصرة «هود ملخوتو» خطابًا للملوك بمعنى «صاحب الجلالة». ولو كان المعنى هو «هود» النبي لشاعت التسمية في بني إسرائيل، وهو ما لم يحدث.
أما عاد، «إرم» فلا مجال لاشتقاقهما من العربية التي نزل بها القرآن، وإنما تشتقهما من العربية الأولى مستعينًا بما بقى من جذورها في الآرامية والعبرية، ومن ثم كانتا من الأعجمي الذي يفسره القرآن.
«عاد» في الآرامية – العبرية معناها «الأبد» و«الخلود». ومنها في العبرية «لعاد»، يعني «إلى الأبد». فهي الباقية الخالدة التي لا تزول. وقد جاءت مفسرة في القرآن مرتين، الأولى على الترادف في قوله عز وجل: {وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/240]
من باقية} [الحاقة: 6-8]. وفسرت في المرة الثانية على التقابل في قوله عز وجل: {وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى} [النجم: 49 – 50]، أي ما عادت عاد ولن تعود.
وأما «إرم» فهي في الآرامية – العبرية مشتقة من العلو والعلاء، فهي العالية والمعلاة، كما مر بك من معنى الجذر العبري «رام – يروم». وقد وردت «غرم» في القرآن مرة واحدة فسرت فيها بهذا المعنى نفسه، ولم يفطن إليه مفسرو القرآن رغم علمهم بأن «ذات العماد» تعني المدينة ذات الأبنية العالية المرتفعة: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد} [الفجر: 6، 8]، وهو تفسير على الترادف اللصيق: إرم = ذات العماد. ودل قوله عز وجل: «لم يخلق مثلها في البلاد» على أن القرآن يريد إرم المدينة لا عادًا القبيلة كما وهم بعض المفسرين الذين ظنوا إن إرم في القرآن هي نفسها عاد، اسم القبيلة، نسبة إلى الرجل إرم بن سام بن نوح، وليس هذا بفصيح في عربية القرآن الذي إذا أراد القبيلة جاء بضمير الجمع للمذكر: «وأما عاد فأهلكوا»، وإذا أراد المدينة أي الموضع استخدم ضمير المؤنث: «التي لم يخلق مثلها في البلاد».
أما «الإرميون» أصحاب إرم، أعني الناجين منهم مع هود، فهم آباء «الآراميين» الذين قدر لسلالة منهم في «الحجر» إلى الجنوب الغربي من تيماء بالمملكة العربية السعودية على طريق القوافل إلى الشام أن تسكن في نواحي «الحجر» ما يعرف إلى اليوم باسم «مدائن صالح» أو «قرى صالح»، التي نهى صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك عن التلبث بأطلالها كراهة المكث بموضع السخط والنقمة: إنهم «ثمود» أصحاب «الحجر»، قوم صالح).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/237-241]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:23 AM

(18) صالح (19) ثمود:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (18) صالح (19) ثمود
يرد الاسم «إرم» في التاريخ المدون، وفي جغرافية التوراة، بصورة عبرية آرامية هي «آرام» ليست هي إرم عاد التي في القرآن، وإنما المراد منها هو «سورية» بالمعنى العام، سميت بهذا الاسم نسبة إلى قوم من العرب وفدوا عليها حوالي القرن الخامس عشر قبل الميلاد: جاءوها بلغتهم هم «الآرامية»، وخلعوا عليها اسمهم هم «الآراميين»، فصارت سورية «ارص آرام» أي أرض آرام. وقد مر بك أن «غرم» فسرت في القرآن بمعنى العالية أو المعلاة (إرم ذات العماد)، وهو نفسه معنى لفظ «آرام» في اللغتين العبرية والآرامية، فتقطع بأن «الآراميين» هم «الإرميون» أصحاب إرم التي في القرآن، سلالة من الناجين مع هود تفرقوا في البلاد في عصور سابقة على وجود الآراميين في سورية. دليلك في هذا من القرآن على لسان صالح عليه السلام يحذر قومه مصير أسلافهم قوم هود: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض} [الأعراف: 74]، ولم تخلف ثمود عادًا على نفس الأرض، فشتان ما بين الحجر في الشمال الغربي من شبه الجزيرة وبين «آرام نهريم» أي آرام ما بين النهرين، يعني «إرم العراق»، وإنما كان أصحاب الحجر فحسب «سلالة من الناجين مع هود» خرجوا بعد نكبة «إرم ذات العماد» من ناحية ما في جنوبي بابل إلى حضرموت واليمن يحملون معهم اسم مدينتهم «إرم» أو «آرام» التي صارت علمًا عليهم فسموا «الإرميين» أو «الآراميين»، ثم ارتحلت بطون منهم في زمن لاحق إلى الشمال، ثم استقرت فصائل منهم في منطقة الحجر على طريق القوافل إلى الشام، كانوا هم «ثمود» قوم صالح. وتلمح في قول صالح عليه السلام يعظ قومه: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا} [الأعراف: 74] أن ثمود أرادوا محاكاة «إرم ذات العماد» في العلو تحنانًا إلى موطنهم القديم، ولكنهم لم يذكروا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/242]
آلاء الله عليهم، بل ظلموا بها، فدمر الله عليهم «إرم الثانية» - إرم صالح – كما أهلك من قبل «عادا الأولى»، غرم هود. ومن هذا قوله عز وجل: {وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى} [النجم: 49 – 50] فتفهم أن ثمود هي «عاد الثانية».
لم يكن صالح عليه السلام من أنبياء التوراة، ومن ثم فاسمه كما علمت من منهجنا في هذا الكتاب، يجيء على أصله عربيًا، لا يحتاج إلى تفسير. ولا يترتب على عربية هذا الاسم أن صالحا عليه السلام كان عربيًا من بني إسماعيل، بل هو آرامي من قوم آراميين، سلالة من الناجين مع هود، واسمه – كاسم هود – مشتق من العربية الأولى التي تفرقت جذورها في الساميات جميعًا. دليلك في هذا أن صالحًا سبق إبراهيم – أبا إسماعيل وعم لوط – بقرون لا يعلم عدتها إلا الله. ودليلك فيه أيضًا أن «قرى صالح» أقرب إلى الشام من الحجاز، ناهيك باليمن.
على أن الجذر العربي «صلح» باق بذات حروفه ولفظه ومعناه في العبرية والآرامية، ومنه على زنة الفاعل في الآرامية بالذات – لغة قوم صالح كما مر بك - «صاليح» (مدا للام بالكسر لا بالياء كما تنطق في «ليه» العربية العامة أو في Late الإنجليزية) بمعنى «الذي صلح». فهو إذن في العربية والآرامية واحد، يعرب فقط بتقصير مدر «كسرة اللام»، فيؤول إلى «صالح» العربية بنفس معناها ونطقها في القرآن.
«صالح» إذن مفسر في القرآن بالتعريب وحده، بل هو أبين أمثلة القرآن في التفسير بالتعريب.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/243]
وقد ذهب مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآيتين رقم 73 من سورة الأعراف ورقم 80 من سورة الحج) إلى أن صالحا وقومه كانوا قوما عربا، ولكنهم نسبوهم إلى العرب البائدة كعاد وطسم وجديس، وهذا يطابق ما قلناه نحن إن تمعنت، لأن سكان شبه الجزيرة جميعًا عرب بالمعنى العام، لا يقدح في هذا تفاوت لهجاتهم ومنطقهم مهما بعدت عن العربية التي نزل بها القرآن. وهذا يدلك أيضًا على علم العرب قبل القرآن بثمود، لا بوصفهم قوم صالح، وإنما بوصفهم قبيلة من قبائل العرب التي بادت، وهو علم شاركهم فيه أهل الكتاب معاصرو القرآن، وإن خلت أسفار التوراة من النص على قصة صالح مع قومه. بل قد ذكر مؤرخو اليونان قبل القرآن بقرون «ثمود» و«لحيان»، وقالوا إن منازلهم كانت من جنوب العقبة إلى نواحي شمال ينبع بالقرب من المويلح وأنه كانت منهم جموع منتشرة في داخل البلاد إلى نواحي خيبر وفدك. وليس هؤلاء بالطبع هم «ثمود صالح»، وإنما هم سلالة من الناجين مع صالح، خلفوهم وانتسبوا إليهم.
أما «ثمود» فهي عربية أيضًا بالمعنى الذي ذكرناه: ثمد الماء يعني قل، وثمده هو يعني استنفد معظمه، وثمد الناقة يعني اشتفها بالحلب، وثمده يعني استنفد ما عنده، والثمد يعني الماء القليل الذي ليس له مدد، أو هو المكان يجتمع فيه الماء، من ثمد المكان يعني هيأه كالحوض ليجتمع فيه الماء. وعلى هذا تكون «ثمود» على زنة فعول بمعنى فاعل، أو فعل بمعنى مفعول، على المعاني الذي ذكرت لك، فهم أصحاب الماء القليل، يستنبطونه من الأرض ويحوضونه، الحريصون عليه، يذودون عنه ويمنعونه، فهو حجر عليهم، حرام على غيرهم. ومن هنا جاءت تسميتهم «أصحاب الحجر» [الحجر: 80].
وقد جاءت «ثمود» مفسرة في القرآن بالتصوير في فتنة الناقة التي جعلها الله لهم آية {إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر} [القمر: 27 – 28]، «تشتف» ماءهم كله
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/244]
يوما، وتفيضه عليهم في الغداة لبنا إذ لا ماء لهم، «فيشتفونها»، «تثمدهم» و«يثمدونها».
وقد وهم بعض مفسري القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 38 من سورة الفرقان) أن «أصحاب الرس» هم ثمود قوم صالح، أصحاب تلك «البئر الحجر» لأن «الرس» في العربية معناها «البئر». وقد وردت «الرس» في القرآن مرتين: {وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا} [الفرقان: 38]، {كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود} [ق: 12]. ولا يصح قول المفسرين في هذا لأن القرآن يعطف بالواو أصحاب الرس على ثمود في الآية الأولى، ويعطف ثمود على أصحاب الرسل في الآية الثانية، لا يجتزئ من الواحدة بالأخرى كما قال «أصحاب الحجر» يعني قوم صالح، وكما قال «أصحاب الأيكة» يعني أهل مدين، قوم شعيب. أصحاب الرس إذن ليسوا قوم صالح، وإنما هم قوم آخرون أخبر القرآن بمهلكهم، ولم يسم نبيهم، في قرون قد خلت بين نوح وإبراهيم. بل وبعد إبراهيم، كما قال عز وجل: {فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد} [الحج: 45]، وإن كان قد وجد من المفسرين (راجع تفسير القرطبي لهذه الآية من سورة الحج)، من جمع بين تلك البئر المعطلة وبين بئر ثمود. كل هذا يعارض ظاهر القرآن، فلا تلتفت إليه.
وقد بقى في العبرية والآرامية من «ثمد» العربية الجذر العبري – الآرامي «شمد» (بإبدال الثاء شينا)، بمعنى الاستئصال والإبادة، وهو من معنى الاستفادة والاشتفاف في ثمد العربية جد قريب. وتستخدم العبرية المعاصرة الفعل «شمد» بمعنى محدد هو «استصفاء» اليهودية، يعني تصفيتها سلما، بإجبار أهلها كرها على الخروج منها إلى «المسيحية» في عصور اضطهادهم في أوروبا، لا بمعنى إبادة أهلها وإهلاكهم، على أصل معنى «شمد» في عبرية التوراة، وربما قلت إن «ثمود» في القرآن جاءت تعريبًا لـ «شمود» العبري أو «شميد» الآرامي على المفعولية من الجذر العبري -
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/245]
الآرامي «شمد» فهو الهالك البائد بمعنى «شمد» في عبرية التوراة. ولا يصح هذا، فلا أحد يسمى نفسه الهالك البائد وقد تسمت به قبيلة من كبرى قبائل العرب خلفوا «ثمود» قوم صالح كم مر بك. وإنما الصحيح أن «ثمود» جاءت من العربية الأولى بمعنى قل ونضب واستنفد واشتف، قبل أن تتحور في عبرية التوراة إلى باد وهالك).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/242-246]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:25 AM

(20) شعيب (21) مدين:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة:
( (20) شعيب (21) مدين
مر بك أن القرآن يضع شعيبا في الترتيب الزمني بعد لوط. ومر بك أيضًا أن لوطًا من معاصري إبراهيم. بل كان إبراهيم عم لوط كما تنص التوراة. والقرآن ينص على تعاصر إبراهيم ولوط، لأن الملائكة الذين بُعثوا لإيقاع العذاب بقوم لوط، مروا في طريقهم على إبراهيم يبشرونه بإسحاق. نص القرآن على هذا في أكثر من آية، منها قوله عز وجل: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه تكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط} [هود: 69 – 70]. شعيب إذن بعد إبراهيم بلا خلاف، لمجيء شعيب بعد لوط معاصر إبراهيم أو ابن أخيه كما تقول التوراة. دليلك في هذا من القرآن أن لوطا لم يعلم بشأن شعيب مع قومه، بل حذر لوط قومه مصير قوم نوح وقوم عاد وقوم صالح، وما كان ليحذرهم مصير قوم شعيب، وشعيب لم يبعث بعد. أما شعيب فهو يحذر قومه مصير قوم لوط: {وما قوم لوط منكم ببعيد} [هود: 89].
لم يكن أهل مدين – الواقعة جنوبي خليج العقبة – يسكنون بعيدًا عن مدائن لوط، وقد بقيت منها «صوعر» على الشاطئ الجنوبي الشرقي من البحر الميت. ولم يكون «يوم الظلة» - مهلك الذين ظلموا من قوم شعيب – بعيدًا كل البعد من فجر يوم وضع فيه جبريل جناحه تحت «القرية التي كانت تعمل الخبائث» فجعل عاليها سافلها، يوم أركس الله قوم لوط بما كسبوا.
ولكن التوراة التي اهتمت في سفر التكوين بتدوين ما كان من شأن لوط مع قومه، تصمت الصمت كله عما كان من شأن شعيب مع أهل «مدين»، على قرب مدين من مساكنهم. والتوراة تغفل الحديث عن قصة شعيب مع قومه عمدًا، رغم هول العذاب الذي حاق بمن ظلموا من قومه، ورغم قرب «ميدن» من «صوعر»، ورغم أن شعيبًا تلا لوطًا وإبراهيم بفارق زمني «غير بعيد»، ولم يسبقهما، ورغم أن التوراة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/247]
تذكر «مدين» بنحو ما ذكرها القرآن في قصة لجوء موسى إلى «مدين» فرارًا من بطش فرعون بعد أن قتل موسى ذلك المصري الذي بَغَى على رجلٍ من قومه.
تتعمد التوراة إغفال شعيب – على الراجح عندي – لأنه عندها كان نبيًا من غير بني إبراهيم، ولم يكن أيضًا من بني يعقوب، أي من بني إسرائيل، الذين كتبت التوراة لتسجيل أخبارهم ونبواتهم. وهو – على الراجح عندي أيضًا – سببُ إغفال التوراة هودًا وصالحًا كذلك، كيلا تضع أنبياء بين نوح وإبراهيم. وإنما حرصت التوراة على ذكر «نوح» كي تربط ما بين إبراهيم وآدم. وقد تعجل كاتب سفر التكوين هذا النسب كما مر بك بين آدم ونوح، وبين نوح وإبراهيم، حتى لتكاد تستخلص من حساباته أن نوحًا كان أو يكاد من معاصري إبراهيم، فكيف يكون بينهما نبي؟
وربما قلت إن أسفار التوراة لم «تتكتم» أخبار شعيب، وإنما هي لم تعلم أصلاً بمبعث شعيب إلى أهل مدين في التوراة ما بين لوط إلى موسى، لغياب بني إسرائيل آنذاك عن مسرح الأحداث في فلسطين وما حولها منذ خروج يعقوب وبنيه إلى مصر في ضيافة يوسف واحتباسهم فيها نحوا من أربعمائة وثلاثين سنة كما تقول التوراة حتى خروجهم منها إلى تيه سيناء مع موسى: اهتمت أسفار التوراة بأخبار بني إسرائيل في مصر سنوات احتباسهم فيها (وإن كانت في واقع الأمر تجتزئ اجتزاء مخلاً فتنقلك فجأة من وفاة يوسف إلى مولد موسى غير عابئة بأحداث ما كان بين هذين النبيين الكريمين اللذين يفصل ما بين مبعثهما حوالي أربعة قرون) ولم تهتم، بل قل ولم تَعْلَمْ، بما وقع خارج مصر خلال تلك القرون الأربعة، أخبار شعيب أو غير شعيب. وهذا التعليل – على وجاهته – مردود بما تقصه عليك التوراة من لجوء موسى إلى مدين فرارًا من بطش فرعون، وإصهاره إلى «كاهن مدين»، وبقائه عنده عشر سنين، بل وعودته إلى لقاء صهره في التيه بعد خروج بني إسرائيل من مصر، فباركه صهره وأشار عليه باختيار نقباء يقومون مقام موسى في قومه. يحدث هذا كله ولا يقص عليه «كاهن مدين» شيئًا مما كان من أمر شعيب في أهل مدين، إن سلمت بأنه قد كان ثمة «شعيب» بعثه الله إلى أهل مدين في الفترة ما بين لوط إلى موسى،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/248]
ناهيك بأن تقول كما قال جمهور مفسري القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 85 وما بعدها من سورة الأعراف) أن صهر موسى هذا هو بعينه شعيب عليه السلام «أخو مدين».
على أن التوراة لا تعترف لأحد من خارج بني إبراهيم بالنبوة مهما كان على دين الواحد الأحد، فلا تسميه «النبي» وإنما تسميه «الكاهن». من ذلك «ملكي – صادق» ملك شاليم (وهي «سليم» العربية)، الذي بارك إبراهيم وأدى له إبراهيم «العشر من كل شيء»، وتقول عنه التوراة «وكان (أي ملكي - صادق) كاهنا لله العلي (راجع تكوين 14/18 – 20). ومن ذلك أيضًا «يثرو» حمو موسى، الذي تسميه التوراة «كاهن مديان» (خروج 3/1) أي «كاهن مدين». ولحمى موسى عند أصحاب التوراة اسم ثان هو «حباب» (وكأنه «الحباب» عربيًا فليس في أعلام بني إسرائيل من تسمى به)، وله أيضًا اسم ثالث هو «رعوئيل»، ومعناها «راعي الله»، ويفسرونها في العبرية بمعنى «خليل الله». على أنك تستنبط من أسفار التوراة نفسها اسمًا رابعًا لحمى موسى هو «دعوئيل» (بالدال لا بالراء) لأن أسفار التوراة تخلط بينه وبين «رعوئيل» (بالراء لا بالدال) في تسمية شخص بعينه، تسميه «إلياساف بن دعوئيل» (بالدال) في سفر العدد (1/13) ثم تسميه هو نفسه «الياساف بن رعوئيل» (بالراء) في الإصحاح التالي مباشرة من السفر (عدد 2/14). وقد عالج علماءُ العبرية تفسير معنى اسم دعوئيل هذا (بالدال) فقالوا إنه من الجذر العربي «دعا»، فهو «داعي الله»، لأنه لا وجود في العبرية للجذر «دعا»، فتفهم أن «رعوئيل» عندهم تحرفت إلى «عوئيل» لاشتباه رسم الدال بالراء في الخط العبري كما هما في الخط العربي، أو أن «دعوئيل» العربية هي التي تحرفت عليهم فصارت «رعوئيل» وهو الراجح.
كيفما كان المر، فسفر التكوين ينص على أن أهل مدين («مديان» في عبرية التوراة) عرب من العرب. تستخلص هذا من رواية سفر التكوين لقصة يوسف حين ائتمر به إخوته فباعوه «للإسماعيليين بعشرين من الفضة. فأتوا به إلى مصر»
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/249]
(تكوين 37/28)، فتفهم من هذا أن الإسماعيليين هم الذين أتوا بيوسف إلى مصر. ولكنك تفاجأ في نهاية هذا الإصحاح السابع والثلاثين من سفر التكون بأن الذين أتوا بيوسف إلى مصر وباعوه هناك «مديانيم»ن أي رجال من أهل مدين: «وأما المديانيون فباعوه في مصر لفوطيفار خصي فرعون رئيس الشرطة» (تكوين 37/36). وهو تناقض لا سبيل إلى حله إلا بأن تتعلل لسفر التكوين بأنه لا يفرق بين الإسماعيليين والمديانيين: كلا الفريقين عنده عرب من العرب.
تخلص من هذا إلى أن «أهل مدين» عند اليهود عرب من العرب، كانوا على طريق القوافل من خليج العقبة في شمال غربي شبه الجزيرة إلى مصر، عبر سيناء. وتلك بالفعل كانت مساكنهم في جغرافية التوراة.
وإذا كان أهل مدين عربا من العرب، فأخوهم شعيب كذلك، لا معنى للقول بخلافه، فالرسول والمرسل إليهم واحد كما مر بك. وليس معنى هذا أن مدين وشعيبا كانوا بالضرورة يتحدثون بتلك العربية التي نزل بها القرآن، وإنما المعنى أنهم كانوا يتحدثون بتلك اللغة العربية في مرحلة من مراحل تطورها إلى العربية التي نزل بها القرآن بعد نحو ألفي سنة من مبعث شعيب عليه السلام رسولاً إلى أهل مدين.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/250]
ولأهل مدين في القرآن اسم آخر، هو «أصحاب الأيكة». قال عز وجل: {وإلى مدين أخاهم شعيبا} [الأعراف: 85]، وقال أيضًا: {كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيبا ألا تتقون إني لكم رسول أمين}[الشعراء: 176 – 178]، فتفهم أن مدين وأصحاب الأيكة واحدة، لا لوحدة الرسول فحسب ولكن لأن شعيبًا يأخذ على هؤلاء ما يأخذ على أولئك: يأخذ عليهم خسرانهم الكيل والميزان، ويخسهم الناس أشياءهم وعثوهم في الأرض مفسدين.
وقد ظن بعض المفسرين أن «مدين» قوم غير «أصحاب الأيكة»، بعث شعيب إلى الثانية بعد ما فرغ من الأولى. ظنوا هذا لأن القرآن فيما رأوا فرق بين عذاب أصحاب مدين، الذين أهلكوا بالصيحة والرجفة: {ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين} [هود: 94]، {فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين} [الأعراف: 91] وبين عذاب أصحاب الأيكة الذين كذبوا شعيبا {فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم} [الشعراء: 189]، والظلة غير الصيحة والرجفة (راجع ما رواه القرطبي في تفسيره للآيات 176 – 189 من سورة الشعراء). وليس بين يديك حديث عن الصادق المصدوق يحسم الأمر، ولكنها أقوال الرواة: رووا أن الظلة سحابة احتموا بها من الحر الشديد فوجدوا لها بردا ونسيما، وما اجتمعوا تحتها حتى انقلبت عليهم نارا أحرقتهم، أو أنهم احتموا بأيكتهم فأضرمها الله عليهم، كالمحتمي من الرمضاء بالنار. وليس هذا كله بلازم، فالصيحة أيضًا غير الرجفة، فبأيهما كان مهلك أهي مدين؟ الصواب أن يقال إن الصيحة هي صيحة جبريل عليه السلام، إيذان بإيقاع العذاب، وأن الرجفة هي أثر الصيحة. وتقول أيضًا وما يمنع أن يجتمع على أهل مدين عذاب الرجفة وعذاب الظلة: ركضوا إلى البرية كما يركض الفار من الزلزال حين أحسوا الرجفة، يحتمون بأيكتهم، فأضرمها الله عليهم نارًا إذ لا عاصم من أمر الله إذا جاء. وتقول أخيرًا وما يمنع في اللغة أن تكون «الظلة» هي فحسب غاشية العذاب الذي حل بهم فأظلهم، لا ملجأ لهم منه؟ نقول هذا ولا نخوض في غيب الله، فالله عز وجل بغيبه أعلم.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/251]
أما الذي ألجأ مفسري القرآن إلى القول بأن شعيبًا أخا مدين هو نفسه «الشيخ الكبير» الذي حل عليه موسى في مدين فزوجه إحدى ابنتيه على أن يأجره ثماني حجج أو عشرا (راجع الآيات 22 – 28 من سورة القصص)، أي كاهن مدين في سفر الخروج، «يثرو» أو «حباب» أو درعوئيل» (وربما «دعوئيل» أيضًا على ما مر بك)، فلأن شعيبًا ما كان ليوجد إلا في الفترة ما بين لوط إلى موسى بنص القرآن وما كان ليوجد إلا في مدين هذه التي لجأ إليها موسى، وما كان يثرو هذا ليكون هو نفسه شعيبًا إلا إذا كان مبعثه قد سبق نزول موسى ضيفًا عليه، أي قبل مبعث موسى. تجد هذا الترتيب بينا في قوله عز وجل: {وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير} [الحج: 42 – 44]. يثرو إذن – إن كان هو نفسه شعيبًا – استضاف موسى وقد فرق الله بينه وبين الذين ظلموا من قومه بعد مهلكهم: {الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسي على قوم كافرين} [الأعراف: 92 – 93]. ربما قلت ولماذا لا يكون شعيب قبل موسى بقرنين أو ثلاثة، والمسافة بين لوط وموسى أربعة قرون، وقد نزل موسى في ضيافة رجل صالح من بقية الناجين مع شعيب، فما كان لموسى عليه السلام الذي صنعه الله على عينه ليصهر إلى رجل من عبدة الأوثان في مدين؟ لا بأس بهذا بالطبع، ولا باس أيضًا بعكسه الذي قاله جمهور مفسري القرآن، والذي نرجحه نحن أيضًا، وهو أن شعيبًا كان هو نفسه صهر موسى عليهما السلام، لأن سفر الخروج يحدثك عن رجل ذي منصب في قومه، «كاهن مدين»، والكاهن والنبي واحد في لغة التوراة حين تتحدث عن أنبياء من خارج بني إبراهيم كما مر بك، دليلك في هذا من سفر الخروج نفسه أن الشهرة التي شهر بها حمو موسى في التوراة توحي بطبيعة هذا المنصب: راعي الله (رعوئيل) وربما داعي الله (دعوئيل)، وأيضًا «يثرو» نفسها ومعناها الثرى ذو الثروة والكثرة والنماء، المشتقة من الجذر العبري «يثر» وهو مقلوب الجذر العربي ثرا / يثرو، وثرى / يثرى وكان شعيب ذا غنى، بعث في أحساب قومه، كما تجد في القرآن على لسان من كذبوه: {قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/252]
تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك} [الأعراف: 91]، خشوا رهط شعيب وإن لم يكونوا على دينه لمكانتهم، كما وقع لمحمد صلى الله عليه وسلم في قومه. لقى موسى إذن شعيبًا وقد تمادت السن بشعيب في بقية من قومه: {وأبونا شيخ كبير} [القصص: 23]. ربما قلت فما بال أولئك «الرعاء» من قوم شعيب، والمفروض على هذا القول أنهم سلالة من الذين آمنوا معه، وقد استهانوا بابنتيه فلا تسقيان {حتى يصدر الرعاء} [القصص: 23]؟ لا عليك. هذا فهم متعجل لمنطوق تلك الآية: ما كان لنبي أن يسخر قومه في خدمته، وما كان ليقوى وهو شيخ كبير على سقيا غنمه، فأرسل ابنتيه بغنيماته، وما كان لابنتيه أن تزاحما الرعاء حياء، وإنما يسقى الرجال أولاً ثم تسقى النساء، فوقفتا تذودان غنيماتهما عن الماء حتى يصدر الرعاء فتسقيا، وجاء موسى رجلا يسقي مع الرجال، فأراحهما من عناء الانتظار.
وربما استظهرت من القرآن تفسيرًا لمعنى شهرتي حمى موسى، رعوئيل ودعوئيل، أي «راعي الله»، «داعي الله»، الأولى في قوله عز وجل: {لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير} [القصص: 23]، والثانية في قوله عز وجل: {فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا} [القصص: 52]، دون أن يتقدمه ذكر لاسم حمى موسى. وربما لمست في هذه الأخيرة أن حما موسى كان ذا مال يجزي به صنيع من أحسن إلى ابنتيه، وكان كريمًا عزيز النفس لا يقبل خدمة بغير أجر.
أما لماذا لم تذكر التوراة اسم «شعيب» في جملة أسماء حمى موسى وهي أربعة كما مر بك، فلأن العبرية ليس فيها الجذر «شعب» العربي، ولا تفقه له معنى، وربما خشى الكاتب اشتباهه بـ «شئيب» العبري ومعناها «ناضح البئر». وربما أيضًا لأن شعيبًا شهر في مهاجره بشهرته الدالة على منصبه «راعي الله» (رعوئيل) ولم يشهر باسمه في قومه.
وأما لماذا لم ينص القرآن على أن شعيبًا هو حمو موسى، فهذا على الراجح عندي لأن القرآن لا يؤصل الأنساب بين الأنبياء المبعوثين كل إلى قومه، كما فعل موسى وهارون المبعوثين كليهما إلى فرعون وملئه، فقد ذكر لوطًا ولم ينص على أنه ابن أخي إبراهيم كما تنص التوراة، وما ذاك إلا لأن رسالة لوطًا ولم ينص على أنه ابن أخي إبراهيم كما تنص التوراة، وما ذاك إلا لأن رسالة لوط كانت بمعزل عن رسالة إبراهيم، كما كانت رسالة شعيب غير رسالة موسى وهارون.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/253]
نقول هذا ولا نقطع فيه بيقين، فليس من مقاصد هذا الكتاب تأصيل الأنساب كما مر بك. وليس في القرآن والحديث الصحيح ما يقطع بهذا أو ذاك، والله عز وجل بغيبه سبحانَه هو الأعلم.
أما «شعيب» - وقد جاء الاسم على أصله في القرآن عربيًا لا يحتاج إلى تفسير لخلو التوراة من النص عليه كما مر بك من منهجنا في هذا الكتاب – فهي إما تصغير «أشعب» أي الواسع ما بين المنكبين، وإما تصغير «شعب» ومن معانيها في معجمك العربي: مجرى الماء تحت الأرض، وليس هذا المعنى الأخير بعيدًا عن معاني «شئيب» العبري، أي «ناضج البئر». «شعيب» إذن عربية، تخرج عن مقاصد هذا الكتاب.
وليست «مدين» كذلك لثبوت العلمية لها في التوراة بلفظ «مديان»، فجاءت في القرآن «مَديَن» على التعريب.
أما علماء التوراة فهم ينسبون «مديان» إلى واحد من أبناء إبراهيم، كدأب التوراة في إقطاع بني إبراهيم أرض فلسطين وسكانها بصكوك نسب صحيح أو مفتعل، وكأنما كانت فلسطين أرضًا فضاء حين وفد إليها إبراهيم وبنوه، فعمروها بقبائل من نسل إبراهيم، كما قالوا إن عيسو أخا يعقوب شهر باسم «إدوم» (أي الأحمر)، واستنبطوا من هذا أن عيسو هو «أبو الأدوميين» جميعًا، صاحب الأرض وسكانها. وغير هذا كثير في سفر التكوين، فلا تلتفت إليه. الصحيح أن الأدوميين والمديانيين وغيرهم من قبائل فلسطين وما حولهما أسبق وجودًا على الأرض من إبراهيم وبنيه. دليلك في هذا من أسفار التوراة ذاتها، بل ومن سفر التكوين بالذات: «واجتاز رجال مديانيون تجار، فسحبوا يوسف وأصعدوه من البئر وباعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة فأتوا بيوسف إلى مصر» (تكوين 37/82)،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/254]
«أما المديانيون فباعوه في مصر لفوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط» (تكوين 73/36). اقرأ هذا وتساءل معي: كيف تهيأ لمديان بن إبراهيم هذا – وهو عم يعقوب أبي يوسف – أن يلد وحده، في جيل واحد – أو إن تشددت معي – في جيلين اثنين، قوافل مديانية من التجار تغدو وتروح ما بين مصر وفلسطين؟ لن أقول لك كيف هان عليهم يوسف، وإسحاق عمهم جده، فقد هان يوسف على إخوته، ولا أستطرد إلى الخلط بين الإسماعيليين والمديانيين، فقد سبق لنا القول فيه.
نحن لا نفسر «مديان» البلدة والقبيلة تأصيلاً على اسم «مديان» بن إبراهيم هذا الذي يشتقونه من العبري «دان / يدين» بمعنى خاصمه وقاضاه، فهو المخاصم الجدل، فلا صلة بين مديان بن إبراهيم هذا وبين مديان البلدة والقبيلة كما رأيت.
وإنما نحن نفسره بالعبرية – الآرامية «دان / يدون»، ومعناه في عبرية التوراة وإلى الآن في العبرية المعاصرة: حل ونزل وثوى وأقام وسكن.
من هذه في العبرية – الآرامية «مدينا» (المدينة في العربية)، أي البلدة التي يثوى بها. ويقام. وهي على وزن الفاعل المؤنث (عبريا وآراميا) من أدين / يدين المشتقة من دان / يدون العبري – الآرامي، بمعنى التي تثوي بها وتثويك.
ومن هذه أيضًا – الذي يعنينا هنا – جاءت «مديان» العبرية – الآرامية، على «مفعال»، المصدر الميمي واسم المكان، فهي «المثوى» و «المقام».
وهذا هو نفسه التفسير القرآني لمعنى «مدين» في القرآن تجده في قوله عز وجل: {وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين}
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/255]
[القصص: 45]، على الجناس المعنوي، «أي ما كنت مادنًا في مدين»، و«مَدَنَ» العربي يعني أتى المدينة.
فَصَلَ القرآنُ في اشتقاق «مديان»، فأخذها من دان / يدون العبري – الآرامي، مخالفًا بذلك مفسري عبرية التوراة الذين يشتقونها من «دان / يدين» على معنى الخصومة والمداينة والشكس والجدل، رغبة في نحلها «مديان» بن إبراهيم من جاريته قطورة، على ما مر بك، وهو بعيد، فأخطأوا وأصاب القرآن.
وسبحان العليم الخبير). [العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/247-256]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:28 AM

الفصل السادس:
أبو العلاء، إمام الناس
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: (الفصل السادس
أبو العلاء، إمام الناس
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/257]
يتناول هذا الفصل تفسير ثمانية أعلام: آزر (أبو إبراهيم)، إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، إسرائيل (شهرة يعقوب)، يوسف.
وقد جمعنا هؤلاء الأعلام الثمانية في فصل واحد، لأن أصحابها كما ترى ذرية بعضها من بعض، على النسب اللصيق. فيوسف هو ابن يعقوب (إسرائيل)، ويعقوب هو ابن إسحاق، وإسحاق وإسماعيل كلاهما ابنا إبراهيم، ولوط في التوراة ابن أخ لإبراهيم هو هاران، وإبراهيم (وهاران) ابنا آزر (أو تارح كما تقول التوراة). وترتيبهم التاريخي على هذا النحو ذاته ثابت في التوراة ثبوته في القرآن.
وكل هذه الأعلام (عدا آزر، وسيأتي) أعجمي مقطوع بعجمته، يجيء في القرآن منسوقًا على أصله في التوراة دون تفاوتن إلا ما اقتضاه التعريب.
وتقول التوراة أن «أبرام» كان اسم إبراهيم الذي سماه به أبوه. أما «إبراهيم» فهو اسم سماه الله به. وتقول أيضًا إن «يعقوب» سمى هكذا لأنه يوم مولده خرج مع توأمه «عيسو» ممسكًا بعقب أخيه. أما «إسرائيل» فهي شهرة ليعقوب من الله.
وتنص التوراة أيضًا على اسم أبي إبراهيم، فتسميه «تارح» (أو «تيرح» بإمالة الألف مع فتح الراء في الحالتين)، خلافًا للقرآن الذي يسميه «آزر» بالنص الصريح في قوله عز وجل: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} [الأنعام: 74].
وقد حار مفسرو القرآن في «آزر» (انظر تفسير القرطبي للآية 74 من سورة الأنعام) لمخالفتها الصريحة لما هو معلوم عند أهل الكتاب من التوراة. وطنطن بها المستشرقون – كما مر بك – الذين وهموا أن «آزر» من أفدح أخطاء القرآن في اقتباسه من التوراة.
ونقول نحن: وما كان أغنى القرآن عنها، على علمه المحيط بدقائق المكتوب في التوراة! وهل ينتقص شيئًا من جلال القرآن أن يسكت عن اسم أبي إبراهيم فلا يسميه؟ قد تناول القرآن جدال إبراهيم أباه في أكثر من آية فلم يسمه، فلماذا النص على اسم أبي إبراهيم في هذه الآية وحدها من سورة الأنعام؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/258]
أفقد جهل القرآن اسم أبي إبراهيم في التوراة؟ فلماذا يزج بنفسه في المزالق فيخترع من عنده اسمًا لأبي إبراهيم، غير عابئ بماي سمعه من أهل الكتاب في مكة ويثرب ونجران؟
وإذا كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم يفتري القرآن من عنده كما يدعون، فلماذا لم يستوثق من رجال كورقة بن نوفل عم زوجه خديجة وقد كان كما يقول أصحاب السير من حنفاء إحدى الملتين، يقرأ من الكتاب العبراني ما شاء له الله أن يقرأ؟ ولماذا لم يصححه له أمثال الحبر اليهودي ابن سلام وقد أسلم في المدينة لهذا النبي الذي «يخطئ» في اسم أبي إبراهيم؟ أفلم ير ابن سلام في هذه وحدها دليلاً كافيًا على «كذب» هذا النبي؟
ولماذا لم «يسقط» المسلمون من بعد النبي «آزر» هذه من القرآن، تنقية للقرآن من خطأ لا تجوز المماحكة فيه؟
تستخلص من هذا أن القرآن أعظم وأجل من أن يفترى من دون الله عز وجل، وتستخلص منه أيضًا أن القرآن عند الذين آمنوا به أعظم وأجل من أن يكذب بالتوراة، أو أن يصحح بما في التوراة، وتستخلص منه كذلك أن القرآن في المصحف الذي بين يديك قد عصمه الله سبحانه من التغيير والتبديل، ولو بقصد «التصويب» و«الاستدراك»، فهو إلى قيام الساعة محفوظ بحفظ الله عز وجل على الحرف الذي به نزل. وتستخلص منه أخيرًا أن القرآن – وكان أيسر عليه استبقاء «تارح» في القرآن على أصلها في التوراة – إنما أراد عامدًا متعمدًا تحدي المتقولين عليه أصحاب دعوى النقل والاقتباس، فجابههم بما ينقض دعواهم. والقرآن هاهنا يريد المخالفة لذاتها، لا يريد منها تأصيل منهج أو إثبات عقيدة، وإنما يأتي بها للدلالة على إعجازه فحسب.
نعم، «آزر» في القرآن من دلائل إعجازه، كما سنرى بإذن الله على التو معًا).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/257-259]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:31 AM

(22) آزر:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (22) آزر
وردت «آزر» مرة واحدة في القرآن [الأنعام: 74] اسمًا لأبي إبراهيم، وهو في التوراة «تارح». وقد توقف فيها مفسرو القرآن كما مر بك لما يعلمونه من مخالفتها الصريحة لاسم أبي إبراهيم في التوراة، وعالج بعضهم التصدي لها محاولين التوفيق بين «آزر» و«تارح» بإسقاط أحد طرفي التناقض: منهم من قال أن «آزر» في القرآن ليس هو أبا إبراهيم، وإنما هو عمه، والعرب تسمي العم أبًا. وليس بشيء، لأن المعنى في القرآن هو أبو إبراهيم، لا عمه. وقال الآخرون إن «تارح» كان له اسمان، أحدهما «آزر». وهو ضعيف، لأنه لا دليل عليه من القرآن أو الحديث، ولا مقنع به لأصحاب التوراة الذين لا يعلمون لأبي إبراهيم اسمًا آخر، أو شهرة شهر بها. وتصدى لآزر أيضًا باحثون كبار، كان منهم في هذا العصر الأستاذ عباس العقاد رحمه الله، في كتاب «إبراهيم: أبو الأنبياء»، الذي قال ما معناه إن «آزر» ليست تعريبًا لـ «تارح» وإنما هي تصويب قرآني لنطق «تارح» على أصلها في لغة صاحب هذا الاسم (وكأنه يقصد البابلية الأشورية) التي لا ترسم في الخط حروف الحلق ومنها الهمزة والحاء، وتبادل بين التاء والثاء والشين والزاي، وكأنها كانت ترسم «ثارة» أو «زرارة» ونطقها العبرانيون «تارح»، إلخ. وليس هذا بقوي، رغم ضخامة الجهد ونبل القصد، وأقرب ما يرد به على هذا أن العبرانيين لم يقرأوا اسم أبي جدهم إبراهيم في صحيفة أو نقش، وإنما سمعوه من إبراهيم شفاهة، وهم قد سمعوها «تارح»، ولم يسمعوها «آزر». ويرد عليه أيضًا بأن القرآن لم يصوب للتوراة نطق علم أقدم من «تارح» وهو «نوح»، وكان حقه أن يأتي بها على «نوخ» بالخاء المنقوطة كما مر بك، وإنما القرآن يلتزم العلمية التي ثبتت في الكتب السابقة، فيأتي بها على ما هي عليه، عدا ما يقتضيه التعريب فحسب، إلا أن يأتي القرآن بالعلم التوراتي أو الإنجيلي مترجمًا، كما مر بك في «إدريس» وكما سترى في «ذي الكفل».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/260]
أفتكون «آزر» في القرآن ترجمة لـ «تارح» في التوراة؟
نعم. ولكن هذا يقتضي أولاً تأصيل لفظة «تارح» في اللساني العبراني، معناه واشتقاقه، أو معناه واشتقاقه في اللسان الآرامي، لغة إبراهيم «الآرامي»، الوافد على فلسطين (إرص كنعان) من حاران في شمالي سورية (إرص آرام) كما يقول سفر التكوين.
لا يعرف علماء التوراة لاسم أبي إبراهيم «تارح» (أو «تيرح» بإمالة الألف) معنى أو اشتقاقًا، لا من العبرية ولا من الآرامية، لعدم وجود الجذر السامي «ترح» في أي منهما، أو على الأقل عدم وجوده فيما هو معروف لنا اليوم من جذور العبرية والآرامية. وأيضًا لأنه لا يستقيم على أوزان هاتين اللغتين افتراض زيادة التاء في تارح اسم أبي إبراهيم في التوراة على نحو زيادتها في «ترواح» العربية بمعنى الرواح، أخذًا من الجذر العبري «أرح»، مقلوب الجذر العربي راح / يروح بمعنى رحل، إذن لقالوا «آرح» وهو بالفعل من أعلام التوراة، ومعناه «الرحالة» الكثير التجوال. ربما جاز لك أن تقترح على علماء العبرية في تفسير معنى «تارح» أنه مشتق من «يارح» العبري بمعنى «قمر» (ومن هذه «يرح» العبري بمعنى شهر قمري)، زيدت فيها التاء فأصبحت «تيرح» (على نطق «تارح» اسم أبي إبراهيم ممالة الألف)، على نحو ما زيدت التاء في «يمن» العبري فقيل «تيمان» بمعنى الجنوب عبريًا. ويرد على هذا بأن العبرانيين حين اشتقوا من القمر اسمًا علمًا قالوا «يروح» وقالوا «يرح» ولم يقولوا البتة «تارح» أو «تيرح».
على أنه لم يقل بهذا أو ذاك من علماء العبرية أحد، بل قد آثروا جميعًا السكوت عن تفسير معنى اسم أبي إبراهيم، على ولوعهم بتفسير الأسماء الأعلام، بل واختراع المناسبة التي اختير الاسم من أجلها، توضيحًا لمعناه. وهم قد توقفوا في «تارح» - على الراجح عندي – خشية مزالق الزلل فيما لم يتضح لهم وجه الصواب فيه. ونحن نحترم لعلماء التوراة هذا السكوت، احترامنا لمفسري القرآن الذين توقفوا عن تفسير «آزر». لأننا نصدق القرآن في «آزر»، تصديقنا للتوراة في «تارح».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/261]
في التوراة أيضًا (عدد 33/27 – 28) «تارح» أخرى، هي نفسها رسمًا ونطقًا، توقف أيضًا علماء التوراة عن تفسير معناها. وليست هي في سفر العدد اسما لأبي إبراهيم، وإنما هي فيه اسم موضع في صحراء سيناء نزله موسى مع بني إسرائيل أيام تطوافهم في التيه. وليست هذه عبرية بالضرورة، بل عربية، لغة القوافل التي كانت تجوب سيناء إلى مصر. لعلها من الترواح والراحة على معنى المستراح يحط فيه الرحال. وقد فسرها بهذا المعنى نفسه «معجم ويستر». فقال Station، يعني «المحط»، غير جازم، لأنه يعقبها بعلامة استفهام. وهذا يليق باسم موضع، لا سيما في تيه كتيه سيناء، ولكنه لا يليق اسما لرجل، ولو أن المعجم المذكور يخلط بين الاسمين في غير ضرورة.
ونحن لا نَقْسِرُ علماءَ التوراة على تفسير لاسم أبي إبراهيم «تارح» من العبرية والآرامية: لو كان في العبرية أو الآرامية شيء يعين على هذا التفسير لسبقونا إليه.
ولكننا نقول كما يقول سفر التكوين (تكوين 11/27 – 33) إن أبا إبراهيم «تارح» لم يكن رجلاً عبرانيًا أو آراميًا، ولكنه كان رجلاً «بابليًا»، ولد في بلدة «أور الكلدانيين» على سافلة نهر الفرات، إلى الجنوب الشرقي من بابل في العراق، ولم يرتحل منها إلى «حاران» في شمالي سورية (إرِصْ آرام) إلا وقد نيف عمره على مائة عام. ومن هنا تستطيع أن تقول إن تارح هذا كان ينطق اسمه، الذي سمعه منه بنوه، على مقتضى مخارج ألفاظ اللغة البابلية، لا العبرية ولا الآرامية.
يقول علماء اللغات السامية إن البابليين – وهم بالقطع ساميون من عرب شبه الجزيرة – غلبوا الشومريين على أرضهم في جنوبي العراق حوالي مطلع القرن الثلاثين قبل الميلاد، فنقلوا عنهم «الخط المسماري» الذي ابتدعه الشومريون من قبل. ولأن اللغة الشومرية – بالقطع أيضًا – لغة غير سامية، فقد خلا الخط المسماري من
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/262]
حروف لا تحتاج إليها تلك اللغة على أصول مخارج ألفاظها من حروف التضخيم كالطاء والظاء والضاد وبعض حروف الحلق، وتحتاج إليها اللغات السامية – ومنها البابلية – كي تفرق مثلاً بين «ظهر» و«زهر»، وبين «عاد» و«آد»، على نحو ما تراه الآن من فوارق بين الخط اللاتيني والخط العربي. وكان موقف البابليين من هذا أنهم اصطنعوا الخط المسماري على علاته. دون أن يضيفوا إلى حروف «الأبجدية المسمارية» ما ينقصها من الحروف التي تحتاج إليها اللغة البالية السامية.
وقد كان لاستخدام البابليين الخط المسماري في الكتابة، إلى جانب اختلاطهم بالشومريين الذين لم يقضوا عليهم تمامًا، أثر فادح في تشويه الطابع السامي النقي لمخارج ألفاظ أولئك الأعراب الذين جاءوا من جنوبي شبه الجزيرة فتوطنوا في بابل، ومن هذا المزيج وذاك الامتزاج ولدت اللغة البابلية، التي وإن بقيت سامية بجذورها ومادتها وتراكيبها فقد ضاعت منها بعض «الأصوات» التي تختص بها اللغات السامية، وأمها العربية، فتهملها، أو تنطقها محرفة.
وإذا علمت أن تارح أبا غبراهيم ولد في أور الكلدانيين ببابل حوالي مطلع القرن العشرين قبل الميلاد حسبما تستخلص من حسابات سفر التكوين – بعد انقضاء حوالي ألف سنة على توطن أسلافه الساميين في بابل – فقد علمت يقينًا أن لغة تارح هذا وآبائه كانت هي بالقطع تلك اللغة السامية البابلية التي تأثرت بمخارج ألفاظ الشومريين على مدى ألف سنة سبقت، فهي لا تجد حرجًا على سبيل المثال في وضع «التاء» موضع «الطاء» نطقًا وكتابة.
من هنا تقول إن تارح – اسم أبي إبراهيم في التوراة – إما هو على أصله بالتاء، فيكون مشتقًا من الجذر السامي «ترح» (الذي يفيد في العربية الهم والحزن، وأيضًا قلة الخير)، وإما أن يكون أصله بطاء تحورت في البابلية إلى تاء، فيكون مشتقًا من الجذر السامي «طرح» (على تفاوت في معنى «طرح» بين العربية وأخواتها الساميات): إن صدقت التوراة في «تارح» تصديقك القرآن في «آزر» فلا سبيل أمامك لتفسير معنى «تارح» إلا بأحد هذين الفرضين لا ثالث لهما.
وقد كان الأضبط – والأثبت – التماس معنى «تارح» البابلية هذه في المعجم البابلي نفسه، ولكن المعجم البابلي للأسف معجم أبتر، يقتصر على مفردات قلائل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/263]
اقتنصها اللغويون بعد لأي من حطام نقوش بذلك الخط المسماري الذي حدثتك عنه، ليس من بينها «تارح» أو «طارح».
وقد مر بك أن اللغويين يستعينون في فهم بوائد الساميات بالرجوع إلى معجم اللغة العربية، أم الساميات جميعًا. ومر بك أيضًا أن اللغويين حين يريدون تأصيل معنى جذر ممات في لغة سامية ما، يستعينون بمعنى هذا الجذر في أخواتها وبنات عمومتها.
ولأن القرآن – أصل كل تأصيل للمعجم العربي – لم يعتمد «تارح» (لا بالتاء ولا بالطاء) اسمًا لأبي إبراهيم، وإنما أتى به على الترجمة «آزر»، تفاديا لنقله عن أصل معناه في لغة صاحبه إن هو أتى به على أصله معربًا – على ما مر بك من منهجنا في هذا الكتاب – فهذا يعني أن «تارح» و «طارح» كلتيهما ليستا من «ترح» و«طرح» العربيين، وإنما هما أو إحداهما من لغة سامية أقرب إلى البابلية تاريخًا وحضارة.
والآرامية والعبرية هما الأقرب إلى البابلية تاريخًا وحضارة. والآرامية والعبرية كلتاهما تخلوان من الجذر السامي «ترح»: ليس فيهما إلا «طرح» بالطاء، لا بالتاء.
ومن ثم فلا مفر لك من التماس «تارح» في «طارح»، والتماس معنى «طارح» هذه في العبرية – الآرامية، لا في لغتنا العربية.
«تارح» إذن – أو بالأحرى «طارح» - اسم أبي إبراهيم في التوراة، هو من العلم الأعجمي الذي فسره القرآن بالترجمة، فجاء به على «آزر». فإلى أي مدى أصاب القرآن، وسفه خصومه؟
جهل أحبار العبرية معنى «تارح» اسم أبي جدهم إبراهيم كما مر بك، وحققه القرآن كما سوف ترى، فأي إعجاز وأي علم!
وزر، يزر، وزرا فهو وازر (راجع في معجمك العرب مادة «وزر») يعني حَمَلَ ما يثقل ظهره، ومنه في القرآن: {لا تزر وازرة وزر أخرى} [الإسراء: 15]
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/264]
أي لا تحمل نفس عن نفس شيئًا، بل كل نفس بما كسبت رهينة. ومنه «الوزر»، أي الحمل الثقيل، كما في قوله عز وجل: {حتى تضع الحرب أوزارها} [محمد: 4] أي أثقالها من سلاح وعتاد. واستعمل الوزر مجازًا بمعنى الذنب، لأنه يثقل ظهر صاحبه يوم القيامة، كما في قوله عز وجل: {من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا} [طه: 100].
وقد سقط من المعجم العبري – الآرامي الجذر السامي «وزر». إلا في لفظ واحد هو «وزار» التي وردت اسمًا علمًا في الأصل العبراني لأسفار التوراة على مجازها العربي بمعنى «موزور» أي راكب الوزر (راجع الترجمة العربية لسفر الأمثال 21/8)، لم ترد في التوراة إلا في هذا الموضع، وبقيت في العبرية المعاصرة بمعنى الخاطئ الآثم، يفسرها علماء العبرية بردها إلى الجذر العربي «وزر».
أما «الوزر» على أصل معناه في العربية، أي الحمل الثقيل، فهو في العبرية – الآرامية «طورح»، أخذًا من الجذر العبري – الآرامي «طرح»، أي حمل ما يثقل ظهره، فهو المقابل العبري – الآرامي للجذر العربي «وزر». ولا تستعمل عبرية التوراة من الجذر «طرح» إلا «طورح» بمعنى الحمل الثقيل، أي الوزر، وإلا صيغة «هفعيل» (وهي صيغة «أفعل» العربية المتعدية بالهمزة) فتقول «هطريح» بمعنى «أوزره»، أي حمله ما يثقل ظهره.
«طارح» إذن (أي «تارح» كما مر بك)، عن اشتققتها من الجذر العبري – الآرامي «طرح»، معناها «الوازر»، على التطابق، لا على المجاز بمعنى الموزور راكب الوزر، وإنما على الأصل بمعنى الحمول المحمل.
أما لماذا ترجم القرآن اسم أبي إبراهيم إلى «آزر»، ولم يترجمه إلى «وازر» فهذا من دقيق القرآن كما سترى.
«الأزر» عربيًا ليس أصل معناها «القوة» كما وهمت بعض المعاجم، وإنما أصل معناها «الظهر». والظهر يكنى به عن القوة، لا العكس. والإزار منه،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/265]
لأنه يشد به على الظهر، أي على «الأزر». وأزر الزرع بمعنى التف فقوي بعضه بعضًا، يعني «تظاهر»، فكان بعضه لبعض «ظهيرًا». وآزره مثله. ومنه أيضًا «أزره» بمعنى دعمه وقواه، أي كان له ظهرًا، وآزره يعني كان له ظهيرًا مظاهرًا. وأزره أيضًا يعني ألبسه الإزار، وأزر هو، بكسر الزاي، فهو «آزر» (بفتح الزاي كاسم أبي إبراهيم في القرآن) يعني لبس الإزار، ومنه «حصان آزر» يعني حصان أبيض العجز ومقاديمه غير بيض، وكأن بياض عجزه على خلاف مقاديمه «إزار» ائتزر به.
أما أن «الأزر» معناه «الظهر»، لا القوة، فهذا يتضح لك من قوله عز وجل على لسان موسى: {اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري} [طه: 31 – 39] والمعنى «أشدد به ظهري»، لا «أشدد به قوتي» كما وقع في بعض التفاسير، وكما وقع في المعجم الوسيط استشهادًا على معنى «الأزر» بأنه القوة. وليس بشيء: القوة تشدد ولا «تشد»، لأن «شد» الثلاثي المجرد غير المضعف، حين يتعدى بذاته كما في الآيات التي تلوت توًا. يقع على المادي ولا يقع على المعنوي، ويكون بمعنى الربط والإيثاق والإحكام: تقول شد الإسار، وشد العقدة، وشد العضد، وشد الرحال، وشد المئزر، وشد «الأزر»، أي الظهر، لا معنى للقول بخلافه.
وقد فسر القرطبي رحمه الله «الأزر» بمعنى «الظهر» في تفسيره للآية 31 من سورة طه، فارجع إليه.
والوزر من «الأزر» قريب، لا في مادته فحسب، ولكن لأن «الوزر» بمعنى الحمل الثقيل لا يكون إلا على «الظهر»، أي على «الأزر». تجد هذا فصيحًا بينًا في قوله عز وجل، يسلي بها نبيه: {ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك} [الشرح: 2 – 3] بل لا يمكن لك تفسير قول العرب «وزر إليه» بمعنى لجأ واعتصم، ومنه «الوزر» بفتح الواو والزاي في قوله عز وجل: {كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر} [القيامة: 11 – 12]، إلا أن تقول إن «الوزر» لغة في «الأزر»، بمعنى الظهر يركن إليه، أبدلت فيه الواو من الهمزة، وهو كثير الوقوع في كلام العرب، من مثل (أزف / وزف) و(أكد / وكد) وغيره كثير. كما تجده في قوله صلى الله عليه وسلم لبعض تلك النسوة: «ارجعن مأزورات غير مأجورات»!
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/266]
وكأنه يريد «موزورات» فهمزن أو كأن «وزر» و«أزر» سيان، أو كأن «المأزور» هو «المحمول على أزره»، أي على ظهره، كما تقول «مكبود»، «مبطون»، «معيون» فيمن اعتل كبده وبطنه وعينه. والقياس من هذا – وإن لم يسمع من العرب – أن تقول «أزره» بمعنى «أوقر أزره» (أي ظهره)، و«أزر» هو، فهو «آزر» (أسم أبي إبراهيم في القرآن) يعني موقر الظهر مثقله: إنها نفسها «الوازر» حامل الوزر، على أصلها لا مجازها، أي الحمول المحمل. وهو نفس معنى «طارح» العبرية – الآرامية.
وقد عدل القرآن عن «وازر» إلى «آزر» دفعا لشبهة فهمها بمعنى الآثم الخاطئ (وهي «وزار» العبري كما مر بك)، وليست «طارح» أو «تارح» كذلك. وعدل أيضًا عن استبقائها معربة على أصلها العبري – الآرامي «تارح» أو «طارح»، لأن «تارح» تشتبه في العربية بمعنى «المحزون» الترح، و«طارح» تشتبه في العربية بمعنى «الطريح» المنبوذ، وليست أيضًا «تارح» أو «طارح» فيا لعبرية – الآرامية كذلك، على ما مر بك من منهجنا في تفسير أسباب عدول القرآن عن تعريب العلم الأعجمي إلى ترجمته.
أما اشتقاق «طارح» (تارح في التوراة) من الجذر العبري «طرح» بمعنى «حمل» ما يوقر ظهره، فهو عندي على الوزن «فعال» - وهو وزن في العبرية والآرامية يدل على الفاعل يكثر منه الفعل – فكان حقه أن يكون «طراح». ولكن الذي يجب أن تعلمه، وعلمه القرآن من قبل، أن هاتين اللغتين لا تجيزان تشديد الراء، وتستعيضان عن تشديد الراء بمد حركة ما قبلها، فتؤول «طراح» إلى «طارح» (تارح في التوراة)، كما قالوا في «حراش» (أي الحراث» «حارش»، يعني الحارث الذي يمتهن الحراثة.
لا سبيل أمامك إلى تفسير معنى «تارح» البابلية (اسم أبي إبراهيم في التوراة) إلا بردها إلى «طارح» العبرية – الآرامية، أبدل البابليون من طائها تاء.
ولا ترجمة إلى العربية لهذا الاسم البابلي أدق من «آزر» التي في القرآن، بمعنى «الوازر»، على أصلها، لا مجازها.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/267]
ولا حرج على القرآن صاحب اللغة – على نحو ما رأيت في «صراط» و«قسطاس» - أن يشتق من الجذر العربي الأصيل مادة لم تسمع قبله من العرب، لا سيما في ترجمة الأسماء الأعلام كما مر بك في «إدريس»، بل في هذا إشارة إلى «عجمة» صاحب الاسم العلم.
قد أصاب القرآن إذن في «آزر»، وسفه خصومه. فهل رغمت أنوف؟
جهل خصوم القرآن معنى اسم أبيهم «تارح»، وما زالوا يجهلونه، وعلمه القرآن. فأي إعجاز وأي علم!
كان أولى بالذين طعنوا على القرآن في «آزر» أن يتعلموا منه، ولكنهم لم يفعلوا. وصدق الحق سبحانه إذ يقول في تقريعهم: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلما تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [آل عمران: 66]).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/260-268]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:33 AM

(23) إبراهيم:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (23) إبراهيم
«إبراهيم» في القرآن هي تعريب «أبراهام» في التوراة.
ويقول سفر التكوين إن إبراهيم كان اسمه «أبرام» (المشتقة على المزجية من آب + رام بمعنى «أبو العلاء») وظل اسمه كذلك حتى كان ابن تسع وتسعين سنة فسماه الله «أبراهام» (إبراهيم في القرآن).
وعلماء التوراة يشتقون «أبراهام» هذه على المزجية من (آب + راب + هام)، حذفت الباء التي في «راب» للمزجية استثقالاً، وخفف المد الذي في «آب» للمزجية أيضًا، فأصبحت (أب + را + هام)، أي «أبراهام».
أما معنى «أبراهام» هذه عند علماء التوراة فهم يرون أن «راب» هاهنا يعني «كثير» وأن «هام» يعني «جمهور». ومن ثم فهذا الاسم يعني عندهم (أب + كثير + جمهور)، يريدون «أبو جمهور كثير».
وقد تورط علماء التوراة في هذا التفسير اتباعًا لسفر التكوين (تكوين 17/5) الذي أراد أن يكون معنى «أبراهام» أبا لجمهور من الأمم (آب – هامون – جوييم)، نبوءة من الله عز وجل لإبراهيم بكثرة النسل. فألزم بها سفرُ التكوين علماءَ التوراةِ من بعده.
ولكنك تستدرك على علماء التوراة هؤلاء متسلحًا بنحو اللغة العبرية ذاتها ومعجمها، فتقول إن «راب» التي في آب + راب + هام (أب + كثير + جمهور) لا يصح عبريا أن تُفهم في هذا الاسم على الصفة بمعنى «كثير»، لأن المفرد (الأب) لا يوصف بالكثرة، فلا يجوز لك أن تقول «أب كثير». ولا يصح عبريًا أيضًا أن تكون «كثير» هذه صفة لما بعدها (الجمهور)، لأن الصفة لا تتقدم الموصوف، كما في العربية سواء بسواء. ولا يصح في عبرية التوراة كذلك – وإن صح في العربية – إعمال الصفة فيما بعدها، كأن تقول «أب كثير الجمهور». أقرب من هذا إلى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/269]
الصواب أن تقول في «راب» العبرية هذه أنها صفة بمعنى «كبير» (وهو من معانيها في العبرية) تصف بها «الأب» على التوقير والتمجيد، فيكون المعنى «أب كبير لجمهور». وليس هذا هو الذي يريده سفر التكوين، فهو يريد الكبر والكثرة للجمهور لا للأب، بدلالة تفسيره الاسم بقوله: «أب لجمهور من الأمم».
أما الشديد النكر، فهو أن «هام» العبرية هذه لا تعني البتة «جمهور» كما أراد سفر التكوين وتابعه عليها من بعده علماء التوراة، وإنما معناها في العبرية «الناس»، أخذًا من ضمير الجماعة العبري «هيم» (بإمالة الألف) وهي «هم» العربية.
من هنا يتضح لك أن المعنى الأقرب إلى الصواب عبريًا في «أبراهام» هو فهمه بمعنى «أب كبير للناس».
ولكنك تعليم من العبرية أيضًا أن «راب» على الاسمية لا الصفة، تعني «الرئيس»، «السيد»، «المعلم»، «الإمام». ومنها «الرباني» على ما مر بك في تضاعيف هذا الكتاب. ومنها في العبرية المعاصرة قولهم على النداء توقيرًا: مورى وربى! أي معلمي وأستاذي! إنها إذن الأستاذ الإمام.
عندئذ تقطع غير ملتفت إلى تفسير سفر التكوين وعلماء التوراة، بأن «أبراهام» إنما تعني في لغة صاحب هذا الاسم العلم: إمام الناس. وهي عبريًا «راب + هام»، لا تحتاج في أولها إلى «آب». ولكن بقيت «آب» مضافة إلى الاسم على الراجح عندي، دلالة على الانتقال بالاسم من (آب + رام) إلى (آب + راب + هام) على وجه الحشو المؤكد، لأن في «آب» من معنى الإمامة بعض ما في «راب».
وهذا هو نفسه التفسير القرآني لمعنى إبراهيم بالمرادف في قوله عز وجل: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما} [البقرة: 124]، ولم يفطن إليه مفسرو القرآن كما سترى.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/270]
تكلم مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 124 من سورة البقرة) في معنى اسم إبراهيم. منهم من أنصف فاكتفى بالقول بعجمته (الماوردي)، ومنهم من تصدى لتفسيره (ابن عطية) فقال إن معناه من السريانية هو «الأب الرحيم»، مؤكدًا أن «رهيم» في السريانية معناها «رحيم» في العربية، فتندهش كيف تورط فيها الرجل على جلال قدره وعلمه، وليس في السريانية بالطبع من هذا شيء، بل ولا في الآرامية والعبرية، ولا تدري أيضًا أي شقي في نواحي العراق دسها عليه، إلا أن يكون «هنديًا» تسربل في ثياب السريان، ينطق حاءهم هاء!
وعلل بعضهم سبب التسمية (السهيلي) بقوله في معرض التشابه القوي بين السريانية والعربية: (ألا ترى أن «إبراهيم» تفسيره «الأب الرحيم»؟ لرحمته بالأطفال، ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغارًا إلى يوم القيامة). وهذا – فوق سماجته – ضعيف، تشم فيه من قريب رائحة النقل عن أهل الكتاب من الملتين، وعندهم أن «الأبرار» يذهبون إلى حضن إبراهيم وسارة.
والطريف أن القرطبي رحمه الله تحمس لهذا التعليل، فعززه بقوله: «ومما يدل على هذا ما أخرجه البخاري في حديث الرؤيا الطويل عن سمرة، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في الروضة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس».
وليس في هذا الحديث أيضًا – وإن صح – ما يشهد لتفسير اسم إبراهيم بمعنى الأب الرحيم، وإنما هذا هو ما أسميه «التفسير بالتخمين»، أو «التفسير بالفراسة»: تسقط صورة في ذهنك على شخص صاحب الاسم العلم، ثم تستخلص من هذه الصورة التفسير الذي تريد، لا تكلف نفسك مؤونة تأصيل مبني الاسم ومعناه في لغة صاحبه.
بل ليس البر والرحمة هما أعظم مناقب إبراهيم عليه السلام، حتى يتكلف اشتقاق هذا الاسم منهما. وإنما كانت كبرى مناقبه عليه السلام، بشهادة الله عز وجل، أنه إبراهيم الذي وفى: {الم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى} [النجم: 36 – 37].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/271]
شغل إبراهيم عليه السلام – وهو بعد صغير – بالنظر في النجوم، يطلب الحق المبين، فهداه الحق إلى الحق. وانبرى وحده في قومه يدعو إلى الواحد، فابتلى بكفر أبيه آزر، ينحت الأصنام ويبيعها للناس، كالساخر بدعوته. لم يكن أبوه ردءًا له، وإنما كان حربًا عليه، يستغل سلطان الأبوة في إسكات الدعوة: {قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا} [مريم: 46]، ولم يزد هذا إبراهيم بأبيه إلا برًا: {قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا} [مريم: 47]. وكاد أصنامهم في غفلة منهم، ليريهم على أعين الناس أن الإله الذي لا يدفع الضر عن نفسه، أقمن ألا يدفع الضر عن غيره، أو يضره. ولكنه بفعلته هذه لم يهتك ستر أصنامهم فحسب، وإنما هتك ستر كهنتها وسدنتها، الذين يعلمون من قبل أنها لا تضر ولا تنفع، ولكنهم يعللون بها المستضعفين ويسوسون الدهماء. هنا برح الخفاء ولم يعد يصح السكوت، فكان جزاؤه من أبيه وقومه أن يحرقوه بالنار، انتصارًا لآلهتهم وكيلا يفتتن به الناس. أسلم إبراهيم أمره لله، فقد علم هو من قبل أن الله حسبه، وإذا النار على إبراهيم بردٌ وسلام، فالنار لا تحرق مؤمنًا، ناهيك بخليل الرحمن. ولكن القلوب تعمي عن الآية الكبرى، فاعتزلهم وما يعبدون من دون الله، لم يؤمن له منهم إلا زوجه سارة وابن أخيه لوط، فخرج بهما مهاجرًا إلى ربه، لا شيعة ولا أتباع، يرجو رحمة ربه في نسل صالح يُعينه على أمر الله: {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين} [الصافات: 99 – 100]، ولكن العزيز الرحيم يبتلى إبراهيم فيرجيء الاستجابة إلى وقتها المكتوب عنده، ويصبر إبراهيم حتى يأتي أمر الله، لا يضار الزوجة التي صبرت ووفت، حتى جاوز الثمانين، فيولد له من هاجر بكره إسماعيل وقد ناهز إبراهيم ستا وثمانين، كما تقرأ في سفر التكوين (تكوين 16/16)، وعززه القرآن بقوله عز وجل على لسان إبراهيم: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء} [إبراهيم: 39].
أفهل انتهت «بلاءات» إبراهيم؟ كيف، وهو عز وجل يريد لإبراهيم أن يكون المثل الأعلى لاصطبار المؤمن وإذعانه لأمر الله؟
ما أقر الله عينه بإسماعيل حتى ابتلاه فيه، فأمره بفراقه فطيما تحمله أمه، ليضعه في واد غير ذي زرع، لا ماء ثم ولا طعام. ولكن إبراهيم يمضي لا يلتفت
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/272]
وراءه تاركًا فلذة كبده عن أمر الله، لا ينفطر ولا يجزع، فقد علم هو من قبل أن الذي خلق وهدى هو الذي يطعم ويسقي: {الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين} [الشعراء: 78 – 79]. فأي طاعة، وأي إيمان!
لم يخلق الله إسماعيل ليؤنس أباه في شيخوخته، وإنما خلقه ليكون شجرة إيمان أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء، ألقيت بذرتها في واد أصم، يراد له بعد نحو أربعة وعشرين قرنا حمل لواء الدعوة الخاتمة والبلاغ المبين.
ويشب الغلام بعيدًا عن أبيه، ويمتثل إبراهيم. أفهل انتهت «بلاءات» إبراهيم؟ كلا. ما أن يبلغ الغلام ثلاث عشرة سنة، وقد ناهز إبراهيم تسعا وتسعين، حتى يجيء «البلاء المبين»: يؤمر إبراهيم بذبح ابنه بيده، ويا لهول ما يؤمر! لأهون عليه أن يذبح نفسه بيده ولا يرى ابنه يشك بشوكة تدميه. ولكن الله هو الآمر، والمأمور هو إبراهيم الذي علمت، ويمتثل إبراهيم. أفيتابى إسماعيل على أمر الله، يُضاعف على أبيه المحنة فيستغيثه الأبوة ويناشده الرحمة؟ فما علمك ببر إسماعيل أباه؟ كلا، بل يخفف عن أبيه البلاء. فيستحثه ويستنجزه: {قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} [الصافات: 102]، لا يصطنع البطولة، وإنما يقدم المشيئة، مسلمًا وجهه لله، فأي أب وأي ابن!
تهيأ الابن للذبح، وتهيأ الأب لإجراء السكين، فقيل له قف! قد أتممت! فلم ير إبراهيم في المنام إلا أنه «يذبح» ابنه، لا أنه «ذبحه» بالفعل. وهذا هو معنى قوله عز وجل: {فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين}[الصافات: 103 – 105]
وإلى هنا تم بلاء إبراهيم: {إن هذا لهو البلاء المبين} [الصافات: 106] بلاءً لم يمتحن به قط إيمان رجل من قبل ومن بعد.
أما «جزاء المحسنين»، فقوله عز وجل: {وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين} [الصافات: 108 – 110]، وأيضًا بشراه بإسحاق يثني به إسماعيل: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين} [الصافات: 112] – وإسحاق يعني «الضحوك» كما قد علمت – ثوابا من عند الله له ولزوجه سارة رفيقة جهاده الطويل، فلم ير إبراهيم بعدها إلا ضاحك السن، قد
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/273]
صَفَت له الأيام. وبارك الله على إبراهيم وآله، فصارت جزءًا من «تشهد» المسلم في كل صلاة.
كان إبراهيم المثل الأعلى للمسلم الحق، يسلم أمره كله لله. وكان إبراهيم المثل الأعلى للمؤمن الحق، تنهد الجبال ولا يتزعزع له إيمان. فكان حقه على الله عز وجل أن يقول فيه: {إن إبراهيم كان أمة} [النحل: 120]، يؤتسي به ويؤتم. وكان حقه على الله عز وجل أن يقول فيه: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} [البقرة: 130 – 131]، {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا} [النساء: 125]. وكان حق إبراهيم على الله عز وجل أن يستجيب دعوته في الملة الآخرة: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} [البقرة: 138]، فيكون إمام المذهب والطريقة، أي الملة: {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل} [الحج: 78].
كان جزاء إبراهيم الذي وفى – وقد اجتاز البلاء المبين – أن جعله الله عز وجل إمامًا للناس:
{وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما} [البقرة: 124]، وهذا هو المعنى الدقيق لاسم إبراهيم (إمام الناس) الذي لا يصح في العبرية غيره كما مر بك، وتلك هي مناسبة الانتقال باسمه من «أبرام» إلى «أبراهام» يوم التمام، باجتياز «البلاء المبين».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/274]
ولكنك لا تقرأ في سفر التكوين شيئًا يعلل لك سبب العدول باسم إبراهيم من «أبرام» إلى «أبراهام» وهو عندئذ ابن تسع وتسعين، دون أسباب أو مقدمات، إلا إرادة الوعد بكثرة النسل: «ولما كان أبرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب لأبرام وقال له أنا الله القديم. سر أمامي وكن كاملاً فأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيرا جدًا. فسقط أبرام على وجهه. وتكلم الله معه قائلاً: أما أنا فهو ذا عهدي معك وتكون أبا لجمهور من الأمم. فلا يدعى اسمك بعد أبرام بل يكون اسمك إبراهيم (أبراهام في الأصل العبراني). لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم. وأثمرك كثيرًا جدًا وأجعلك أمما. وملوك منك يخرجون» [تكوين 17/1 – 6). أما العهد الذي يلتزم به إبراهيم لقاء وعد الله إياه بكثرة النسل فهو (عهد الختان): «وأما أنت فتحفظ عهدي. أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك. يختن منكم كل ذكر. فتختنون في لحم غرلتكم. فيكون علامة عهد بيني وبينكم» (تكوين 17/9 – 11)» فيكون عهدي في لحومكم عهدًا أبديًا. وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها. إنه قد نكث عهدي» (تكوين 17/13 – 14).
في هذا اليوم أيضًا، وفي مناسبة تعديل اسم أبرام إلى أبراهام، عدل الله كذلك كما يقول سفر التكوين، اسم زوجته من «ساراي» إلى «سارة»: وقال الله لإبراهيم ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي بل اسمها سارة. وأباركها وأعطيك أيضًا منها ابنا وأباركها فتكون أمما، وملوك شعوب منها يكونون (تكوين 17/15 – 16). أي في هذا اليوم أيضًا كانت البشرى الأولى لإبراهيم بابنه إسحاق. وهذا يتفق مع القرآن الذي يجعل توقيت البشرى الأولى بإسحاق تعقيبًا على اجتياز إبراهيم اختبار «البلاء المبين»، كما تجد في قوله عز وجل لحظة فداء إسماعيل: {وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين} [الصافات: 107 – 112].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/275]
ولكن الكاتب يسقط عمدًا من هذا السياق «اختبار الذبح»، لأنه يريد شرف هذا «البلاء المبين» لإسحاق، لا لإسماعيل، وإسحاق لم يولد بعد، فيرجئ الحديث عن هذا إلى أن يولد إسحاق. فيجيء الكلام مقطوعًا عن سياقه، ولا تفهم وجه التناسب بين «عهد الختان» وبين «تكثير النسل»، ولا بين هذين وبين وجه الضرورة إلى تغيير اسم إبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة من أبرام إلى أبراهام، إلا أن يكون معنى «أبراهام» هو المنجاب المنسال، ذلك المعنى الذي اضطر إليه الكاتب، فألزم به علماء التوراة من بعده على خلاف مع نحو اللغة العبرية ومعجمها.
كان إسماعيل يوم تبدل اسم إبراهيم من «أبرام» إلى «أبراهام»، ابن ثلاث عشرة سنة، كما يقول سفر التكوين (تكوين 17/25)، يصح به «القربان» في اختبار الذبح، البلاء المبين، وكان جديرًا بكاتب سفر التكوين الذي بين يديك أن يتخذ من اجتياز إبراهيم هذا الاختبار الفذ، مناسبة لتعديل اسمه من «أبرام» إلى «أبراهام»، أي من «أبي العلاء» إلى «إمام الناس» في الإسلام والإيمان، لحظة أثبت جدارته بهذا الوسام.
ولكن كاتب سفر التكوين الذي بين يديك لا يهتم لهذا ولا يريده، لأنه يفوت على بني إبراهيم عبر إسحاق هذا الشرف، وإسحاق لم يولد بعد، فنقل «بطولة» اختبار الذبح من إسماعيل إلى إسحاق، كما كان يفعل بعض فراعنة مصر بنقوش أسلافهم: يرفعون اسم الفرعون صاحب النقش الذي يسجل أمجاده، ويضعون مكانه اسم الفرعون البطل «المزيف»، فيفضحهم علماء الآثار حين يكتشفون التدليس. هذا بالضبط هو ما فعله الكاتب. لأنك حين تقرأ له (تكون 22/2) عبارة: «خُذ ابنك وحيدك الذي تحبه ...» تتوقع حتما أن تجيء بعدها مباشرة لفظة «إسماعيل»، ولكن الكاتب يضع مكانها بكل ثقة لفظة «إسحاق»، يكررها في كل مواضع واقعة اختبار الذبح، غير عابئ بذاكرة القارئ الذي قص عليه من قبل أن «إسحاق» لم يكن قط ابنًا «وحيدًا» لإبراهيم، وإنما الذي كان ابنًا «وحيدًا» لإبراهيم، وظل كذلك حتى مولد
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/276]
«إسحاق» هو بكره «إسماعيل»، فتقطع بأن ثمة أحدًا «ذا مصلحة» قد عبث بهذا النص «المقدس»، لأن اختبار الذبح بابن «وحيد» لا يمكن عقلاً أن يقع وإسحاق يثني إسماعيل، بل لا يمكن عقلاً أن يقع إلا قبل مولد إسحاق، فلا يكون إلا بإسماعيل صاحب لقب «الابن الوحيد» وحده، فتقطع بأن مكان الحديث عن واقعة اختبار الذبح هو هذا الإصحاح السابع عشر نفسه الذي تقرر فيه – جزاء لإبراهيم على اجتيازه هذا الاختبار الفذ – تعديل اسمه من «أبرام» إلى «أبراهام»، أرجأه الكاتب إلى الإصحاح الثاني والعشرين ريثما يولد إسحاق ويشب.
ولأن كاتب سفر التكوين يرى محقًا أن اجتياز إبراهيم البلاء المبين، أي اختبار الذبح، يستحق جزاء يكافئ بر إبراهيم، فقد عقب على واقعة اختبار الذبح (الذي كان بإسحاق كما يقول) بقوله على لسان الله عز وجل: «من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك، أباركك مباركة وأكثر نسلك كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر، ويرث نسلك باب أعدائه، ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض، من أجل أنك سمعت لقولي» (تكوين 22/16 – 18)، يجعل جزاء إبراهيم «كثرة النسل» كما مر بك، ويطنب في أمجاد هذا النسل «المبارك»، وكأنما المكافأة لنسل إبراهيم، لا لإبراهيم نفسه، ينزعها الكاتب عن إبراهيم ويخص بها نفسه وشعبه.
أما الذي يستوقف النظر، الذي فات الكاتب أن يتذكره، فهو أن إبراهيم عقب اختبار الذبح (الذي كان بإسحاق كما يقول) لم يكن في حاجة إلى «مكافأة» تكثير النسل، لأنه حصل على الوعد بها من قبل «مجانا»، منحها له الكاتب دون مناسبة، بل دون ابتلاء تطير له النفس شعاعا، حين أراد – وهو يمهد لتفسير اسم إبراهيم – النص على كثرة نسله، فقال في الإصحاح الخامس عشر: «فإذا كلام الرب إليه قائلاً: لا يرثك هذا. بل الذي يخرج من أحشائك هو يرثك. ثم أخرجه إلى خارج وقال انظر إلى السماء وعد النجوم إن استطعت أن تعدها. وقال له هكذا يكون نسلك. فآمن بالرب فحسبه له برًا» (تكوين 15/4 – 6)، أي قالها الرب لإبراهيم جازمًا قاطعًا لا تحتاج إلى مزيد تأكيد، فما الداعي للمكافأة بها على اجتياز «البلاء المبين»؟ ثم ينتقل الكاتب إلى الإصحاح السابع عشر، يوم كان إبراهيم ابن تسع
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/277]
وتسعين، يريد توقيت تعديل الاسم من «أبرام» إلى «أبراهام» - ولم يولد بعد إسحاق – على ما مر بك فيقول إن الرب تراءى لإبراهيم يكرر له العهد (أي العهد بتكثير النسل) فيقول له: «أما أنا فهو ذا عهدي وتكون أبا لجمهور من الأمم. فلا يدعى اسمك بعدُ أبرام، بل يكون اسمك إبراهيم (أبراهام في النص العبراني)، لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم. وأثمرك كثيرا وأجعلك أمما» (تكوين 17/4 – 6). أفلم يؤمن من قبل إبراهيم بالوعد الأول الذي في الإصحاح الخامس عشر، وحسب له ذلك برًا، فلم التكرار ولم يحدث من إبراهيم شيء ينم عن تشككه في ذلك الوعد؟ وما الذي فعله إبراهيم هاهنا حتى يكافأ عليه بالتلويح من جديد بوعد تكثير النسل، بل ما الذي يبرر علة تغيير الاسم من «أبرام» إلى «أبراهام» فجأة دون مناسبة ودون مقدمات وقد بلغ من الكبر عتيا؟ ألس هاهنا موضع الحديث عن اختبار الذبح، فيكون تغيير الاسم مكافأة على اجتياز الاختبار؟ ولكن إسحاق لم يكن قد ولد بعد، والكاتب يريد أن يخصه هو من دون إسماعيل بهذا الشرف، فيقتطع اختبار الذبح من الإصحاح السابع عشر ويحشره حشرًا في الإصحاح الثاني والعشرين، بعد ما ولد إسحاق وشب. ونسى الكاتب أنه في الإصحاح السابع عشر تنبأ لإبراهيم بأنه سيكون له من سارة زوجته ابن (أي إسحاق) منجاب كثير النسل: «وأباركها وأعطيك أيضًا منها ابنا. أباركها فتكون أمما وملوك شعوب منها يكونون» (تكوين 17/16) فكيف يصدق إبراهيم الرؤيا بذبح إسحاق صبيًا يافعًا لم يُنجب بعد؟
على أن اقتطاع اختبار الذبح من الإصحاح السابع عشر (كيلا يكون بإسماعيل) ورده إلى الإصحاح الثاني والعشرين (كي يولد إسحاق ويشب)، يترك الكلام في الإصحاح السابع عشر قلقًا، إذ لا معنى لأن يقال لإبراهيم وهو في سن تسع وتسعين: لا يدعى اسمك بعد أبرام ...، أي أن اسم «أبرام» لم يعد يليق بك. فلماذا؟ ما الذي حدث له أو منه في هذه السن كي ينبو عنه اسم «أبرام»؟ إنه لا شك اجتياز اختبار الذبح، أي البلاء المبين الذي كان بإسماعيل ولم يكن بإسحاق الذي لم يولد بعد. ولكن الكاتب كما مر بك لا يريد ذلك، فماذا يفعل؟ تحايل على سد الثغرة فجعل لتكرمة إبراهيم باسمه الجديد مقابلاً يلتزم به في نفسه وولده، وهو عهد الختان. ولكن الكاتب يعلم أن الختان من سنن الفطرة، هُدِىَ إليه إبراهيم كما هدى إليه المصريون من قبل. ويعلم أيضًا أنه لا معنى لربط الختان بكثرة النسل،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/278]
فماذا يفعل؟ افتعل للختان رمزًا غليظًا، يخرج به عن أصله كقاعدة من قواعد النظافة الجسدية، ليصبح كالوسم، تُوسم به الماشية علامة على الانتماء والملكية: «أما الذكر الأغلف الذي لا يختن في غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها. إنه نكث عهدي» (تكوين 17/14). وكان «بولس» - رسول الحواريين إلى أوروبا – قد فطن من بعد إلى أن تعليق الدخول في حظيرة إبراهيم على هذا الشرط الغليظ – شرط الختان – قمين بأن يقطع «نسل» إبراهيم لا أن يكثر نسله كما تقول النبوءة التي في سفر التكوين، فقال بعدم وجوبيته. فعدل عنه المسيحيون جميعًا، إلا من ولدوا بأرضٍ ورثت الختان فطرة، ولم ترثه ديانة.
ولكن المعضلة لا تزال ماثلة أمام الكاتب: ها هو في الإصحاح الثاني والعشرين يوقع اختبار الذبح على إسحاق كما مر بك، فماذا بقى في جعبته من جائزة يكافئ بها بر إبراهيم حين اجتاز بنجاح لا نظير له هذا الاختبار الفذ؟ ليس في ذهنه إلا جائزة «تكثير النسل» يطنطن بها، لا يسأم ولا يمل، ناسيًا أن إبراهيم يحمل على صدره هذا الوسام من قبل بمقتضى اسمه الجديد – الذي فسره بالمنجاب الكثير النسل – وبمقتضى عهد الختان. ولكن الكاتب لا يعبأ بذاكرة قارئه كما مر بك، فحسبك الله ونعم الوكيل.
بل ليس في كثرة النسل كما تعلم مجد لأحد، حتى يجازي بها الله بر إبراهيم. فضلاً عن أن هذه النبوءة لم تتحقق إن أردت نسل إبراهيم عبر إسحاق، كما قالها سفر التكوين بالنص، خطابًا من الله عز وجل لإبراهيم: «بإسحاق يدعى لك نسل» (تكوين 21/12).
ليست أبوة إبراهيم هي أبوة «الناسل»، وإنما هي أبوة «الإمامة».
ولو قد فطن كاتب سفر التكوين – وفطن من بعده علماء التوراة – إلى هذا المعنى الجليل في اسم إبراهيم عليه السلام، لعضُّوا عليه بالنواجذ. ولكن «ألهاهم التكاثر»، عقدة اليهود في كل عصر: أراد الكاتب مجده هو ومجد شعبه – إن كان في كثرة النسل مجد – ولم يطلب مجد إبراهيم، فأراد الأب المنجاب «الناسل»، ولم يرد الأب «الإمام».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/279]
قال المسيح عليه السلام في تقريع هؤلاء، ينص على أبوة الإمامة: «لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم. ولكنكم الآن تطلبون قتلى، وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله. هذا لم يعمله إبراهيم» (يوحنا 8/39 – 40).
وقالها القرآن أيضًا فأوجز وأبلغ: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي} [آل عمران: 68].
وليس بعدَ هذا شرفٌ لإبراهيم عليه السلام، النبيُّ الإمام، صلواتُ الله وسلامهُ على جميع رسله وأنبيائه، وعلى كل من تَبِعَهُم بإحسان).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/269-280]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:34 AM

(24) لوط:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (24) لوط
«لوط» في القرآن هي نفسها «لوط» في التوراة، لا فرق بينهما في الكتابة، ولا فرق أيضًا بينهما في النطق إلا أن لفظة «لوط» العبرية – الآرامية ينطق فيها المد لا بالواو، وإنما بالضم، مثلها مثل «يوم» العربية العامية، أو bought الإنجليزية.
أما «لوط» العبرية فهي من الحجاب والخفاء والستر، تشتقها من الجذر العبري «لآطْ / لُوطْ»، وقرينه العربي «لط»، وأيضًا «لاطَ / يلُوطُ / لَوْطًا»، بمعنى ستره وأخفاه. «لوط» العبرية إذن مصدر بمعنى الحجب والستر، وأيضًا اسم بمعنى حجاب.
إن نطقت «لوط» العبرية مدًا بالواو، مثل لوط في القرآن، فهي على زنة اسم المفعول في العبرية، والمعنى محجوب مستور. وإن نطقتها مدًا بالضم (مثل «يوم» العربية العامية) كما في التوراة، فهي على زنة المصدر في العبرية، والمعنى ستر وحجاب.
من ذلك في العبرية المعاصرة قولهم عن الشيء غيبه الضباب: «لوط بعرافل» أي «ليط بضباب»، و«عرافل» عبريًا يعني الضباب.
في العبرية أيضًا «لوط»، بنفس نطق اسم نبي الله لوط في التوراة، ومعناها في العبرية «لاذن»، ذلك الصمغ «الراتينجي» الذي يعلك أو يستعمل عطرا أو دواء، صاغته العبرية على الراجح من معنى اللزوق والعلوق الذي بقى في «لط» و«لاط» العربيين، وضاع من الجذر العبري «لاط / لوط».
وفي السريانية كذلك «لوط» أخرى معناها «فستق»، وبعيد أن يكون اسم «لوط» منه، لأن اللغة السريانية لم تولد إلا بعد لوط بقرون وقرون.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/281]
على أن علماء العبرية لا يفسرون اسم «لوط» بالاذن أو الفستق، وإنما يفسرونه بالستر والحجاب، فهو حجاب أو محجوب، وبهذا المعنى نفسه فسره القرآن.
وغير بعيد أن لوطًا عليه السلام لم يكن هذا اسمه، وإنما شهر به عشية البطشة الكبرى بالقرية التي كانت تعمل الخبائث، رمزًا لآية طمس أعينهم عنه، وخروجه من بينهم بقطع من الليل، في «ساتر» الله عز وجل.
أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 80 من سورة الأعراف) فقد قال الكثرة بعجمة هذا الاسم، ولم يتصدوا لتفسيره. ولكن كان منهم (الفراء) الذي حاول تفسيره من العربية، إلا أنه أخطأ معنى الستر والخفاء الذي في «لاط» العربي، وتعلق بمعنى اللصوق والعلوق (وهو الأشهر في «لط» و«لاط» العربيين) فقال إنه من قولك «هذا اليط بقلبي» يعني ألصق بقلبي، أي أحب إلي. وهو لم يفطن إلى معنى الخفاء والاستتار في هذا الجذر العربي لأنه بادئ بدء لم يقسه على قرينه العبري، فأخطأ ولم يصب.
لم يكن بين يدي مفسري القرآن وقتئذ ذلك المنهج الذي هدانا الله إليه بفضل منه ونعمه: تفسير العلم الأعجمي في القرآن بالقرآن. فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
فسر القرآن اسم «لوط» عليه السلام بأدوات ثلاث: فسره بالتعريب، وفسره بالمقابلة، وفسره أيضًا بالسياق العام، أي بالتصوير.
فسره بالتعريب، لأن «لوط» نفسها تفهم عربيًا على أنها اسم فعل بمعنى مفعول، من لاط / يلوط / لوطا، كما تقول مثلاً «جعل» بضم فسكون وتعني «مجعول»، من جعل / يجعل / جعلا. فهو المستور المحجوب، أي: «الذي ليط». وهو تعريب وليس ترجمة، لأن «لوط» بضم اللام لم تسمع من العرب. ولكنه تعريب مفسر، إن تمعنت.
وفسره بالمقابلة، أي بالضد من معناه كما مر بك، في مثل قوله عز وجل على لسان لوط: {قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون} [الحجر: 68]، وفضحه
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/282]
يعني هتك ستره. وأيضًا في قوله عز وجل على لسان لوط يزجر قومه: {ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون} [النمل: 54]، أي أتأتون الفاحشة علانيةً لا تستترون! وكان الفكرة الفجرة يتلاوطون علنا، لا يستتر بعضهم من بعض، كما أخبر الله عز وجل على لسان لوط في خطاب قومه: {وتأتون في ناديكم المنكر} [العنكبوت: 29].
وفسره أيضًا بالتصوير، أي بالسياق العام، في إنجاء الله لوطًا من قومه قبيل البطشة الكبرى بالقرية التي كانت تعمل الخبائث. وقد فصلنا القول في هذا عندما اتخذنا من اسم «لوط» مثالاً للتفسير بالتصوير في الفصل الثالث (5) من هذا الكتاب، فارجع إليه في موضعه، كراهة أن نثقل عليك بالتكرار.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/281-283]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:35 AM

(25) إسماعيل:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (25) إسماعيل
«إسماعيل» في القرآن هي تعريب «يشمعيل» العبرية في التوراة.
وهي في العبرية على المزجية من (يشمع + إيل)، ومعناها الحرفي «يسمع الله».
وقد مر بك أن العبرية تستخدم المضارع وتريد اسم الفاعل منه، فيكون معنى هذا الاسم «الله سميع»، أو «سميع هو الله».
وسفر التكوين لا يحدثك بشيء عن مناسبة هذه التسمية، لأن غاية همه بنو إبراهيم عبر إسحاق، لا يهتم لشيء من أمر إسماعيل، إلا شذرات تجيء عبر السياق.
ولكنك تجد مناسبة هذه التسمية في القرآن.
فقد مر بك أن إبراهيم عليه السلام، حين انقطع ما بينه وبين أبيه وقومه، خرج مهاجرًا إلى ربه يدعوه: {رب هب لي من الصالحين} [الصافات: 100]، فاستجاب له عز وجل بالبشرى: {فبشرناه بغلام حليم} [الصافات: 101]، أي بإسماعيل، لا يصح أن تقول بإسحاق، لأن إبراهيم دعا بها لحظة خرج مهجرًا إلى ربه لا يصحبه إلا زوجه سارة وابن أخيه لوط، دعا بها وهو بعد «فتى يقال له إبراهيم» (راجع الآية 60 من سورة الأنبياء)، عقيم الزوج لم يولد له بعد إسماعيل، بل لم يلتق بعد بهاجر أمه، التي أهداها إليه ملك مصر بعد سنوات من التطواف والترحال، كما تقرأ في سفر التكوين.
بشر الله عز وجل إبراهيم بهذا الغلام الحليم ولم يستجب له من فوره، وإنما أرجأ الاستجابة إلى أجل مسمى عنده، يبتلي صبر إبراهيم. كان مقدورًا لإسماعيل بكر إبراهيم ألا يجيء من زوجه سارة الآرامية ابنة عمه، وإنما من هاجر المصرية، لينبت في واد أصم غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، كي تقام فيه الصلاة: {ربنا ليقيموا الصلاة} [إبراهيم: 37]، ولو كانت سارة أم إسماعيل لما ارتضت فراقه،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/284]
إلا أن تصحب ابنها في مهاجره فتفارق إبراهيم. ولكنه كان ابن ضرتها، فشجعت ولم تمانع، بل كانت هي التي أوحت وألحت، في رواية سفر التكوين.
صدق الله إبراهيم وعده ببكره إسماعيل وقد ناهز إبراهيم ستًا وثمانين، لم يعد بعد «فتى يقال له إبراهيم»، وإنما ولد له إسماعيل وقد بلغ به الكبر، كما تجد في قول الله عز وجل على لسان إبراهيم: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء} [إبراهيم: 39].
ويتذكر إبراهيم يوم ولد له إسماعيل دعوة منه سبقت، يوم خرج مهاجرًا إلى ربه وحيدًا إلا من زوجه وابن أخيه، يسأل ربه النسل الصالح الذي يعينه على أمر الله، ويذكر أيضًا بشرى الله إياه يومئذٍ «بغلام حليم»، أرجأها الله إلى أجل مسمى عنده وقد نيف إبراهيم على الثمانين، فيعلم فوق علم أن الله عز وجل – مهما طال الأجل – لا يخلف وعده رسله، وكأنه قال بالعبرية، يمجد بها الله: يشمع إيل! أي سميع هو الله! فسمى بها إسماعيل (يشمع + إيل).
أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 125 من سورة البقرة) وقد أجمعوا على عجمة «إسماعيل»، فلم يفتهم معنى «السمع» ومعنى «الله» في (اسمع + إيل) ولكنهم فهموها بصيغة الطلب على الدعاء، فقالوا إن معنى هذا الاسم هو «اسمع يا ألله» أو «اللهم فاسمع».
ولا يصح هذا من وجهين: الأول لمخالفته معنى «يشمع إيل» العبرية، التي تفيد حدوث السمع لا طلبه. والثاني لأن الذي يستمع الله دعاءه فيستجيب، لا يقول: اللهم فاسمع! وإنما يقول: قد سمعت يا ألله!
وهذه هي آفة كل تفسير لاسم علم بغير لغة صاحبه.
أما إن أردت ترجمة «إسماعيل» إلى العربية ترجمة تصح بها العلمية، فالأقرب إلى الصواب أن تقول «سمع الله»، على التقرير، لا على الدعاء، كما يتسمى الناس الآن بـ «جاد الله»، «جاد الحق»، وأشباههما.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/285]
ولا ينقضي القول في «إسماعيل» قبل حسم ذلك الإشكال الذي افتعله جمهرة من المفسرين (راجع تفسير القرطبي للآيات 101 وما بعدها من سورة الصافات) حول الشخص الذي كان به «البلاءُ المبين» في القرآن: إسماعيل أمْ إسحاق؟
تهيب هؤلاء المفسرون تكذيب التوراة في قولها إن «الذبيح» كان إسحاق بالاسم، لا إسماعيل، فلم يروا بأسًا من متابعة التوراة على هذا القول، لا سيما والقرآن لا ينص على الذبيح بالاسم، ووازنوا بين تكذيب التوراة بغير صريح القرآن وبين رد أحاديث من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا ابنُ الذبيحان» (إشارة إلى أبيه عبد الله بن عبد المطلب وجده الأكبر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام)، فردوا تلك الأحاديث.
والراجحُ عندي أن هؤلاء المفسرين «سمعوا» من أحبار يهود أن التوراة تنص على إسحاق ولا تنص على إسماعيل، ولكنهم لم «يقرأوا» تفاصيل ذلك في سفر التكوين نفسه، على ما مر بك في سياق تفسيرنا لاسم إبراهيم عليه السلام، وإلا لخصوا كما خلصنا نحن من تحليل كلام الكاتب نفسه في الإصحاحات الخامس عشر والسابع عشر والثاني والعشرين إلى أن البلاء المبين ما كان ليصح إلا بإسماعيل، وحيد إبراهيم قبل عام من مولد إسحاق، ولجزموا – كما جزمنا نحن – بأن «إسحاق هاهنا مقحمة على هذا السفر، مدسوسة من الكاتب أو الناسخ» ذي المصلحة، وأن تكذيب التوراة في «إسحاق» ليس تكذيبًا لله عز وجل فيما أنزل من التوراة، وإنما هو تكذيب لهذا الكاتب أو الناسخ.
والذي ينبغي التنبيه إليه أن التوراة – شأنها شأن الأناجيل التي بين يديك – ليست كلها باعتراف الكتبة أنفسهم كلامًا من الله عز وجل على رسله وأنبيائه، يتحصن بحجية الشيء الموحي به، وإنما يتخللها الكثير – بل الأكثر – من كلام الكاتب والناسخ، يصح حين يصح، كما تصح أحاديث الرواة، لا أكثر ولا أقل، لا يرد به حديث عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ولا يتأول به قرآن.
والذي ينبغي التنبيه إليه أيضًا أن المسلم – المأمور بتصديق التوراة والإنجيل بمقتضى قوله عز وجل في وصف المتقين: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} [البقرة: 4] – إنما هو مأمورٌ بتصديق ما أنزل الله فيهما فحسب، الذي صدقه القرآن والحديث الصحيح، لا ما زاد فيهما الكاتب والناسخ.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/286]
ويترتب على هذا مباشرة أن مقولات سفر التكوين الذي بين يديك لا ترد فحسب بصريح القرآن وصحيح الحديث، وإنما ترد أيضًا بالنقد التحليلي المباشر، على ما مر بك من القول في صحة «حساباته» أو من وصفه «جنة آدم» التي بعدن «شرقا»، أو تفسيره معنى «بابل» بالبلبلة، إلخ. لو التزمت تصديق هذا الكاتب في كل مقولاته، فأوجبت على نفسك تصديقه في أن «البلاء المبين» كان بإسحاق لا بإسماعيل، لوجب عليك أيضًا تصديقه في شناعات لا تصح في «نص مقدس»، من مثل زنى ابنتي لوط بأبيهما على ما مر بك، أو من مثل انخلاع حق فخذ يعقوب (تكوين 32/26) وهو «يُصارع» الله عز وجل، في محاولة بائسة لتفسير معنى شهرة «إسرائيل»، وتعليل تحريم بني إسرائيل أكل «عرق النسا» الذي على حُق الفخذ.
أما أن القرآن لم ينص صراحة على أن «البلاء المبين» كان بإسماعيل، لا بإسحاق، فهذه زلة لا يصح أن يقع فيها مفسر للقرآن جدير بهذا الاسم: يكفيك أن تتلو الآيات من 99 إلى 112 من سورة الصافات، كي تعلم أن إبراهيم عليه السلام بشر غداة خروجه مهاجرًا إلى ربه بغلام حريم، وأن هذا الغلام نفسه بلغ معه السعي، فكان به «البلاء المبين»، وأن الله عز وجل عقب على اجتياز إبراهيم هذا الاختبار الفذ بأن بشر إبراهيم بغلام آخر يولد له، هو إسحاق: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين} [الصافات: 112]، فكان إسحاق بعض «جزاء المحسنين» الذي جازى به الله بر إبراهيم، ولم يكن هو بداهة الذي كان به البلاءُ المبين، وإنما كان البلاءُ المبينُ بإسماعيل.
وهذا وحده يصحح الأحاديث المروية عن أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق، أيًّا ما قلت في إسناد تلك الأحاديث.
وقد نبه على هذا كله أو معظمه أجلاء المفسرين الذين قطعوا بأن الذبيح هو إسماعيل.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/287]
ونحن نضيف إلى هذا دليلاً آخر من القرآن: وردت «غلام حليم» مرة واحدة في القرآن [الصافات: 101] وصف بها الله عز وجل الغلام الذي كان به البلاء المبين، لم يخص بها غيره من أبناء إبراهيم. ووردت «غلام عليم» في القرآن مرتين، يخص بها إسحاق بالنص: {قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم} [الحجر: 53]، {فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم} [الذاريات: 28]، والمعنى في الآيتين هو إسحاق بلا خلاف. أفلا تدلك هذه المغايرة بين «عليم» و«حليم» على أن البلاء المبين لم يكن بالغلام «العليم» (إسحاق)، وإنما كان بالآخر، الغلام «الحليم» الذي في سورة الصافات، فهو إذن «إسماعيل»؟
كذلك ودرت «صادق الوعد» مرة واحدة في القرآن، خص بها الله عز وجل إسماعيل وحده دون غيره من النبيين والمرسلين: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا} [مريم: 54]. ألا تجد في هذا إشارة بليغة إلى صدق إسماعيل وعده أباه بالصبر على الذبح إذعانًا لأمر الله حين شاوره إبراهيم في رؤياه: {قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} [الصافات: 102]، حتى «تله للجبين»، فأي صبر كان!
كان الذبيح إسماعيل، لا محل للقول بخلافه، ولا مجال للتردد فيه متابعة لقول أهل الكتاب.
وإذا كان الذبيح هو إسماعيل – إحقاقًا للحق لا غير – فليس معنى هذا أن إسحاق أدنى منزلة في سلم الأنبياء من إسماعيل، صلوات الله وسلامه على جميع رسله وأنبيائه، بل الكل في كرامة الأنبياء عند الله سواء، وهو أعلم ببلاء أنبيائه. حسبك قوله عز وجل في الأنبياء من ذرية إبراهيم، وفيهم إسماعيل وإسحاق: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90].
أما التفسير القرآني لاسم «إسماعيل»، وهو «يشمعيل» عبريًا، ومعناه كما علمت «سمع الله» أو «سميع هو الله»، فأنت تجد هذا التفسير في قوله عز وجل على لسان إبراهيم: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء} [إبراهيم: 39].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/288]
وتجده في قوله عز وجل على لسان إبراهيم أيضًا: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} [البقرة: 127]).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/284-289]

صفية الشقيفي 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م 02:37 AM

(26) إسحاق:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (26) إسحاق
إسحاق (وترسم اسحق في المصحف) هو الابنُ الثاني لنبي الله إبراهيم عليهما السلام، رزق به من زوجه سارة وقد ناهزت التسعين، عجوزًا عقيمًا قد أيأستها السنون، وإبراهيم يومئذ قد بلغ المائة، فكان إنجابُهما إسحاق في تلك السن آية من آيات رحمة الله بإبراهيم وأهل بيت إبراهيم: {قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد} [هود: 72 – 73].
وإسحاق عليه السلام سمته الملائكة، لم تسمه أمه ولم يسمه أبوه كما يقول سفر التكوين. بل سمت الملائكة أيضًا «يعقوب» بن إسحاق، ولم يولد بعد إسحاق. تجد هذا في قوله عز وجل: {وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق ومن وراء اسحق يعقوب} [هود: 71].
وقد قالت الكثرة من مفسري القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 133 وما بعدها من سورة البقرة) بعجمة «إسحاق»، ولم يتصدوا لتفسيره. إلا من شذ فحسبه من العربية، يشتقه من الجذر العربي «سحق» بمنى بعد أشد البعد. وليس هذا بشيء، لأنه يفسر الاسم بغير لغة صاحبه. فلا تلتفت إليه.
«إسحاق» في القرآن هي تعريب «يصحاق» في التوراة. وهي صيغة المضارعة في المفرد الغائب من الجذر العبري «صحق»، وقرينه في العربية الجذر العربي «ضحك». «يصحاق» العبري إذن يعني «يضحك»، لا يراد منه الفعل، وإنما يراد منه الفاعل، ومن ثم فإن معنى «اسحاق»، وهو «يصحاق» عبريًا، الضاحك أو الضحوك. وقد سمي العرب بمعناه على المبالغة فقالوا «الضحاك».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/290]
والتسمية بالفعل المضارع يراد منه اسم الفاعل، شديدة الشيوع في العبرية كما مر بك في موضعه: رأيت هذا في «يشمعيل» (إسماعيل)، وتراه الآن في «يصحاق»، أي إسحاق. وستجده كثيرًا فيما يلي من أعلام التوراة.
على أن لهذا نظائر بقيت في العربية كما مر بك، تجدها في أمثال «يزيد» وغيرها من أعلام الأشخاص والمواضع.
والأصل في هذا كما مر بك أن الفعل المضارع يفيد الحال كما يفيد الاستقبال أي «يضحك» وسيظل، فهو «ضاحك» و «ضحوك».
أما التفسير القرآني لهذا الاسم العلم، فأنت تجده في قوله عز وجل: {وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق} [هود: 71]، أي ضحكت سارة وهي قائمة تخدم ضيف إبراهيم من الملائكة عجبًا وحياء وهي تسمع من الملائكة بشرى لإبراهيم بمولود يولد منها، وهي في تلك السن عجوز عقيم. وكأن ضحكها كان مناسبة يصاغ منها اسم المولود المبشر فقيل لها أضحكت؟ بشراك إذن «بالذي يضحك»، وهو «يصحاق»، اسم نبي الله إسحاق عليه السلام.
وربما قلت فلماذا جاءت «إسحاق» في القرآن بالسين، ولم تجيء على أصلها بالصاد «إصحاق»؟
قال هذا بالفعل بعض المستشرقين، مماحكة، كدأبهم في معارضة القرآن.
ولكنك تندهش إذ تعلم أن «يصحاق» هذه تجيء في عبرية التوراة بالسين كما تجيء بالصاد، والصاد أغلب، وأن «سحق» و«صحق» في المعجم العبري صنوان. وفي اللغة العربية تتعاقب السين والصاد مثل «السراط» و«الصراط» وقد قرئ بهما.
ولعلك تدرك معي أن تتابع الصاد والحاء والقاف في «يصحاق» قعقعة تنبو عنها موسيقى القرآن، لذا فقد عرب القرآن «إسحاق» عن «يسحاق» ولم يعربها عن «يصحاق» عالمًا أنه لم يبعد، لوجود كلا الرسمين في عبرية التوراة.
لا يشاد القرآن أحد إلا غلبه القرآن، وسبحان العليم الخبير).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/290-291]


الساعة الآن 09:11 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir