تفسير سورة النساء [ من الآية (66) إلى الآية (70) ]
تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (68) وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا (70)} تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلّا قليل منهم ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشدّ تثبيتا} " لو " يمنع بها الشيء لامتناع غيره. تقول لو جاءني زيد لجئته. المعنى: أن مجيئي امتنع لامتناع مجيء زيد، فحقها أن يلها الأفعال. إلا أن (أنّ) المشددة تقع بعدها، لأن - " أنّ " في اللغة تنوب عن الاسم والخبر، تقول ظننت أنك عالم. وهذا كقولك ظننتك عالما. والمعنى ظننت علمك. فالمعنى في " أنّ " بعد " لو " أنها نابت عن الفعل والاسم، كما نابت عن الاسم والخبر. فالمعنى في قوله: {ولو أنّا كتبنا عليهم} كالمعنى في لو كتبنا عليهم. وجائز أن يكون مضمرا الفعل مع (أنّ) مع وقوع قابلها. المعنى ولو وقع وكتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم. وإن شئت: كسرتها لالتقاء السّاكنين أعني.. {أن اقتلوا أنفسكم} وإن شئت قلت" " أن اقتلوا " فضممتها لانضمام التاء.. وأبو عمرو بن العلاء يختار مع النونات خاصة الكسر ومع سائر ما في القرآن - إذا كان ما بعدها مضموما - الضّم، إلا قوله: {وقالت اخرج عليهنّ}، {ولقد استهزئ برسل من قبلك} ولست أعرف في هذين الحرفين خاصية أبي عمرو إياهما بالكسر إلا أن يكون: روى رواية فاختار الكسر لهذه العلة. أو يكون أراد أن الكسر جاز أيضا كما جاز الضم - وهذا أجود التأويلين. وللكسر والضم في هذه الحروف وجهان جيدان قد قرأت القراء بهما: 1- فأمّا رفع إلا قليل. منهم. فعلى البدل من الواو، المعنى: ما فعله إلا قليل منهم. 2- والنصب جائز في غير القرآن، على معنى: ما فعلوه استثني قليلا منهم. وعلى ما فسّرنا في نصب الاستثناء، فإن كان في النفي نوعان مختلفان فالاختيار النصب، والبدل جائز، تقول ما بالدار أحد إلا حمارا قال النابغة الذبياني: وقفت فيها أصيلا لا أسائلها... عيّت جوابا وما بالرّبع من أحد إلاّ الأواريّ لأيا ما أبيّنها... والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد فقال ما بالربع من أحد، أي ما بالربع أحد إلّا أواري، لأن الأواري ليست من الناس. وقد يجوز الرفع على البدل، وإن كان ليس من جنس الأول كما قال الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس... إلاّ اليعافير وإلاّ العيس فجعل اليعافير والعيس بدلا من الأنيس. وجائز أن يكون: أنيس ذلك البلد اليعافير والعس). [معاني القرآن: 2/71-73] قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وكتبنا معناه فرضنا، واقتلوا أنفسكم معناه ليقتل بعضكم بعضا، وقد تقدم نظيره في البقرة، وضم النون من أن وكسرها جائز، وكذلك الواو من أو اخرجوا وبضمها قرأ ابن عامر ونافع وابن كثير والكسائي، وبكسرها قرأ حمزة وعاصم، وكسر أبو عمرو النون وضم الواو، وقليلٌ رفع على البدل من الضمير في فعلوه، وقرأ ابن عامر وحده بالنصب «إلا قليلا»، وذلك جائز أجرى النفي مجرى الإيجاب. وسبب الآية على ما حكي: أن اليهود قالوا لما لم يرض المنافق بحكم النبي عليه السلام: ما رأينا أسخف من هؤلاء، يؤمنون بمحمد ويتبعونه، ويطؤون عقبة، ثم لا يرضون بحكمه، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا، وبلغ القتل فينا سبعين ألفا فقال ثابت بن قيس: لو كتب ذلك علينا لفعلناه، فنزلت الآية معلمة حال أولئك المنافقين، وأنه لو كتب ذلك على الأمة لم يفعلوه، وما كان يفعله إلا قليل مؤمنون محققون، كثابت وغيره، وكذلك روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثابت بن قيس وعمار وابن مسعود من القليل. وشركهم في ضمير منهم لما كان المنافقون والمؤمنون مشتركين في دعوة الإسلام وظواهر الشريعة، وقال أبو إسحاق السبيعي: لما نزلت ولو أنّا كتبنا عليهم الآية، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي، وذكر مكي أن الرجل هو أبو بكر الصديق، وذكر النقاش: أنه عمر بن الخطاب، وذكر عن أبي بكر أنه قال: لو كتب علينا لبدأت بنفسي وبأهل بيتي. وقوله تعالى: ولو أنّهم فعلوا أي لو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيرا لهم، وتثبيتاً معناه: يقينا وتصديقا ونحو هذا، أي يثبتهم الله). [المحرر الوجيز: 2/596-597] قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلٌ منهم ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشدّ تثبيتًا (66) وإذًا لآتيناهم من لدنّا أجرًا عظيمًا (67) ولهديناهم صراطًا مستقيمًا (68) ومن يطع اللّه والرّسول فأولئك مع الّذين أنعم اللّه عليهم من النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك رفيقًا (69) ذلك الفضل من اللّه وكفى باللّه عليمًا (70)}يخبر تعالى عن أكثر النّاس أنّهم لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه؛ لأنّ طباعهم الرّديئة مجبولةٌ على مخالفة الأمر، وهذا من علمه -تبارك وتعالى-بما لم يكن أو كان فكيف كان يكون؛ ولهذا قال تعالى: {ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلٌ منهم} قال ابن جريرٍ: حدّثني المثنّى، حدّثني إسحاق، حدّثنا أبو زهيرٍ عن إسماعيل، عن أبي إسحاق السّبيعيّ، قال: لمّا نزلت: {ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلّا قليلٌ [منهم]} الآية، قال رجلٌ: لو أمرنا لفعلنا، والحمد للّه الّذي عافانا. فبلغ ذلك النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "إنّ من أمّتي لرجالًا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرّواسي". وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا جعفر بن منيرٍ، حدّثنا روحٌ، حدثنا هشام، عن الحسن قال: لمّا نزلت هذه الآية: {ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم} الآية. قال أناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: لو فعل ربّنا لفعلنا، فبلغ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "للإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرّواسي". وقال السّدّيّ: افتخر ثابت بن قيس بن شمّاس ورجلٌ من اليهود، فقال اليهوديّ: واللّه لقد كتب اللّه علينا القتل فقتلنا أنفسنا. فقال ثابتٌ: واللّه لو كتب علينا: {أن اقتلوا أنفسكم} لقتلنا. فأنزل اللّه هذه الآية. رواه ابن أبي حاتمٍ. وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا محمود بن غيلان، حدّثنا بشر بن السّري، حدّثنا مصعب بن ثابتٍ، عن عمّه عامر بن عبد اللّه بن الزّبير، قال: لمّا نزلت [ {ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم} قال أبو بكرٍ: يا رسول اللّه، واللّه لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت، قال: "صدقت يا أبا بكرٍ". حدّثنا أبي، حدّثنا محمّد بن أبي عمر العدنيّ قال: سئل سفيان عن قوله] {ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلٌ منهم} قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لو نزلت لكان ابن أمّ عبدٍ منهم". وحدّثنا أبي، حدّثنا أبو اليمان، حدّثنا إسماعيل بن عيّاشٍ، عن صفوان بن عمرٍو، عن شريح بن عبيد قال: لمّا تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هذه الآية: {ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم [أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلٌ منهم]} الآية، أشار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بيده إلى عبد اللّه بن رواحة، فقال: "لو أنّ اللّه كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل" يعني: ابن رواحة. ولهذا قال تعالى: {ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به} أي: ولو أنّهم فعلوا ما يؤمرون به، وتركوا ما ينهون عنه {لكان خيرًا لهم} أي: من مخالفة الأمر وارتكاب النّهي {وأشدّ تثبيتًا} قال السّدّيّ: أي: وأشدّ تصديقًا). [تفسير القرآن العظيم: 2/352-353] تفسير قوله تعالى: {وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا (67)} قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم ذكر تعالى ما كان يمن به عليهم من تفضله بالأجر، ووصفه إياه بالعظم مقتض ما لا يحصله بشر من النعيم المقيم). [المحرر الوجيز: 2/597] قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وإذًا لآتيناهم من لدنّا} أي: من عندنا، {أجرًا عظيمًا} يعني: الجنّة). [تفسير القرآن العظيم: 2/353]تفسير قوله تعالى: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (68)} قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (و «الصراط المستقيم»: الإيمان المؤدي إلى الجنة، وجاء ترتيب هذه الآية كذا، ومعلوم أن الهداية قبل إعطاء الأجر، لأن المقصد إنما هو تعديد ما كان الله ينعم به عليهم دون ترتيب، فالمعنى: ولهديناهم قبل حتى يكونوا ممن يؤتى الأجر). [المحرر الوجيز: 2/597] قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ولهديناهم صراطًا مّستقيمًا} أي في الدّنيا والآخرة). [تفسير القرآن العظيم: 2/353]تفسير قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ( {ومن يطع اللّه والرّسول فأولئك مع الّذين أنعم اللّه عليهم من النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك رفيق} وقوله: {وحسن أولئك رفيقا}يعنى: النبيين، لأنه قال: {ومن يطع اللّه والرّسول فأولئك} أي: المطيعون. {مع الّذين أنعم اللّه عليهم من النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك رفيقا} أي: الأنبياء ومن معهم حسنوا رفيقا. و" رفيقا " منصوب على التمييز، ينوب عن رفقاء، وقال بعضهم لا ينوب الواحد عن الجماعة إلا أن يكون من أسماء الفاعلين، فلو كان " حسن القوم رجلا " لم يجز عنده، ولا فرق بين رفيق ورجل في هذا المعنى لأن الواحد في التمييز ينوب عن الجماعة، وكذلك في المواضع التي لا تكون إلا جماعة نحو قولك هو أحسن فتى وأجمله، المعنى هو أحسن الفتيان وأجملهم، وإذا كان الموضع الذي لا يلبس ذكر الواحد فيه، فهو ينبئ عن الجماعة كقول الشاعر: بها جيف الحسرى فأمّا عظامها... فبيض وأمّا جلدها فصليب وقال الآخر: في حلقكم عظم وقد شجينا يريد: في حلوقكم عظام، ولو قلت حسن القوم مجاهدا في سبيل اللّه. وحسن القوم رجلا كان واحدا وقوله: {وكفى باللّه عليما} معناه: كفى اللّه عليما، والباء مؤكدة، المعنى: اكتفوا باللّه عليما). [معاني القرآن: 2/73-74] قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: ومن يطع اللّه والرّسول فأولئك مع الّذين أنعم اللّه عليهم من النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك رفيقاً (69) ذلك الفضل من اللّه وكفى باللّه عليماً (70) لما ذكر الله الأمر الذي لو فعلوه لأنعم عليهم، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله، وهذه الآية تفسير قوله تعالى: اهدنا الصّراط المستقيم صراط الّذين أنعمت عليهم [الفاتحة: 5]، وقالت طائفة إنما نزلت هذه الآية لما قال عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الذي أري الأذان، يا رسول الله إذا مت ومتنا كنت في عليين فلا نراك ولا نجتمع بك، وذكر حزنه على ذلك، فنزلت هذه الآية، وحكى مكي عن عبد الله هذا، أنه لما مات النبي عليه السلام، قال اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده، فعمي، وذكر أن جماعة من الأنصار قالت ذلك أو نحوه، حكاه الطبري عن ابن جبير وقتادة والسدي. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومعنى- أنهم معهم- أنهم في دار واحدة، ومتنعم واحد، وكل من فيها قد رزق الرضا بحاله، وذهب عنه أن يعتقد أنه مفضول، وإن كنا نحن قد علمنا من الشريعة أن أهل الجنة تختلف مراتبهم على قدر أعمالهم، وعلى قدر فضل الله على من شاء، و «الصدّيق» فعيل من الصدق، وقيل من الصدقة. وروي عن النبي عليه السلام، الصديقون المتصدقون، والشهداء المقتولون في سبيل الله، هم المخصوصون بفضل الميتة، وهم الذين فرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة، لأنهم أكرم من أن يشفع لهم. وسموا بذلك لأن الله شهد لهم بالجنة، وقيل لأنهم شهدوا لله بالحق في موتهم ابتغاء مرضاته، ولكن لفظ، الشّهداء في هذه الآية يعم أنواع الشهداء، ورفيقاً موحد في معنى الجمع، كما قال: ثمّ يخرجكم طفلًا [الحج: 5] ونصبه على التمييز، وقيل على الحال، والأول أصوب، وقرأ أبو السمال، «وحسن» بسكون السين، وذلك مثل شجر بينهم). [المحرر الوجيز: 2/597-599] قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى: {ومن يطع اللّه والرّسول فأولئك مع الّذين أنعم اللّه عليهم من النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك رفيقًا} أي: من عمل بما أمره اللّه ورسوله، وترك ما نهاه اللّه عنه ورسوله، فإنّ اللّه عزّ وجلّ يسكنه دار كرامته، ويجعله مرافقًا للأنبياء ثمّ لمن بعدهم في الرّتبة، وهم الصّدّيقون، ثمّ الشّهداء، ثمّ عموم المؤمنين وهم الصّالحون الّذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم.ثمّ أثنى عليهم تعالى فقال: {وحسن أولئك رفيقًا} وقال البخاريّ: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن حوشب، حدّثنا إبراهيم بن سعدٍ، عن أبيه، عن عروة، عن عائشة قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "ما من نبيٍّ يمرض إلّا خيّر بين الدّنيا والآخرة" وكان في شكواه الّتي قبض فيه، فأخذته بحّة شديدةٌ فسمعته يقول: {مع الّذين أنعم اللّه عليهم من النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين} فعلمت أنّه خيّر. وكذا رواه مسلمٌ من حديث شعبة، عن سعد بن إبراهيم به. وهذا معنى قوله صلّى اللّه عليه وسلّم في الحديث الآخر: "اللّهمّ في الرّفيق الأعلى" ثلاثًا ثمّ قضى، عليه أفضل الصّلاة والتّسليم. ذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة: قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: جاء رجلٌ من الأنصار إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو محزونٌ، فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "يا فلان، ما لي أراك محزونًا؟ " قال: يا نبيّ اللّه شيءٌ فكّرت فيه؟ قال: "ما هو؟ " قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغدًا ترفع مع النّبيّين فلا نصل إليك. فلم يردّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عليه شيئًا، فأتاه جبريل بهذه الآية: {ومن يطع الله والرّسول فأولئك مع الّذين أنعم الله عليهم من النّبيّين [والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك رفيقًا]} فبعث النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فبشّره. قد روي هذا الأثر مرسلًا عن مسروقٍ، وعكرمة، وعامرٍ الشّعبي، وقتادة، وعن الرّبيع بن أنسٍ، وهو من أحسنها سندًا. قال ابن جريرٍ: حدّثنا المثنّى، حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، قوله: {ومن يطع الله والرّسول [فأولئك مع الّذين أنعم الله عليهم من]} الآية، قال: إنّ أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قالوا: قد علمنا أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم له فضلٌ على من آمن به في درجات الجنّة ممّن اتّبعه وصدّقه، وكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنّة أن يرى بعضهم بعضًا؟ فأنزل اللّه في ذلك -يعني هذه الآية-فقال: يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إن الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل منهم، فيجتمعون في رياضها، فيذكرون ما أنعم اللّه عليهم ويثنون عليه، وينزل لهم أهل الدّرجات فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدعون به، فهم في روضةٍ يحبرون ويتنعّمون فيه". وقد روي مرفوعًا من وجهٍ آخر، فقال أبو بكر بن مردويه: حدّثنا عبد الرّحيم بن محمّد بن مسلمٍ، حدّثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيدٍ، حدّثنا عبد اللّه بن عمران، حدّثنا فضيل بن عياضٍ، عن منصورٍ، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: جاء رجلٌ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه: إنّك لأحبّ إليّ من نفسي وأحبّ إليّ من أهلي، وأحبّ إليّ من ولدي، وإنّي لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتّى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنّك إذا دخلت الجنّة رفعت مع النّبيّين، وإن دخلت الجنّة خشيت ألّا أراك. فلم يردّ عليه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى نزلت عليه: {ومن يطع اللّه والرّسول فأولئك مع الّذين أنعم اللّه عليهم من النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك رفيقًا} وهكذا رواه الحافظ أبو عبد اللّه المقدسيّ في كتابه: "صفة الجنّة"، من طريق الطّبرانيّ، عن أحمد بن عمرو بن مسلمٍ الخلّال، عن عبد اللّه بن عمران العابديّ، به. ثمّ قال: لا أرى بإسناده بأسا والله أعلم. وقال ابن مردويه أيضًا: حدّثنا سليمان بن أحمد، حدّثنا العبّاس بن الفضل الأسفاطيّ، حدّثنا أبو بكر بن ثابت بن عبّاسٍ المصريّ حدّثنا خالد بن عبد اللّه، عن عطاء بن السّائب، عن عامرٍ الشّعبيّ، عن ابن عبّاسٍ، أنّ رجلًا أتى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللّه، إنّي لأحبّك حتّى إنّي لأذكرك في المنزّل فيشقّ ذلك عليّ وأحبّ أن أكون معك في الدّرجة. فلم يردّ عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم شيئًا، فأنزل اللّه عزّ وجلّ [ {ومن يطع الله والرّسول فأولئك مع الّذين أنعم الله عليهم من النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك رفيقًا}]. وقد رواه ابن جريرٍ، عن ابن حميد، عن جريرٍ، عن عطاءٍ، عن الشّعبيّ، مرسلًا. وثبت في صحيح مسلمٍ من حديث هقل بن زيادٍ، عن الأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن، عن ربيعة بن كعبٍ الأسلميّ أنّه قال: كنت أبيت عند النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: "سل". فقلت: يا رسول اللّه، أسألك مرافقتك في الجنّة. فقال: "أو غير ذلك؟ " قلت: هو ذاك. قال: "فأعنّي على نفسك بكثرة السّجود". وقال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن إسحاق، أخبرنا ابن لهيعة، عن عبيد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن عيسى بن طلحة، عن عمرو بن مرّة الجهنيّ قال: جاء رجلٌ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه شهدت أن لا إله إلّا اللّه وأنّك رسول اللّه وصلّيت الخمس وأدّيت زكاة مالي وصمت شهر رمضان. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من مات على هذا كان مع النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء يوم القيامة هكذا -ونصب أصبعيه-ما لم يعقّ والديه" تفرّد به أحمد. قال الإمام أحمد أيضًا: حدّثنا أبو سعيدٍ مولى أبي هاشمٍ، حدّثنا ابن لهيعة، عن زبّان بن فائدٍ، عن سهل بن معاذ بن أنسٍ، عن أبيه، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "من قرأ ألف آيةٍ في سبيل اللّه كتب يوم القيامة مع النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين، وحسن أولئك رفيقًا، إن شاء اللّه". وروى التّرمذيّ من طريق سفيان الثّوريّ، عن أبي حمزة، عن الحسن البصريّ، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "التّاجر الصّدوق الأمين مع النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء". ثمّ قال: هذا حديثٌ حسنٌ لا نعرفه إلّا من هذا الوجه، وأبو حمزة اسمه عبد اللّه بن جابرٍ شيخٌ بصريٌّ. وأعظم من هذا كلّه بشارةً ما ثبت في الصّحاح والمسانيد وغيرهما، من طرقٍ متواترةٍ عن جماعةٍ من الصّحابة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن الرّجل يحبّ القوم ولمّا يلحق بهم؟ فقال: "المرء مع من أحبّ" قال أنسٌ: فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث. وفي روايةٍ عن أنسٍ أنّه قال: إنّي أحبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وأحبّ أبا بكرٍ وعمر، رضي الله عنهما وأرجو أن الله يبعثني اللّه معهم وإن لم أعمل كعملهم. وقال الإمام مالك بن أنسٍ، عن صفوان بن سليمٍ، عن عطاء بن يسارٍ، عن أبي سعيدٍ الخدريّ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّ أهل الجنّة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدّرّيّ الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم". قالوا: يا رسول اللّه، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: "بلى، والّذي نفسي بيده، رجالٌ آمنوا باللّه وصدّقوا المرسلين". أخرجاه في الصّحيحين من حديث مالكٍ ولفظه لمسلمٍ. وقال الإمام أحمد بن حنبلٍ: حدّثنا فزارة، أخبرني فليح، عن هلالٍ -يعني ابن عليٍّ-عن عطاءٍ، عن أبي هريرة؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّ أهل الجنّة ليتراءون في الجنّة كما تراءون -أو ترون-الكوكب الدّرّيّ الغارب في الأفق والطّالع في تفاضل الدّرجات". قالوا: يا رسول اللّه، أولئك النّبيّون؟ قال: "بلى، والّذي نفسي بيده، وأقوامٌ آمنوا باللّه وصدّقوا المرسلين". قال الحافظ الضّياء المقدسيّ: هذا الحديث على شرط البخاريّ واللّه أعلم. وقال الحافظ أبو القاسم الطّبرانيّ في معجمه الكبير: حدّثنا عليّ بن عبد العزيز، حدّثنا محمّد بن عمّارٍ الموصليّ، حدّثنا عفيف بن سالمٍ، عن أيّوب بن عتبة عن عطاءٍ، عن ابن عمر قال: أتى رجلٌ من الحبشة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يسأله، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "سل واستفهم". فقال: يا رسول اللّه، فضّلتم علينا بالصّور والألوان والنّبوّة، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به، وعملت مثل ما عملت به، إنّي لكائنٌ معك في الجنّة؟ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "نعم، والّذي نفسي بيده إنّه ليضيء بياض الأسود في الجنّة من مسيرة ألف عامٍ" قال: ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من قال: لا إله إلّا اللّه، كان له بها عهدٌ عند اللّه، ومن قال: سبحان اللّه وبحمده، كتب له بها مائة ألف حسنةٍ وأربعةٌ وعشرون ألف حسنةٍ" فقال رجلٌ: كيف نهلك بعدها يا رسول اللّه؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ الرّجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبلٍ لأثقله، فتقوم النّعمة من نعم اللّه فتكاد أن تستنفد ذلك كلّه إلّا أن يتطاول اللّه برحمته" ونزلت هذه الآيات {هل أتى على الإنسان حينٌ من الدّهر لم يكن شيئًا مذكورًا} إلى قوله: {نعيمًا وملكًا كبيرًا} [الإنسان: 1-20] فقال الحبشيّ: وإنّ عينيّ لتريان ما ترى عيناك في الجنّة؟ فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "نعم". فاستبكى حتّى فاضت نفسه، قال ابن عمر: لقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يدليه في حفرته بيديه. فيه غرابةٌ ونكارةٌ، وسنده ضعيفٌ. ولهذا قال تعالى: {ذلك الفضل من اللّه} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/353-357] تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا (70)} قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: ذلك الفضل من اللّه رد على تقدير معترض يقول، وما الذي يوجب استواء أهل الطاعة والنبيين في الآخرة، والفرق بينهم في الدنيا بيّن؟ فذكر الله أن ذلك بفضله لا بوجوب عليه، والإشارة ب ذلك إلى كون المطيعين مع المنعم عليهم، وأيضا فلا نقرر الاستواء، بل هم معهم في دار والمنازل متباينة، ثم قال وكفى باللّه عليماً وفيها معنى أن يقول، فسلموا فعل الله وتفضله من الاعتراض عليه، واكتفوا بعلمه في ذلك وغيره، ولذلك أدخلت الباء على اسم الله، لتدل على الأمر الذي في قوله: وكفى). [المحرر الوجيز: 2/599] قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (قال تعالى: {ذلك الفضل من اللّه} أي: من عند اللّه برحمته، هو الّذي أهّلهم لذلك، لا بأعمالهم. {وكفى باللّه عليمًا} أي: هو عليمٌ بمن يستحقّ الهداية والتّوفيق). [تفسير القرآن العظيم: 2/357] * للاستزادة ينظر: هنا |
الساعة الآن 02:27 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir