المجلس الخامس: مجلس مذاكرة القسم العشرين من تفسير سورة البقرة
مجلس مذاكرة القسم العشرين من تفسير سورة البقرة (الآيات: 275- 286) بالاستعانة بالتفاسير الثلاثة المقرّرة اكتب رسالة تفسيرية في واحد من الأقسام التالية: 1: آيات الربا، بأسلوب التقرير العلمي. 2: آيات الدين بالأسلوب الاستنتاجي. 3: آخر ثلاث آيات من سورة البقرة، بأسلوب الحجاج. إرشادات: - مصادر الرسائل هي التفاسير الثلاثة المقرّرة للدراسة، ويمكن الاستعانة بتفاسير أخرى من باب توسيع دائرة الاطّلاع. - تراجع الإرشادات الخاصّة بكل أسلوب تفسيري في دورة أساليب التفسير، وكذلك خطة إعداد الرسالة التفسيرية (هنا). - يمكن أن يضاف للأسلوب الأساسي للرسالة غيره من الأساليب مما يستدعيه المقام ويعين على تحسين الرسالة. والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات.. |
أختار الكتابة عن آيات الربا بأسلوب التقرير العلمي، إن شاء الله تعالى.
|
مجلس مذاكرة القسم العشرين من تفسير سورة البقرة (الآيات: 275- 286) بالاستعانة بالتفاسير الثلاثة المقرّرة اكتب رسالة تفسيرية في واحد من الأقسام التالية: 3: آخر ثلاث آيات من سورة البقرة، بأسلوب الحجاج. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته الى يوم الدين فقد اختلف المفسرون في المراد بمحاسبة الله تعالى على ما يقوم في نفس العبد وذلك في تفسير قوله تعالى {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} على قولين: القول الأول: أنها منسوخة بالاية بعدها وذلك في قوله تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } وقال به ابن عباس وأبو هريرة والشعبي وجماعة من الصحابة والتابعين وذكره الزّجّاج وابن عطية وابن كثير و اورد ابن كثير احاديث تدل عليه منها قوله " قال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا عبد الرّحمن بن إبراهيم، حدّثني أبو عبد الرّحمن - يعني العلاء -عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: لمّا نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {للّه ما في السّماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} اشتدّ ذلك على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ثم جثوا على الرّكب، وقالوا: يا رسول اللّه، كلّفنا من الأعمال ما نطيق: الصّلاة والصّيام والجهاد والصّدقة، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربّنا وإليك المصير». فلمّا أقر بها القوم وذلّت بها ألسنتهم، أنزل اللّه في أثرها: {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير} فلمّا فعلوا ذلك نسخها اللّه فأنزل: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} إلى آخره.". وذكر ابن كثير قول البخاريّ: حدّثنا إسحاق، حدّثنا روحٌ، حدّثنا شعبة، عن خالدٍ الحذّاء، عن مروان الأصفر، عن رجلٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم -أحسبه ابن عمر - {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} قال: «نسختها الآية الّتي بعدها» وقال وهكذا روي عن عليٍّ، وابن مسعودٍ، وكعب الأحبار، والشّعبيّ، والنخعي، ومحمّد بن كعبٍ القرظي، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وقتادة: «أنّها منسوخةٌ بالّتي بعدها». القول الثاني: أنها محكمة غير منسوخة وأن الله يحاسب خلقه على ما ثبت في نفوسهم فأضمروه و أرادوه فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق وقال بهذا القول مجاهد والحسن واختاره ابن عطية و قال إن هذا اختيار الطبري ونسب إليه القول عن ابن عباس فيما يشبه هذا المعنى وأورد قول ابن جرير "وقال آخرون نحو هذا المعنى الذي ذكر عن ابن عباس، إلا أنهم قالوا إن العذاب الذي يكون جزاء لما خطر في النفس وصحبه الفكر هو بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها" وذكر هذا القول ابن كثير و اورد اثرا عن ابن عمر نسبه الى ابن جرير قال "حدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن سعيدٍ وهشامٍ، (ح) وحدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا ابن عليّة، حدّثنا هشامٌ، قالا جميعًا في حديثهما: عن قتادة، عن صفوان بن محرز، قال: «بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد اللّه بن عمر، وهو يطوف، إذ عرض له رجلٌ فقال: يا ابن عمر، ما سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول في النّجوى؟ فقال: سمعت نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «يدنو المؤمن من ربّه، عزّ وجلّ، حتّى يضع عليه كنفه، فيقرّره بذنوبه فيقول: هل تعرف كذا؟ فيقول: ربّ أعرف -مرّتين -حتّى إذا بلغ به ما شاء اللّه أن يبلغ قال: فإنّي قد سترتها عليك في الدّنيا وأنا أغفرها لك اليوم». قال: "فيعطى صحيفة حسناته -أو كتابه -بيمينه، وأمّا الكفّار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد:{هؤلاء الّذين كذبوا على ربّهم ألا لعنة اللّه على الظّالمين}[هودٍ: 18]». قال ابن كثير وهذا الحديث مخرّجٌ في الصّحيحين وغيرهما من طرقٍ متعدّدةٍ، عن قتادة، به. و تتبين حجج القول الثاني من وجوه: الأول: أن المعنى المراد بالمحاسبة في قوله تعالى {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} يقتضي الإحصاء لا العقاب وأن الإيمان موجب لعفو الله ومغفرته إذا كان إيمانا صحيحا وقد عفا الله عن حديث النفس إذا لم يصاحبه قول او فعل، والعقاب لمن أخفى ما يتضمن ترك الإيمان مثل الشك بما جاء به الرسول أو بغضه وأما الوسوسة وهي ما يهجم على القلب بغير اختيار ومدافعتها صريح الإيمان كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.. قال ابن تيمية ".والمحاسبة تقتضي أن ذلك يحسب ويحصى، وأمّا المغفرة والعذاب فقد دلّ الكتاب والسّنّة على أنّ من في قلبه الكفر وبغض الرّسول وبغض ما جاء به أنّه كافرٌ باللّه ورسوله، وقد عفا اللّه لهذه الأمّة - وهم المؤمنون حقًّا الّذين لم يرتابوا - عمّا حدّثت به أنفسها ما لا تتكلّم به أو تعمل كما هو في الصّحيحين من حديث أبي هريرة وابن عبّاسٍ وروي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: (أنّ الّذي يهمّ بالحسنة تكتب له، والّذي يهمّ بالسّيّئة لا تكتب عليه حتّى يعملها)؛ إذا كان مؤمنًا من عادته عمل الحسنات وترك السّيّئات، فإن ترك السّيّئة للّه كتبت له حسنةٌ، فإذا أبدى العبد ما في نفسه من الشّرّ بقول أو فعلٍ صار من الأعمال الّتي يستحقّ عليها الذّمّ والعقاب، وإن أخفى ذلك وكان ما أخفاه متضمّنًا لترك الإيمان باللّه والرّسول مثل الشّكّ فيما جاء به الرّسول أو بغضه كان معاقبًا على ما أخفاه في نفسه من ذلك؛ لأنّه ترك الإيمان الّذي لا نجاة ولا سعادة إلّا به. وأمّا إن كان وسواسًا والعبد يكرهه فهذا صريح الإيمان كما هو مصرّحٌ به في الصّحيح، وهذه الوسوسة هي ممّا يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان، فإذا كرهه العبد ونفاه كانت كراهته صريح الإيمان، وقد خاف من خاف من الصّحابة من العقوبة على ذلك فقال تعالى: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلّا وسعها} فالعزم الجازم مع فعل المقدور يؤاخذ العبد عليه وكذلك يؤاخذ على حديث النفس اذا صاحبه قول أو فعل وبه يكون عزما وآما الهم بلا عمل والوسواس الذي يكرهه فلا يؤاخذ عليه واذا دافعه كان من صريح الايمان كما بيّنه ابن تيمية بقوله "والّذين قالوا يؤاخذ بها احتجّوا بقوله: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النّار) الحديث، وهذا لا حجّة فيه؛ فإنّه ذكر ذلك في رجلين اقتتلا كلٌّ منهما يريد قتل الآخر، وهذا ليس عزمًا مجرّدًا بل هو عزمٌ مع فعل المقدور لكنّه عاجزٌ عن إتمام مراده، وهذا يؤاخذ باتّفاق المسلمين، فمن اجتهد على شرب الخمر وسعى في ذلك بقوله وعمله ثمّ عجز فإنّه آثمٌ باتّفاق المسلمين وهو كالشّارب وإن لم يقع منه شربٌ، وكذلك من اجتهد على الزّنا والسّرقة ونحو ذلك بقوله وعمله ثمّ عجز فهو آثمٌ كالفاعل، ومثل ذلك في قتل النّفس وغيره، كما جعل الدّاعي إلى الخير له مثل أجر المدعوّ ووزره لأنّه أراد فعل المدعوّ وفعل ما يقدر عليه، فالإرادة الجازمة مع فعل المقدور من ذلك، فيحصل له مثل أجر الفاعل ووزره" ثم قال "وأمّا من قال إنّه لا يؤاخذ بالعزم القلبيّ، فاحتجّوا بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: (إنّ اللّه تجاوز لأمّتي عمّا حدّثت به أنفسها)، وهذا ليس فيه أنّه عافٍ لهم عن العزم بل فيه أنّه عفا عن حديث النّفس إلى أن يتكلّم أو يعمل، فدلّ على أنّه ما لم يتكلّم أو يعمل لا يؤاخذ؛ ولكن ظنّ من ظنّ أنّ ذلك عزمًا وليس كذلك؛ بل ما لم يتكلّم أو يعمل لا يكون عزمًا؛ فإنّ العزم لا بدّ أن يقترن به المقدور وإن لم يعمل العازم إلى المقصود، فالّذي يعزم على القتل أو الزّنا أو نحوه عزمًا جازمًا لا بدّ أن يتحرّك ولو برأسه أو يمشي أو يأخذ آلةً أو يتكلّم كلمةً أو يقول أو يفعل شيئًا، فهذا كلّه ما يؤاخذ به، كزنا العين واللّسان والرّجل فإنّ هذا يؤاخذ به وهو من مقدّمات الزّنا التّامّ بالفرج، وإنّما وقع العفو عمّا ما لم يبرز خارجًا بقول أو فعلٍ ولم يقترن به أمرٌ ظاهرٌ قطّ فهذا يُعفى عنه لمن قام بما يجب على القلب من فعل المأمور به سواءٌ كان المأمور به في القلب وموجبه في الجسد أو كان المأمور به ظاهرًا في الجسد وفي القلب معرفته وقصده، فهؤلاء إذا حدّثوا أنفسهم بشيء كان عفوًا مثل همٍّ ثابتٍ بلا فعلٍ ومثل الوسواس الّذي يكرهونه وهم يثابون على كراهته وعلى ترك ما همّوا به وعزموا عليه للّه تعالى وخوفًا منه). الثاني: ورد في معنى المحاسبة في الآية حديث عن السيدة عائشة ذكره ابن كثير وضعفه حيث قال " وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا سليمان بن حربٍ، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيدٍ، عن أميّة قالت: سألت عائشة عن هذه الآية: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} فقالت: «ما سألني عنها أحدٌ منذ سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عنها فقال: «هذه مبايعة اللّه العبد، وما يصيبه من الحمّى، والنّكبة، والبضاعة يضعها في يد كمّه، فيفتقدها فيفزع لها، ثمّ يجدها في ضبنه، حتّى إنّ المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التّبر الأحمر من الكير»." وكذا رواه التّرمذيّ، وابن جريرٍ من طريق حمّاد بن سلمة، به. وقال التّرمذيّ: غريبٌ لا نعرفه إلّا من حديثه قلت: وشيخه عليّ بن زيد بن جدعان ضعيفٌ، يغرب في رواياته وهو يروي هذا الحديث عن امرأة أبيه: أمّ محمّدٍ أميّة بنت عبد اللّه، عن عائشة، وليس لها عنها في الكتب سواه" وهذا الحديث يشبه ما اورده ابن عطية عن ابن جرير في قوله "وقال آخرون نحو هذا المعنى الذي ذكر عن ابن عباس، إلا أنهم قالوا إن العذاب الذي يكون جزاء لما خطر في النفس وصحبه الفكر هو بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها". الثالث: أن المراد بلفظ النسخ في الآية هو نسخ الله ما يقع في النفس من فهم معنى محتمل ويدل عليه أن الآية خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ إلا إذا كان المراد بالنسخ ما لحق الصحابة حين فزعوا من الآية، قال ابن عطية "وذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: «قولوا سمعنا وأطعنا» يجيء منه الأمر بأن يبنوا على هذا ويلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران، فإذا قرر هذا الحكم فصحيح وقوع النسخ فيه " وأضاف "وتشبه الآية حينئذ قوله عز وجل: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} فهذا لفظ الخبر ولكن معناه: التزموا هذا وابنوا عليه واصبروا بحسبه، ثم نسخ ذلك بعد ذلك. وأجمع الناس فيما علمت على أن هذه الآية في الجهاد منسوخة بصبر المائة للمائتين، وهذه الآية في البقرة أشبه شيء بها". ويؤيد هذا المعنى للنسخ في الآية ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال بعد ذكر القولين الواردين في الآية "وفصل الخطاب: أنّ لفظ " النّسخ " مجملٌ، فالسّلف كانوا يستعملونه فيما يظنّ دلالة الآية عليه من عمومٍ أو إطلاقٍ أو غير ذلك، كما قال من قال: إنّ قوله: {اتّقوا اللّه حقّ تقاته} و{وجاهدوا في اللّه حقّ جهاده} نسخ بقوله: {فاتّقوا اللّه ما استطعتم}، وليس بين الآيتين تناقضٌ، لكن قد يفهم بعض النّاس من قوله: {حقّ تقاته} و{حقّ جهاده} الأمر بما لا يستطيعه العبد، فينسخ ما فهمه هذا كما ينسخ اللّه ما يلقي الشّيطان ويحكم اللّه آياته، وإن لم يكن نسخ ذلك نسخ ما أنزله، بل نسخ ما ألقاه الشّيطان إمّا من الأنفس أو من الأسماع أو من اللّسان. وكذلك ينسخ اللّه ما يقع في النّفوس من فهم معنًى وإن كانت الآية لم تدلّ عليه لكنّه محتملٌ، وهذه الآية من هذا الباب. فإنّ قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم} الآية إنّما تدلّ على أنّ اللّه يحاسب بما في النّفوس لا على أنّه يعاقب على كلّ ما في النّفوس.وقوله: {لمن يشاء} يقتضي أنّ الأمر إليه في المغفرة والعذاب لا إلى غيره، ولا يقتضي أنّه يغفر ويعذّب بلا حكمةٍ ولا عدلٍ كما قد يظنّه من يظنّه من النّاس، حتّى يجوّزوا أنّه يعذّب على الأمر اليسير من السّيّئات مع كثرة الحسنات وعِظمها، وأنّ الرّجلين اللّذين لهما حسناتٌ وسيّئاتٌ يغفر لأحدهما مع كثرة سيّئاته وقلّة حسناته ويعاقب الآخر على السّيّئة الواحدة مع كثرة حسناته، ويجعل درجة ذاك في الجنّة فوق درجة الثّاني، وهؤلاء يجوّزون أن يعذّب اللّه النّاس بلا ذنبٍ وأن يكلّفهم ما لا يطيقون ويعذّبهم على تركه." الرابع: الرد على من تأول هذه الآية بجواز التكليف بما لا يطاق وقد اختلف القائلون بجوازه ، قال ابن عطية "لما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم، فبيّن الله تعالى لهم ما أراد بالآية الأولى وخصصها، ونص على حكمه أنه {لا يكلّف نفساً إلّا وسعها} " والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع، بل هو أمر غالب، وليست مما يكسب ولا يكتسب " ثم قال " واختلف القائلون بجوازه هل وقع في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فقالت فرقة وقع في نازلة أبي لهب لأنه حكم عليه بتب اليدين وصلي النار، وذلك مؤذن بأنه لا يؤمن، وتكليف الشرع له الإيمان راتب، فكأنه كلف أن يؤمن وأن يكون في إيمانه أنه لا يؤمن لأنه إذا آمن فلا محالة أنه يؤمن بسورة {تبّت يدا أبي لهبٍ}[المسد: 1]، وقالت فرقة لم يقع قط، وقوله تعالى: {سيصلى ناراً}[المسد: 3] إنما معناه إن وافى على كفره." وأوضح ابن عطية هذا الامر بقوله «وهذا غير بين، وإنما كان أمر الخواطر تأويلا تأوله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت تكليفا إلا على الوجه الذي ذكرنا من تقدير النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على ذلك». وقد أوضح ابن تيمية هذا الامر في سياق الرد على من فهم أن المحاسبة تعني التكليف بما لايطاق فقال "والصّحابة إنّما هربوا وخافوا أن يكون الأمر من هذا الجنس فقالوا: لا طاقة لنا بهذا؛ فإنّه إن كَلّفنا ما لا نطيق عَذّبنا، فنسخ اللّه هذا الظّنّ وبيّن أنّه لا يكلّف نفسًا إلّا وسعها، وبيّن بطلان قول هؤلاء الّذين يقولون إنّه يكلّف العبد ما لا يطيقه ويعذّبه عليه، وهذا القول لم يعرف عن أحدٍ من السّلف والأئمّة؛ بل أقوالهم تناقض ذلك، حتّى إنّ سفيان بن عيينة سئل عن قوله: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلّا وسعها} قال: إلّا يسرها ولم يكلّفها طاقتها، قال البغوي: وهذا قولٌ حسنٌ؛ لأنّ الوسع ما دون الطّاقة، وإنّما قاله طائفةٌ من المتأخّرين لمّا ناظروا المعتزلة في " مسائل القدر " وسلك هؤلاء مسلك الجبر جهمٍ وأتباعه فقالوا هذا القول وصاروا فيه على مراتب". الخامس: المراد بالطاقة في قوله تعالى {ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به} مما تدل عليه اللغة أي لا تكلفنا ما يثقل علينا وإن كنْا مطيقين له، قال ابن تيمية " قال ابن الأنباريّ في قوله: {ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به} أي لا تحمّلنا ما يثقل علينا أداؤه وإن كنّا مطيقين له على تجشّمٍ وتحمّلٍ مكروهٍ. قال: فخاطب العرب على حسب ما تعقل؛ فإنّ الرّجل منهم يقول للرّجل ما أطيق النّظر إليك وهو مطيقٌ لذلك؛ لكنّه ثقيلٌ عليه النّظر إليه قال: ومثله قوله: {ما كانوا يستطيعون السّمع} . قلتُ: ليست هذه لغة العرب وحدهم؛ بل هذا ممّا اتّفق عليه العقلاء. و" الاستطاعة في الشّرع " هي ما لا يحصل معه للمكلّف ضررٌ راجحٌ كاستطاعة الصّيام والقيام، فمتى كان يزيد في المرض أو يؤخّر البرء لم يكن مستطيعًا؛ لأنّ في ذلك مضرّةً راجحةً؛ بخلاف هؤلاء فإنّهم كانوا لا يستطيعون السّمع لبغض الحقّ وثقله عليهم، إمّا حسدًا لقائله وإمّا اتّباعًا للهوى ورين الكفر والمعاصي على القلوب، وليس هذا عذرًا فلو لم يأمر العباد إلّا بما يهوونه لفسدت السّموات والأرض ومن فيهنّ. والمقصود أن السّلف لم يكن فيهم من يقول إنّ العبد لا يكون مستطيعًا إلّا في حال فعله وأنّه قبل الفعل لم يكن مستطيعًا، فهذا لم يأت الشّرع به قطّ ولا اللّغة ولا دلّ عليه عقلٌ؛ بل العقل يدلّ على نقيضه.". السادس: أن الله يعلم أن العبد مستطيع للفعل وقد لا يفعله ولا يريده وهو قادر عليه وعلم الله مطابق لما يحصل من وقوع الفعل او عدمه كما أوضح ذلك ابن تيمية فقال" والرّبّ تعالى يعلم أنّ العبد لا يفعل الفعل مع أنّه مستطيعٌ له والمعلوم أنّه لا يفعله ولا يريده لا أنّه لا يقدر عليه، والعلم يطابق المعلوم، فاللّه يعلم ممّن استطاع الحجّ والقيام والصّيام أنّه مستطيعٌ ويعلم أنّ هذا مستطيعٌ يفعل مستطاعه، فالمعلوم هو عدم الفعل لعدم إرادة العبد لا لعدم استطاعته، كالمقدورات له الّتي يعلم أنّه لا يفعلها لعدم إرادته لها لا لعدم قدرته عليها، والعبد قادرٌ على أن يفعل وقد علم اللّه أنّه لا يفعل مع القدرة؛ ولهذا يعذّبه لأنّه إنّما أمره بما استطاع لا بما لا يستطيع، ومن لم يستطع لم يأمره ولا يعذّبه على ما لم يستطعه. فما علم اللّه أنّه سيقع يعلم أنّه يقع بمشيئته وقدرته، وما علم أنّه لا يقع يعلم أنّه لا يشاؤه، وهو سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وأمّا المعتزلة فعندهم أنّه يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء، وأولئك " المجبرة " في جانبٍ وهؤلاء في جانبٍ وأهل السّنّة وسطٌ. وما يفعله العباد باختيارهم يعلم سبحانه أنّهم فعلوه بقدرتهم ومشيئتهم، وما لم يفعلوه مع قدرتهم عليه يعلم أنّهم لم يفعلوه لعدم إرادتهم له لا لعدم قدرتهم عليه". وبهذا يتبين المراد بالمحاسبة وما جاء عن السلف في النسخ المقصود في الآية. والله أعلم. |
تقويم مجلس القسم العشرين من تفسير سورة البقرة
محمد العبد اللطيف أ+ أحسنت بارك الله فيك ونفع بك. |
الساعة الآن 02:09 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir