*رسالة تفسيرية حول آية قرآنية*
*رسالة تفسيرية حول آية قرآنية* قال الله عز شأنه:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} القصص عناصر الرسالة: - مقدمة . -حول أسباب النزول . -معنى الهداية . -أنواع الهداية. - نوع الهداية المشار إليها في الآية. - نوع المحبة المراد بها في الأية . - بيان مشيئة الله في الهداية . - الخطأ الشائع في فهم مقصد الأية . - بيان ما يستفاد من الأية . {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} طلب الهداية إلى الصراط المستقيم من أهم المطالب وأعظم النعم على الإطلاق، وهي منحة من الله تعالى لعباده ،فهم أحوج ما يكونون لها في حياتهم ،ولأن أمر الهداية ضروري للعباد ،علًّمهم المولى تبارك وتعالى كيفية طلبها من خلال سورة الفاتحة .لكن ماحدود قدرة الخلق على الهداية ؟ فلو تأملنا سبب نزول هذه الآية لتبين أنها توضح حد العبد في الهداية، وهي أيضا برهان واضح على بطلان عبادة غير الله ، فالمخلوق مهما بلغ من مكانة وقدرة وقوة ،فهو ضعيف ،لا يقدر على إيصال النفع أو دفع الضر عن أحد مهما بلغ من المكانة . النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصًا كل الحرص على هداية عمه أبو طالب ،فلم ينفك عن دعوته ،وطلب الشفاعة له والمغفرة ، ومع ذلك لم يستطع لذلك سبيلا،حتى أتاه أمر من الله ينهاه عن ذلك، فقد ذكر القرطبي إجماع المفسرين على أنها نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نص حديث البخاري ومسلم، فقد ذكر الواحدي في أسباب النزول ،لما حضرتْ أبا طالب الوفاةُ جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده: أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم، قل: لا إله إلا الله كلمة أحاجُّ لك بها عند الله سبحانه وتعالى. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: [يا أبا طالب] أترغب عن ملّة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعاودانه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم به: أنا على ملّة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك، فأنزل اللهعز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ}وأنزل في أبي طالب:{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ}رواه البخاري عن أبي اليمان، [عن شعيب]؛ ورواه مسلم عن حَرْمَلَة، عن ابن وهب، عن يونس؛ [كلاهما] عن الزهري. حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد عن يزيد بن كيسان حدثني أبو حازم الأشجعي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه )قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة( قال :لولا أن تعيرني بها قريش أن ما يحمله عليه الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله عز وجل {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء }قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن كيسان. {إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} هذه الآية وإن كانت لها سبب نزول فإنها تؤخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وهذه قاعدة ،إذ أنَّ الخطاب هنا ليس لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فحسب، وإنما له ولأمته أيضا،فإذا كانت الهداية منفية عن النبي صلى الله عليه وسلم فغيره من باب أولى، فمهما بذل الداعي من اتباع أسباب الهدى ، فهو لا يملك لغيره نفعا ولا ضرا. افتتحت الأيةبحرف توكيد و نفي (إنًّ ) ،و الفعل المنفي هو (تهدي) ،أما الفاعل (المخاطب هنا) هو النبي صلى الله عليه وسلم ومفعول " أحببت " محذوف دل عليه " لا تهدي "،. والتقدير : من أحببت هديه أو اهتداءه . وماصدق ( من ) الموصولة كل من دعاه النبي إلى الإسلام فإنه يحب اهتداءه، إذن التأكيد على نفي ملك النبي صلى الله عليه وسلم لكل من أحب . ( تهدي ): من هدى يهدي هداية،و الهداية في اللغة : هي اسم، ومصدرها هدَى : أي إرشاد ودلالة على ما يوصل إلى المطلوب، ومِنْ هِدَايَةِ اللَّهِ : أي مِنْ حُسْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ. قال تعالى:{ اهدنا الصراط المستقيم } وقوله تعالى:{والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } لكن.. المتأمل في كتاب الله يجد أنَّ الله تعالى نفى ملك رسوله صلى الله عليه وسلم للهداية ،وفي غير موضع ذكر تعالى إثبات الهداية له فقال تعالى:"وإنَّك لتهدي إلى صراط مستقيم" فكيف نجمع بين النفي ولإثبات في الموضعين: ذكر الشيخ السعدي رحمه الله تعالى أن الهداية نوعان : النوع الأول:وهو هداية التوفيق:ومعناها أنَّ الله يخلق الإيمان في القلب، وهو من يوفق العبد للعمل ،مثل قوله جل ّشأنه:{إنك لا تهدي من أحببت} أماالنوع الثاني:هو هداية البيان والإرشاد: ومعناها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم وكل داعٍ إلى الله يبين للناس الصراط المستقيم وهو الدين ،ويبذل جهده في سلوك الخلق له، فقال تعالى:"وإنَّك لتهدي إلى صراط مستقيم". وخلاصة القول:أن الهداية نوعان : نوع منفي عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو التوفيق ،لأنه بيد المولى عز وجل ،وهو المراد في قوله :"{إنك لا تهدي من أحببت}. والنوع الثاني : هو الهدى المثبت للنبي صلى الله عليه وسلم وكل من دعا إلى ربه ،وهو البيان للحق والإرشاد إاليه، وهو المراد في قوله تعالى::"وإنَّك لتهدي إلى صراط مستقيم". ومن البيان في ألفاظ القرآن : قوله تعالى }لا تهدي { ولم يقل} لن تهدي{فهل هناك فرق بينهما؟ نعم ، في اللغة لكل لفظ دلالته، فالحرف (لن) يعني نفي الأمر في المستقبل مثل:{فإن لم تفعلوا}يعني ما فعلتم{ولن تفعلوا} في المستقبل، بينما (لا) يعني نفي الأمر في جميع الأزمنة،الماضي والحاضر والمستقبل. لذلك تستخدم( لا) لبيان حقيقة أمر{إن الله لا يغير ما بقوم} . ، وهنا أنَّ هداية التوفيق بيده سبحانه ،ليس لأحد شأن في إيصال الهداية لأحد. قوله تعالى:{مَنْ أَحْبَبْتَ }مَن: اسم موصول: يعني الذي أحببت ، فهي تعم،{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، أي الذي أحببته. ذكر أحمد بن محمد بن اسماعيل النحاس قول أبو جعفر : يجوز أن يكون معنى : من أحببت أن تهدي،ويجوز أن يكون المعنى : من أحببت لقرابته وفي هذه الآية تظهر محبة النبي صلى الله عليه وسلم لغمه أبي طالب،لكن قد يتساءل أحدهم :كيف يحب النبي صلى الله عليه وسلم من أشرك بالله ؟هناك ثلاث أقوال في هذه المسألة : القول الأول:المراد بالمحبة هنا المحبة الطبعية لا الشرعية،حيث أنَّ ما قدًّمه أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم من تربية ورعاية في حقه ومن رعايته وحمايته ومنعته في دعوته للدين ،تولد لديه المحبة الطبَعية التي عادة يُجبل عليها الناس ،لا المحبة الشرعية ،فمحبته صلى الله عليه وسلم من محبة الابن لأبيه، وقد أجاز الشرع محبة غير المسلم ولكن ليس على معنى الإظلاق،فالمحبة هنا يجب أن لا يتبعها ولاء على ما يبغضه الله عزوجل،أو ترك الشرع. القول الثاني:أن هذا كان قبل النهي غن محبة المشركين. القول الثالث :وهو الأحسن الذي أيَّده فضيلة الشيخ الحازمي : وهو أن يكون المفعول به محذوف وهو الهداية ، فحينئذٍ تنصب المحبة على الوصف لا على الموصوف، أي أحببت هدايته. وقوله تعالى:{ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } فعل المشيئة دائمًا يحذف المفعول به، فيقدر مفعوله:هدايته،فلما قَدَّرْنَا المفعول هنا هدايته ،ترجح أن يكون المفعول هناك أحببت هدايته. والمعنى :من يشاء الله له الهداية يوفقه ويرشده لطريق الخير .فبيان الهدى يكون من قبل الخالق ، وعلى العبد القبول أو الرفض، فهو له مشيئة الاختيار ،لكنها تحت مشيئة الله تعالى ، ولو كان غير ذلك لما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب . {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} كقوله: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى} وقوله تعالى: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين }. قال الشوكاني :أي أن الله أعلم بقلوب عباده من منهم قابل للهداية مستعد لها ، حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : {وهو أعلم بالمهتدين} قال بمن قدر له الهدى والضلالة ،كذلك حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله . وهنا يجب التنبيه على خطأ شائع بين الناس في فهم هذه الآية ،إذ يعولون على أن هداية الناس وإرشادهم لطريق الحق ،هو مقتصر على هداية الله له ،دون العمل والتبليغ للدعوة ،فالنبي صلى الله عليه وسلم ،جاهد بالدعوة وكان حاله أثناء ذلك الحرص الشديد حيث قال تعالى في سورة الشعراء:{لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} فعلينا العمل بالأسباب ،والتوفيق بيد الله تعالى. ولو كان عند النبي صلى الله عليه وسلم من هداية القلوب ومغفرة الذنوب ،لكان عمه أحق الناس وأولاهم ،لكن النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يملك قلوب من أحبهم ولا قلوب غيرهم ولم يقدر على إدخال الإيمان في قلوبهم، فقد ذكر الله تعالى هذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية في غير موضع كقوله تعالى:{ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل{الآية ، وقوله} : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم }، فضعف غيره على الهداية من باب أولى . *من فوائد هذه الآية: 1- تكرار طلب العبد من ربه الهداية من خلال سورة الفاتحة ،دلالة على حاجته المستمرة لها. 2-النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك هداية القلوب فغيره من باب أولى لا يملك ذلك. 3- الهداية نوعان: هداية التوفيق : وهي بيد الله عزوجل،فليحرص العبد على طلبها منه وحده. وهداية الدلالة والإرشاد: وهي من النبي صلى الله عليه وسلم ،وكل داع للإسلام . 4- لله مشيئة وللعبد مشيئة ، لكن مشيئة العبد تحت مشيئة الله. 5- إثبات صفة العلم لله تعالى ، {وهو أعلم بالمهتدين}. 6- فيها الرد على من يعتقد قدرة الأولياء على النفع والضر. المراجع: التفاسير: تفسير الطبري. تفسير ابن كثير. تفسير ابن عاشور. أضواء البيان للشنقيطي. لمسات بيانية لفاضل السامرائي. سنن الترمذي. شرح الحازمي لكتاب التوحيد. المعجم الوسيط. موقع جمهرة العلوم . *الأسلوب المتبع : محاولة محكاة أسلوب التقرير العلمي والاستنباطي. والله تعالى أعلم |
الساعة الآن 02:28 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir