معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد

معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد (http://afaqattaiseer.net/vb/index.php)
-   صفحات الدراسة (http://afaqattaiseer.net/vb/forumdisplay.php?f=957)
-   -   صفحة الطالب محمد عباز لدراسة المستوى الأول (http://afaqattaiseer.net/vb/showthread.php?t=31581)

عباز محمد 12 ربيع الثاني 1437هـ/22-01-2016م 10:27 PM

صفحة الطالب محمد عباز لدراسة المستوى الأول
 
بسم الله و الحمد لله

عباز محمد 15 جمادى الآخرة 1437هـ/24-03-2016م 12:23 PM

بسم الله الرحمن الرحيم أهلا بالإخوة الأكارم، أقدم بين أيديكم ملخص لدروس مسائل الإيمان

عباز محمد 15 جمادى الآخرة 1437هـ/24-03-2016م 12:35 PM

بسم الله الرحمن الرحيم
أنواع مسائل الإيمان بالقرآن
أهمية دراسة مسائل الإيمان بالقرآن :
- معرفة ما يتحقق به الإيمان بالقرآن وما يقدح فيه ، ومراتب المخالفين في ذلك وأحكامهم.
- معرفة السبيل إلى الاهتداء بالقرآن واتباع النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان - كما قالت عنه عائشة رضي الله عنها - : " كان خلقه القرآن "رواه مسلم.
ومسائل الإيمان بالقرآن على نوعين كبيرين ينبغي أن يكون طالب العلم على معرفة حسنة بهما:
النوع الأول: مسائل اعتقادية.
فالمسائل الاعتقادية تختص بما يجب اعتقاده في القرآن. وهي تنقسم إلى قسمين: أحكام وآداب
والمقصود بالأحكام هنا الأحكام العقدية، حكم هذا القول هل هو واجب الاعتقاد؟ أو بدعة وما حكم مخالفه هل هي بدعة مفسقة أو بدعة مكفرة، هذه الأحكام العقدية.
والآداب تشمل آداب بحث مسائل الاعتقاد المتعلقة بالقرآن؛ بما دلّت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما أُثر عن السلف الصالح، وأن يحذر من طرق أهل البدع في دراستها وتقريرها. وأن يكفّ عن المراء في القرآن والتنازع فيه وضرب بعضه ببعض، وأن ، وألا يقول ما ليس له به علم.
يحتاج طالب العلم في مسائل الاعتقاد في القرآن إلى ثلاثة أمور:
1. معرفة القول الحق في مسائل الاعتقاد في القرآن، بما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة رحمهم الله، وذلك حتى يصحح عقيدته في القرآن.
2. تقرير الاستدلال لهذه المسائل من القرآن والسنة وإجماع سلف الأمة ، حتى يتمكن من الدعوة إلى هذه المسائل على بصيرة ويتجنب الخطأ في مسائل الإيمان بالقرآن.
3. معرفة أقوال المخالفين في هذه المسائل ، ودرجة مخالفتهم ، وأصول شبهاتهم ، وحجج أهل السنة في الرد عليهم ، ومنهجهم في معاملتهم.
أشهر المسائل الاعتقادية في الإيمان بالقرآن :
1: الإيمان بأنّ القرآن كلام الله تعالى منزل غير مخلوق، أنزله على نبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.
2: الإيمان بأن القرآن بدأ من الله عز وجل وإليه يعود.
3: الإيمان بأن القرآن مهيمن على ما قبله من الكتب وناسخ لها.
4: الإيمان بما أخبر الله به عن القرآن وما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5: اعتقاد وجوب الإيمان بالقرآن.
6: أن ويحلّ حلاله ويحرّم حرامه ويعمل بمحكمه ويردّ متشابهه إلى محكمه، ويكل ما لا يعلمه إلى عالمه.
النوع الثاني: المسائل السلوكية (المتعلقة بالإيمان بالقرآن).
وهي المسائل التي يُعنى فيها بالانتفاع بمواعظ القرآن وحسن الاستجابة لله تعالى والاهتداء بما بين الله عز وجل في القرآن من الهدى. دخول المسائل السلوكية في مسائل الإيمان بالقرآن :لأن الإيمان اعتقاد وقول وعمل ، والمسائل السلوكية تعنى بالاهتداء بالقرآن ومنها مسائل اعتقادية ومسائل قولية وعملية.
وعلم السلوك يُعنى بأصلين مهمين:
الأصل الأول: البصائر والبينات و تقوم على العلم، وتثمر اليقين، يسميها علماء السلوك بالمعارف والحقائق وقال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)} .
والأصل الثاني: وهو اتباع الهدى، ويعنى بالجانب العملي وهو الطاعة والامتثال، فيأتي ما يؤمر به، ويجتنب ما ينهى عنه، ويفعل ما يوعظ به. هو قائم على الإرادة والعزيمة ومثمر للاستقامة والتقوى.قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} وهذه الآية جمعت أصلي علم السلوك
و من كان على بينة ثم لم يتبع الهدى كان هذا العلم وتلك البينة حجة عليه كما قال الله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} الشاهد : تخلف العمل عن العلم كان حجة كافية عليهم لتعذيبهم.
بيان وجوب الإيمان بالقرآن:
وينبغي لطالب العلم أن يكون على علم بالأدلة المقررة لوجوب الإيمان بالقرآن فقد قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ}.
وقال تعالى: { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) }قال ابن جرير الطبري: النور بالقرآن الذي
وقال الله تعالى لنبيه: { وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ}، ويدخل في ذلك الإيمان بالقرآن دخولا أوليٍّا.
{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} قد للتحقيق ويفهم من ذلك –بمفهوم المخالفة- أنهم إن لم يؤمنوا بذلك فإنهم ضالون والضلال عقوبته الخزي والخسار فدل ذلك على أن الإيمان واجب حتى ينجو الإنسان من الخسران والعذاب.
وقال الله تعالى فيما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}.والإيمان بالقرآن أصل من أصول الإيمان لا يصحّ الإيمان إلا بها؛ كما في حديث جبريل الطويل أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فالقرآن من كتب الله - عز وجل .
ومن لم يؤمن بالقرآن فهو كافر متوعّد بالعذاب الشديد؛ كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}
وقال تعالى: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)} وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} –سماهم باسم الكفر- {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} –فما هي العاقبة؟- {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) }. قال تعالى: { وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)}
الشاك في وجوب الإيمان بالقرآن كافر. قال تعالى: {بل هم في شكّ من ذكري بل لمّا يذوقوا عذاب}.
فصل: والإيمان بالقرآن يتحقق بالاعتقاد والقول والعمل.
- فالإيمان الاعتقادي بالقرآن: أن يصدّق بأنّه كلام الله تعالى أنزله على رسوله بالحقّ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم، وأنّ كل ما أنزل الله فيه فهو حقّ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وأنه قيّم لا عوج له، ولا اختلاف فيه، يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم.وأنه محفوظ بأمر الله إلى أن يأتي وعد الله، لا يخلق ولا يبلى، ولا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، ولا بسورة من مثله.
ومن الإيمان الاعتقادي بالقرآن أن يصدّق بكلّ ما أخبر الله به في كتابه الكريم، وأن يخضع لما أمر الله به، فيعتقد وجوب ما أوجب الله فيه، ويعتقد تحريم ما حرّم الله فيه، وأنّه لا طاعة لما خالفه.
- والإيمان القولي: أن يقول ما يدلّ على إيمانه بالقرآن، وتصديقه بما أنزل الله فيه، ومن ذلك تلاوة القرآن تصديقاً وتعبّداً.
- والإيمان العملي: هو اتّباع هدى القرآن؛ بامتثال ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه في كتابه الكريم.
فمن جمع هذه الثلاث فهو مؤمن بالقرآن؛ 1: الوعد بهداية التوفيق : قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}2: تكفير السيئات وصلاح البال : قال تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)}.3: الفضل العظيم والأجر الكبير : قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)}.
فصل: في الاهتداء بالقرآنالاهتداء بالقرآن و يكون بتصديق أخباره، وعقل أمثاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
فأمّا تصديق الأخبار قال الله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فمن أصول الإيمان التّصديق بكلامِ الله تعالى و بأخباره من دون أيِّ شكّ، فأهلُ الإيمان هم أحقُّ النّاس بهداية الله عز وجل، ومن درس القرآن وتدبَّره لابدَّ أنْ يُوقنَ بأنَّه كلام الله الحقّ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِن خلفه، و هذا التَّصديق يُثمر له اليقين الّذي هو أجلُّ نعمة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله العفو والعافية فإن الناس لم يعطوا بعد اليقين شيئاً خيراً من العافية».فقدّم نعمة اليقينِ على نعمة العافية.
والأصل الثاني: عقل الأمثال: عقلُ الأمثال من أعظم أسباب الاهتداء بالقرآن، إذ إنَّ المثلَ يقرّبُ المراد، والفكرةَ التي يراد لها أن تغزوَ العقلَ والقلبَ بأسلوبٍ كأنَّه محسُوس، و يصوِّر الغائبَ كأنّه مشاهَد، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}، فلم يقل سبحانه يفهمها بل يعقلها، فلن ينتفع بهذه الأمثال إلّا الذي عقل مُراد الله من ضرب المثل و اتَّبع الهدى الذي أرشد الله عز وجل به. قال الله تعالى: {واضرب لهم مثل الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ولكنّه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه}. فالمراد كما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى: (وقد أخبر اللّه سبحانه أنّه ضرب الأمثال لعباده في غير موضعٍ من كتابه، وأمر باستماع أمثاله، ودعا عباده إلى تعقّلها، والتّفكر فيها، والاعتبار بها، وهذا هو المقصود بها). وتنقسم الأمثال إلى قسمين:
الأول : المثل الصريح : هو الظاهر والمصرح به بلفظ "المثل" مثل قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا...} الآية.
الثاني : الكامن: وهو الذي لا يذكر في النص لفظ المثل وإنما يؤخذ من دلالة النص. كقوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
و الغاية من تنوُّع الأمثال بطرقٍ وأساليب عديدة هو تقريبُ الصُّورة وجلب الانتباه، فيتبيَّن للنّاس الحق وتجعله ظاهرًا لا لبس فيه، فلا يبقى لأحدٍ حجَّة في معرفة التوحيد وبطلان الشرك، ومعرفة الخير من الشرّ.فضربُ الأمثالِ وسيلة للتذكُّر، والتذكُّر يؤدِّي إلى المعرفة، والمعرفةُ توصل إلى الله تعالى، فتثمر في قلبه التصديق الحسن والخشية والإنابة والرغبة والرهبة واليقين؛ فتزْكُوا نفسُه و و يصلُح قلبُه.
الأصل الثالث والرابع فعل الأوامر واجتناب النواهي: و هذا الجانب له علاقة وطيدة بما سبق ذكره، فالتصديق بالأخبار و عقل الأمثال يورث صلاح القلب، و بصلاحه يصلح سائر الجسد، فينقاد العبد خاضعا مستسلمًا لطاعة ربه، و طاعتُه لربِّه تُثمِر له مزيد هداية فقد قال تعالى: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ }. لذلك يكثر في القرآن اقتران الإيمان بالعمل الصالح كما قال تعالى: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} الآية.
فصل: فضائل الإيمان بالقرآن :
أنه أعظم هادٍ للمؤمن إلى ربّه جلّ وعلا، ويعرّفه به...أنّه يهدي المؤمن إلى التي هي أقوم في جميع شؤونه ، وهدايات القرآن مقترنة بالرحمة والبشرى؛ كما قال الله تعالى: {وإنّه لهدى ورحمة للمؤمنين}، ؛ وكلما ازداد المؤمن هداية بالقرآن زاد نصيبه من رحمته وبشاراته...وأنه يحمل المؤمن على تلاوة القرآن فتكون تلاوته ذكرٌ لله عز وجل؛ تزيد المؤمن إيمانا وتثبيتاً ...فمن فضائل الإيمان بالقرآن وعظم خطره أنه شرط للانتفاع بتلاوة القرآن؛ وعلى قدر إيمان العبد بالقرآن يكون نصيبه من فضائله...وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)}
سؤال: هل صلاح الباطن شرط في الانتفاع بالقرآن؟جواب: الإيمان شرط في الانتفاع بالقرآن، وكلما كان الإنسان أعظم إيماناً كان انتفاعه أعظم؛ لأننا لو قلنا: إن صلاح الباطن .. إذا كان المراد به مرتبة ما يسمى به المرء صالحاً من الصالحين .. لو اشترط هذا لحُرم من الانتفاع بالقرآن كثير من المسلمين فشرط الانتفاع بالقرآن هو الإيمان، إذا كان الإيمان صحيحاً فإنه بإذن الله تعالى ينتفع بالقرآن ثم كلما ازداد العبد إيمانا كان انتفاعه بالقرآن أعظم.

عباز محمد 15 جمادى الآخرة 1437هـ/24-03-2016م 12:40 PM

عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن
وهذا الدرس في بيان مسائل الاعتقاد المتعلقة بالإيمان بالقرآن، وأصل ذلك هو إثبات صفة الكلام لله تعالى، أصل هذه المسائل هو إثبات صفة الكلام لله تعالى؛ لأن القرآن كلام الله، وينبغي لطالب العلم أن يفقه اعتقاد أهل السنة والجماعة في صفة الكلام لله تعالى وتقرير ذلك بأدلته من الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح.
أدلة من القرآن:
قال الله تعالى: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}، وقال تعالى: {وكلم الله موسى تكليما}، وقال تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه}، وقال تعالى: {يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي}، وقال تعالى: {ومن أصدق من الله قيلا}، وقال تعالى: {وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة}، وقال تعالى: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين}، وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}.هدا أدلة على تكلم الله تعالى بأدلة من القرآن.
وفي السنة أدلّة كثيرة على تكلم الله تعالى:
- منها: حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة» متفق عليه،
- ومنها: قول عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك: « ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى » متفق عليه.
- ومنها: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: « إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان، فيخرون سجدا، ثم يرفعون رؤوسهم فيقولون: {ماذا قال ربكم}؟ فيقال: قال {الحق وهو العلي الكبير} » وهذا الحديث علقه البخاري في صحيحه،
عقيدة أهل السنة والجماعة في إثبات صفة الكلام لله تعالى
، وقد دلت النصوص على أن الله تعالى يتكلّم بحرف وصوت يُسمعه من يشاء، وهو تعالى المتكلّم بالتوراة والإنجيل والقرآن وغير ذلك من كلامه تبارك وتعالى. وكلام الله تعالى صفة من صفاته؛ لم يزل الله متكلماً كيف شاء و إذا شاء وبما شاء .وكلامه تعالى لا يشبه كلام المخلوقين، وكلماته لا يحيط بها أحد من خلقه، ولا تنفد ولا تنقضي ؛كما قال الله تعالى: { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)}.وصفة الكلام –لله تعالى- صفة ذاتية باعتبار نوعها، وصفة فعلية باعتبار آحاد كلامه جلّ وعلا.
ما معنى صفة ذاتية باعتبار نوعها؟ معنى ذلك أن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء وهذا رد على بعض أهل البدع، أي لم يزل متصفاً بها. وصفة فعلية، هذا في آحاد كلامه، يتكلم متى شاء وكيف يشاء، فإذا تكلم فهذه صفة فعلية، وأصل الكلام ونوعه صفة ذاتية.
ما هو قول أهل السنة والجماعة في القرآن؟
حاصل أقوالهم في القرآن مشتمل على الجمل التالية: -واضبطوا هذه الجمل-
1. أن القرآن كلام الله تعالى حقيقة لا كلام غيره.
2. منه بدأ وإليه يعود، ومعنى قولهم: ( منه بدأ ) أي نزل من الله، ومعنى قولهم: (وإليه يعود) إشارة إلى رفعه في آخر الزمان؛ كما صحّ ذلك في الحديث.
3. وأنّ القرآن حروفه ومعانيه من الله تعالى.
4. وأن القرآن ليس بمخلوق؛ لأنه كلام الله.
5. وأن من زعم أنّ القرآن مخلوق فهو كافر.
6. وأنّ جبريل سمع القرآن من الله تعالى، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم نقل إلينا متواتراً.
7. وأنّ هذا الذي بين الدفتين –في المصاحف- هو القرآن محفوظ في السطور وفي الصدور.
8. وأنّ كل حرف منه قد تكلّم الله به حقيقة.
9. وأنه بلسان عربي مبين، تكلم الله به باللسان العربي.
10. وأنّ من ادّعى وجود قرآن غيره فهو كافر بالله تعالى.
فهذا مما أجمع عليه أهل السنة في شأن الإيمان بالقرآن، ومما يجب اعتقاده فيه.
ما سبب تصريح أهل السنة بأن القرآن غير مخلوق؟
لما لا يقولون: القرآن كلام الله ويسكتون؟كان العلماء قبل حدوث فتنة خلق القرآن يقولون: إن القرآن كلام الله؛ فلمّا حدثت فتنة القول بخلق القرآن صرّحوا ببيان أنه غير مخلوق.
ومن توقّف في القرآن هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟ سموه واقفيٌّ شاكّاً في حقيقة القرآن، وهو في حقيقة الأمر لم يصدق أن القرآن كلام الله؛ لأنه يجب الاعتقاد أن القرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته وصفات الله لا تكون مخلوقة.
الأدلة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق :
قال الله تعالى : (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) أنه تعالى فرَّق بين الخلق والأمر ، وهما صفتان من صفاته ، أضافهما إلى نفسه ، أما الخلق ففعله ، وأما الأمر فقوله ، والأصل في المتعاطفين التغاير. وقد أخْبَرنا الله عز وجل أنه يتكلم قال تعالى : ( ومن أصْدَق من الله حديثا ) وقال تعالى : ( ومن أصْدَق من الله قِيلاً ).
عن خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةَ قالت : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ قَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ ) رواه مسلمولو كانت كلماته مخلوقة لكانت الاستعاذة بها شركا ؛ لأنها استعاذة بمخلوق
يقول عمرو بن في دينار - من خيار أئمة التابعين -: " أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن دونهم منذ سبعين سنة ، يقولون : الله الخالق ، وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله ، منه خرج ، وإليه يعود "
أقوال الفرق المخالفة لأهل السنة في القرآن
مسألة الكلام والقرآن من أكبر المسائل التي حصل فيها النزاع بين الفرق؛ فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يتسلح بالأدلة الصحيحة ويعرف حجج أهل السنة في تقرير مسائل الاعتقاد، ويعرف أصول أقوال المخالفين وحجج أهل السنة في الرد عليهم؛ حتى يكون على بينة ويقين في بحثه لهذه المسائل ولا يغتر بشبهات المخالفين. حتى إذا ما قرأ في تفاسير بعض المنتسبين إلى تلك الفرق كان على علم بما قالوه في هذه المسائل، وما يترتّب عليها.
وقد خالف أهلَ السنة في هذا الباب –في الاعتقاد في القرآن- طوائف من أهل البدع منهم:
فأمّا الرافضة فهم على طوائف كثيرة، فمنهم من يقول بتحريف القرآن، وهذا مستفيض عن الاثني عشرية (الإمامية)، ومنهم من يزعم أنّه ناقص، ومنهم من ادَّعى أن الشائع بين المسلمين ليس هو كلَّ القرآن وأن ما لدى الناس منه قليل بالنسبة لما جمعه عليّ، وأنّ للقرآن ظاهراً يعلمه الناس، وباطناً لا يعلمه إلا أئمتهم. وهذه كلها أقوال كفرية باطلة .
وأمّا الجهمية الأوائل –وهم أتباع جهم بن صفوان- ؛ فإنهم قالوا بخلق القرآن لإنكارهم صفة الكلام لله جلّ وعلا، وقد أجمع السلف على تكفيرهم.
وأمّا المعتزلة : فزعموا أنّ كلام الله تعالى مخلوق منفصل عنه، وأنه إذا شاء أن يتكلّم خلق كلاماً في بعض الأجسام يُسمعه من يشاء، وهذا الاعتقاد في كلام الله تعالى قادهم إلى القول بأنّ القرآن مخلوق.والسبب الذي دعاهم إلى هذا القول هو إنكارهم للصفات.
وأما الكلابية والماتريدية والأشاعرة إن القرآن غير مخلوق، وليس هو كلام الله حقيقة، وإنما هو عبارة عبّر بها جبريل عن المعنى النفسي القائم بالله تعالى فزعموا يتكلَّمْ بِهِ حقيقةً وأنه قديم بقدمه تعالى وأهل السنة مجمعون على أن الله تعالى تكلّم بالقرآن وأنّ جبريل عليه السلام سمعه من ربّه جلّ وعلا وأدّاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً يعيه النبيّ صلى الله عليه وسلم
وأوّل من أحدث هذا القول هو عبد الله بن سعيد بن كُلاب البصري (ت: بعد 240هـ)، وكان في عصر الإمام أحمد؛ وتبعه عليه الآخرون، من ذلك أنّ ابن كلاب قال: الحروف التي تُتلى –الحروف التي يتلوها القراء من القرآن- هي حكاية عن كلام الله وليست من كلام الله؛ لأن الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم، والله يمتنع أن يقوم به حروف وأصوات.
لكن ابن كُلاب أخطأ عندما لم يكن ينطلق في ردوده من الكتاب والسنة، وإنما من قوة عقله وتفكيره، فقوة الذكاء والعقل والتفكير والجدل لا تكفي وحدها أبداً، فانطلق يرد عَلَى هَؤُلاءِ ويجادلهم ويفحمهم، فلما رأى الأمة منقسمة بشأن القول بخلق القُرْآن إِلَى هذين القولين، فكّر فخرج بقول جديد ثالث، وهو قول باطل مبتدع، فقَالَ: نقول إن كلام الله عَلَى نوعين: كلام النفس وحديث النفس ليس فيه حروف ولا أصوات وأن جبريل يحكي ما نفس الله تعالى ويسمعه النبي صلى الله عليه وسلم ،. ومعنى قوله: خرجنا وسطاً لا مع أَحْمد بن حَنْبَل، ولا مع الذين عذبوا أَحْمد بن حَنْبَل أي المعتزلة ، وهذا قول جديد. وقَالَ: إن هذا القول أفضل وأحسن لكي يجمع الناس،
وأتى أبو الحسن الأشعري بعده وكان قد سلك طريقة ابن كُلاب في الرد على المعتزلة وأعجبته هذه الطريقة فاستدرك على ابن كُلاب –وافقه في قوله ثم استدرك عليه استدراكا يسيرا قال: الحكاية تقتضي مماثلة المحكي، وليست الحروف مثل المعنى، بل هي عبارة عن المعنى ودالة عليه؛ فلذلك ذهب إلى أنّ القرآن هو عبارة عن كلام الله، وهذا المعنى إذا أطلقه الأشاعرة فهم يريدون به أن القرآن ليس هو كلام الله عز وجل ولكنه عبارة عن كلام الله عبر به جبريل عن المعنى النفسي القائم بالله جل وعلا، وهذا ضلال مبين في مسألة صفات الكلام لله عز وجل.
ومن الأشاعرة من يطلق القول بأن القرآن كلام الله لكن يقول: إن هذا على المجاز وليس على الحقيقة، لذلك ذهب الأشاعرة إلى أن وصف القرآن بأنه كلام الله مجاز لا حقيقة وإنما هو عبارة عن كلام الله، الحكاية غير العبارة؛ لأن الحكاية فيها مماثلة للمحكي، والعبارة هو تعبير عن المعنى بألفاظ وحروف.
والذي سبق هو الفرق بين الأشاعرة والكلابية.

عباز محمد 15 جمادى الآخرة 1437هـ/24-03-2016م 12:49 PM

فتنة القول بخلق القرآن
نشأة القول بخلق القرآن:
أول من ابتدع القول هو: الجعد بن درهم، وقد قتله أمير العراق خالد القسري سنة 124 هـ- ثم تبنى هذا القول مع أقوال كفرية أخرى الجهم بن صفوان، وقد أوتي ذكاء ولساناً بارعاً ولم يؤت علما، ولما كان كاتبا لبعض الأمراء انتشرت مقالاته، وانتهى به الأمر إلى تكفير العلماء له وقتله على يد الأمير سلم بن الأحوز المازني سنة 128 هـ
- ظهر بعدهما بمدة بشر بن غياث المريسي، وكان قد اشتغل بالفقه أول أمره، ثم افتتن بعلم الكلام حتى قال بخلق القرآن، ثم دعا إليه علانية بعد موت هارون الرشيد سنة 193 هـ
نشأته في خلافة المأمون بن الرشيد
- لما آلت الخلافة إلى المأمون سنة 198 هـ تقرب إليه رؤوس المعتزلة، فصاروا من قضاته وكتابه وجلسائه، فزينوا له القول بخلق القرآن، فأراد إظهاره ولكن منعه مكان يزيد بن هارون، وخشية إيقاع الفتنة بين الناس.
- مات يزيد بن هارون سنة 206هـ، واستمر تردد المأمون في إظهار القول حتى تجاسرعليه سنة 212هـ، فقرّب من يقول به، وأقصى من يأباه دون أن يجبر أحدا على القول به أو يمتحنه.
بداية المحنة

وفي سنة 218هـ عزم المأمون على امتحان العلماء في القول بخلق القرآن؛ فكتب إلى الولاة بامتحانهم، ومن أبى هُدّد بالعزل أو الحبس أو القتل.وكان أوّلَ من امتحن من العلماء عفّان بن مسلم الصفّار شيخ الإمام أحمد، وكان شيخاً كبيراً في الرابعة والثمانين من عمره لمّا امتحن، وكان رجلاً فقيراً ، و هددوه بقطع النفقة ولكنه أبى، فثبت و لم يجب
- ثمّ أمر المأمون بإحضار جماعة من أهل الحديث ليمتحنهم منهم: يحيى بن معين، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، وإسماعيل الجوزي، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم عبد الرحمن بن يونس المستلمي، وابن أبي مسعود، فهابوه وخافوا معارضته؛ فأجابوا وأُطلقوا، ولو ثبتوا ما اجترأ على غيرهم كما ذكر ابن حنبل رحمه الله.
- أُمر والي دمشق بامتحان محدثيها: هشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، وعبد الله بن ذكوان، وأحمد بن أبي الحواري؛ فامتحنهم امتحانا ليس بالشديد -لإجلاله لهم -، فأجابوا خلا أحمد بن أبي الحواري، فما زال الوالي يدفعه إلى القول ولو متأولا، حتى دفعه إلى القول بأن ما في القرآن من الجبال والشجر مخلوق، فقاله فأطلق.
- وامتحن المأمون أبا مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغسّاني قاضي دمشق وشيخ الإمام أحمد، فأبى أن يجيب؛ فدعا المأمون بالنطع والسيف؛ فلما رأى ذلك أجاب مترخّصاً بعذر الإكراه، ثم حُبس حتى لا يقول أنه أجاب مترخصا، فما لبث يسيرا حتى مات.
- وممّن حُبس في هذه المحنة وطال حبسه المحدّث الفقيه: الحارث بن مسكين المصري؛ شيخ أبي داوود والنسائي، فلم يزل محبوسا ببغداد إلى أن ولي المتوكل فأطلقه.
محنة الإمام أحمد بن حنبل

في خلافة المأمون
- أمر المأمون أمير بغداد بامتحان أهل الحديث فأجابوا جميعاً مصانعة وترخّصاً بالإكراه غير أربعة: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح العجلي، وعبيد الله القواريري، والحسن بن حماد الحضرمي الملقّب بِسَجّادة، ثم أجاب بعد ذلك القواريري وسجادة بسبب الحبس والإكراه.
حُبس أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح أياماً؛ قبل أن يأمر المأمون بحملهما إليه مقيدين.وكان الخليفة قد سل سيفاً لم يسل قبل ذلك، وأقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم يجبه أحمد إلى القول بخلق القرآن ليقتلنه بذلك السيف، فدعا الإمام أحمد ربه أن يكفيه مؤنته، فمات في آخر تلك الليلة التي دعا فيها أحمد قبل أن يصل إليه.
المحنة في زمن المعتصم بن هارون الرشيد
وتولّى الخلافة بعد المأمون أخوه المعتصم، وكان رجلاً لا بصر له بالعلم، وإنما هو قائد جيش وصاحب حروب، لكنّه قلّد أخاه المأمون في هذه المسألة، وقرّب المعتزلة وولّى أحمد بن أبي دؤاد منصب قاضي القضاة؛ فكان من أشدّ المعتزلة أذيّة لأهل السنة في القول بالخلق القرآن والامتحان به.
ثم إن ابن أبي دؤاد أمرَ بنقل الإمام أحمد ومحمّد بن نوح مقيّدين إلى بغداد؛ ليحبسا فيها حتى ينظر في أمرهما، وكان الإمام أحمد ومحمد بن نوح قد مرضا تلك الأيام مرضاً شديداً، ومات محمد بن نوح في طريق العودة.ونقّل الإمام أحمد في محابس متعددة إلى أن استقرّ حبسه في محبس العامّة في بغداد؛وما كان يصلي فيها إلا مقيدا.
المناظرة الكبرى في خلق القرآن

لما طال حبس ابن حنبل رحمه الله، سعى عمه إسحاق إلى الأمراء وقادة الجيوش ليشفعهم فيه، فلما أيس منهم، طلب من نائب بغداد إسحاق بن إبراهيم أن يناظره العلماء، وأرادها وسيلة لإخراجه.
أُحضر الإمام أحمد من سجنه، إلى دار إسحاق بن إبراهيم، فناظره من المعتزلة: أبو شعيب الحجام ومحمد بن رباح؛ فإذا ناظراه بعلم الكلام لم يجبهما، وإذا استدلا عليه بشيء من الكتاب والسنّة ردّ عليهما خطأهما في الاستدلال، فاحتج عليهما بأن علم الله غير مخلوق، وكفّر الحجام لما نفى هذا القول.
أُحضر إلى مجلس الخليفة في صباح اليوم التالي- وكان أول لقاء له به - واجتمع القضاة وأهل الكلام من المعتزلة وزعيمهم ابن أبي دؤاد، وكانوا نحو خمسين، وحضر المجلس بعض الأمراء وقادة الجيوش، فبين رحمه الله للخليفة أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كانت للتوحيد وقد شهد بها
واستمرت المناظرات ثلاثة أيام، والإمام أحمد ثابت على الحق، يقولون: ما تقول في القرآن؟ ،فيقول: كلام الله غير مخلوق ،قال الله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله . واحتج عليهم الإمام أحمد بقول الله تعالى: {ألا له الخلق والأمر}، وأن الله فرّق بين الخلق والأمر، والقرآن من أمر الله تعالى كما قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} فإن الأمر إنما يكون عن طريق الكلام، فإذا صار الكلام مخلوقاً فالكل مخلوق وليس هناك خلق وأمر بل ليس هناك إلا خلق ولكن مضى بهم العناد فأصروا على ما هم عليه، وهدده بالقتل ، وأمر بإعادة الإمام أحمد إلى السجن مرة أخرى .
ومضت الأيام ،وأخرج الإمام في رمضان وهو صائم، فجعلوا والعياذ بالله يضربونه ،وأتى المعتصم بجلادين كلما ضرب أحدهم الإمام أحمد سوطين ،تأخر وتقدم الآخر ،والمعتصم يحرضهم على التشديد في الضرب،وصاروا يضربونه حتى يغمى عليه ،ثم أخرجوه، ونقلوه إلى بيته ،وهو لا يقدر على السير من شدة ما نزل به .. فلما برئت جراحه ،خرج إلى المسجد ،وصار يدرس الناس ،ويملي عليهم الحديث، وهدأت الفتنة .
قال عليّ بن المديني: (إنّ الله عزّ وجلّ أعزّ هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردّة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة). ولم تنته المحنة بهذا عن المسلمين، لكنّهم كفّوا عن امتحان الإمام أحمد، فلم يعرض له المعتصم بقيّة حياته حتى مات سنة 226هـ.
ولم يزل الإمام أحمد بعدَ أن برئ من الضرب يحضر الجمعة والجماعة، ويحدّث ويفتي، حتى مات المعتصم.ثم إنّ الإمام أحمد قد عفا عن المعتصم، وجعله في حلّ، وعفا عن كلّ من آذاه في تلك المحنة إلا من كان صاحب بدعة.
محنة أهل السنة في مدّة حبس الإمام أحمد
في الكوفة: امتحن واليها أبا نعيم الفضل بن دكين - وكان شيخاً قد قارب التسعين- وجماعة من أهل الحديث منهم أحمد بن يونس، وابن أبي حنيفة، فلم يقل أبو نعيم بخلق القرآن فطُعن في عنقه، وأصابه كسر في صدره، فمات قبل خروج الإمام من سجنه.
في البصرة: اُمتحن العباس بن عبد العظيم العنبري، وعلي بن المديني؛ فلم يجيبا، فضُرب العباس بالسوط حتى أجاب، فلما رأى علي ما نزل به من الضرب أجاب مثله، فكان الإمام أحمد يعذر العباس ولا يعذر عليّا.
المحنة في عهد الواثق بن المعتصم
ثمّ ولي بعد المعتصم ابنه الواثق؛ فنشط في المحنة بتدبير من قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد؛ وأظهر القضاةُ القول بخلق القرآن؛ فكان الإمام أحمد يشهد الجمعة، ويعيد الصلاة إذا رجع، ويقول: تؤتى الجمعة لفضلها، والصلاة تعاد خلف من قال بهذه المقالة.
وفي خلافة الواثق ورد كتاب ابن أبي دؤاد إلى والي مصر؛ يأمره فيه بامتحان أبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطي؛ عالم مصر ومفتيها، وتلميذ الشافعي وأعلم أصحابه، وخليفته في مجلسه بعد موته. فاستدعاه والي مصر؛ فامتحنه فأبى أن يجيب وترك في السجن إلى أن مات في قيوده سنة 231هـ.
وفي زمان الواثق حدثت فتنة أخرى بسبب تشدّده في الامتحان بخلق القرآن، وسجنه لكثير من العلماء والأئمة والمؤذنين الذين لا يجيبون إلى القول بخلق القرآن، وهي أنّ نفراً من فقهاء بغداد ضاقوا ذرعاً بما جرى من المحنة فأتوا الإمام أحمد وقالوا: نحن لا نرضى بإمارته.واحتجّوا للخروج عليه بحجج؛ فنهاهم الإمام أحمد عمّا أرادوه و حثهم على أن ينكروا بقلوبهم و أن يصبروا و أن يحذروا من الدماء.فمضى القوم، ولم ينالوا ما أرادوا، وأُخد بعضهم فحبس، ومات في الحبس.
ثمّ ورد كتاب من الأمير إسحاق بن إبراهيم إلى الإمام أحمد يبلغه ما أمره به الخليفة الواثق بأن يترك البلاد.فاختفى الإمام أحمد ثلاثة أيام في دار صاحبه أبي إسحاق إبراهيم بن هانئ النيسابوري، ثم تنقل في أماكن متخفياً ثم رجع إلى منزله واحتبس فيه، وامتنع عن التحديث، ومجالسة الناس.
ولم يزل البلاء بهذه المحنة يشتدّ سنة بعد سنة حتّى كانت سنة 231هـ من أشدّ تلك السنوات على أهل السنة:ففيها: فادى الخليفة الواثق من طاغية الروم أربعة آلاف وستمائة أسير من المسلمين؛ فتفضَّل أحمدُ بن أبي دؤاد بوضع شرط لمن يفادَون؛ فقال: (من قال من الأسارى: القرآن مخلوق، خلّصوه وأعطوه دينارين، ومن امتنع دعوه في الأسر!!).وفي تلك السنة ورد كتاب الخليفة الواثق إلى أمير البصرة يأمره أن يمتحن الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن؛ فسجن جماعة منهم.
مقتل أحمد بن نصر الخزاعي
وفي آخر شعبان من تلك السنة أُحضر أحمد بن نصر الخزاعي إلى مجلس الواثق؛ وكان شيخا ، فأُوقف مقيّداَ؛ وامتحنه الواثق بنفسه، وضربت عنقه .ثم عُلّق رأسه رحمه الله في بغداد، وصُلب جسده، وبقي مصلوباً ستّ سنين ؛ ثمّ جمع رأسه وجسده ودفع إلى أهله فدفنوه، وذُكر عند الإمام أحمد فقال: (رحمه الله ما كان أسخاه، لقد جاد بنفسه).
وممن أوذي في هذه المحنة من المحدّثين: فضل بن نوح الأنماطي؛ فإنّه ضُرب، ثمّ فرّقوا بينه وبين امرأته.
وامتحن الواثق في آخر زمانه شيخا من أهل الشام من بلدة يُقال لها أذنة، قيل: هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمّد بن إسحاق الأذرميّ، فرق له لما رأى حسن شيبته، وأمره أن يناظر ابن أبي دؤاد، فحاجه في ثلاثة أمور:
• أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كتم شيئا من أمر الله، ولا دعا الأمة إلى هذه المقالة، فكيف يكون القول به واجبا؟!
• أن الله تعالى قال في كتابه: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}، فكيف يدعي هو نقصانه بوجوب القول بخلق القرآن.
• أن هذه المقالة لم يدع بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدون، وعليه الاقتداء بهم. [هذا معنى ما قال]
- ثم أمر الواثق بقطع قيود الشيخ، وسقط من عينه ابن أبي دؤاد، ولم يمتحن بعدها أحداً..وتوفّي الواثق لستّ بقين من ذي الحجّة سنة 232هـ ، وبويع بعده أخوه جعفر المتوكّل، وكان شابّا في السادسة والعشرين من عمره لمّا تولّى الخلافة، وكان كارهاً لأمر المحنة.
رفع المحنة

وفي سنة 233هـ رفعت المحنة رفعاً تامّا ومُنع القضاة من امتحان الناس، وأظهر المتوكّل السنة، وأكرم المحدّثين، وأشهرت مجالس الحديث، وروى المحدّثون أحاديث الصفات، وانكشفت الغمّة عن أهل السنة بفضل الله ورحمته.
لكن بقي في السجون جماعة ممن حبسوا في تلك المحنة تأخّر إطلاقهم إلى سنة 237هـ إذ صدر أمر الخليفة المتوكّل بإطلاق جميع من في السجون ممن امتنع عن القول بخلق القرآن في أيام أبيه، وأمر بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي، فدفعت إلى أقاربه فدفنت.
ولعلّ من أسباب تأخّر إطلاقهم أنّ المتوكل لم يعزل ابن أبي دؤاد بعد أمره برفع المحنة، ولمّا فُلج سنة 233هـ ؛ ولّى مكانه ابنه محمّد؛ وبقي في منصبه إلى سنة 237هـ؛ فارتكب ما أغضب الخليفةَ فعزله وصادر منه أموالاً طائلة وأمر بحبسه.
وفي عام 233 ه أُصيب أحمد بن أبي دؤاد بالفالج، وقيل: إنه قد دعا على نفسه بذلك إن كان القرآن غير مخلوق؛ فحبس في جسده؛ لا يستطيع الحركة سبع سنين؛ ولم يزل أمره في سفال، وغضب عليه المتوكّل وصادر منه أموالاً طائلة، وتوالت عليه النكبات حتى هلك في أوّل عام 240هـ بعد موت ابنه محمّد بعشرين يوماً.

عباز محمد 15 جمادى الآخرة 1437هـ/24-03-2016م 12:51 PM

فتنة الوقف في القرآن

مقدّمة في آثار فتنة القول بخلق القرآن:
- كان بدء المحنة في سنة 218ه، ورفعت في عام 233ه، لكن رفع المحنة لم يكن رفعًا للفتنة.
- إذ بقي من المعتزلة قضاة ومفتون وخطباء ولهم مجالس وحلقات، وكتب ومصنفات يبثون فيها شبهاتهم.
- وكانت الردود بين أهل السنة والمعتزلة قائمة على أشدّها، وكانت ردود أئمة السنة على المعتزلة قائمة على الكتاب والسنة، فلم يتعاطوا علم الكلام في الردّ عليهم.
- ونشأ أقوام أرادوا الردّ على المعتزلة والانتصار لأهل السنّة بالحجج المنطقية والطرق الكلاميّة، فخاضوا فيما نهاهم عنه أهل العلم، وخرجوا بأقوال محدثة مخالفة لمنهج أهل السنة، ونتج عن ذلك فتنا عظيمة؛ من أهمها: فتنة اللفظ، وفتنة الوقف.
فتنة الوقف في القرآن
الواقفة هم الذين يقولون: القرآن كلام الله ويقفون، فلا يقولون: مخلوق ولا غير مخلوق. ونبغ القول بالوقف في زمن الإمام أحمد بن حنبل.
وهم على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: طائفة من الجهمية يتستّرون بالوقف، وهم في حقيقة أمرهم يقولون بخلق القرآن، لكنّهم في ظاهر قولهم يقولون بالوقف ويدعون إلى القول به، وينكرون على من يقول: القرآن غير مخلوق.
وقد نبغ القول بالوقف في زمن الإمام أحمد بن حنبل، وكان زعيم هذه الطائفة في بغداد محمد بن شجاع الثلجي، وهو جهميّ متكلّم من أصحاب بشر بن غياث المريسي.
وأهل هذا الصنف جهمية مخادعون؛ وفتنتهم على العامّة أشدّ من فتنة الجهمية الذين يصرّحون بالقول بخلق القرآن؛ لأنّهم يستدرجونهم بذلك؛ ثم يشكّكونهم في كلام الله؛ فلا يدرون أمخلوق هو أم غير مخلوق.ولذلك اشتدّ إنكار الإمام أحمد على هؤلاء الواقفة وكثرت الروايات عنه في تكفيرهم والتحذير منهم.
ذكر عبد الله بن الإمام أحمد أنّ أباه سئل مرّة عن الواقفة؛ فقال: «صنفٌ من الجهميّة استتروا بالوقف» وقال أيضا: « هؤلاء شرٌّ من الجهميّة، إنّما يريدون رأي جهمٍ ».
وعلامة هؤلاء أنّهم يتعاطون علم الكلام ويجادلون؛ فمن كان متكلماً مجادلاً ويقول بالوقف في القرآن فهو جهمي. ولذلك لمّا سُئل الإمام أحمد عن الواقفة قال: «من كان يخاصم ويُعرف بالكلام فهو جهمي »
-ومن الواقفة في البصرة: أحمد بن المعذّل العبدي، وكان من كبار فقهاء البصرة في زمانه، ولم تكن له عناية بالحديث، واشتغل بشيء من علم الكلام فأتي من هذا الباب، وهو الذي فتق القول بالوقف في البصرة، وفتن به الناس، ومنهم أهل الحديث.
الصنف الثاني: الذين يقفون شكّاً وتردداً؛ فلا يقولون هو مخلوق ولا غير مخلوق لشكّهم في ذلك.
حكمهم: من كان منهم جاهلًا، أو كانت عنده شبهة، فهذا يبيّن له الحقّ ويعلّم، ويجب عليه الإيمان والتصديق بأن القرآن كلام الله تعالى وهو صفة من صفاته، وصفاته تعالى غير مخلوقة.فإن قبل واتبع الحقّ قبل منه، وإن أبى واستكبر أو بقي شاكّا مرتابا في كلام الله تعالى بعد إقامة الحجة عليه؛ حُكم بكفره.
- قال الإمام أحمد حين سئل عن اللفظية والواقفة: (من كان منهم جاهلًا ليس بعالم، فليسأل وليتعلّم.)- فيفرّق بين الواقف الجهمي والواقف العاميّ.
الصنف الثالث: طائفة من أهل الحديث؛ قالوا بالوقف، وأخطؤوا في ذلك؛ ومنهم من دعا إلى القول بالوقف.
وهؤلاء ينكرون على من يقول: إن القرآن مخلوق، ولا يعتقدون أن كلام الله مخلوق. ووصفوا بالوقف: لأنهم قالوا: إن القول بخلق القرآن محدث، فنحن لا نقول إنه مخلوق، ولا نقول إنه غير مخلوق، بل نبقى على ما كان عليه السلف، فنقول القرآن كلام الله ونسكت. فهم ظنّوا أن الكلام في هذه المسألة كله من الخوض المنهي عنه في القرآن، وليس الأمر كما ظنّوا.
- هل لهم رخصة في أن يقول الرجل: القرآن كلام الله ثم يسكت؟ سئل الإمام أحمد عن ذلك، فقال: (ولم يسكت، لولا ما وقع فيه الناس كان يسعه السكوت، ولكن حيث تكلّموا فيما تكلموا، لأي شيء لا يتكلمون). حكمهم: أنكر عليهم كبار الأئمة وهجروهم؛ لأنهم يوطئون الطريق لأصحاب الأهواء، ويشككون العامّة في كلام الله. وذلك أنه إذا أثيرت الشبهة وعمّت الفتنة، وجب على العلماء التصريح بالبيان الذي يزيل الشبهة ويكشف اللبس.
وممن نُسب إليه القول بالوقف من أهل الحديث: مصعب بن عبد الله الزبيري، وإسحاق بن أبي إسرائيل المروزي، وبشر بن الوليد الكندي، وعلي بن الجعد الجوهري، ويعقوب بن شيبة السدوسي.
وكان هذا اجتهاد منهم أخطؤوا فيه رحمهم الله؛ فإنّ كلام الله تعالى صفة من صفاته، وصفات الله ليست مخلوقة، ولو كانت المسألة لم يُتكلّم فيها بالباطل ويُمتحن الناسُ فيها لكان يسعهم السكوت؛ فأمّا مع ما حصل من الفتنة وحاجة الناس إلى البيان، وكثرة تلبيس الجهمية؛ فلا بدّ من التصريح بردّ باطلهم، وأن لا يترك الناس في عماية؛ فيكونوا أقرب إلى قبول الأقوال المحدثة.قال الحسين بن فهم: (كان مصعب إذا سئل عن القرآن يقف، ويعيب من لا يقف).
وأما عليّ بن الجعد الجوهري (ت:230هـ) فقد نُسب إليه الوقف، وما هو أشدّ من الوقف، وهو أنه لم ينكر على من يقول بخلق القرآن، وهو في نفسه لا يقول بخلق القرآن.
وأمّا بشر بن الوليد الكندي (ت:238هـ)؛ كان ممن ثبت في زمن المحنة، ولم يجب حتى عُرض على السيف، وكان قاضيًا وعزل بسبب الفتنة، ولكن لما كبر تكلّم بالوقف، وتركه أهل الحديث.
وأمّا يعقوب بن شيبة السدوسي (ت:262هـ)؛ فمتأخّر عنهم؛ وهو صاحب المسند الكبير، وله مصنفات كثيرة، لكنَّه دخل في شيء من علم الكلام بسبب تتلمذه على أحمد بن المعذَّل العبدي، وعنه أخذ الوقف؛ فاشتدّ إنكار أهل الحديث عليه.
والمقصود أنّ من قال بالوقف من المحدّثين لشبهة عرضت له؛ كان يحذّرُ منه ويُهجرُ حتى يرجعَ عن قوله.

عباز محمد 15 جمادى الآخرة 1437هـ/24-03-2016م 01:06 PM

فتنة اللفظية
وظهرت فتنة اللفظية فكانت فتنتها أعظم وأطول مدى من فتنة الوقف؛ فإنّها استمرّت قروناً من الزمان وجرى بسببها مِحَن يطول وصفها، وسنذكر بعضها في خلاصة موجزة بإذن الله تعالى.
وكان أوّل من أشعل فتنة اللفظية: حسين بن علي الكرابيسي وذلك في سنة 234ه ، وكان رجلاً قد أوتي سعة في العلم ؛ لكنّه وقع في سقطات مردية، تدلّ على ضعف إدراكه للمقاصد الشرعية، وضعف السعي في تحقيق المصالح ودرء المفاسد؛ والعلم إذا لم يصحبه عقل ورشد كان وبالاً على صاحبه .والأقرب أنّ نشأة فتنة اللفظية كانت في زمان الخليفة الواثق بن المعتصم
ومن ذلك أنّ الكرابيسيّ ألّف كتاباً حطّ فيه على بعض الصحابة وزعم أنّ ابن الزبير من الخوارج، وأدرج فيه ما يقوّي به جانب الرافضة ببعض متشابه المرويات؛ وحطّ على بعض التابعين كسليمان الأعمش وغيره، وانتصر للحسن بن صالح بن حيّ وكان يرى السيف.فعرض كتابه على الإمام أحمد وهو لا يدري لمن هو؛ فاستبشع بعض ما فيه، فحذّر منه الإمام أحمد، ونهى عن الإخذ عنه؛ فبلغ ذلك الكرابيسيَّ فغضب، فقال مقالته: لفظي بالقرآن مخلوق. ولقد بلغ بالإمام أحمد أن كفره.
وهذه الكلمة التي قال بها الكرابيسي أثارت فتنة عظيمة على الأمّة؛ وكان الناس بحاجة إلى بيان الحقّ ورفع اللبس، لا زيادة التلبيس والتوهيم، وإثارة فتنة كانوا في عافية منها.
وقبل بيان تلبيس الكرابيسي ؛ يجب أن نفرّق بين أمرين عظيمين:
الأمر الأول: أن القرآن كلام الله تعالى وهو غير مخلوق، فالقرآن يتلوه القارئ، ويكتبه الكاتب في المصحف، ولا يخرج بذلك عن كونه كلام الله، لأن الكلام يُنسب إلى من قاله ابتداء. فإذا سمعت قارئاً يقرأ: (قل هو الله أحد). وسئلت كلام من هذا ؟ قلت: هو كلام الله. وإذا سمعت من يقرأ: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكلّ امرئ ما نوى).عرفت أنّ هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لشهرته عنه، وأنّ الذي قرأ هذا لم يُنشئ هذا الكلام من تلقاء نفسه. وإذا سمعت من يُنشد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. عرفت أنّ هذا من قصيدة لبيد بن ربيعة لشهرتها عنه.
والمقصود أن القرآن كلام الله تعالى، وقارئ القرآن إنما يقرأ كلام الله تعالى، فهذا الكلام يُنسب إلى الله تعالى لا إلى القارئ.وكلام الله تعالى صفة من صفاته، وصفات الله تعالى غير مخلوقة. وهذه المسألة خالف فيها المعتزلة والجهمية وزعموا أنَّ كلام الله مخلوق.
الأمر الثاني: أنَّ أفعال العباد مخلوقة، فكما أنَّ ذواتهم مخلوقة؛ فكل ما يصدر منهم من قول أو فعل فهو مخلوق؛ كما هو معلوم متقرر من أدلّة كثيرة؛ منها قول الله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}.
وهذه المسألة خالف فيها القدرية؛ فكفَّرهم العلماء؛ لأنَّ من زعم أن الله لم يخلق أفعال العباد؛ وأن العباد يخلقون أفعال أنفسهم فقد أثبت خالقاً غير الله تعالى، ولذلك سمّيت القدرية مجوس هذه الأمة.
وكلام السلف في تكفير من لم يقل بخلق أفعال العباد معروف مشتهر
فجاءت مسألة اللفظ للتلبيس بين الأمرين؛ فقول القائل: لفظي بالقرآن مخلوق؛ قد يريد به ملفوظه وهو كلام الله الذي تلفّظ به فيكون موافقاً للجهمية الذين يقولون بخلق القرآن.وقد يريد به فعلَ العبد الذي هو القراءة والتلفّظ بالقرآن .مسألة اللفظ من المسائل الغامضة لتوقفها على مراد القائل، ودخول التأول فيها.
لأن كلمة لفظي بالقرآن تطلق ويراد بها:
- المصدر: فيكون المعنى خاص بما فعل القارئ وصوته ،وهذا مخلوق .وعليه يكون معنى لفظي بالقرآن مخلوق: صحيح.
-وتطلق ويراد بها المفعول: فيكون المعنى حاصل للكلام الملفوظ، هذا ليس بمخلوق؛ لأنه كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته، وصفاته غير مخلوقة.وعليه يكون معنى لفظي بالقرآن مخلوق: باطل والقول به كفر.
ولذلك فرحت طائفة من الجهمية بهذه المقالة؛ فقالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، ومنهم من قال: القرآن بألفاظنا مخلوق. وهم يريدون أنَّ القرآن مخلوق؛ لكن القول باللفظ أخفّ وطأة وأقرب إلى قبول العامّة من التصريح بقولهم: إن القرآن مخلوق. فتستّروا باللفظ؛ كما تستّرت طائفة منهم بالوقف.
ولذلك قال الإمام أحمد: (افترقت الجهمية على ثلاث فرق: فرقة قالوا: القرآن مخلوق. هم جمهور المعتزلة الذين قالوا بخلق القرآن، وأظهروا هذا القول وأشهروه وفرقة قالوا :كلام الله، وتسكت. هم الذين سُمّوا بالواقفة.وفرقة قالوا: لفظنا بالقرآن مخلوق). هم اللفظية.
وجرت محنة عظيمة للإمام البخاري بسبب هذه المسألة، ووقعت فتنة بين أصحاب الإمام أحمد بعد وفاته بسب هذه المسألة، ودخل الغلط على بعض أهل الحديث بسبب هذه المسألة. وقام الإمام أحمد والإمام البخاري في هذه المسألة بما هو الحقّ فيها، وإن دقّت عنه أفهام بعض الناس، وافتتن بها بعضهم.
بيان الإمام أحمد والبخاري للحقّ في فتنة اللفظ بالقرآن.
ووردت عن الإمام أحمد روايات أخرى تفيد بأنَّ اللفظية جهمية، وهي محمولة على من قال بخلق القرآن وتستَّر باللفظ.
وقال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد: (حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف المسطور المكتوب الموعى في القلوب فهو كلام الله ليس بمخلوق، قال الله عز وجل: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم})
اختلاف المواقف في مسألة اللفظ:
مسألة اللفظ من المسائل التي كان لها ذيوع وانتشار كبير في عصر الإمام أحمد وبعده بقرون، وقد اختلفت مواقف الناس اختلافاً كثيراً كلٌّ يفهمها بفهم ويتأوّلها بتأوّل ويبني موقفه على ما فهم وتأوّل:
الموقف الأول: موقف الجهمية المتستّرة باللفظ، وهم الذين يقولون بخلق القرآن، ويتستَّرون باللفظ، وهم نظير الجهمية المتسترة بالوقف. وهؤلاء فرحوا بهذه المقالة؛ لأنها أخف شناعة عليهم عند العامّة، ولأنّها أقرب إلى قبول الناس لها؛ فإذا قبلوها كانوا أقرب إلى قبول التصريح بخلق القرآن.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد سمعت أبي يقول: « من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، يريد به القرآن، فهو كافر ».
وكان الإمام أحمد يحمل اللفظية في أوَّل الأمر على هذا المحمل؛ لأنَّ أهل السنَّة ليسوا بحاجة إلى التلبيس؛ فهم يصرّحون بأنّ القرآن غير مخلوق، وأنَّ أفعال العباد مخلوقة.
الموقف الثاني: موقف طائفة ممن خاض في علم الكلام وتأثّر ببعض قول الجهمية وإن كان كلامهم غيرَ جارٍ على أصول الجهمية، وعلى رأس هؤلاء رجل من أهل الشام يقال له: الشرّاك؛ قال: إن القرآن كلام الله؛ فإذا تلفظنا به صار مخلوقاً، وهذا يعود إلى صريح قول الجهمية عند التحقيق.
الموقف الثالث: موقف داوود بن عليّ بن خلف الأصبهاني الظاهري (ت:270هـ) ، وكان مولعاً بكتب الشافعيّ في أوّل عمره؛ معتنيا بجمع الأقوال ومعرفة الخلاف حتى حصّل علماً كثيراً، ثم ردّ القياس وادّعى الاستغناء عنه بالظاهر، وصنّف كتباً كثيرة. وهو من أصحاب حسين الكرابيسي، فإنّ له قولاً في القرآن لم يسبق إليه: قال: (أما الذي في اللوح المحفوظ: فغير مخلوق، وأما الذي هو بين الناس: فمخلوق)
واشتهر عنه أنه قال: (القرآن مُحدث) وكلمة الإحداث عند المعتزلة تعني الخلق؛ لأنّ المحدث هو ما كان بعد أن لم يكن؛ ويقولون بأن كلّ ما كان بعد أن لم يكن فهو مخلوق.ولذلك نفوا صفة الكلام عن الله جل وعلا، وضلوا في ذلك وكذبوا على الله؛
وهذه الكلمة "محدث" واردة في القرآن في قوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدَث إلا كانوا عنه معرضين} لكنّها ليست على المعنى الذي أراده المعتزلة من أنّه مخلوق، ولكنّ الله يحدث من أمره ما يشاء؛ فيكون حديثا أي جديداً عند إنزاله أو وقوعه.
الموقف الرابع: موقف جمهور أهل الحديث كالإمام أحمد وإسحاق بن راهويه والبخاري وأبي ثور وجماعة. فهؤلاء منعوا الكلام في اللفظ مطلقاً لالتباسه؛ وبدّعوا الفريقين: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق. واشتدّوا على من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ خشية التذرّع بهذا التلبيس إلى إرادة القول بخلق القرآن،.وبيّنوا أنّ أفعال العباد مخلوقة.
الموقف الخامس: موقف طائفة من أهل الحديث صرحوا بأنّ اللفظ بالقرآن غير مخلوق، وهم يريدون أنّ القرآن غير مخلوق، وأخطؤوا في استعمال هذه العبارة.
وممن نُسب إليه التصريح بأنّ اللفظ بالقرآن غير مخلوق: محمد بن يحيى الذهلي شيخ البخاري ، وأبو حاتم الرازي،
الموقف السادس: موقف أبي الحسن الأشعري وبعض أتباعه وقالوا إنّ الإمام أحمد إنما كره الكلام في اللفظ؛ لأنّ معنى اللفظ الطرح والرمي، وهذا غير لائق أن يقال في حق القرآن.
الموقف السابع: موقف طوائف زعمت أنّ ألفاظ القراء بالقرآن غير مخلوقة؛ وزعموا أن سماعهم لقراءة القارئ هي سماع مباشر من الله، وأنهم يسمعون كلام الله من الله إذا قرأه القارئ كما سمعه موسى بن عمران.
واختلفوا في تفصيل ذلك على أقوال:فقال بعضهم: إن صوت الربّ حلّ في العبد.وقال آخرون: ظهر فيه ولم يحلّ فيه.وقال آخرون: لا نقول ظهر ولا حلّ.وقال آخرون: الصوت المسموع قديم غير مخلوق.
وهذه الأقوال كلها مبتدعة، لم يقل السلف شيئا منها، وكلها باطلة شرعا وعقلا،وهؤلاء قد يحتجون بقوله: {حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] ، ويقولون هذا كلام الله غير مخلوق، فهذا غير مخلوق، ونحن لا نسمع إلا صوت القارئ، وهذا جهل منهم. فإن سماع كلام الله بل وسماع كل كلام يكون تارة من المتكلم به بلا واسطة الرسول المبلغ له، قال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51] ، ومن قال: إن الله كلمنا بالقرآن كما كلم موسى بن عمران، أو إنا نسمع كلامه كما سمعه موسى بن عمران، فهو من أعظم الناس جهلا وضلالا.)
محنة الإمام البخاري في مسألة اللفظ:

قد كان طائفة من أهل الحديث والمنتسبين إلى السنة تنازعوا في اللفظ بالقرآن هل يقال إنه مخلوق، ولما حدث الكلام في ذلك أنكرت أئمة السنة كأحمد بن حنبل وغيره أن يقال لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، وقالوا: من قال إنه مخلوق فهو جهمي، ومن قال أنه غير مخلوق فهو مبتدع،
كان البخاري قد رأى ما نال الإمام أحمد في مسألة اللفظ وهو ببغداد فجعل على نفسه أن لا يتكلم في هذه المسألة، ورأى أنها مسألة مشؤومة، وفطن لذلك بعض أهل بغداد.
وبدأت فصول محنة البخاري لمّا توجّه البخاري إلى خراسان في آخر حياته وهو في الثانية والستين من عمره؛ وجد في بلده بخارى كثرة المخالفين له؛ فعزم على الإقامة في نيسابور، فبلغ ذلك أهل نيسابور.فلما وصل إليها خرج إليه أهلها عن بكرة أبيهم، وبالغوا في إكرامه بصورة لم تكن لأحد قبله ولا حتى بعده. وكان ممن احتفى بمقدمه رأس علماء نيسابور وقتها القاضي الإمام محمد بن يحيى الذهلي
ومع استقرار البخاري في نيسابور أخذت مجالس التحديث تخلو شيئًا فشيئًا من طلاب الحديث لصالح مجلس البخاري، فحسد البعض البخاري لما له من مكانة عند العلماء وطلاب العلم وجماهير المسلمين ، فأثاروا حوله الشائعات ورموه بتهمة هو بريء منها، فما هذه التهمة يا ترى والتي كانت سبب محنة البخاري؟
هذه التهمة هي تهمة اللفظية، وهي تعني قول القائل: أن لفظي بالقرآن مخلوق، فامتحنوه في المجلس، فلما حضر الناس مجلس البخاري، قام إليه رجل، فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن مخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه، فأعاد الرجل السؤال ثلاث مرات، فالتفت إليه البخاري وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة.فدعا بعد ذلك محمد بن يحيى الذهلي إلى هجر مجالس البخاري و اتهام من يحضر مجلسه بأنه على مذهبه.
فتعرض البخاري للامتحان والابتلاء، وكثيرا ما تعرض العلماء الصادقون للمحن فصبروا على ما أوذوا في سبيل الله، وقد أوذي البخاري رحمه الله في هذه المحنة كثيراً ؛ حتى كفّره بعضهم، وهو صابر محتسب ثابت على قول الحق.
فصار قوم مع البخاري كمسلم بن الحجاج ونحوه وقوم عليه كأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهما، وكل هؤلاء من أهل العلم والسنة والحديث وهم من أصحاب أحمد بن حنبل ولهذا قال ابن قتيبة: إن أهل السنة لم يختلفوا في شيء من أقوالهم إلا في مسألة اللفظ.
محنة الإمام البخاري في بلده بخارى
لما رأى البخاري الوحشة في نيسابور خرج منها إلى بخارى على ما سبق ذكره؛ مع كراهيته للمقام في بخارى لكثرة المخالفين له. فلما وصل إليها خرج إليه أهلها عن بكرة أبيهم، وبالغوا في إكرامه.فأخذ محمد بن يحيى الذهلي في الكتابة إلى خالد بن أحمد أمير بخارى يحذره من البخاري وأنه يتبنى قول اللفظية، فأمره الأمير بالخروج من البلد فخرج.
فلما أخرج من بخارى توجّه إلى بلدة يقال لها خرتنك وفيها له أقارب.ففي أحد الليالي وقد فرغ من صلاة الليل يدعو ويقول في دعائه: اللهم إنه قد ضاقت على الأرض بما رحبت فاقبضني إليك. فما تم الشهر حتى قبضه الله تعالى وقبره بخرتنك.كما روى عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي
ردّ البخاري على الطائفتين:
كان الذين يقول بأن اللفظ بالقرآن غير مخلوق ينسبون قولهم هذا إلى الإمام أحمد، ويظنّون أنّ هذا قوله.وكان الذين يقابلونهم في هذا الأمر يفعلون ذلك؛ فيدّعون نسبة هذا القول إلى الإمام أحمد، وأنّ هذا مذهبه.وقد ردّ البخاري على الطائفتين، وبيّن الحقّ في هذه المسألة في كتابه "خلق أفعال العباد" بياناً شافياً.
وكان البخاري يؤكد في كل مكان أنه لم يقل إن لفظه بالقرآن مخلوق، وكان يقولمن زعم أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإني لم أقله، إلا إني قلت: أفعال العباد مخلوقة.

عباز محمد 15 جمادى الآخرة 1437هـ/24-03-2016م 01:10 PM

ذكرنا أن أئمة أهل السنة كانوا إنما يردّون على المعتزلة وغيرهم بالكتاب والسنة، ولا يتعاطون علم الكلام في الرد عليهم، ولا يتشاغلون به؛ فسلموا بذلك من فتن كثيرة.
ثم نشأ أقوام أرادوا الردّ على المعتزلة والانتصار لأهل السنة بالحجج المنطقية والطرق الكلامية؛ فخاضوا فيما نهاهم عنه أهل العلم؛ ووقعوا في بدع أخرى، وخرجوا بأقوال محدثة مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة.
فمن ذلك أن أبا محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري (ت: 243هـ) - وكان معاصراً للإمام أحمد بن حنبل- أراد الرد على المعتزلة بمقارعتهم بأصولهم المنطقية وحججهم الكلامية؛وهو رجل ذكي، قوي الحجة، أفحم المعتزلة والفلاسفة، ولكن للأسف منطلقاته لم تكن من الكتاب والسنة، بل من عقله وفطنته فسلك طريقة المتكلّمين ، فأراد أن يقدم حلاً معقولاً من وجهة نظره هو؛ فخرج بقول بين قول أهل السنة وقول المعتزلة، وأحدث أقوالاً لم تكن تعرف في الأمّة ، فأملى عليهم أن كلام الله تعالى هو الكلامُ النفسي القائم بالله جل وعلا ولم يتكلَّمْ بِهِ حقيقةً وأنه قديم بقدمه تعالى، وأنه ليس بحرف ولا صوت، ولا يتعلق بالقدرة والمشيئة، ولا يتجزّأ ولا يتبعّض، ولا يتفاضل ألقاه في نفس جبريل، وجبريل بدأ يعبر عنه بهذه التعابير المختلفة
فإنّه وافق الجهمية على أصلهم الذي أصّلوه، وهو مبدأ امتناع حلول الحوادث به جلّ وعلا؛ وتفسيرهم لهم يقتضي نفي كلام الله تعالى، بل جميع الصفات الفعلية المتعلّقة بالمشيئة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كان الناس قبل أبي محمد ابن كلاب صنفين:
- فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها.
- والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا.
فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها. ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري، وغيرهما)
وقد أنكر أئمّة أهل السنة على ابن كلاب طريقته المبتدعة، وما أحدث من الأقوال، وحذّروا منه ومن طريقته.قال ابن خزيمة: (كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد بن كلاب، وعلى أصحابه مثل الحارث وغيره). وكذلك كان إمام الأئمّة ابن خزيمة (ت:311هـ) من أشدّ العلماء على الكلابية، وأكثرهم تحذيراً منهم، وردّا عليهم.
ثم إنّ الحارثَ المحاسبي أعجبته ردود ابن كلاب على المعتزلة فتبعه على قوله، وتكلّم بشيء من علم الكلام؛ فهجره الإمام أحمد وأمر بهجره وحذّر منه؛ فهجره أهل الحديث، حتى إنه لما مات لم يشهد جنازته سوى أربعة نفر. وقد قيل: إنه رجع عن علم الكلام قبل موته، والله تعالى أعلم.
الأشعري:

عاش أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (ت:324هـ) فيها في كنف أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة في عصره وتلقى علومه حتى صار نائبه وموضع ثقته . ولم يزل أبو الحسن يتزعم المعتزلة أربعين سنة.
سبب شهرة أبي الحسن الأشعري هو مناظراته وردوده على المعتزلة وإفحامه لعدد من أكابرهم بالطرق الكلامية والحجج العقلية المنطقية.فاشتهر ذلك بين الناس, فعظمه بعض الناس لذلك، وعدّوه منافحاً عن السنّة،مبطلا لقول خصوم أهل السنة من المعتزلة.
مر الأشعري في حياته بثلاث مراحل :
المرحلة الأولى : قبل الأربعين من عمره ، كان يعد إمام من أئمة المعتزلة ، لأنه بلغ الغاية في علم الكلام.
المرحلة الثانية : توبته من الإعتزال ، بعد مناظرة مع الجبائي لم يجبه على مسائل فيها ، ولأنه متبحر في علم الكلام ، قليل البضاعة في علم السنة ، أخطأ عندما استن بطريقة ابن كلاب، حيث ظن أنه ينصر السنة وينافح عنها، إلا أنه خالف أهل السنة وطريقتهم.
المرحلة الثالثة : إلتزامه لقول أهل الحديث في آخر حياته كما صرح في كتاب الإنابة ، وقد حكى في عقيدته ما خالف فيه ابن كلاب في مسائل الصقات والكلام والقرآن ، وأخطأ في مسائل أخرى ظن أنها توافق السنة.
ولهذا اختلف في شأنه أهل العلم:
1-منهم من قال : رجع رجوعا صحيحا إلى مذهب أهل السنة.
2-ومنهم من قال: رجوعه كان رجوع مجملا لم يخل من أخطاء في تفاصيل مسائل الاعتقاد.
و ازداد الأشاعرة بعداً عن السلف وعن طريقة أبي الحسن الأشعري التي كان عليها مع انتسابهم إليه، إلى أن وصل الأمر بمتأخري الأشاعرة كأبي المعالي الجويني وأبي بكر الرازي إلى نفي الصفات الخبرية جملة فلا يثبتون منها إلا ما دلّ على العقل، وجرّدوا القول بتقديم العقل على النقل.وخلط بعض متأخري الأشاعرة التصوف بالكلام؛ فأنتج لهم ذلك أنواعاً من الأقوال الفاسدة المحدثة، فعظمت الفتنة بهم في القرن السابع والثامن، وانبرى للردّ عليهم أئمة أهل السنة من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما ، ولقوا في ذلك ما لقوا.
والمقصود التنبيه إلى أنّ فتنة القول بخلق القرآن؛ كانت فتنة عظيمة، سرى أثرها في الأمّة وتشعّب، وكانت سبباً من أسباب تفرّق الفرق وظهور النحل المخالفة لأهل السنة.

عباز محمد 15 جمادى الآخرة 1437هـ/24-03-2016م 07:18 PM

تفسير سورة النازعات

هي مكّيّةٌ
تفسير سورة النازعات [ من الآية (1) إلى الآية (14) ]
{والنّازعات غرقاً} أقسم الله بالملائكةُ التي تنزعُ أرواحَ الكفار نزعا شديدا، وتغرقُ في نزعِها، فإنها تنزعها من أقاصي الأجساد من الأنامل و الأظفار بعسر و شدة حتى تخرجَ الروحُ.
{والنّاشطات نشطاً} أقسم الله بالملائكةُ التي تَسُلُ روح المؤمن بخفة و سهولة والنَّشْطُ: الجَذْبُ بِسُرْعَةٍ، وَقِيلَ: النَّاشِطَاتُ لأرواحِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالنَّازِعَاتُ لأَرْوَاحِ الْكَافِرِينَ.
{والسّابحات سبحاً} أقسم الله بالملائكةُ التي تنزل بأمر الله إلى الأرض.
{فالسّابقات سبقاً} عطف السابقات على السابحات بالفاء و معنى ذلك أن السابقات من جنس السابحات و هي الملائكة التي تبادر لأمر الله وتسبقُ الشياطينَ في إيصالِ الوحيِ إلى رسلِ اللهِ حتى لا تسترقَهُ و قيل هِيَ الْمَلائِكَةُ تَسْبِقُ بِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ.
{فالمدبّرات أمراً} هي الملائكة التي تدبر الأمر من السماء إلى الأرض بأمر ربها وَبِتَدْبِيرِ أَهْلِ الأَرْضِ فِي الرياحِ والأمطارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
و جواب هذا الأقسام محذوف، ولما كان موضوع السورة في البعث جاز تقدير الجواب ب لتبعثن و يكون المعنى و النازعات لتبعثن و هكذا.
{يوم ترجف الرّاجفة (6) تتبعها الرّادفة} أي لتبعثن يوم ترجف الأرض و تهتز بسب النفخة الأولى و الَّتِي يَمُوتُ بِهَا جَمِيعُ الخلائقِ التي تتبعها النفخة الثانية الَّتِي يَكُونُ عِنْدَهَا الْبَعْثُ.
{قلوبٌ يومئذٍ واجفةٌ} والتنكير في قلوب على التكثير أي قلوب كثيرة يومئد خائفة من عظم الهول.
{أبصارها خاشعةٌ} أي: أبصار أصحاب تلك القلوب ذليلة من هول ما تشاهد لأنهم يقولون في الدنيا {يقولون أئنّا لمردودون في الحافرة} يقال رجع فلان إلى حافرته أي إلى طريقه التي جاء فيها فحفرها برجليه و هو يمشي أي أَنُرَدُّ إِلَى أَوَّلِ حَالِنَا فنكون إلى ما كنا عليه قبل موتنا.
{أئذا كنّا عظاماً نخرةً} أي كيف نرجع إلى حالنا الأول و قد تحللت أجسامنا وصرنا عظاما بالية متفتة و هذا معنى نخرة و القراءة الثانية هي ناخرة أي فارغة مجوفة .
{قالوا تلك إذًا كرّةٌ خاسرةٌ} أي أنهم إذا عادوا إلى الحياة بعد الموت فإن هذه العودة خاسرة.
{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} أي لا تستصعبوها فَإِنَّمَا هِيَ صيحة وَاحِدَةٌ، وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ وقوله: {فإذا هم بالسّاهرة} فإذا هم على ظهر الأرضِ.
تفسير سورة النازعات [ من الآية (15) إلى الآية (26) ]
و هذا تسلية للرسول وفيه تخفيف عليه و هو يعاني من تكذيب قومه له و هو تهديد لقومه بأن يصيبهم مثل ما أصاب فرعون و ملأه إدا استمروا في كفرهم.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} أَيْ: هل جَاءَكَ نبأَ مُوسَى حين كلمه ربه نداءًا في الوادِي المطهر فِي جَبَلِ سِينَاءَ
{اذهب إلى فرعون إنّه طغى} أي ناداه أن اذهب إلى فرعونِ مصر إنه قد تجاوز الحد في العصيان و التكبر فانههُ عن طغيانهِ وشركهِ وعصيانهِ بقولٍ ليِّنٍ، وخطابٍ لطيفٍ، لعلَّهُ {يتذكرُ أو يخشَى}
{فَقُلْ} لهُ: {هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى} هل لك أن تزّكّي نفسك و تطهرها من دنس الكفر و الطغيان.
{وأهديَكَ إلى ربِّكَ} أي: أدلَّكَ على ربك فأدلك عليه فتخشاه لأن من عرف الله خافه فيصير قلبك مستسلما له.
{فأراه الآية الكبرى} يعني: فأظهر له موسى آية العصا و اليد دليلاً واضحاً على صدق ما جاء به من عند اللّه {فكذّب وعصى}. أي فكانت نتيجة المقابة بأن لم يصدق فرعون ما جاء به موسى من الآيات و خالف ما أمرو به موسى
{ثمّ أدبر يسعى}. ثم أعرض عن الإيمان و مضى و اجتهد في محاربة الحق {فحشر فنادى} فَجَمَعَ جُنُودَهُ و نادى فيهم قائلا أنا ربّكم الأعلى.
{فأخذه اللّه نكال الآخرة والأولى}. أي: انتقم اللّه منه انتقاماً جعله به عبرةً ونكالاً لأمثاله من المتمرّدين في الدّنيا فناله الله بعقوبة الغرق في الدنيا و بالنار في الآخرة.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى}فإنَّ منْ يخشَى اللهَ، هوَ الذي ينتفعُ بالآياتِ والعبرِ، فإذا رأَى عقوبةَ فرعونَ، عرفَ أنَّ كلَّ منْ تكبَّرَ وعصى ، عاقَبهُ الله في الدنيا والآخرةِ.
تفسير سورة النازعات [ من الآية (27) إلى الآية (33) ]
يقول تعالى محتجًّا على منكري البعث في إعادة الخلق بعد بدئه:{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ}؛ أَيْ: أَخَلْقُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبَعْثُكُمْ أَشَدُّ عِنْدَكُمْ وَفِي تَقْدِيرِكُمْ أَمْ خَلْقُ السَّمَاءِ؟ لأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ، كَيْفَ يَعْجِزُ عَنْ إعادةِ الأَجْسَامِ الَّتِي أَمَاتَهَا بَعْدَ أَنْ خَلَقَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ؟
فقوله: {بناها}أي شيدها. فسّره بقوله: {رفع سمكها فسوّاها}
{رَفَعَ سَمْكَهَا}؛ أَيْ: جعل ارتفاعها ارتفاعا عاليا في السماء{فَسَوَّاهَا}: فَجَعَلَهَا مُسْتَوِيَةَ سطحا واحدا لا نتوء فيها و انخفاض وَلا فُطُورَ وَلا شُقُوقَ.
{و أغطش ليلها}: أظلمه. {وأخرج ضحاها} أي: أنار نهارها حينَ أتى بالشمسِ.
{وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ} أي: بعد خلق السماءِ {دَحَاهَا} فسّره بقوله: {أخرج منها ماءها ومرعاها}أَيْ: فَجَّرَ مِنَ الأَرْضِ الأنهارَ والبِحارَ والعُيونَ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا مَرْعَاهَا؛ أَي: النَّبَاتَ الَّذِي يُرْعَى عن ابنِ عَبَّاسٍ مِنْ أنَّ اللَّهَ تَعالَى خَلَقَ الأرضَ، وقدَّرَ فيها أقْوَاتَهَا، ولمْ يَدْحُهَا، ثمَّ اسْتَوَى إلى السماءِ فسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سماواتٍ، ثمَّ دَحَا الأرضَ بعدَ ذلكَ، فأخْرَجَ مِنها مَاءَها ومَرْعَاها، وأرْسَى جِبَالَهَا
وقوله: {والجبال أرساها}. أي: قرّرها وأثبتها وأكّدها في أماكنها و هدا يعني أن الجبال تثبت الأرض كما أن الجبال ثابتة مرساة في الأرض.
وقوله: {متاعاً لكم ولأنعامكم} أي: أَنَّهُ خَلَقَ هذهِ الأشياءَ، وأخْرَجَ مِن الأرْضِ ماءَها ومَرْعَاها؛ مَنْفَعَةً لَنَا، ومَتَاعاً إلى حِينٍ
تفسير سورة النازعات [ من الآية (34) إلى الآية (46) ]
وقولُهُ: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الكُبْرَى}؛ وهو يوم القيامة يَقُولُ تَعالَى ذِكْرُهُ: فَإِذَا جاءَتِ التي تَطِمُّ أي تغلب على كُلِّ هائِلَةٍ مِن الأُمورِ، فتَغْمُرُ ما سِوَاها بعظيمِ هَوْلِهَا لا ريح عاد و لا صيحة ثمود و لا رجفة يوم الظلة.
{يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى}: يَتَذَكَّرُ مَا عَمِلَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ؛ لأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ مُدَوَّناً فِي صَحَائِفِ عَمَلِهِ
{وبرّزت الجحيم لمن يرى}. أي: أظهرت للنّاظرين فرآها النّاس عياناً.
{فَأَمَّا مَنْ طَغَى}؛ أَيْ: جَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي.
{وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}؛ أَيْ: قَدَّمَهَا عَلَى الآخِرَةِ فصارَ سعيُهُ لهَا، ووقتُهُ مستغرقاً في حظوظِهَا وشهواتِها، ونسيَ الآخرةَ وتركَ العملَ لهَا
{فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}: الْمَكَانُ الَّذِي سَيَأْوِي إِلَيْهِ، لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ.
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أي: خافَ القيامَ عليهِ وخاف حكم اللّه فيه ومجازاتِهِ بالعدلِ {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}؛ أَيْ: زَجَرَهَا عَن المَيلِ إِلَى المعاصِي والمحارِمِ الَّتِي تَشْتَهِيهَا وجاهدَ الهوى والشهوةَ الصادِّينِ عن الخيرِ
{فإنّ الجنّة هي المأوى} أي: منقلبه ومصيره ومرجعه إلى الجنّة.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}؛ أَيْ: يسألُكَ المكذبونَ بالبعثِ مَتَى وقت حلولها وَوُقُوعُهَا؟ كَرُسُوِّ السَّفِينَةِ.
{فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا}؛ عن عائشة رضي اللّه عنها، قالت: كان النّبيّ [صلّى الله عليه وسلّم] يُسأل عن السّاعة حتّى أنزل عليه {يسألونك عن السّاعة أيّان مرساها (42) فيم أنت من ذكراها إلى ربّك منتهاها} ، قال: «فانتهى» هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشّيخين ولم يخرّجاه أَيْ: فِي أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ منْ ذِكْرِ الْقِيَامَةِ وَالسُّؤَالِ عَنْهَا؟ أي: ما الفائدةُ لكَ ولهمْ في ذكرهَا ومعرفةِ وقتِ مجيئِها؟ فليسَ تحتَ ذلكَ نتيجةٌ، ولهذا لمَّا كانَ علمُ العبادِ للساعةِ ليسَ لهمْ فيهِ مصلحةٌ دينيةٌ ولا دنيويةٌ، بلِ المصلحةُ في خفائِهِ عليهمْ، طوَى علمَ ذلكَ عنْ جميعِ الخلقِ، واستأثرَ بعلمهِ فقالَ: {إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} أيْ: إليهِ يَنْتَهِي علمُ الساعةِ، لا يَعْلَمُ وَقْتَ قِيامِها غَيْرُهُ.
وقولُهُ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا}؛ يَقُولُ تَعالَى ذِكْرُهُ لِمُحَمَّدٍ: إِنَّما أنْتَ رَسُولٌ مَبْعُوثٌ بإِنْذارِ الساعَةِ و نفعها يكون لمَنْ يَخَافُ عِقابَ اللَّهِ فيها على إِجْرَامِهِ، ولم تُكَلَّفْ عِلْمَ وَقْتِ قِيامِها.
{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا} يَعْنِي يَرَوْنَ القِيَامَةَ، {لَمْ يَلْبَثُوا} في الدنيا، ولم يَنْعَمُوا بشيءٍ من نَعِيمِهَا، {إِلاَّ عَشِيَّةً} ما بين الظُّهْرِ إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ، {أَوْ ضُحَاهَا}: ما بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلى نِصْفِ النَّهارِ.

عباز محمد 15 جمادى الآخرة 1437هـ/24-03-2016م 08:04 PM

تفسير سورة عبس

[ من الآية (1) إلى الآية (10) ]
وسببُ نزولِ هذهِ الآياتِ الكريماتِ:
أنهُ جاءَ ابن أمّ مكتومٍ أعمَى يسألُ النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ويتعلمُ منهُ.وجاءَهُ رجلٌ مِنَ الأغنياءِ، وكانَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حريصاً على هدايةِ الخلقِ، فمالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ [وأصغَى] إلى الغني، وصدّ عَنِ الأعمَى الفقيرِ، رجاءً لهدايةِ ذلكَ الغنيِّ، وطمعاً في تزكيتهِ، فعاتبهُ اللهُ بهذا العتابِ اللطيفِ،
فقالَ:{عَبَسَ} [أي: ] في وجههِ{وَتَوَلَّى}أَعْرَضَ و انشغل عنه بالغني الكافر رجاء أن يسلم
{وَمَا يُدْرِيكَ} يَا مُحَمَّدُ، {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}؛ أَيْ: لَعَلَّ الأَعْمَى يَتَطَهَّرُ مِنَ الذُّنوبِ بالعملِ الصالحِ؛ بِسَبَبِ مَا يَتَعَلَّمُهُ مِنْكَ)
{أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} أي فإن لم يقع منه تزك حصل الإتعاظ بالموعظة و لو بعد حين. فدلَّ هذا على القاعدةِ المشهورةِ، أنَّهُ: (لا يتركُ أمرٌ معلومٌ لأمرٍ موهومٍ، ولا مصلحةٌ متحققةٌ لمصلحةٍ متوهمةٍ) وأنَّهُ ينبغي الإقبالُ على طالبِ العلمِ، المفتقرِ إليهِ، الحريصِ عليهِ أزيدَ منْ غيرِهِ
{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى}؛ أَيْ: كَانَ ذَا ثَرْوَةٍ وَغِنًى أَوِ اسْتَغْنَى عَنِ الإِيمَانِ وَعَمَّا عِنْدَكَ مِنَ الْعِلْمِ{فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى}؛ أَيْ تتعرّض له لعلّه يهتدي
{وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى}، يقولُ: وأيُّ شَيْءٍ سيلحقك إن لم يسلم هذا الكافر؟فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغُ.
{وَأَمَّا مَنْ جَاءَ‌كَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى}، يقولُ: وَأَمَّا هذا الأعمَى الذي جاءَكَ سَعْياً، و قد وقر في قلبه الخوف من الله فأنت عنه منشغل بهذا الكافر المظنون إسلامه.
تفسير سورة عبس[ من الآية (11) إلى الآية (23) ]
قولُه تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي ما الأمرُ كما فعلتَ يا محمد - صلى الله عليه وسلم - من أن تعبسَ في وجه من جاءك يسعى و إن هذه الآيات أو هذه السّورة أو الوصيّة بالمساواة بين النّاس في إبلاغ العلم بين شريفهم ووضيعهم. تذكرة يتذكر بها أولوا الألباب وعلى رأسهم نبينا صلى الله عليه وسلم، فهو تذكير له ولمن جاء بعده حَقُّهَا أَنْ تَتَّعِظَ بِهَا وَتَقْبَلَهَا وَتَعْمَلَ بِمُوجَبِهَا، وَيَعْمَلَ بِهَا كُلُّ أُمَّتِكَ.
{فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} أي: فمن أرادَ من عبادِ الله - صادقاً في إرادته - أن يتَّعِظَ بالقرآن وآياتِه حصلَ له الاتِّعاظ أعاد بعض المفسِّرين الضميرَ في (ذَكَرَه) إلى الله، والمعنى: فمن شاء من العباد ذكرَ الله. غير أن سياق الآيات يدل على الأوَّل؛ لأن الحديثَ عن القرآن قبل هذه الآية وبعدها، والله أعلم.
ثمَّ ذكرَ محلَّ هذهِ التذكرةِ وعظمهَا ورفعَ قدرهَا، فقالَ:{في صحفٍ مكرمةٍ (14)}أي: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ؛ أَوْ لأَنَّهَا نَازِلَةٌ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ
{مَرْفُوعَةٍ}: رَفِيعَةُ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ، {مُطَهَّرَةٍ}؛ أَيْ: من الدّنس والزّيادة والنّقص
{بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} وهم الملائكة الذين هم سفراء بين الله ورسله، فهم يحملون هذه الصحف، ويبلغون ما فيها من آيات إلى المرسلين. فهمُ السُّفراءُ بينَ اللهِ وبينَ عبادهِ مِنَ السِّفَارَةِ؛ وَهِيَ: السَّعْيُ بَيْنَ الْقَوْمِ.
{كِرَامٍ بَرَرَةٍ}وهؤلاء الملائكة وصفهم الله جل وعلا بأنهم كرام، يعني كرام على الله جل وعلا؛ وكرام عند ربهم و كثيري الخير والبركة وقوله{بَرَرَةٍ} أي: مطيعين لله -جل وعلا- لا يعصونه؛ بل يبادرون بامتثال أوامره ومن ههنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السّداد والرّشاد.
يقول تعالى: ذامًّا لمن أنكر البعث والنّشور من بني آدم: {قتل الإنسان ما أكفره} لنعمةِ اللهِ وما أشدَّ معاندته للحقِّ بعدمَا تبينَ، وهوَ أضعفُ الأشياءِ، خلقهُ اللهُ مِنْ ماءٍ مهينٍ، ثمَّ قدَّرَ خلقهُ، وسوّاهُ بشراً سويّاً أَيْ: لُعِنَ الإِنْسَانُ الْكَافِرُ مَا أَشَدَّ كُفْرَهُ! هذا التفسير على أن (ما) تَعَجُّبِيَّة، وقد جعلها بعض المفسِّرين استفهامية، ويكون تقديرُ الكلام: أيُّ شيء جعله يكفر؟.
والتعجُّب - فيما يظهر - أبلغ في هذا المقام، وهو أنسب في بيان شدَّة كفر هذا الكافر، والله أعلم.
ثم قال جل وعلا: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} هذا استفهام تقريري والمعنى: ما أصلُ خلقِ هذا الإنسان حتى يستغني عن الإيمان بربِّه ويكفُر؟ فبيّن تعالى له كيف خلقه من الشّيء الحقير، وأنّه قادرٌ على إعادته كما بدأه.
{مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ}؛ أَيْ: مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، فَكَيْفَ يَتَكَبَّرُ مَنْ خَرَجَ مِن مَخْرَجِ البَوْلِ مَرَّتَيْنِ؟ {فَقَدَّرَهُ} وأنه قدَّره بعد ذلك أطواراً في الخلق، حتى صار جنيناً في بطن أمِّه. قال بعض العلماء: فقدره أي أنه -جل وعلا- لما خلقه وكان جاء عليه مائة وعشرون يوماً بعث الله -جل وعلا- إليه الملك فنفخ فيه الروح، وأمره بكتابة أربع: عمله، ورزقه، وأجله، شقي أو سعيد، هذا هو التقدير.وبعض العلماء يقول: التقدير المراد به: إتمام الخلق من إخراج اليد والرجل والعينين وغيرها، وكلها دل عليها كتاب الله جل وعلا.
{ثمّ السّبيل يسّره}. قال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: ثمّ يسّر عليه خروجه من بطن أمّه. وقال مجاهدٌ: هذه كقوله: {إنّا هديناه السّبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً}. أي: بيّنّاه له ووضّحناه وسهّلنا عليه عمله
{ثمّ أماته فأقبره}. أي: إنّه بعد خلقه له أماته فأقبره، أي: جعله ذا قبرٍ يوارى فيه، وهذا من تكريم الله لبني آدم وقوله: {ثمّ إذا شاء أنشره} أي: بعثه بعد موته، أَيْ: فِي الوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُهُ اللَّهُ تَعَالَى.
{كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} يعني: أن هذا الإنسان لم يقض ما أوجب الله جل وعلا عليه، وكل إنسان فإنه لا يقضي ما أوجب الله -جل وعلا- عليه تماماً، لابد وأن يقع فيه خلل وتقصير بَلْ أَخَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ بالكُفْرِ، وَبَعْضُهُمْ بالعِصْيَانِ.
تفسير سورة عبس[ من الآية (24) إلى الآية (32) ]
وقوله: {فلينظر الإنسان إلى طعامه} فيه امتنانٌ وفيه استدلالٌ بإحياء النّبات من الأرض الهامدة على إحياء الأجسام بعدما كانت عظاماً باليةً وتراباً ثمَّ أرشدَهُ تعالى إلى النظرِ والتفكرِ في طعامِهِ، وكيفَ وصلَ إليهِ بعدمَا تكررتْ عليهِ طبقاتٌ عديدةٌ، ويسرهُ لهُ
{أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا} أي: أنزلنَا المطرَ على الأرضِ بكثرةٍ
{ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا}وذلك أن الله -جل وعلا- يجعل هذا المطر ينزل على الأرض ويلج داخلها، ثم بعد ذلك يفتق الزرع هذه الأرض ويخرج منها، وذلك بقدرة الله جل وعلا.
{فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً} أي: وهذا شاملٌ لسائرِ الحبوبِ وكُرومَ العِنَبِ، والعَلَف، والزيتون، والنخيل، وكلها كانت معروفة لهم يستفيدونَ من شجرها وثمرها.
{وَحَدَائِقَ غُلْباً} هي البساتينُ شجرُها عظيمُ الجذعِ، اجتمعت و التفٌّ بعضُها على بعضٍ.
{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} أي فاكهة من ثمار هذه الأشجار يتفكَّهُ الناس بأكلِها، وعشباً تأكله أنعامُهم في المرعى ولهذا جعل السلف الفاكهة للناس أما الأبّ، على أنه الكلأ والعشب الذي للحيوان.
قالَ: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَِنْعَامِكُمْ} أي: جعلنا هذا الطعامَ منفعةً لكم، تنتفعونَ به أنتم وأنعامكم مدةً من الزمان، ثم ينتهي هذا الانتفاع وذلك بمجيء تلك الصَّيحة العظيمة. فمَنْ نظرَ في هذهِ النعمِ، أوجبَ لهُ ذلكَ شكرَ ربِّهِ، وبذلَ الجهدِ في الإنابةِ إليهِ، والإقبالِ على طاعتهِ، والتصديقِ بأخبارِهِ
تفسير سورة عبس[ من الآية (33) إلى الآية (42) ]
{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} أي: إذا قامت القيامة، وهذه أحد أسمائها؛ لأن لها أسماء كثيرة، والعلماء يقولون: الشيء إذا سمي بأسماء كثيرة يدل على عظمته، ويوم القيامة يوم عظيم وهذه الأسماء مأخوذة مما يحدث في ذلك اليوم، وهاهنا قال الله جل وعلا: {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ} أي: قامت القيامة وسميت بهذا اليوم؛ لأن الصيحة التي تحدث معها تصخ الأذان، وتصمها وتجعلها لا تسمع لشدة نزولها على الأسماع.
{يوم يفرّ المرء من أخيه (34) وأمّه وأبيه (35) وصاحبته وبنيه} هذا فيه بيان لوضع الخلائق يوم القيامة إذ عاينوا قيام الساعة وشاهدوها، فإن كل نفس تشتغل بنفسها فيفر مِنْ أعزِّ الناسِ إليهِ، وأشفقهمْ لديهِ فَالْفِرَارُ مِنْهُمْ لا يَكُونُ إِلاَّ لِهَوْلٍ عَظِيمٍ، وَخَطْبٍ فَظِيعٍ
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} أي: كل واحد منهم يشتغل بنفسه، ويلتهي بها عن غيره، حتى ولو اشتغل بغيره فإنه لا يملك له في ذلك اليوم شيئا، كما قال الله جل وعلا: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} فقد وردَ في الحديث أنه قال: ((يُحشر الناس حُفاةً عُراةً غُرْلاً))، فقالت عائشة: أيُبصِرُ بعضُنا بعضاً؟! فقال: يا عائشة: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شأنٌ يُغْنِيهِ)).
وقوله: {وجوهٌ يومئذٍ مسفرةٌ (38) ضاحكةٌ مستبشرةٌ}. أي: يكون الناس هنالك فريقين: "وجوهٌ مسفرةٌ" أي: مستنيرةٌ قدْ ظهرَ فيها السرورُ، والبهجةُ، منْ مَا عرفُوا من نجاتهِمْ، وفوزِهمْ بالنعيمِ.
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } أن هذه الوجوه - وجوه الكفار- تكون يوم القيامة عليها غبار.
{تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ}؛ أَيْ: يَغْشَاهَا سَوَادٌ وَكُسُوفٌ وَذِلَّةٌ وَشِدَّةٌ.
{أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} يعني: أنه -جل وعلا- إنما عاقبهم بهذا العقاب لأنهم كانوا كفرة فجرة أي: الكفرة قلوبهم، الفجرة في أعمالهم.

عباز محمد 23 رجب 1437هـ/30-04-2016م 02:36 PM

معنى أصول التفسير
الأصول جمع أصل و هو الأسّ الذي يبنى عليه الشيء، و التفسير هو بيان معاني القرآن، فأصول التفسير هي الأسس و القواعد التي يُعرف بها معاني القرآن، لذلك نجد أن كلمة أصول التفسير تطلق على أمور متعددة، فتطلق على مصادر التفسير، وتطلق على طرق التفسير.وتطلق على بعض قواعد التفسير. وتطلق على الحدود الضابطة لمنهج الاستدلال في التفسير. وتطلق على المسائل الكبار التي تُبنى عليها المسائل المتفرّعة منها. وتطلق على بعض كتب التفسير
ما المقصود بأساليب التفسير؟
المقصود بها طرق تبليغ التفسير للمتلقين وتقريب معانيه بما يناسب حال المخاطبين ومع مراعاة المقام الذي يذكر فيه التفسير. فليس ما يبلغ للعامي نفس ما يبلغ لطالب العلم
ما هي أبواب أصول التفسير؟
الباب الأول: مقدّمات التفسير كالتعريف بعلم التفسير ونشأته وبدايات تدوينه، ومصادر التفاسير و ومناهج المفسّرين.
والباب الثاني: طرق التفسير ، ويبحث فيه تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، وتفسير القرآن بأقوال السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وتفسير القرآن بلغة العرب، والتفسير بالاجتهاد، والخلاف في التفسير بالإسرائيليات.
والباب الثالث: أدوات المفسّر وهي المعارف والمهارات التي يستعين بها المفسّر على دراسة مسائل التفسير.
والباب الرابع: الإجماع في التفسير، ويدرس فيه ضوابط الإجماع في التفسير، ومصادر معرفته، وطرق تقريره، والتنبيه على علل دعاوى الإجماع.
والباب الخامس: الخلاف في التفسير، وأنواعه ومراتبه، وطرق الجمع والترجيح والإعلال.
والباب السادس: الكليات التفسيرية، والمراد بها أن يفسر اللفظ بمعنى واحد في جميع مواضع وروده في القرآن الكريم .
والباب السابع: أصول دراسة مسائل التفسير، ويبحث فيه أنواع المسائل التفسيرية، ومصادر بحث كلّ نوع منها وتحريرها، وطرق اختيار المراجع ، والتنبيه على بعض علل التفسير.
والباب الثامن: مسائل الخلاف القوي.
والباب التاسع: أساليب التفسير, والمراد بها طريقة تبليغ معاني القرآن للمتلقّين، وتقريبها لهم بما يناسب حال المخاطبين.
والباب العاشر: شروط المفسّر وآدابه , ويبحث في هذا الباب شروط تصدّر المفسّر، والآداب الواجبة والمستحبة التي ينبغي للمفسّر أن يحسن معرفتها ويفقه مسائلها.
ما هي فوائد دراسة أصول التفسير؟
1- تعريف طالب العلم بمصادر التفسير وطرقه. كتفسير القرآن بالقرآن، أو تفسير القرآن بالسنة، أو تفسيره بأقوال الصحابة، أو بلغة العرب
2- تعريف الطالب بمسائل الإجماع والخلاف في التفسير ومراتب الخلاف وكيفية الجمع والترجيح والرد
3- تعريف الطالب بأصول استخلاص المسائل التفسيرية ودراستها.
4- تمرين الطالب على أساليب التفسير وكيفية توصيله للمتلقين ومراعاة أحوالهم ومقام الخطاب.
5- تعريفة بالأدوات العلمية التي تعينه على تقييم جودة دراسته للتفسير ومعرفة أوجه القصور وأوجه الإحسان.
6- معرفة الأصول التي تعينه على ضبط منهجه في التفسير والمواطن التي يصلح فيها الاجتهاد وما لا يصح.
7- معرفة الطالب لما يجب أن يتحقق فيه من شروط قبل التصدر للتفسير والآداب التي يجب أن يتحلى بها.
بيّن أثر كتابات ابن تيمية في أصول التفسير على من جاء بعده.
استفاد العلماء الذين عاصروا ابن تيمية والذين جاءوا بعده من كتاباته وأثنوا عليها .مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، فذكر فيها أهم الأصول في التفسير. وهي مقدمة وجيزة ليست بطويلة، ولكنها فتحت الباب للتأليف في أصول التفسير بعد ذلك.
وله رسائل أخرى عظيمة النفع في التعرف على أنواع الخلاف وأسبابه وطرق التعامل معه، ومن أنفع رسائله في ذلك "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" ، وله جملة من الرسائل التفسيرية التي حرر فيها مسائل التفسير تحريراً أثرياً ولغوياً وأصولياً ؛ فكانت رسائله في التفسير تطبيقات لما حرره من القواعد والأصول الضابطة لدراسة مسائل التفسير.
ولذلك اعتنى العلماء بدراسة مقدمته ورسائله في التفسير ، وانتفعوا بها، وما تزال مقدمته في التفسير تقرأ وتدرس إلى عصرنا الحاضر، وقد كثرت عليها الشروح والحواشي والتعليقات.
وسار على طريقة شيخ الإسلام تلميذه ابن القيم فكانت رسائله في التفسير من أنفع الرسائل وأمتعها، وله في إعلام الموقعين، والصواعق المرسلة وبدائع الفوائد والتبيان تنبيهات عظيمة النفع على جمل من أصول التفسير.
فسار تلميذهما عماد الدين ابن كثير على طريقتهما ، وضمّن مقدّمة تفسيره جلّ المباحث التي ذكرها شيخ الإسلام في مقدمته، وزاد عليها زيادات قيّمة، وتنبيهات وتحريرات نفيسة.
وكتب ابن جزي الكلبي(ت:741هـ) مقدّمة نافعة لتفسيره التسهيل

عباز محمد 23 رجب 1437هـ/30-04-2016م 02:38 PM

البيان الإلهي للقرآن
اذكر الأدلّة الدالة على بيان الله تعالى للقرآن.
أول بيان للقرآن هو بيان منزّله جلّ وعلا، وهو تعالى الأعلم بمراده، وقد تكفّل ببيانه ، ويسّره للذكر، وأحكمه وفصلّه، وجعله بيانا وهدى وشفاء لما في الصدور.هناك الكثير من الأدلة منها
{إن علينا جمعه وقرآنه . فإذا قرأناه فاتبع قرآنه . ثم إن علينا بيانه}
{ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}
{ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً}
{حم . والكتاب المبين}
اذكر أنواع البيان الإلهي للقرآن مع البيان والتمثيل.
النوع الأول :تفسير القرآن بالقرآن :ومنه التفسير الصريح الواضح من غير لبس وهذا ينسب للبيان الإلهي للقرآن.
مثال:تفسير الله تعالى الطارق بأنه النجم الثاقب في قوله تعالى (والسماء والطارق .وما أدراك ما الطارق. النجم الثاقب).
ومنه تفسير اجتهادي فما أصاب فيه المفسر فهو من تفسير القرآن بالقرآن وما أخطأ فلا يصح نسبته للبيان الإلهي للقرآن.
ولتفسير القرآن بالقرآن أنواع منها تفسير قراءة بقراءة أخرى كما قال مجاهد(لو قرأت قراءة ابن مسعود لم احتج أن اسأل ابن عباس في كثير من القرآن مما سألت) ومنه تخصيص العام وتقييد المطلق وتفسير لفظ بلفظ أشهر منه وغير ذلك.
النوع الثاني:تفسير القرآن بالحديث القدسي: وهو أن يرد في الحديث القدسي ما يبين مراد الله تعالى ببعض ما ورد في كتابه.مثال:قال الله تعالى (هو أهل التقوى وأهل المغفرة) وورد المعنى في حديث قدسي عن أنس ابن مالك عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال قال الله عز وجل (أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له)
النوع الثالث:ما نزل من الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم لبيان المعنى المراد من الآية ومنه ما يتعلق بالأمور الغيبية فمنشأه من الله تعالى ومن العلماء من يلحقه بالبيان النبوي للقرآن.
النوع الرابع :البيان القدري لمعاني القرآن :بأن يقدر الله أمورا تبين المعنى المراد من الآيه لما نزلت هذه الآية ( اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) قال: ونحن يومئذ متوافرون قال: فجعلت أتعجب من هذه الآية: أي فتنة تصيبنا؟ ما هذه الفتنة؟ حتى رأيناها.
سبب عناية علماء أهل السنة بتقرير البيان الإلهي للقرآن:
أنَّ كثيراً مِن أهل البدع من الرافضة و المعتزلة وغيرهم الذين يُفسِّرونَ القرآن، قد يَحملُون الآيةَ على ما يَفهمونَه و يَهوَونه، ويَغْفُلون عن المواضِعِ الأخرى، فيَقعونَ في الغَلطِ، و هم بذلك يحاولون الطعن في أصول الدين. بل منهم من يزعم تفسيره للقرآن بالقرآن و لكن بأصوله و معتقداته الباطلة فَيَضِل و يُضِل.
هذا الأمر حمل بعلماء أهل السنة للاهتمام بتفسير القرآن بالقرآن، فإذا فَسَّر أهل البدع آيةً في مَوْضِعٍ بمعتقداتهم، فهم حتما قد غَفَلُوا عن تفسيرِها بالآيات الأخرى التي تُبيِّنُ معناها، فيأتي دور أهل السنة في تِبيان الحق و رد الباطل باعتمادهم على أجلِّ الطرق و أصحِّها في تفسير القرآن، ألا و هو تفسير القرآن بالقرآن، لأنّه لا أحد أعلم من الله بكلامه، و لأنّه ما أجمل منه في مكان فقد فُسِّر في موضع آخر.

عباز محمد 23 رجب 1437هـ/30-04-2016م 02:41 PM

البيان النبوي للقرآن

أنزل الله عزّ وجلّ كتابه الكريم على أفصح العرب لسانا، وأحسنهم بيانا، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم نصحاً، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يبلّغه البلاغ المبين؛
كما قال الله تعالى: {يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين}.
وقال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}.وقد بعث الله نبيّه في أمّة أميّة، عربٍ أقحاح، أولي فصاحة وبيان، ومعرفة بفنون الخطاب وأساليبه، ودلائله ولوازمه، وأنزل القرآن بلسان عربي مبين، ليعقلوا معاني خطاب الله لهم، ويعرفوا مراده، وليدبّروا آياته.
وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بما أمره به ربّه خير قيام، فدعا إلى الله على بصيرة، وتلا عليهم آياتهم، وبيّن لهم أحسن البيان
أنواع البيان النبوي للقرآن:
الأول: تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن، فكان من يسمع تلاوته يَعقل مراد الله فيهتدي أو يُسلم. فعن جبير بن مطعم قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون} كاد قلبي أن يطير) . وكان جبير بن مطعم مشركا قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في فداء أسرى بدر وأسلم يومئذ . رواه البخاري.
الثاني: دعوته صلى الله عليه وسلم بالقرآن تُعين على فهم القرآن، لأنه يَستدلُّ بالآية في الموطن المناسب فيُعْلَم من طريقته المراد من الآية، فهو أعلم الخلق بمراد الله تعالى.
الثالث: كان صلى الله عليه وسلم يتأوَّل القرآن فيعمل بما فيه، مثل ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأوّل القرآن» لقوله تعالى فسبح بحمد ربك و استغفره.
الرابع: أن يَنصَّ صلى الله عليه وسلم على تفسير آية أو لفظة، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةُ} ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» رواه مسلم.
الخامس: في جوابه صلى الله عليه وسلم لأسئلة الكفار، و في رَدِّه على شُبهاتهم تفسيرٌ لبعض آيات القرآن، فعن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا : أرأيت ما تقرءون : ( يا أخت هارون ) ، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ؟ قال : فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم ؟ » . رواه مسلم. فبيَّن النَّبي صلى الله عليه وسلم ما وقع من الإشكال الذي طرحه نصارى نجران في نسب مريم إلى هارون.
السادس: أن يُشكلَ على الصَّحابة فهم آية فيفسِّرها لهم، فمن حديث ابن مسعود، لمّا نزلَ قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} استعظم الصحابة هذه الآية وقالوا: يا رسول أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال:«ليس الذي تذهبون إليه، الظلم الشرك، ألم تسمعوا لقول العبد الصالح {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}». متفق عليه.
السابع: يُعرف التَّفسير من تعليم النَّبي صلى الله عليه وسلم لصحبه، بإرشادهم إلى الصواب و تحذيرهم من الخطأ، كما في صحيح البخاري وغيره من حديث أبي سعيد بن المعلى، قال: مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي، فدعاني فلم آته حتى صليت ثم أتيت، فقال: «ما منعك أن تأتيني؟» فقلت: كنت أصلي، فقال: " ألم يقل الله: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} ثم قال: «ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد» فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج من المسجد فذكَّرته، فقال: «الحمد لله رب العالمين. هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته».
الثامن: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض المغيبات في القرآن، و هذا النوع من التفاسير لا مكان للعقل فيه، بل مرده إلى الوحي، أي أنَّه من خصائص التَّفسير النَّبوي. فعن البراء بن عازب رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقعد المؤمن في قبره أتي، ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت}». متفق عليه.
كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلّم القرآن لأصحابه؟
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه القرآن بحيث يحفظون ألفاظه، ويفهمون معانيه، ويهتدون به إلى صراط الله المستقيم.فيعملون به .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه فقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} يتناول هذا وهذا.
وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرؤون القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا.
هل فسّر النبي صلى الله عليه وسلم جميع آيات القرآن؟
قال تعالى : (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون).
فقد بين النبي صلى الله عليكم وسلم ما أنزل إليه من ربه بياناً تاماً تقوم به الحجة على خلقه ، ولكن بيانه كان بجموع أنواع البيان النبوي للقرآن وإن تفاوت الناس في معرفته وإدراكه.

عباز محمد 23 رجب 1437هـ/30-04-2016م 02:44 PM

دراسة التفسير عند الصحابة
كان لصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وشهودهم وقائع التنزيل، وحسن معرفتهم بدعوته صلى الله عليه وسلم، ومشاركتهم فيها ، ونزول القرآن بلسانهم، وعلى ما يعهدون من فنون الخطاب ، كان لكل ذلك أثر عظيم في معرفتهم بمعاني القرآن.
بيّن مكانة الصحابة رضي الله عنهم وإمامتهم في علم التفسير.
كان الأثر العظيم في معرفة الصحابة لعلم التفسير هو : صحبتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وشهودهم وقائع التنزيل، وحسن معرفتهم بدعوته -صلى الله عليه وسلم-، ومشاركتهم فيها ، ونزول القرآن بلسانهم.
وكان لهم طرق في تعلّم التفسير وتعليمه:
1- الإقراء والتعليم: يقرؤون ويفهمون ويتدبرون فكانوا يتعلمون بالتدرج فلا يتجاوزون العشر الآيات حتى يقرؤونها ويعرفون معانيها والعمل بها، ولم يكن تعليمهم مقتصراً على مجرد أداء الحروف بل كان تعليماً للحروف والمعاني وضبطاً للأحكام وإرشاداً وتأديباً.
2- القراءة والتفسير: كانوا إذا اجتمعوا فتحوا مصاحفهم وقرؤوا ثم يفسرون. عن عبد الله بن مسعود: " أنه كان إذا اجتمع إليه إخوانه نشروا المصحف فقرؤوا، وفسر لهم"
3- طريقة السؤال والجواب: يسأله الصحابي العالم أصحابه، فإن أصابوا أقرهمعلى صوابهم وإن أخطؤوا بيّن لهم الصواب.
4- طريقة التدارس والتذاكر: وهذا مما حث عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فبالمدارسة تدرك معاني القرآن، وبالوقوف على عجائبه.
عن بن مسعود -رضي الله عنه- قال : "إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين" [رواية المروزي].
أي ابحثوا في معانيه وتدارسوه وتفكروا فيه.
5- تصحيح الخطأ الشائع في فهم الآية.
6- الرد على من تأوّل تأولاً خاطئاً في القرآن.
7- الدعوة بالقرآن بأسلوب حسن بين ترهيب وترغيب وتفسير وتقريب وإرشاد وتبصير كما تعلموا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
8- مناظرة المخالفين وكشف شبههم: كما في مناظرة ابن عباس للخوارج.
9- إجابة السائلين عن التفسير: كان الصحابة يجيبون عن السائلين عم معاني القرآن ومنهم ابن عباس رضي الله عنهما ومعاذ من جبل وأبي من كعب.
10- اجتهاد الرأي: كان الصحابة يجتهدون عند الحاجة وإذا لم يوجد نص.
سبب قلة الرواية عن بعض أكابر الصحابة وكثرتها عن صغارهم:
الخلفاء الأربعة لهم في تبليغ أصول الدين ونشره وأخذ الناس ذلك عنهم ما ليس لغيرهم، كجمع أبي بكر وعمر القرآن في الصحف، ثم جمع عثمان له، فكان الاهتمام بجمع القرآن وتبليغه أهم مما سواه. و كثُرَت الرِّواية عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب لأنّ النَّاس لمّا احتاجوا لعلمهما، سألوهما، فأجابوهم، فنُقلت الروايات عنهما.
كما أنّ الذين تأخرت حياتهم من الصحابة واحتاج الناس إلى علمهم نقلوا روايات تفسير كثيرة لم ينقلها الخلفاء الأربعة ولا أكابر الصحابة لعدم حاجة الناس لعلمهم.

عباز محمد 23 رجب 1437هـ/30-04-2016م 02:53 PM

بيّن فوائد دراسة سير أعلام المفسّرين من الصحابة والتابعين.
1- معرفة فضل الصحابة وعلو منزلتهم وسبقهم وإمامتهم في التفسير فإذا بلغه تفسيرهم من طريق صحيح أحسن تلقيه وعرف قدره , كذلك معرفة فضل التابعين وامتيازهم عمن جاء بعدهم من القرون .
2- معرفة ما لاقوه من مشاق في سبيل تحصيل هذا العلم
والاقتداء بهم ومعرفة أنه لا سبيل غير سبيلهم
ومعرفة خطر الدعاوى التي يراد منها الإعراض عنهم ، والتعرف على بعض الرواة عن الصحابة في التفسير وطرق الرواية.
3- إدراك علو منزلتهم في فهم القرآن وحسن تفسيرهم لما خصهم الله به من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم والتلقي منه وشهودهم التنزيل ومعرفة أسبابه , ويعقبهم التابعون فإنهم تعلموا من الصحابة وتلقوا التفسير منهم
4- معرفة مناهج الصحابة والتابعين في التفسير وبعض معالم أصول التفسير لديهم وفي المقابل إدراك خطأ بعض المناهج المبتدعة وفسادها .
5- معرفة هدي الصحابة والتابعين في تعلّم التفسير وتعليمه، ومدى عنايتهم بالتفسير رواية ودراية ورعاية.
8- التبصر بحال الصحابة والتابعين مع القرآن واهتدائهم به وأخذهم له بقوة .

اذكر الصحابة والتابعين الذين عرف عنهم قراءتهم لكتب أهل الكتاب.
من الصحابة : عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم .
ومن التابعين : كعب بن ماتع الحميري، ووهب بن منبّه اليماني، ونوف بن فضالة البكالي، وتبيع بن عامر الكلاعي، ومغيث بن سميّ الأوزاعي، وأبو الجلد الأسدي، وهلال الهجري، وناجية بن كعب الأسدي رحمهم الله .

بيّن طبقات المفسرين في عصر التابعين.
الطبقة الأولى: أئمة أهل التفسير وهم الذين تعلموا التفسير من الصحابة رضوان الله عليهم، ومن هؤلاء : وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس والحسن البصري ومحمد بن سيرين
الطبقة الثانية: الثقات من نقلة التفسير الذين رووا التفسير عن الصحابة وكبار التابعين، ومن هؤلاء : أبو حازم سلمة بن دينار وأبو الزبير المكي والربيع بن أنس البكري وأربدة التميمي،
الطبقة الثالث: من ينقل عنهم اقوال في التفسير وهم متكلم فيهم عند أهل الحديث لكثرة خطئهم، ومن هؤلاء : الحارث الهمداني ... روى عن علي وزيد بن ثابت وابن مسعود ، وغيره ، وكذبه معظم العلماء لغلوه في التشيع وكثرة رواياته المنكرة ....ومنهم أبو صالح باذام مولى أم هانئ : وروى عن ابن عباس وأبي هريرة وقيل عنه أنه ليس بثقة ...
الطبقة الرابعة: ضعفاء النقلة لغلبة رواياتهم المنكرة وكثرة أخطائهم في الرواية. منهم : علي بن جدعان : قيل انه ضعيف في الحديث . ولا يحتج به
يزيد الرقاشي : قال أحمد ( لا يكتب حديث زيد ) ، وقال ابن أبي خيثمة : رجل صالح وليس حديثه بشيء
وأبان بن أبي عياش : قال عنه أحمد بن حنبل : متروك الحديث
بيّن مزايا عصر التابعين في علم التفسير
امتاز عصر التابعين بمزايا عظيمة منها:
1) قربهم من عهد النبوة؛ ورؤيتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتلمذهم على أيديهم، وتأدبهم بآدابهم، ورؤيتهم لبعض آثارالنبوة.
2) عيشهم في الحكم الرشيد الذي فيه عزة للمؤمنين، ونصرة للسنة وحفظ لها، وحض على تعلم العلم الصحيح ونشره، وتقديم أهل العلم والفضل
3) عاشوا في عصر الاحتجاج اللغوي، فكانوا أقرب إلى السلامة من اللحن ممن أتى بعدهم، فلم يكن يعرف اللحن عن العلماء منهم، وإنما كان قد يقع من بعض الذين خالطوا العجم، أو ممن أسلم من العجم، ولم يكن سريان اللحن في أهل ذلك العصر كثيراً كما حصل في القرن الذي بعدهم.
4) كثرة حلقات العلم في زمانهم، ووفرة العلماء، وقلّة الأسانيد؛ وهذا أدعى لحفظ العلم وضبطه.
بيّن طرق التابعين في تعلّم التفسير وتعليمه.
1- حضور مجالس العلم وحلقه التي يقيمها بعض المفسرين من الصحابة:مثل مجالس ابن عباس وابن مسعود.
2- العرض والسؤال : فيقرأ التابعي القرآن على الصحابي ويسأله عن تفسيرالآيات.
قالمجاهد: (لقد عرضت القرآن على ابن عباسثلاث عرضات أقف عند كل آية أسألهفيم أنزلت وفيم كانت؟ فقلت: يا ابن عباسأرأيت قول الله تعالى)فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله( قال(من حيث أمركم أن تعتزلوهن(رواه الدارمي.
3- الكتابة والتقييد:وذلك بكتابة ما يسمعه من التفسير من الصحابي.
عن عثمان بن حكيم قال سعيد ابن الجبير(كنت أسير مع ابن عباس في طريق مكة ليلا فكان يحدثني بالحديث فأكتبه في واسطة الرحل حتى أصبح فأكتبه (رواه الدارمي.
4- طريقة الملازمة : وهي أن يصحب التابعي أحد الصحابة مدة من الزمن فيأخذ من علمه وسمته ثم ينتقل لآخر ويحصل علما كثيرا.
عن ليث عن الشعبي قال(أقمت بالمدينة مع عبد الله بن عمر ثمانية أشهر أو عشرة أشهر(
5- المراسلة:كما راسل ابن أبي مليكة ابن عباس ليسأله عن شهادة الصبيان فقال(إن الله عز وجل يقول (ممن ترضون من الشهداء)فليسوا ممن نرضى لا تجوز)
6- التدارس والتذاكر:يتدارسون التفسير بينهم ويخبر أحدهم الآخر بما وصله من تفسيرها .
6- عرض التفسير:أن يعرض التابعي التفسير على الصحابي وإما أن يقره عليه أو يصوبه له.كما فعل عكرمة مع ابن عباس عندما قال(ما ترى جعلني الله فداكأنهمقد أنكروا وكرهوا حين قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذاباشديدا؟ فأعجبه قولي ذلك وأمر لي ببردين غليظين فكسانيهما).
بيّن طبقات رواة الإسرائيليات مع التمثيل لكل طبقة.
1- طبقة الثقات الذين يروون عن الثقات بإسناد صحيح الي من عرف بالقراءة عن أهل الكتاب من الصحابة والتابعين منهم ابو رجاء العطاردي وابو انس جعفر بن إياس اليشكري والاعمش والربيع بن أنس
2-طبقة الرواة غير المتثبتين وهم في أنفسهم أهل صلاح وصدق لكن أخذ عليهم الرواية عن الضعفاء والمجاهيل دون تمييز وخلط مروياتهم كما أخذ على بعضهم التدليس منهم : الضحاك و السدي الكبير
3- طبقة ضعفاء النقلة الذين ضعفهم الائمة النقاد في رواياتهم من غير أن يتهموا بالكذب فلا تقبل مروياتهم
منهم يزيد بن أبان الرقاشي وعلي بن زيد بن جدعان وموسي بن عبيدة الربذي
4 - طبقة الكذابين والمتهمين بالكذب هؤلاء لا تعتبر روايتهم للاسرائيليات ولا لغيرها
منهم محمد بن السائب الكلبي و مقاتل بن سليمان البلخي و أبوبكر سلمي بن عبدالله الهذلي
حدثت أمور في عصر التابعين كان لها أثر في علم التفسير بيّنها.
1 -ان الذين عاشوا في عصر التابعين لم يكونوا كطبقة الصحابة في العدالة والضبط كما ورد عن ابن عباس " كنا اذا سمعنا الرجل يقول قال رسول الله ابتدرته أبصارنا ... لم نأخذ الا عمن نعرف
2- كثرة الفتن وحروب الفتنة في عصرهم
3 - نشاة الفرق والاهواء وظهور الغلاة كالخوارج والمخالفين واصحاب الاهواء
4 - ظهور العجمة واتساع الفتوحات الاسلامية واختلاط اللسان العربي بالأعجمي
5-اسلام بعض أحبار اليهود ونشرهم ما قرأوه من كتب اهل الكتاب
6 - كثرة القصاص والاخباريين وفيهم الكذابين
7 -ظهور بعض مظاهر الافراط والتفريط ومخالفة هدي النبي (صلي الله عليه وسلم )

عباز محمد 23 رجب 1437هـ/30-04-2016م 02:57 PM

الإسرائيليات في التفسير

ما معنى الإسرائيليات؟ وما حكم روايتها؟
الإسرائيليات هي الأخبار المنقولة عن بني إسرائيل، و قيل إسرائيليات نسبة لنبي الله إسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة و السلام، كما قال تعالى: {كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين}.
حكم روايتها: لا حرج في جعل الإسرائيليات مصدرًا من مصادر التفسير، فإنّ هذا فعل كثير من السلف، مستحضرين الإذن النبوي في روايتها في قوله صلى الله عليه وسلم: "حدثوا عن بني إسرائيل و لا حرج".
ملاحظة: هذا الإذن ليس على إطلاقه بل بضوابط، و سيُوضّح أكثر في ما يلي بإذن الله تعالى.
اذكر أنواع الأخبار التي بلغتنا عن بني إسرائيل.
1- ما قصه الله في كتابه وما صح عن النبي من أخبارهم .
2- ما يرويه اهل الكتاب انفسهم وهو على ثلاثة أقسام ( قسم تم تصديقه من قبل شرعنا , قسم تم تكذيبهم به , قسم لم يصدقوا عليه ولم يكذبوا ) .
3- ما يرويه بعض الصحابة الذين قرؤوا كتب أهل الكتاب .
4- ما يرويه بعض الصحابة الذين لم يقرؤوا كتب أهل الكتاب .
5- ما يرويه بعض التابعين الذين قرؤوا كتب أهل الكتاب . وأكثر من تروى عنه الإسرائيليات: كعب الأحبار ووهب بن منبّه ونوف البكالي.
6- ما يرويه ثقات التابعين الذين قرؤوا كتب اهل الكتاب . ومن هؤلاء الثقات: سعيد بن المسيّب، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير
7- ما يرويه بعض من لا يتثبت فيخلط الصحيح بالضعيف ومن هؤلاء: السدّي ، والضحاك...وهؤلاء لا يتعمّدون الكذب، وهم أهل صدق في أنفسهم، ولهم صلاح وعناية بالعلم، لكنّهم وقعوا في آفة عدم التثبّت، وخلط الصحيح بالضعيف،
8- ما يرويه بعض شديدي الضعف والمتهمين بالكذب ومن هؤلاء : محمد الكلبي
9- ما يرويه أصحاب كتب التفاسير المشتهرة من تلك الإسرائيليات بأسانيدهم إلى من تقدّم؛ كما يروي ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم
10- المتأخرين من المفسرين كالثعلبي والماوردي والواحدي، وهذه التفاسير فيما تتفرّد به مظنة الإسرائيليات المنكرة لتساهل أصحابها في الرواية عن الكذابين والمتّهمين بالكذب وحذف الأسانيد اختصاراً.
اذكر القاعدة الضابطة لدراسة الإسرائيليات المروية عن الصحابة رضوان الله عليهم.
1- ننظر إلى المتن فإن كان منكراً : ننظر إلى الإسناد :(أ) فإن كان ضعيفا نحكم ببطلان نسبته إلى الصحابي الذي روي عنه .
(ب) وإن كان الإسناد ظاهره الصحة فنجمع طرقه ونبحث عن العلة فيه .
2- إن كان الإسناد غير منكر في أصله لكن فيه زيادات منكرة ، فننكر الزيادات ونتوقف في أصل القصة ، فقد تكون صحيحة من غير تلك الزيادات .
وقد جرت عادة المفسرين بذكر الروايات الصحيحة المتن وإن كان في إسنادها ضعف .
وغالب مايصح إسناده إلى الصحابة ليس في متنه نكارة .
أسباب شهرة الإسرائيليات المنكرة:
قد دخل الكثير من الإسرائيليات المنكرة إلى كتب تفسير المتأخرين، فمنهم من أكثر منها ، وجردها من الأسانيد، كما فعل الماوردي، وكان يحكيها على أنها من أقوال ابن عباس وكعب الأحبار ووهب بن منبه وسعيد بن المسيب ومجاهد وغيرهم دون التأكد من صحّة الإسناد إليهم (من فوائد إسناد الإسرائيليات معرفة ثبوتها عمّن حكاها، ومعرفة من رواها كذلك، فهي عن الصحابة ليست كروايتها عمّن دونهم ... وهكذا).
وليس ذلك فحسب، بل إنّ بعض المفسرين لا يستطيع حتى التّمييز بين الصّحيح و الضّعيف من هذه المرويّات، و ممّا زاد الطّين بلّة تداولها من طرف القُصّاص وزيادة الكذابين فيها ؛ فكان ذلك من أسباب شهرتها وذيوعها حتى دُوّنت في بعض التفاسير كالثعلبي والواحدي وغيرهما.
لخّص أحكام رواية الإسرائيليات.
صنيع المفسرين من لَدُن الصحابة إلى التابعين وتابعيهم إلى ابن جرير وكل من بعده من المفسرين؛ ذِكرُ الإسرائيليات في تفاسيرهم، فلا يكاد يخلو تفسير منها، إلا أنها متفاوتة قلة وكثرة.
و ليُعلم أنَّ أخبار بني إسرائيل على ثلاثة أحوال:
- أحدها : مقبول : فهذا يُصدَّق لأنه وَردَ في شرعِنا ما يدل على صحته.
- والثاني : مرفوض: و هو ما تَحقَّقنا أنه كذب، وأنه لا أَصل له، ودَلّت أُصولُنا وأحاديث النبيّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ على أنه كذب.
- والثالث : مسكوت عنه: وهو ما لم يُعلم صحته ولا كذبه، فهذا لا نُؤمنُ به - تصديقاً - ولا نكذّبُه.
ويلاحظ في هذا القسم أنه تجوز حكايته للاعتبارِ لا للاعتقادِ، لأنّ المشرّع صلى الله عليه وسلم أذن في روايتها في قوله: "حدثوا عن بني إسرائيل و لا حرج"، وعلى هذا عمل السلف في التفسير وغيره.
كذلك إذا كانت الرواية صحيحة و لكن احتوت على شيء من النّكارة، فيُستفاد من الصحيح و يُردُّ ما كان منكرا.
ومن الأمور التي يحسن التنبه لها أنَّ رواية السلف للإسرائيلية لا يعني قبول ما فيها من التفاصيل، فهذه الإسرائيليات هي من باب التفسير بالرأي، وليس كل ما فُسّر بالرأي و الاجتهاد قُبل، لذلك يُنبّه طالب العلم المبتدئ على عدم اعتماده لها في أول تحصيله العلمي، و ليكن مرجعه في أول الأمر إلى مراجع أهل الإسلام: الكتاب و السنة بفهم سلف الأمة.
هل الإذن بالتحديث عن بني إسرائيل يسوّغ الرواية عمّن عرف عنه الكذب في نقل أخبارهم؟
الإذن بالتحديث عن بني إسرائيل لا يسوّغ الرواية عمّن عُرف عنه الكذب في نقل أخبارهم، فمن عُلم كذبه لمخالفته أصول شريعتنا لا يصح تصديقه ولا قبوله ولا روايته ، وإذا رواه المفسّر في تفسيره وجب عليه بيان نكارته على سبيل الاعتبار والتشنيع ، وبيان تحريفهم. ويجب كذلك تكذيب الرواية المنكرة، كما كذّب ابن عباس نوفا البكالي لمّا زعم أنّ الذي لقي الخضر ليس موسى كليم الله، وإنّما هو رجل آخر اسمه موسى.


الساعة الآن 02:27 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir