المجموعة الثالثة:
1. فسّر بإيجاز قول الله تعالى:
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)}.
يأمر الله عزوجل بذكره في الأيام المعدودات وهي أيام التشريق ، أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ: يَوْمُ النَّحْرِ، وَثَلَاثَةُ أيام بَعْدَهُ
والذكر المأمور به عام يشمل كل ما يطلق عليه ذكر في تلك الأيام .فيدخل به
التكبير في أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات؛ وكذا التكبير عند رمى الجمرات؛ وكذا التكبير و الذكر على الأضاحي
فبينت الآية أن أيام التشريق أيام ذكر لله عزوجل كما ورد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روى الإمام أحمد عَنْ نُبَيشة الْهُذَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أيامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ".
ثم رخص الله عزوجل التعجل في الخروج من منى لمن أراد فقال سبحانه : {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"}
-
يعني من تعجل فنفر قبل غروب الشمس{ فلا إثم عليه } فلا ذنب عليه ؛{ و من تأخر } فمن لم ينفر حتى تغرب الشمس فليقم إلى الغد يوم الثالث ، فيرمي الجمار ، ثم ينفر مع الناس { فلا إثم عليه } لا ذنب عليه
وقد أعاد بيان رفع الإثم على المتأخر لرفع ما كان عليه الجاهلية من أن بعضهم قائل بإثم المتعجل ، وبعضهم بإثم المتأخر .
أو أن المعنى : لا إثم على المتأخر في ترك الأخذ بالرخصة.
{لمن اتقى } لمن اتقى في حجه فأتى به تاما كاملا لم يفرط في أركانه ولا واجباته ؛ و تجنب ما يجب عليه تجنبه في الحج من محظورات الحج كالصيد و النساء و غير ذلك.
ثم أمر الله عزوجل{ واتقوا الله } اتقوا الله في مَجامِع أمورِكم فاجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بفعل الواجبات وترك المحظورات.
{ واعلموا } يخوفهم { أنكم إليه تحشرون } في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم .
وأصلُ الحشر الجمعُ والضمُّ المتفرّق ، وهو تأكيدٌ للأمر بالتقوى وموجب للامتثال به ، فإن من علِم بالحشر والمحاسبة والجزاءِ كان ذلك من أقوى الدواعي إلى ملازمة التقوى .
2. حرّر القول في المسائل التالية:
أ: معنى قوله تعالى: {والفتنة أشد من القتل}..
قال تعالى :{..وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْوالفتنة أشد من القتل.}
أمر سبحانه جل وعلا المؤمنين بقتل الكافرين حيثما وجدوهم وأحكموا غلبهم قادرين عليهم لأنهم أخرجوا المهاجرين من ديارهم وهي مكة وعليه يكون الخطاب لهم أي للمهاجرين... و قيل الخطاب لجميع المؤمنين والذي أخرجوه هو الأعزل منهم والأجل قدرا وهو النبي صلى الله عليه وسلم فكان بمثابة إخراجهم جميعا..بعدما أمر بذلك .أخبر أن الفتنة أشد من القتل.
واختلف أهل التأويل في المراد بالفتنة
أولا : الشرك والكفر وهو قول أبي العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس .وهو قول الزجاج وابن كثير وذكره ابن عطية.
يقال : رجل مفتون في دينه أي كافر ...وإنما سمي الكفر فتنة , لأنه يؤدي إلى الهلاك كالفتنة.
وقيل في سبب ذلك أن الكفارعَيَّروا المؤمنين بأن قَتَلَ واقد بن عبد الله وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عَمْرو بن الحضرمي وكان مشركاً في الشهر الحرام ، فقالوا : قد استحلّ محمد القتال في الشهر الحرام ؛ فأخبر الله تعالى أن : { والفتنة أشدّ من القتل } يعني ما أنتم عليهم من الشرك والكفر بالله عزوجل في الحرم أشد في الحرم و أعظم جرما من القتل الذي عيروكم به في شأن ابن الحضرمي.
قال ابن كثير: ....وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ فِيهِ إِزْهَاقُ النُّفُوسِ وقتلُ الرِّجَالِ، نبَّه تَعَالَى عَلَى أَنَّ مَا هُمْ مشتملون عليه من الْكُفْرِ بِالْلَّهِ وَالشِّرْكِ بِهِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِهِ أَبْلَغُ وَأَشَدُّ وَأَعْظَمُ وأطَم مِنَ الْقَتْلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} .
قَالَ أَبُو مَالِكٍ: أَيْ: مَا أَنْتُمْ مُقِيمُونَ عَلَيْهِ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ.
ووجه كون الكفر والشرك أعظم من القتل..أن الكفر ذنب يستحق صاحبه به العقاب الدائم؛و القتل ليس كذلك..والكفر يخرج صاحبه به عن الأمة و الملة والقتل ليس كذلك
ثانيا : تعذيب المؤمنين و حملهم على الردة و الكفر والشرك.. وهو قول مجاهد ذكره ابن عطية .
وأصل الفتنة عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش ثم استعمل في الابتلاء والعذاب والصد عن دين الله والشرك به.... فالاختبار والابتلاء الذي يؤدي إلى الكفر أشد من القتل .
والمعنى ما أنتم عليه أيها الكفار من تعذيب المؤمنين وحملهم على الشرك والردة حتى يرجعوا عنه فيصيروا مشركين بالله من بعد إسلامهم أشدّ و أعظم من القتل في الأشهر الحرم.الذي ابتدأ به المؤمنون.....
وعلى هذا..ويكون المراد بالقتل ابتداء المؤمنين القتل في الأشهر الحرم.
وقيل المرد بالقتل هو قتل المؤمن محقا على دينه..فتختص معنى الفتنة في الردة نفسها
والمعنى.. الرجوع إلى الكفر أشدّ من أن يقتل المؤمن صابرا على دينه
- قال مجاهد : ارتداد المؤمن عن الدين أشد عليه من أن يقتل مُحِقّاً .
الثالث : هتك حرمات الله
والمعنى ما هو عليه –الكفار- من هتك حرمات الله أشدّ من القتل الذي أبيح لكم أيها المؤمنون أن توقعوه بهم .ذكره ابن عطية
الترجيح:
لا تعارض بين الأقوال فكلها صحيحة يمكن حمل الآية عليها و هي واقعة في حق الكفار. ومما يدل على ذلك أن قول الله عزوجل " الفتنة أشد من القتل" .تقرير وبيان أن ماهية الفتنة أشد وأعظم من ماهية القتل...ذلك أن القتل و الفتنة مصدران لم يذكر فاعلهما و لا مفعولهما.. ، فكل حال تتحقق فيه هذه النسبة كان داخلاً في عموم هذه الأخبار سوآء كان المصدر فاعله أو مفعوله : المؤمنون أم الكافرون.والله أعلم
ب: المراد بالظالمين في قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين}.
قوله تعالى : [ و قاتلوهم ] أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع ، على من رآها ناسخة، ومن رآها غير ناسخة قال : المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم :[ فإن قاتلوكم ] ..
{ فإن انتهوا } عن الأمر الذي وجب قتالهم لأجله وهو إما الكفر أو القتال..فإن انتهوا عن الكفر ، إما بالإسلام ، أو بأداء الجزية في حق أهل الكتاب.أو انتهوا عن قتالكم ..
فلا عدوان إلا على الظالمين المعنى : فلا قَتْلَ إلاّ على الظالمين
والنفي في قوله " فلا عدوان" يراد به النهى أي" فلا تعتدوا" وهو في سبيل المبالغة في النهى عن الاعتداء ولا يصح حمله على النهي لوجود الاعتداء على غير الظالم
وهو من الأساليب العربية.. العدول من النهى عن الشيء إلى النفي المحض العام للمبالغة في النهى وترك الإقدام عليه كأنه صار من الأشياء المنفية التي لا تقع .
والمراد بالظالمين
-أولا: هم الذين وجب القتال لأجلهم وهم نوعان على تأويل الآية من بدأ بقتالكم في الأشهر الحرم..أو الكافرون المشركون ثم لم ينتهوا عن ذلك .
والمعنى{ فَإِنِ انْتَهَوْاْ } عن قتالكم وتركوا الشرك فلا تعتدوا عليهم و الحال أنهم قد تخلصوا مما كانوا فيه من الظلم الذي هو الشرك وبدأكم بالقتال. ودخلوا في ملتكم وأقرُّوا بما ألزمكم الله من فرائضه، وتركوا ما هو عليه من عبادة الأوثان فلا تعدوا عليهم .ولا تقاتلوهم لأن الاعتداء لا يكون إلا على الظالمين...المشركين الكافرين الذين أصروا على كفرهم و الذين بدؤوكم بالقتال في الأشهر الحرم ...
وهو قول أبى العالية وعكرمة وقتادة ومجاهد
-قال عكرمة ، وقتادة : الظالم هنا من أبى أن يقول لا إله إلاَّ الله .
- وعن مجاهد:"فإن انتهوا فلا عُدوان إلا على الظالمين" يقول: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم.
و إنما سمي الكافر والمشرك ظالماً ، لوضعه العبادة في غير موضعها ؛ وكذا سمى المبتدأ للقتل في أشهر الحرم ظالما . لأنه تجاوز حد حكم القتال
-قال الأخفش المعنى : فإن انتهى بعضهم فلا عدوان إلاَّ على من لم ينته ، وهو الظالم
- ومما يدل عليه أن جواب الشرط "فإن انتهوا" محذوف قام مقامه
{ فلا عدوان إلا على الظالمين} لأنه علة الجواب المحذوف ، والمعنى فإن انتهوا عن قتالكم ولم يقدموا عليه فلا تأخذوهم بالظنة ولا تبدءوهم بالقتال ، لأن العدوان على الظالمين والمنتهون ليسوا بظالمين .
-والله عزوجل لا يحب الاعتداء ولا المعتدين كما قال تعالى "{ إنه لا يحب المعتدين"}
و إنما سمى قتال الظلمة اعتداء لأنه جزاء العدوان، وإن لم يكن هو في الحقيقة عدوانا و هو من باب مشاكلة اللفظ وتسمية الجزاء بالذنب
كقوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) ،وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ}
وهذا من أساليب العرب المعروفة
وهو كما يقال:"إن تَعاطيتَ منّي ظلما تعاطيته منك"، والثاني ليس بظلم،
و كما قال عمرو بن شأس الأسديّ:
جزينا ذوي العدوان بالأمس قرضهم قصاصا ، سواء حذوك النعل بالنعل
ثانيا: من قاتلهم بعد انتهاءهم فهو ظالم..أو أن مقاتلة المنتهين عدوان وظلم...ذكره ابن كثير
المعنى: من تعرض لهم بعد انتهائهم عن الشرك والقتال كان ظالما ولا عدوان إلا على الظالمين. فحق أن يُعتدى عليه بالقتل.
قال مجاهد لا يقاتل إلا من قاتل
قال الزمخشري:. : فلا تعتدوا على المنتهين لأن مقاتلة المنتهين عدوان وظلم ، فوضع قوله : إلاَّ على الظالمين ، موضع : على المنتهين. انتهى كلامه
و العدوان هنا مصدر عدا بمعنى وثب وقاتل .
و في هذا المعنى إشارة وتنبيه أن الظالم لا يأمن أن يسلط الله عليه من يعتدي عليه جزاء على ظلمه و اعتدائه
الترجيح
اكتفى ابن عطية على القول الأول و صدر ابن كثير القول الأول. وكلا المعنيين ينصبان في معنى واحد ولا تعارض بينهما
فإن الله عزوجل أخبر ونبه عن موجب الاعتداء و سببه وهو الظلم ...فكل من تلبس بصفة الظلم سواء كان بالقتل أو بالكفر و الشرك وسواء كان ذلك الفاعل كافرا أو مؤمنا فإن ظلمه يبيح الاعتداء عليه جزاء سيئة مثلها... وجاءت الآية بأسلوب القصر دلالة أنه لا اعتداء علي غيرهم
ونعتهم بالظلم إشارة وبيان أن فعلهم ذلك ظلم ؛ و فيه أيضا بيان لعلة قتالهم.وفيه تعميم الحكم على كل ظالم.
3. بيّن ما يلي:
أ: سبب نزول قوله تعالى: {وأتوا البيوت من أبوابها}.
ورد في سبب نزولها أقوال..
أولا .:
سبب ذلك الإحرام.. أن ناس من العرب كانوا إذا أحرموا بالحج أو العمرة لم يدخلوا من أبواب بيوتهم إذا قدموا .بل يأتون البيوت من ظهورها بجعل في ظهر البيوت فتوحا يدخلون منها..وقيل بل كانوا يتسنمون ظهور بيتوهم على الجدرات
عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانُوا إِذَا أَحْرَمُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أتَوْا الْبَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} رواه البخاري في صحيحه
وقد ورد في تعين أولئك الناس أقوال:
-قيل هم الأنصار وهو قول مجاهد وقتادة و البراء بن عازب والزهري وإبراهيم النخعي والسدي والربيع بن أنسذكره ابن عطية وابن كثير
-قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ: كَانَتْ قُرَيْشٌ تُدْعَى الحُمْس، وَكَانُوا يَدْخُلُونَ مِنَ الْأَبْوَابِ فِي الْإِحْرَامِ، وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ وَسَائِرُ الْعَرَبِ لَا يَدْخُلُونَ مِنْ بَابٍ في الإحرام، فبينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بُسْتَانٍ إذْ خَرَجَ مِنْ بَابِهِ، وَخَرَجَ مَعَهُ قُطْبة بْنُ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ قطبة ابن عَامِرٍ رَجُلٌ تَاجِرٌ وَإِنَّهُ خَرَجَ مَعَكَ مِنَ الْبَابِ. فَقَالَ لَهُ: "مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ " قَالَ: رَأَيْتُكَ فعلتَه ففعلتُ كَمَا فعلتَ. فَقَالَ: "إِنِّي رجل أَحْمُسُ". قَالَ لَهُ: فَإِنَّ دِينِي دِينُكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ
- وروى الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل وخلفه رجل أنصاري فدخل وخرق عادة قومه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم دخلت وأنت قد أحرمت؟، قال: دخلت أنت فدخلت بدخولك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني أحمس، أي من قوم لا يدينون بذلك، فقال الرجل: وأنا ديني دينك، فنزلت الآية.
-وقيل بل هم أهل الحجاز ذكره ابن عطية عن إبراهيم النخعي
وقيل هم قوم من قريش يقال لهم الحمس ذكره الزجاج وابن عطية عن السدي
والحمس قوم من قريش ؛بنو عامر بن صعصعة وثقيف وخزاعة كانوا إذا خرج أحدهم من الإحرام لم يدخل من بيته .
وسموا الحمس لأنهم تحمسوا في دينهم ؛ أي تشددوا , والحَمَاسَةُ الشدة . أفاده الزجاج
وقيل الحمس قريش
- قال السدي: ناس من العرب، وهم الذين يسمون الحمس، قال: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم بابا ومعه رجل منهم، فوقف ذلك الرجل وقال إني أحمس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أحمس، ونزلت الآية.
و خص بغضهم سبب النزول بالعكوف خاصة قال محمد بن كعب كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت فأنزل الله الآية ذكره ابن كثير.
ثانيا : سبب نزولها السفر
وهو أن جماعة من العرب كانوا إذا خرج الرجل منهم في حاجة فلم يقضيها و لم تتيسر له رجع فلم يدخل من باب بيته تطيرا فأعلمهم الله أن ذلك لا بر فيه .
-قال الحسن البصري : كان أقوام من أهل الجاهليّة إذا أراد أحدُهم سَفرًا وخرج من بيته يُريد سفره الذي خرج له ، ثم بدا له بَعْد خُروجه أن يُقيم ويدعَ سفره ، لم يدخل البيت من بابه ، ولكن يتسوّره من قبل ظهره ، فقال الله تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ] } الآية .
وقيل الفاعل ذلك الأنصار
-عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: كَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَر لَمْ يَدْخُلُ الرَّجُلُ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. رواه الطيالسي في مسنده.
ثالثا : سبب نزولها الرجوع من العيد
أن أهل المدينة كانوا إذا رجعوا من عيدهم فعلوا ذلك، وهو قول عطاء بن أبي رباح ذكره ابن كثير.
-وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: كَانَ أَهْلُ يَثْرِبَ إِذَا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ دَخَلُوا مَنَازِلَهُمْ مِنْ ظُهُورِهَا ويَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ أَدْنَى إِلَى الْبَرِّ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}
ب: أقوال أهل العلم في نسخ قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم}.
اختلف أهل العلم في نسخ هذه الآية و ما هو الناسخ لها:
على قولين
أولا : من قال أنها منسوخة.
كان في ابتداء الإسلام ، أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالكف عن قتال المشركين ، ثم لما هاجر إلى المدينة أمره بقتال من قاتله منهم بقوله تعالى "{ {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} أي أن القتال يباح في حق من قاتل من الكفار ، ولا يباح في حق من لم يقاتل ، ثم أمرهم بقتل جميع المشركين ؛ وعليه تكون هذه الآية منسوخة وهو مذهب منهم أبى العالية زيد بن أسلم و الربيع بن أنس.
-عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} قَالَ: هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُ مَنْ قَاتَلَهُ، وَيَكُفُّ عَمَّن كَفَّ عَنْهُ حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٍ..
--قال الربيع بن أنس : هذه أول آية نزلت في القتال ، ثم أمره بقتال المشركين كافة ، قاتلوا أو لم يقاتلوا بقوله ( فاقتلوا المشركين ) فصارت هذه الآية منسوخة بها .
وخص الزجاج الآية بأهل مكة ؛أمر الله بقتالهم.
ثم اختلفوا في الناسخ لها
- قيل الناسخ لها آية براءة في قوله تعالى :{ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } [التوبة: 36] وهو قوله الربيع بن أنس كما سبق ذكره .
-وقيل أن الناسخ لها قوله تعالى "{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} ذكره ابن عطية ولم يعزه إلى أحد
-وقيل الناسخ لها قوله تعالى :{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وهو قول عبد الرحمان بن زيد بن أسلم .ذكره ابن كثير
ثانيا:الآية ليست منسوخة
وهو قول ابن عباس و مجاهد وعمر بن عبد العزيز..وهو قول ابن كثير
و تأويل الآية : الأمر بقتال الذين هم بحالة من يقاتلكم ، ولا تقاتلوا من ليسوا بحالة من يقاتلكم كالنساء والأطفال والشيخ الكبير و الرهبان وغيرهم . ذكره ابن عطية
.
وقيل أن قوله: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} إِنَّمَا هُوَ تَهْييج وَإِغْرَاءٌ بِالْأَعْدَاءِ الَّذِينَ همّتْهم قِتَالُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، أي: كما يُقَاتِلُونَكُمْ فَقَاتِلُوهُمْ أَنْتُمْ، كَمَا قَالَ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} . ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أَيْ: لِتَكُنْ هِمَّتُكُمْ مُنْبَعِثَةً عَلَى قِتَالِهِمْ، كَمَا أَنَّ هِمَّتَهُمْ مُنْبَعِثَةٌ عَلَى قِتَالِكُمْ، وَعَلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنْ بِلَادِهِمُ التِي أَخْرَجُوكُمْ مِنْهَا، قِصَاصًا. ذكره ابن كثير.
وقد رد رحمه الله تعالى مقول من قال أن هذه الآية أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ بِالْمَدِينَةِ
بأن الأشهر أن أول آية نزلت في القتال بعد الهجرة ما حكي عن أبى بكر الصديق ، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} ...
ثم قال :وَهُوَ الْأَشْهَرُ وَبِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ.
ج: المراد بالجدال في الحجّ.
ورد في المراد به قولان
أولا:
الجدال مصدر جادل ؛ . والجدال : أشدُّ الخصام ، مشتقٌّ من الجدالة ، وهي الأرض لصلابتها وشدتها ؛ كأن كلَّ واحد من المتجادلين يرمي صاحبه بالجدالة .
الجدال هنا بمعنى الخصومة ..كقوله سبحانه : { ما يجادل في آيات الله } ...أي
"لَا تتخاصموا وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ" وهو قول ابن مسعود وابن عباس وعطاء ومجاهد والضحاك، أَبي الْعَالِيَةِ، ، وَسَعِيد بن جُبَيْرٍ، وعكرمة وجابر بن زيد ومكحول ؛ وعمر بن دينار ؛ والسدي ؛والضحاك ؛والربيع بن أنس؛ وإبراهيم؛ والنخعي ؛وَعَطَاء بن يَسَارٍ ؛والحسن ؛وقتادة؛و الزهري؛ ومقال بين حيان ذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير
فيدخل فيه النهي عن كل خصومة تكون في الحج مما يذهب هيبة وتعظيم أمر الحج.كالسباب و النزاع و الشجار
قال الزجاج:. لا ينبغي لرجل أن يجادل أخاه فيخرجه الجدال إلى ما لا ينبغي تعظيما لأمر الحج
- الآثار الواردة عن السلف في تعين الخصومة.
أولا: نهى عن أن يجادل صاحبه حتى يغضبه.
-عن ابْنُ مَسْعُودٍ -فِي قَوْلِهِ: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قَالَ: أنْ تُمَارِيَ صَاحِبَكَ حَتَّى تُغْضِبَهُ.
- قال ابن عباس وغيره : الجِدَالُ هنا : أن تماري مسلماً
وعنه أيضا قَالَ الْجِدَالُ: الْمِرَاءُ وَالْمُلَاحَاةُ، حَتَّى تُغْضِبَ أَخَاكَ وَصَاحِبَكَ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ..
- وعن قتادة قالا الجدال هو الصخب والمراء وأنت محرم
- عَنْ عِكْرِمَةَ: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وَالْجِدَالُ الْغَضَبُ، أَنْ تُغْضب عَلَيْكَ مُسْلِمًا، إِلَّا أَنْ تَسْتَعْتِبَ مَمْلُوكًا فتُغْضبه مِنْ غَيْرِ أَنْ تَضْرِبَهُ، فلا بأس عليك، إن شاء الله.
ثانيا:السباب
- وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: الْجِدَالُ: السِّبَابُ وَالْمُنَازَعَةُ.
- وعنه أيضا كَانَ يَقُولُ: الْجِدَالُ فِي الْحَجِّ: السِّبَابُ، وَالْمِرَاءُ، وَالْخُصُومَاتُ.
ثالثا:
الجدال: الفخر بالآباء...ذكره ابن عطية.
ويستثنى من هذه الخصومة ما كان من تمام الحج كضرب البعير؛ إذ بسببه يكون الوصول إلى مكان المناسك
كما قال ابن كثير حَكَى بعضُهم عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ ضَرْبُ الْجِمَالِ..
ويستثنى من ذلك ما كانت الخصومة لإحقاق حق و إبطال باطل..
قال عكرمة عَنْ عِكْرِمَةَ: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وَالْجِدَالُ الْغَضَبُ، أَنْ تُغْضب عَلَيْكَ مُسْلِمًا، إِلَّا أَنْ تَسْتَعْتِبَ مَمْلُوكًا فتُغْضبه مِنْ غَيْرِ أَنْ تَضْرِبَهُ، فلا بأس عليك، إن شاء الله. ..قال ابن كثير وَلَوْ ضَرَبَهُ لَكَانَ جَائِزًا سَائِغًا.
واستدل على ذلك بحديث رواه الإمام أحمد ..أن أبا بكر ضرب غلاما له وهو محرم لأنه ضيع بعيرا له فقال النبي صلى الله عليه وسلم
وهو يَتَبَسَّمُ وَيَقُولُ: "انْظُرُوا إِلَى هَذَا المُحْرِم مَا يَصْنَعُ؟ ".
قال ابن عاشور:..واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه فالمنهي عنه هو ما يجر إلى المغاضبة والمشاتمة وينافي حرمة الحج ولأجل ما في أحوال الجدال من التفصيل كانت الآية مجملة فيما يفسد الحج من أنواع الجدال فيرجع في بيان ذلك إلى أدلة أخرى .
الثاني:
الجدال بمعنى الشك أي لا شك ولا مراء والمجادلة في فرض الحج ووقته ومناسكه . وقول ابن عباس ومجاهد والسدي ذكره الزجاج و ابن كثيرَ
والمعنى لا يصح و لا ينبغي أن يقع منكم مُجَادَلَةَ فِي وَقْتِ الْحَجِّ وَفِي مَنَاسِكِهِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ أتَمّ بَيَانٍ وَوَضَّحَهُ أَكْمَلَ إِيضَاحٍ.
فيدخل فيه النهى عن المراء والشك والخصومة في كل ما يتعلق بالحج من حيث فرضه و مناسكه و ثبوته أشهره وغير ذلك. فيدخل فيه
قال مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قَالَ: قَدِ اسْتَقَامَ الْحَجُّ، فَلَا جدَال فِيهِ
أولا:
- من ذلك ما كان عند العرب من التغيير و تبديل أشهر الحرم فتنسئ العرب أشهر الحرم حتى لا يتوالى ثلاث أشهر حرم لا إغارة فيها فيحرمون صفر وربما سموه المحرم..
ذكره ابن عطية وابن كثير وقال ابن عطية .وهذا أصح الأقوال وأظهرها،
-قال مجاهد وجماعة معه: الجدال أن تنسى العرب الشهور حسبما كان النسيء عليه، فقرر الشرع وقت الحج وبينه، وأخبر أنه حتم لا جدال فيه.
وأسند الطبري عن مجاهد أنه قال: كانوا يسقطون المحرم ثم يقولون صفران لصفر وشهر ربيع الأول، ثم كذلك ينقلون أسماء الشهور، ويتبدل وقت الحج في الحقيقة، لكنه يبقى في ذي الحجة بالتسمية لا في حقيقة الشهر..
فكان حج أبي بكر سنة تسع في ذي القعدة على الحقيقة ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة على الحقيقة، وحينئذ قال: «إن الزمان قد استدار» الحديث، ونزلت وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ أي قد تبين أمره فلا ينتقل شهر البتة أبدا.
ومما يقوي هذا المعنى قوله تعالى { الحج أشهر معلومات } والتقدير أشهر الحج و وقت الحج أشهر معلومات؛ فلما قرر ذلك في بداية الآية وبينه نبه أنه لا يصح المراء و الشك في هذه الأشهر و الجدل في تعيينها ..
ومما يترب على هذا القول اختلافهم في بدأ وقت الحج..لهذا خصه بعض أهل العلم في المراد بالجدال
قال ابن عطية :وقالت فرقة: الجدال هنا أن تقول طائفة: الحج اليوم وتقول طائفة بل الحج غدا.
-عن مجاهد:" ولا جدال في الحج"، قال: قد علم وقت الحج، فلا جدال فيه ولا شك.
- وعنه أيضا. قال: هو شهر معلوم لا تنازع فيه.
ثانيا
المراء في مواقف الحج ؛ أيهم أصاب موقف إبراهيم
-قال مالك وابن زيد: الجدال هنا أن يختلف الناس أيهم صادف موقف إبراهيم عليه السلام كما كانوا يفعلون في الجاهلية حين كانت قريش تقف في غير موقف سائر العرب ثم يتجادلون بعد ذلك.
- وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَانُوا يقفُون مَوَاقف مُخْتَلِفَةً يَتَجَادَلُونَ، كُلّهم يَدَّعِي أَنَّ مَوْقِفَهُ مَوْقِفُ إِبْرَاهِيمَ فَقَطَعَهُ اللَّهُ حِينَ أَعْلَمَ نَبَّيه بِالْمَنَاسِكِ.
ثالثا :
-المراء فيمن هو أتم حجا من الحجاج.
-قال محمد بن كعب القرظي: الجدال أن تقول طائفة حجنا أبر من حجكم وتقول الأخرى مثل ذلك.
الترجيح
رجح كل من ابن جرير و ابن عطية أن المراد بالجدال ما كان حاصل واقع في التنازع في بيان أشهر الحج ووقته . .
ولم يرجح ابن كثير..
والقولان تحتملهما الآية ..لكن لعل أولاها بالقبول هو النهي عن التنازع في مناسك الحج ووقته .لأن النهي عن الخصومة في الحج يدخل في قوله {ولا فسوق} و الخصومة معصية من المعاصي تدخل في ماهية الفسوق.
ويكون أكثر الأقوال موافقة لسياق الآية النهى عن الشك والمراء في تعيين أشهره ووقته لقوله تعالى "{ الحج أشهر معلومات"} ؛ أي أن الحج قد استقام أمره وعرف وقته وزال النسيء عنه. فلا جدال فيه ..
والله أعلم