دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم اللغة > متون علوم اللغة العربية > الأدب > بانت سعاد

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19 محرم 1430هـ/15-01-2009م, 08:55 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي شرح البردة (2/7): أكرم بها خلة لو أنها صدقت ... موعودها أو لو ان النصح مقبول


6- أَكْرِمْ بها خُلَّةً لو أنها صَدَقَتْ = مَوْعُودَها أَوْلَوْ انَّ النُّصْحَ مَقبولُ
7- لكنَّها خُلَّةٌ قد سِيطَ مِن دَمِها = فَجْعٌ ووَلْعٌ وإِخْلاَفٌ وتَبديلُ
8- فما تَدومُ على حالٍ تكونُ بها = كما تَلَوَّنُ في أَثوابِها الغُولُ
9- ولا تَمَسَّكُ بالعَهْدِ الذي زَعَمَتْ = إلا كَمَا يُمْسِكُ الماءَ الْغَرَابِيلُ
10- فلا يَغُرَّنْكَ ما مَنَّتْ وما وَعَدَتْ = إنَّ الأمانِيَّ والأحلامَ تَضليلُ
11- كانت مَواعيدُ عُرقوبٍ لها مَثَلاً = وما مَواعِيدُها إلا الأَبَاطِيلُ
12- أَرْجُو وآمُلُ أن تَدْنُو مَوَدَّتُها = ومَا إِخالُ لَدَيْنَا مِنْكِ تَنويلُ


  #2  
قديم 20 محرم 1430هـ/16-01-2009م, 08:35 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح الخطيب يحيى بن علي التبريزي

6- أكْرِمْ بها خُلَّةً لَوْ انَّها صدَقَتْ مَوْعُودَهَا أَوْ لَوَ انَّ النُّصْحَ مقبولُ

ويُرْوَى ( فَيَا لَهَا خُلَّةٌ )، ومعناها التعجُّبُ، والخُلَّةُ في هذا الموضعِ مثلُ الخِلِّ، وهوَ الخليلُ، قالَ الشاعرُ:

ألا أَبْلِغَا خُلَّتِي جابراً بأنَّ خليلَكَ لمْ يُقْتَلِ

( والخُلَّةُ ): الصداقةُ أيضاً.
وقولُهُ:صَدَقَتْ موعودَها، أيْ: في موعودِها؛ أيْ: ما أكرَمَها لوْ وفَتْ بموعودِها، أوْ قَبِلَت النصحَ.


7- لَكِنَّها خُلَّةٌ قَدْ سِيطَ منْ دَمِها فَجْعٌ ووَلْعٌ وإخلافٌ وتبديلُ

( سِيطَ )؛ [ أيْ ]: خُلِطَ، يُقالُ: ساطَ الشيءَ يَسُوطُهُ سوطاً إذا خلطَ شيئيْنِ بعضَهُ ببعضٍ في إناءٍ ثمَّ ضرَبَهُما بيَدِهِ حتَّى يخْتَلِطَا، وَبهِ سُمِّيَ السوطُ الذي يُضْرَبُ بهِ؛لأنَّهُ يَسُوطُ اللحمَ بالدمِ؛ أيْ: يخْلِطُهُ، ويُقالُ: شَاطَهُ أيضاً ( بالشينِ مُعْجَمَةً ) بمعنى: سَاطَهُ، قالَ المُتَلَمِّسُ:

أَحَارِثُ إنَّا لوْ تُسَاطُ دماؤُنا تَزَايَلْنَ حتَّى لا يمَسَّ دَمٌ دَمَا

ويُرْوَى: ( لوْ تُشَاطُ ).
و( الفَجْعُ ) مصدرُ : فَجَعَهُ بالشيءِ يفْجَعُهُ فَجْعاً إذا أصابَهُ بهِ و( الوَلَعُ ): الكَذِبُ، يُقالُ: ( وَلَعَ يَلَعُ وَلْعاً وَلعَانًا ) إذا كَذَبَ، ومعناهُ: أنَّ هذهِ المرأةَ قدْ خَلَطَتْ بدَمِها هذهِ الأشياءَ المذكورةَ، وهيَ أنَّها تَفْجَعُ صاحِبَها وتَكْذِبُ لهُ، وتُخَالِفُهُ وتستبدِلُ بهِ، ولا تُبْقِي على حالِهِ.

8- فما تدُومُ على حالٍ تكونُ بها كما تَلَوَّنُ في أثوابِها الغُولُ

كأنَّ هذا البيتَ إيضاحٌ لِمَا قبلَهُ في أنَّها لا تدُومُ على حالةٍ واحدةٍ، وتتلَوَّنُ ألْوَاناً كما تتَلَوَّنُ الغولُ. وحقيقةُ الغولِ أنَّ كُلَّ ما اغتالَ الإنسانَ فأهلَكَهُ فهوَ غُولٌ، والعربُ تُسَمِّي كلَّ داهيَةٍ غُولاً على التهويلِ والتعظيمِ ؛ على ما جَرَتْ عادَتُهم في غيرِها من الأشياءِ التي لا أصلَ لها ولا حقيقةَ كالعنقاءِ والهديلِ وغيرِهما، وقدْ قالَ بعضُ المُتَأَخِّرينَ شعراً:

الجُودُ والغُولُ والعنقاءُ ثلاثةٌ+ أسماءُ أشياءَ لمْ تُخْلَقْ ولَمْ تَكُنِ
9- فلا تَمَسَّكُ بالعَهْدِ الَّذِي زَعَمَتْ إلاَّ كما تُمْسِكُ المَاءَ الغَرَابِيلُ

أيْ:إمسَاكُها بالعهدِ الذي إذا عاهَدَتْ كإمساكِ الغَرَابِيلِ الماءَ، وكما أنَّ هذا لا يكونُ، كذلكَ إمسَاكُها بالعهدِ لا يكُونُ، ومعناهُ:أنَّهُ لا يُوثَقُ بوَصْلِها، وهذا نحوُ قولِهِ:

وإنْ حَلَفَتْ لا يَنْقُضُ النَّأْيُ عهدَها فليسَ لمَخْضُوبِ البَنَانِ يَمِينُ
10- فلا يَغُرَّنَّكَ ما مَنَّتْ وما وَعَدَتْ إنَّ الأمانِيَّ والأحْلامَ تَضْلِيلُ

أيْ: لا يغُرَّنَّكَ ما تُمَنِّيكَ وتَعِدُكَ؛فإنَّ أُمْنِيَتَكَ منها وحُلْمَكَ سواءٌ، وكِلاهُما تضليلٌ، وَ( تَضْلِيلٌ ) تَفْعِيلٌ من الضلالِ.

11- كانَتْ مَوَاعيدَ عُرْقُوبٍ لها مثلاً وما مواعيدُها إلاَّ الأبَاطِيلُ

( عُرْقُوبٌ ) رجلٌ من العَمَالِيقِ، وهوَ عُرْقُوبُ بنُ مَعِيدٍ، أوْ مَعْبِدٍ، أحدُ بني عبدِ شمسِ بنِ ثعلبةَ، وكانَ منْ حدِيثِهِ أنَّهُ وَعَدَ رجلاً ثمرةَ نخْلَةٍ، فجَاءَهُ الرجلُ حينَ أطْلَعَتْ، فقالَ: دَعْهَا حتَّى تَصِيرَ بلحاً، فلمَّا أبْلَحَتْ قالَ: دَعْهَا حتَّى تصيرَ رُطَباً، فلَمَّا أرْطَبَتْ، قالَ: دَعْهَا حتَّى تصيرَ تمراً، فلَمَّا أتْمَرَتْ عَمِدَ إليها بالليلِ وجَذَّهَا فلمْ يُعْطِهِ منها شيئاً، فصارَ مثلاً في الخُلْفِ، فقيلَ: أخْلَفُ مِنْ عُرْقُوبٍ.
قالَ الأشجعيُّ:

وَعَدْتَ وكانَ الخُلْفُ منكَ سَجِيَّةً مَوَاعيدَ عُرْقُوبٍ أَخَاهُ بِيَتْرَبَ

الناسُ يرْوُونَ: ( أَخَاهُ بيَثْرِبَ )، يعْنُونَ بِيَثْرِبَمدينةَ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، ويقولونَ: إنَّهُ كانَ رجلاً منْ سُكَّانِ يَثْرِبَ. والصحيحُ ما ذَكَرَهُ ( ابنُ الكَلْبِيِّ ) أنَّ رِوَايَةَ ( عُرْقُوبٍ أَخَاهُ بِيَتْرَبَ ) بالتاءِ وفتحِ الراءِ، وذكرَ أنَّ يَتْرَبَ موضعٌ يَقْرُبُ من اليمامةِ، وهذا البيتُ يُؤَكِّدُ ما تقدَّمَهُ منْ أنَّ هذهِ المرأةِ لا تَفِي بموعودِها إذا وعَدَتْ، فمَوَاعيدُها كمواعيدِ عُرْقُوبٍ الذي سارَ بهِ المثلُ في الخُلْفِ.

12- أَرْجُو وآمَلُ أنْ تَدْنُو مودَّتُها وما إِخَالُ لدَيْنَا منكِ تَنْوِيلُ

( إِخَالُ ) أَظُنُّ ( بكسرِ الهمزةِ وفتحِها، والكسرُ أفصحُ )، وَ( تنويلُ ) تفعيلٌ من النَّوَالِ، ويُرْوَى:

أرْجُو وآمَلُ أنْ يَعْجِلَنْ في أَبَدٍ وَمَا لَهُنَّ طُوَالَ الدهرِ تَعْجِيلُ

[ والأَبَدُ: الدهرُ. فكأنَّهُ رَجَا مِنْهُنَّ أنَّ يَفِينَ بموعودِهِنَّ وهُنَّ لا يَعْجَلْنَ بذلكَ ].

  #3  
قديم 20 محرم 1430هـ/16-01-2009م, 08:57 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح كمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري

أَكْـرِمْ بِـهَا خـُلَّةً لَوْ أَنَّـهَا صَـدَقَــتْ مَـوْعُـودَهَا أَوْ لَوَ انَّ النــُّصْـحَ مَقْــبُـولُ

أَكْرِمْ (بِهَا): أي: ما أَكْرَمَهَا، كَقَوْلِه تعالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ..}

أي: ما أَسْمَعَهُم وأَبْصَرَهُم، و"خُـلَّةً": منصوبٌ على التَّمْييزِ. والخُلَّةُ: الخَلِيلُ كَقَـوْلِه:
أَلاَ أَبْــلِغـا خُـلَّتِـي جَـابِـراً بِأَنَّ خَــلِيـلَكَ (لَمْ) يُــقْـــتَلِ
"مَوْعُودَها": مَنْصُوبٌ بـ" صَدَقَتْ ", والتقديرُ فيه: صَدَقَتْ فِي مَوْعُودِهَا، فلَمَّا حُذِفَ حَرْفُ الجَرِّ اتَّصَلَ به الفِعْلُ فنَصَبَه. والمعنى: ما أَكْرَمَها خَلِيلاً لو وَفَتْ بالوَعْدِ وقَبِلَتْ بالنُّصْحِ.

لَكِنَّـهَا خُـلَّـةٌ قَـدْ سِـِيـطَ مِنْ دَمِـهَا فَـجْعٌ، وَوَلْـعٌ وَإِخْــلافٌ وَتَـبْـدِيـلُ
"سِيطَ": خـُلِطَ. يُقَالُ: سَاطَ الشَّيْءَ يَسُوطُه سَوْطاً: إِذَا خَلَطَ بَعْضَه بِبَعْضٍ، وسَوَّطَ فلانٌ أَمْرَه تَسْوِيطاً إذا خَلَطَهُ.

و"فَجْعٌ": مَصْدَرٌ, فجَعَهَ بالشيءِ يَفْجَعُه فَجْعاً: إذا أصَابَه.
ووَلْعٌ: كَذِبٌ، ومِنه يُقالُ: رَجُلٌ وَالِعٌ، أي: كاذِبٌ.
وإِخْلاَفٌ: أي: في مَوْعِدِها.
وتَبْدِيلُ: أي: بصَاحِبِها.
والمعنى: أنَّ هذه الأشياءَ خُلُقُها, كأنَّها قد خُلِطَتْ مِن دَمِها.
فَمَا تَـدُومُ عَلَـى حَـالٍ تَــكُـونُ بِهَا كَمَا تَلَوَّنُ فِي أَثْــوَابِــهَا الْغُــولُ
الحالُ: تُـذَكَّرُ وتُؤَنَّثُ، وهي هَهُنا مُؤَنَّثَةٌ؛ لقَوْلِه: " بِهَا ". و "تَلَوَّنُ" أصْلُه تَتَلَوَّنُ، فاجْتَمَعَ حَرْفانِ مُتَحَرِّكَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فحُذِفَتْ إِحْدَى التائَيْنِ تَخْفِيفاً.

واخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ في المحذوفةِ منهما؛ فذَهَبَ البَصْرِيُّونَ إلى أنَّ المَحْذُوفَةَ مِنهما الأَصْلِيَّةُ, وذَهَبَ الكُوفِيُّونَ إلى أنَّ المحذوفةَ مِنهما الزائِدَةُ.
والصَّحِيحُ هي أنَّ المحذوفةَ مِنهما الأصليةُ؛ لأن الزائِدَةَ دَخَلَتْ لمعنًى، والأصليةُ ما دَخَلَتْ لمعنًى، فكانَ حَذْفُها أوْلَى.
والغُولُ عِنْدَهم مَعْرُوفَةٌ، وسُمِّيَتْ غُولاً بِتَلَوُّنِها، مِن قَوْلِهم: تَغَوَّلَتْ عَلَيَّ البِلادُ إِذَا تَلَوَّنَتْ.
وقِيلَ: سُمِّيَتْ غُولاً؛ لأنها تَغْتَالُ الإنسانَ وتُهْلِكُه. والعَرَبُ تُسَمِّي كلَّ شَيْءٍ اغْتَالَ الإنسانَ وأَهْلَكَه غُولاً.
والمعنى: أن هذه المرأَةَ لا تَثْبُتْ على حالٍ، وتَتَلَوَّنُ في أَحْوَالِها كَتَلَوُّنِ الغُولِ.
وَلاَ تَمَسَّكُ بِالْعَهْدِ الـَّذِي زَعَــمَــتْ إِلاَّ كَـمَا يُـمْسِــكُ الْمَـاءَ الْغَــرَابِيــلُ
يعني: أنَّ إِمْسَاكَ هذه المَرْأَةِ بعَهْدِها لا يَكُونُ، كما أنَّ إِمْساكَ الغَرَابِيلِ للماءِ لا يَكُونُ.

وَلاَ يَــغُـرَّنْـكَ مَا مَنَّــتْ وَمَـا وَعَـدَتْ إِنَّ الأَمَــانِـيَّ وَالأَحْــلامَ تَـضْلِيـلُ
"الأَمَانِيَّ": جَمْعُ أُمْنِيَةٍ، وهي ما يَتَمَنَّاهُ الإنسانُ ويَشْتَهِيهِ. و "الأَحْلاَمَ" جَمْعُ حُلْمٍ.

و "تَضْلِيلُ" تَفْعِيلٌ، مِن الضَّلاَلِ.
والمعنى: أنَّ أَمَانِيَّكَ مِن هذه المرأةِ بِمَنْـزِلَةِ حُلْمِكَ، وكلامُها تَضْلِيلٌ.
كَانَتْ مَــوَاعِــيدُ عُـرْقُـوبٍ لَهَا مَثَـلاً وَمَا مَــوَاعِـيـدُهَا إِلاَّ الأَبَــاطِيــلُ
"عُرْقُوبٍ": رَجُلٌ مِن عَبْدِ شَمْسٍ، وكانَ له نَخْلَةٌ, فَوَعَدَ رَجُلاً أنْ يُعْطِيَه بُسْرَهَا، فجاءَ الرجلُ حِينَ أَبْسَرَتْ فقالَ لَه: دَعْها حتَّى تَصِيرَ رُطَباً. فلَمَّا أَرْطَبَتْ قالَ: دَعْهَا حَتَّى تَصِيرَ ثَمَراً, فلَمَّا أَثْمَرَتْ جاءَ إليها ليلاً فجَذَّها ولم يُعْطِه مِنها شَيْئاً، فضُرِبَ به المَثَلُ في الخُلْفِ.

والمعنى: أنَّ مَوَاعِيدَ هذه المَرْأَةِ في الخُلْفِ كمَوَاعِيدِ عُرْقُوبٍ الذي ضُرِبَ به المَثَلُ.
أَرْجُــو وَآمُـلُ أَنْ يَــعْجَــلْنَ فِي أَبَـدٍ وَمَا لَــهُنَّ طَـوَالَ الدَّهْـــرِ تَعْـجِــيلُ
طَوَالَ الدَّهْرِ: أي: طُولَ الدَّهْرِ. و "تَعْجِيلُ": تَنْعِيلٌ، مِنَ العَجَلِ.

  #4  
قديم 20 محرم 1430هـ/16-01-2009م, 09:20 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي

أَكْـرِمْ بِـهَا خُـلَّةً لـَوْ أَنـَّهَا صَــدَقَـتْ مَوْعـُودَهَا أَوْ لَوَ انَّ النُّصْـحَ مَقْــبُولُ
أَكْرِمْ بِهَا: أي: مَا أَكْرَمَها، لَفْظُهُ الأَمْرُ, ومَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ. وأَكْرِمْ فِعْلٌ مَاضٍ بصِيغَةِ الأَمْرِ. "وَبِهَا" فِي مَوْضِعِ الفَاعِلِ، تَقْدِيرُهُ " كَرُمَتْ هِيَ ". كقَوْلِه تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا}. أي: مَا أَسْمَعَهُم وأَبْصَرَهُم يَوْمَئِذٍ. ويُرْوَى: " يَا وَيْحَهَا خُلَّةً ".

و"وَيْحَ" مَصْدَرٌ لا يُشْتَقُّ مِنْهُ فِعْلٌ, وهو مَنْصُوبٌ نَصْبَ المَصَادِرِ، ومَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ. ويُرْوَى: " وَيْلُ أمِّهَا " ووَيْلُ مِثْلُ وَيْح، وفي حُكْمِهِ، وقَرِيبٌ مِن مَعْنَاهُ، لَكِنَّ فِيهِ مَعْنَى الذَّمِّ، ومِمَّا يَجْرِي مَجْرَى "وَيْحُ" و"وَيْلُ" بِئْسَ ووَيْبَ. ويُرْوَى: " فَيَالَهَا خُلَّةً ". وهَذَا النِّدَاءُ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ.
والخُلَّةُ: الخَلِيلَةُ وهِيَ الصَّدِيقَةُ. والخِلُّ: الصَّدِيقُ. والخُلَّةُ: الصَّادِقَةُ أَيْضاً. و"خُلَّةً" نَصْبٌ علَى التَّمْيِيزِ. و"مَوْعُودَهَا " نَصْبٌ بصَدَقَتْ. المَعْنَى: صَدَقَتْ فِي مَوْعِدِهَا, أي: مَا أَكْرَمَهَا خَلِيلاً لَوْ وَفَّتْ بالوَعْدِ وقَبِلَتِ النُّصْحَ.
لَكِـنَّهَا خُلَّةٌ قَـدْ سِيـطَ مِـنْ دَمِـهَا فـَجْعٌ وَوَلْـعٌ وإِخْـلافٌ وتَبْـدِيـلُ
لَكِنَّ: حَرْفُ اسْتِدْرَاكٍ عَامِلٌ فِي المُبْتَدَأِ والخَبَرِ, مِن أَخَوَاتِ (إِنَّ).

و"قَدْ سِيطَ مِن دَمِهَا". صِفَةُ "خُلَّةً", وَسِيطَ: خُلِطَ، يُقَالُ: سَاطَ الشَّيْءَ يَسُوطُهُ سَوْطاً إِذَا خَلَطَهُ، بِهِ سُمِّيَ السَّوْطُ؛ لأَنَّهُ يَسُوطُ اللَّحْمَ بالدَّمِ, أي: يَخْلِطُهُ. يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الأخلاقَ قَدْ خُلِطَتْ بدَمِهَا ورَسَخَتْ فِيهَا، فصَارَتْ لَهَا سَجِيَّةً لا تَقْبَلُ الزَّوَالَ والانْتِقَالَ.
والفَجْعُ: مَصْدَرٌ, فَجَعَتْهُ المُصِيبَةُ إِذَا أَوْجَعَتْهُ. والتَّفَجُّعُ كالتَّوَجُّعِ، يُرِيدُ أَنَّهَا تَفْجَعُ مُحِبَّهَا بِمَا يَكْرَهُ. والوَلْعُ: الكَذِبُ. يُقَالُ: وَلِعَ وَالِعٌ, كَمَا يُقَالُ: عَجِبَ عَاجِبٌ، وَقَدْ وَلَعَ بالفَتْحِ وَلْعاً بالسُّكُونِ ووَلَعَاناً إِذَا كَذِبَ. قَالَ الشَّاعِرُ: " وَهُنَّ مِنَ الإِخْلافِ وَالوَلَعَانِ ".
أي: مِنْ أَهْلِ الإِخْلافِ أو خُلِقْنَ مِنْهُ. الوَالِعُ: الكَذَّابُ، والجَمْعُ وَلَعَةٌ. والوُلُوعُ بالشَّيْءِ: الإِغْرَاءُ بِهِ. يُرِيدُ أَنَّها قَدْ طُبِعَتْ عَلَى أَذَاهُ بفِعْلِهَا، والكَذِبِ في قَوْلِهَا، والإِخْلافِ فِي وَعْدِهَا، وأَنْ تُبْدِلَ بِهِ غَيْرَهُ، أو تُبَدِّلُ عليهِ أَحْوَالَها.
فَـمَا تـَدُومُ عَـلَى حَالٍ تَـكُونُ بِـهَا كَـمَا تَـلَوَّنُ فِي أَثْـوَابِـهَا الغُــولُ
أَخَذَ يَشْرَحُ الإِخْلافَ والتَّبْدِيلَ بكَثْرَةِ تَلَوُّنِهَا، ومَثَّلَهَا في كَثْرَةِ تَلَوُّنِهَا بالغُوْلِ. والغُولُ مِن السَّعَالِي, وهِيَ إِنَاثُ الشَّيَاطِينِ فِي زَعْمِ العَرَبِ، وهِيَ تَتَرَاءَى لَهُم في اللَّيْلِ والمَفَاوِزِ الخَالِيَةِ، وتَظْهَرُ في صُوَرٍ مُخْتَلِفةٍ، وألوانٍ هَائِلَةٍ مَخُوفَةٍ. وأَصْلُه الهَلاكُ, يُقَالُ: غَالَهُ الشَّيْءُ واغْتَالَهُ. إِذَا أَخَذَهُ مِن حَيْثُ لا يَدْرِي.

وقِيلَ: سُمِّيَتْ الغُولُ غُولاً؛ لِتَلَوُّنِهَا, يُقَالُ: تَغَوَّلَتْ عَلَيَّ البِلادُ. إِذَا اخْتَلَفَتْ. و" تَكُونُ بِهَا " صِفَةُ "حَالٍ"، والحَالُ تُذَكَّرُ وتُؤَنَّثُ. و"كَمَا " صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ نَفْيُ الدَّوامِ "عَلَى حَالٍ"، كأَنَّهُ قَالَ: تَتَلَوَّنُ كَمَا تَتَلَوَّنُ الغُولُ فِي أَثْوَابِهَا. وَ"مَا" مَصْدَرِيَّةٌ، وهِيَ حَرْفٌ عَلَى الأَصَحِّ.
كَانَتْ مَـوَاعِيـدُ عُـرْقُـوبٍ لَـهَا مَثَلاً وَمَــا مَــوَاعِــيدُهَا إِلاَّ الأَبَـاطِيـــلُ
"مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ". مَثَلٌ يُضْرَبُ لشِدَّةِ اخْتِلافِ الوَعْدِ بَعْدَ طُولِ المَطْلِ. ويُقَالُ: إِنَّ عُرْقُوباً كَانَ رَجُلاً مِن العَمَالِقَةِ، وكَانَ لَهُ نَخْلَةٌ، فوَعَدَ رَجُلاً أَنْ يُطْعِمَهُ مِن بُسْرِهَا، فَلَمَّا أَبْسَرَتْ قَالَ:حِينَ تَرْطُبُ، ثُمَّ قَالَ: حَتَّى تُتْمِرَ، ثُمَّ صَرَمَهَا لَيْلاً؛ فضُرِبَ بهِ المَثَلُ لكُلِّ مَن أَخْلَفَ الوَعْدَ بعدَ طُولِ المَطْلِ. والأَبَاطِيلُ: جَمْعُ بَاطِلٍ عَلَى غَيْرِ قِياسٍ، وكأَنَّهُ جَمْعُ أَبْطِيلٍ وإِبْطَالٍ.

فَلا يـَغُرَّنـْكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَــدَتْ إِنَّ الأَمَـانـِيَّ والأَحْــلامَ تَضْـلِيـلُ
نَهَاهُ أَنْ يَغْتَرَّ بوَعْدِهَا، ووَكَّدَهُ بالنُّونِ الخَفِيفَةِ. وَ"مَا " فَاعِلَةٌ، وهِيَ مَوْصُولَةٌ، ويَجْوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً. و"مَنَّتْ" مِن مَنَّنْتُهُ تَمْنِيَةً، يُقَالُ: تَمَنَّيْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَمَرْتَ كَوْنَهُ، ومَنَّيْتُ غَيْرِي إِذَا أَشْهَيْتَهُ، والاسْمُ: الأُمْنِيَةُ، والجَمْعُ الأَمَانِيُّ،مِثْلَ ( ) وأَصْلُ الكَلِمَةِ مِن المَنَى وهو القَدَرُ، كأَنَّهُ يَشْتَهِي أَنْ يُقَدَّرَ ذَلِكَ. وكَثِيراً مَا يَتَمَنَّى الإنسانُ المُحَالَ، ومَا لَيْسَ بمُمْكِنٍ، ويَحْتَلِمُ فِي النَّوْمِ بمِثْلِه؛ فَلِذَلِكَ كَانَ تَضْلِيلاً؛ لأَنَّهُمَا يُضَلِّلانِ المَرْءَ.

"تَضْلِيلُ" تَفْعِيلٌ مِنَ الضَّلالِ. و"الأَحْلامَ": جَمْعُ حُلْمٍ, [وَهُوَ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ] في النَّوْمِ وهو في المَصَادِرِ التي جَاءَتْ مَجْمُوعَةً, و"الأَحْلامَ": المَنَامَاتُ التي لا تَأْوِيلَ لَهَا. "ولا يَغُرَّنْكَ ": نَهْيٌ لنَفْسِه، وخِطَابٌ لَهَا.
وَمَـا تَمَسَّـكُ بالعَـهْدِ الَّذِي وَعَـدَتْ إِلاَّ كَمَا تـُمْسِـكُ المَـاءَ الغَـرَابِيــلُ
أَرْجُو وآمـُـلُ أَنْ يَعْجَلْـنَ فِي أَبَـدٍ وَمَا لَـهُنَّ طَوَالَ الدَّهْرِ تَعْـجِيـلُ
هو تَفْعِيلٌ مِنَ العَجَلَةِ. وأَخْرَجَ الوَعْدَ مُخْرَجَ الزَّعْمِ, [وهو] كَمَا قِيلَ مَطِيَّةُ الكَذِبِ. وإِلاَّ مُفَرَّغَةٌ. "وَكَمَا" صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. وَلا تَتَمَسَّكُ بقَوْلِهَا كَمَا لا يُمْسِكُ الغِرْبَالُ المَاءَ. وهَذَا كُلُّه تَوْكِيدٌ فِي إِخْلافِهَا وتَبْدِيلِهَا الأَقْوَالَ. ويُرْوَى: "ولا تَمَسَّكُ [بالعَهْدِ الَّذِي زَعَمَتْ]. وَقَدْ جَاءَ: " وَلَيْسَ لمَخْضُوبِ البَنَانِ يَمِينُ ".

  #5  
قديم 20 محرم 1430هـ/16-01-2009م, 01:03 PM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح جمال الدين محمد بن هشام الأنصاري

قال :
6- أَكْرِمْ بها خُلَّةً لو أنها صَدَقَتْ = مَوعودَها أو لو أنَّ النُّصْحَ مَقبولُ
قولُه: " أَكْرِمْ بها " معناه: ما أَكْرَمَها، ومِثلُه: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } أي: ما أَسْمَعَهُمْ، وما أَبْصَرَهم في ذلك اليومِ.
وقد اخْتُلِفَ في ذلك ونحوِه على ثلاثةِ مَذاهبَ :
أحدُها: أنَّ " أَفْعَلَ " فِعْلٌ صُورتُه الأَمْرُ، ومعناه التَّعَجُّبُ، وأَصْلُه الأَوَّلُ فِعْلٌ ثُلاثيٌّ، ثم حُوِّلَ إلى فِعْلٍ ماضٍ مَزيدٍ فيه , وهو أَفعلُ بمعنى: صارَ كذا، كأَغَدَّ البعيرُ وأَبْقَلَ الْمَكانُ، أي: صارَا ذَوَي غُدَّةٍ وبَقْلٍ، ثم حُوِّلَ هذا إلى صِيغةِ الطَّلَبِ مع بَقاءِ المعنى الْخَبَرِيِّ، وضُمِّنَ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، فيَقْبُحُ حِينئذٍ رَفعُه للظاهِرِ؛ لكونِه على صُورةِ فِعلِ الأمْرِ، فزِيدَ في فاعلِه الباءُ، كما زِيدَتْ في فاعِلِ " كَفَى " نحوَ { كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا } إلا أنَّ زِيادةَ الباءِ في فاعلِ " كَفَى " غالِبةٌ , لا لازِمَةٌ؛ بدليلِ قولِ سُحَيْمٍ: ( البحر الطويل ) :
عُمَيْرَةَ وَدِّعْ إن تَجَهَّزْتَ غَادِيًا = كفى الشَّيْبُ والإسلامُ للمرءِ نَاهِيَا
وعن عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنه , أنه قالَ له: لو قَدَّمْتَ الإسلامَ على الشَّيْبِ لأَجَرْتُكَ، وزِيادةُ الباءِ في فاعلِ أفعلَ هذا لازِمَةٌ لإصلاحِ اللفظِ؛ إذ صارَ بسَبَبِها على صُورةِ قولِك في الأَمْرِ الحقيقيِّ: امْرُرْ بزيدٍ، وهذا قولُ جُمهورِ البصْرِيِّينَ.
الْمَذْهَبُ الثاني: أنه أَمْرٌ باعتبارِ الصيغةِ , والمعنى جَميعًا , وأنَّ المأمورَ الْمُخاطَبُ، وأنَّ الفِعْلَ مُتَحَمِّلٌ لضميرِه، وأنَّ ذلك الضميرَ الْتَزَمَ استتارَه في الإفرادِ والتذكيرِ وفُروعِهما؛ لأنه كلامٌ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ، وأنَّ الْمُتَكَلِّمَ بما أَفْعَلَه مُتَعَجِّبٌ , والمتكلِّمُ بأَفْعِلْ أَمَرَ غيرَه بالتَّعَجُّبِ. قالَه الفَرَّاءُ مِن الكُوفِيِّينَ، والزَّجَّاجُ مِن البَصرِيِّينَ، وابنُ خَروفٍ والزَّمخشريُّ مِن الْمُتَأَخِّرِينَ.
والْمَذْهَبُ الثالثُ: أنه أَمْرٌ كما قالَ هؤلاءِ، ولكنَّ المأمورَ الْمَصْدَرُ الذي دَلَّ عليه الفِعْلُ، فمعنى أَحْسِنْ بزَيْدٍ: أَحْسِنْ يا حُسْنُ بزَيدٍ، أي: دُمْ به والْزَمْهُ، وعلى هذا فلا يَحتاجُ إلى الاعتذارِ عن التزامِ الإفرادِ والتذكيرِ؛ لأنَّ المأمورَ واحدٌ في جَميعِ الصُّوَرِ، وهذا قولُ ابنِ كَيْسَانَ، وتَبِعَه ابنُ الطَّراوةِ ونَقَلَهُ أبو عبدِ اللهِ الفارسيُّ عن الزَّجَّاجِ، ونَقَلَ القولَ الذي قَبلَه عن الكُوفِيِّينَ.
وعلى الْمَذْهَبَيْنِ: فالباءُ باءُ التَّعْدِيَةِ، وهي مُتَعَلِّقَةٌ بالفِعْلِ قَبْلَها، والاسمُ بعدَها في مَوْضِعِ رَفْعٍ.
قولُه: " خُلَّةً " منصوبٌ على التمييزِ، والْخُلَّةُ هنا الصديقةُ، ونَظيرُه قولُ الآخَرِ: ( البحر الطويل ).
ألا قَبَّحَ اللهُ الوُشاةَ وقولَهم = فلانةُ أَضْحَتْ خُلَّةً لفُلانِ
قالوا: وتُطْلَقُ أيضًا على الصديقِ، وأَنْشَدُوا ( البحر المتقارِب ):


ألا أَبْلِغَا خُلَّتِي جَابِرًا = بأنَّ خَليلَكِ لم يُقْتَلِ
تَخَطَّأَتِ النَّبْلُ أَحشاءَهُ = فأَخَّرَ دَهْرًا ولم يَعْجَلِ
ووجهُ الاستدلالِ أنه أَبْدَلَ جابرًا مِن خُلَّتِي، ولك أن تقولَ: لعلَّه على حَذْفِ مُضافٍ، أي: ذا خُلَّتِي، كما هو في قولِه تعالى: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ } أي: ولكنَّ ذا الْبِرِّ، والْخُلَّةُ على هذا نفْسُ الصَّداقةِ، مِثلُها في قولِه تعالى: { يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ } وجُمِعَتْ هذه على " خِلالٍ "، كَقُلَّةٍ وقِلالٍ، ومنه { لَا بَيْعَ فِيهِ وَلَا خِلَالَ }.
وقيلَ: بل هو مَصدَرُ " خَالَلْتُهُ " ويُرَجِّحُه إفرادُ ما قَبلَه، والآيةُ التي قِيلَ فيها: " ولا خُلَّةٌ ".
ويُرْوَى: " فيالَها خُلَّةٌ ".
ويا هذه إمَّا حَرْفُ نِداءٍ، والْمُنَادَى مَحذوفٌ، وإمَّا حَرْفُ تَنبيهٍ بِمَنزِلَةِ " ألا " وعليهما فاللامُ متَعَلِّقَةٌ بفِعلٍ مَحذوفٍ، والتقديرُ فيا قومِ اعْجَبُوا لها خُلَّةً، أو: ألَا اعْجَبُوا لها خُلَّةً.
فإن قلتُ: هلا قَدَّرْتَ الضميرَ مُنَادًى دَخَلَتْ عليه لامُ التَّعَجُّبِ كما في قولِه ( البحر الطويل ):
فيا لكَ مِن ليلٍ كأنَّ نُجومَهُ = بكلِّ مُغارِ الفَتْلِ شُدَّتْ بيَذْبُلِ
الأصلُ: يا إيَّاكَ، أو يا أنتَ، ثم لَمَّا دَخَلَتْ لامُ الْجَرِّ، انْقَلَبَ الضميرُ الْمُنْفَصِلُ المنصوبُ أو المرفوعُ ضَميرًا مُتَّصِلًا مَخفوضًا؟
قلتُ: مَنَعَ من ذلك أنَّ ضَميرَ الْغَيْبَةِ لا يُنَادَى.
والْمُغارُ بضَمِّ الميمِ وبالْمُعْجَمَةِ مِن قولِهم: أَغَرْتُ الْحَبْلَ: إذا أَحْكَمْتَ فَتْلَه، و" يَذْبُلِ " جَبَلٌ، أي: كأنَّ نُجومَ هذا الليلِ شُدَّت بحِبالٍ مُحْكَمَةِ الفَتْلِ إلى هذا الْجَبَلِ , فهي لا تَسْرِي ولا تَغُورُ.
ويُرْوَى: " يا وَيْحَها خُلَّةً " " ووَيْلَهَا خُلَّةً ",
وقد مَضَى في صَدْرِ الكتابِ شرْحُ كَلِمَتَي " ويحَ " و " ويلَ " والفرْقُ بينَهما، ونَزيدُ هنا الأصلَ: " وَيْلَ أُمِّهَا " فحُذِفَتْ الهمزةُ لثِقَلِها بذاتِها وبالضَّمَّةِ، وكونِها بعدَ الضَّمَّةِ معَ كَثرةِ الاستعمالِ، ثم حُرِّكَت اللامُ بالكسرةِ ؛ لتُنَاسِبَ الكسرةَ بعدَها والياءَ قَبْلَها، وهذا قولُ البَصرِيِّينَ، وقيلَ: بل الأصلُ: وَيْ لأُمِّهَا، وي: بمعنى أَعْجَبُ، ولأُمِّهَا: جارٌّ ومَجرورٌ، ثم حُذِفَت الألِفُ للتخفيفِ، ويُؤَيِّدُ قولَ البَصرِيِّينَ قولُهم: ويلَ أُمِّهَا، ووَيْلَ أمِّه , بضَمِّ اللامِ.
وقولُه: " لو أنها صَدَقَتْ مَوعودَها " فيه أربعُ مَسائلَ:
المسألةُ الأولى: في " لو " وهي مُحْتَمِلَةٌ لوَجهينِ:
أحدُهما: التَّمَنِّي , مِثلُ في: { فَلْو أَنَّ لَنَا كَرَّةً }
والثاني: الشرْطُ , ويُرَجِّحُ الأَوَّلَ سَلامتُه مِن دَعْوَى حَذْفٍ؛ إذ لا يَحتاجُ حِينئذٍ لتَقديرِ جَوابٍ، بل سَلامتُه مِن دَعْوَى كَثرةِ الْحَذْفِ إذا قِيلَ: إنَّ في الكلامِ حَذْفَ فعْلِ الشرْطِ، أو خَبَرِ الْمُبتدأِ، كما سَيأتِي.
ويُرَجِّحُ الثانيَ أنَّ الغالِبَ على " لو " كونُها شَرْطِيَّةً، ثم الجوابُ الْمُقَدَّرُ مُحْتَمِلٌ؛ لأن يكونَ مَدلولًا عليه بالمعنى، أي: لو صَدَقَتْ لتَمَّتْ خِلالُها، فيكونُ مِثْلُها في قولِه تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ } أي: لَرأيتَ أَمْرًا عظيمًا , ولأنْ يكونَ مَدلولًا عليه باللفظِ , أي: لكانت كَريمةً، فيكونُ مِثلَها في قولِه تعالى: { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } الآيةَ, أي: لكَفَرُوا به بدليلِ : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ }. والنَّحْوِيُّونَ يُقَدِّرُونَ: لكان هذا القُرآنُ، فيكونُ كالآيةِ قَبْلَها، والذي ذَكَرْتُه أَوْلَى؛ لأنَّ الاستدلالَ باللفظِ أَظْهَرُ.
ويَتَرَجَّحُ التقديرُ الثاني في البيتِ بأنه استدلالٌ باللفظِ، وأنَّ فيه رِباطًا للو بما قَبْلَها؛ لأنَّ دليلَ الجوابِ جَوابٌ في المعنى، حتى ادَّعَى الكُوفِيُّونَ أنه جَوابٌ في الصناعةِ أيضًا , وأنه لا تَقديرَ.
وقد يُقالُ: إنه يُبْعِدُه أمرانِ:
أحدُهما: أنَّ فيه اسْتِدلالًا بالإنشاءِ على الْخَبَرِ.
والثاني: أنَّ الكَرَمَ المرادُ به الشرَفُ مِثْلُه في: { إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } فلا يَحْسُنُ بحالِ الْمُحِبِّ تَعليقُ كَرَمِ مَحبوبتِه على شَرْطٍ، ولا سِيَّمَا شَرْطٌ مَعلومُ الانتفاءِ، وهو شَرْطُ " لو " وإن كان المرادُ به مُقابِلَ البُخْلِ لم يكنْ أَكْرِمْ بها مُناسِبًا لِمَقامِ التَّشْبِيبِ , بل لِمَقامِ الاستعطاءِ.
وقد يُجابُ عن الأَوَّلِ بأَمرينِ:
أحدُهما: مَنْعُ كونِ التَّعَجُّبِ إنشاءً، وإنما هو خَبَرٌ، وإنما امْتَنَعَ وَصْلُ الموصولِ بما أَفْعَلَه ؛ لإبهامِهِ، وبِأَفْعِلْ به كذلك، معَ أنه على صِيغةِ الإنشاءِ , لا لأنهما إنشاءٌ.
الثاني: أنَّ الْمُرادَ مِن الدليلِ كونُه مُلَوِّحًا بالمعنَى المرادِ، وأنه لم يَصْلُحْ لأن يَسُدَّ المحذوفَ، ألا تَرَى إلى قَولِ الْحَماسيِّ ( البحر البسيط ):
إذَنْ لقَامَ بنَصْرِيَ مَعْشَرٌ خُشُنٌ = عندَ الْحَفيظةِ إن ذُو لَوْثَةٍ لَانَا
إذ المرادُ: إن لانَ ذُو لَوْثَةٍ خَشِنُوا، فاسْتَدَلَّ بالْمُفْرَدِ على الْجُملةِ، ومِثلُه: مَرَرْتُ بِمُحْسِنٍ إذا سُئِلَ، أي: إذا سُئِلَ أَحْسَنَ، واللَّوْثَةُ بالفَتْحِ: الْقُوَّةُ.
وعن الثاني: أنَّ الْمُرادَ به البُخْلُ، وهو أَعَمُّ مِن الكَرَمِ بالمالِ والوِصالِ، ولو قالَ قائلٌ: ولو وَفَتْ لي لكانتْ أَكْرَمَ الناسِ، أو: لكانتْ فِي جُودِ حاتمٍ ثم لم يَمْتَنِعْ ذلك.
وقد شَرَحْتُ مَعنَى " لو " الشرطيَّةِ في مُقَدِّمَةِ قَواعِدِ الإعرابِ شَرْحًا شَافِيًا، فأَغْنَى ذلك عن ذِكْرِه هنا.
المسألةُ الثانيةُ: اخْتُلِفَ في " أنَّ وَصِلَتِها بعدَ " لو " في مِثلِ هذا البيتِ وقولِه تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا } على ثلاثةِ مَذاهِبَ:
أحدُها: أنها فاعلٌ بفِعلٍ مَحذوفٍ تَقديرُه: ثَبَتَ، والدالُّ عليه " أنَّ " ؛ فإنها تُعْطِي مَعنى الثبوتِ، وهذا قولُ الكُوفِيِّينَ والزَّجَّاجِ والزَّمخشريِّ. ويُبْعِدُه أنَّ الفِعْلَ لم يُحْذَفْ بعدَ " لو " وغيرِها مِن أَدواتِ الشرْطِ إلا مُفَسَّرًا بفِعْلٍ بعدَه، نحو قولِه تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ } { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ... وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ}. { قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ } وقولِهم: لو ذاتُ سِوارٍ لَطَمَتْنِي. ولا يُسْتَثْنَى مِن ذلك إلا " كان " بعدَ " إنْ " و " لو " نحوَ قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: ((الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ)). وقولِهم: الْمَرْءُ مَقتولٌ بما قُتِلَ به ؛ إن سَيْفًا فسَيْفٌ، والفعلُ الْمَقرونُ بلا بعدَ " إنْ " كقولِه ( البحر الوافر ) :
فطَلِّقْهَا فلستَ لها بِكُفْءٍ = وإلا يَعْلُ مِفْرِقَكَ الْحُسَامُ
أي: وإن لا تُطَلِّقْهَا.
الثاني: أنه مُبتدأٌ محذوفُ الخبَرِ وُجوبًا كما يُحْذَفُ بعدَ " لولا "، كذلك نَقَلَه ابنُ هِشامٍ عن أكثَرِ البَصْرِيِّينَ.
والثالثُ: أنه مُبتدأٌ لا خَبَرَ له أصلًا ؛ اكتفاءً بِجَريانِ الْمُسْنَدِ والْمُسْنَدِ إليه في الذِّكْرِ مع الطُّولِ , نَقَلَه ابنُ عُصفورٍ عن البَصْرِيِّينَ، وزَعَمَ أنه لا يَحْفَظُ عنهم غيرَه.
والرابعُ: أنه يَجوزُ هذا، ويَجوزُ كونُه فاعلًا. قالَه الْمُبَرَّدُ.
المسألةُ الثالثةُ: ذَكَرَ الزَّمخشريُّ أنَّ خَبَرَ " أنَّ " الواقِعَةِ بعدَ "لو" إنما يكونُ فِعْلًا، ورَدَّهُ ابنُ الحاجِبِ بقولِه تعالى: { وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ } وقالَ: الصوابُ تَقييدُ الوُجوبِ بما إذا كان الْخَبَرُ مُشْتَقًّا. وزادَ ابنُ مالِكٍ على ابنِ الحاجِبِ بأنه قد جَاءَ اسمًا معَ كونِه مُشْتَقًّا , كقولِ: ( البحر السريع ).
لو أنَّ حَيًّا مُدْرِكَ الفَلاحِ = أَدْرَكَهُ مُلاعِبُ الرِّماحِ
وقد يُجابُ بأنه ضَرورةٌ كقولِه: لا تُكْثِرَنَّ إني عَسَيْتُ صائمًا.
والفَلَاحُ: البَقاءُ، والْمُرادُ بِمُلاعِبِ الرِّماحِ: مُلاعِبُ الأَسِنَّةِ: وهو عَلَمٌ على شَخْصٍ مَعروفٍ , ولَمَّا اضْطُرَّ الشاعِرُ غَيَّرَه , وهذا الجوابُ ليس بشيءٍ؛ لأنَّ ذلك واقعٌ في كِتابِ اللهِ تعالى، قالَ اللهُ تعالى: { وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ }. ولو اسْتَحْضَرَ هذه الآيةَ ابنُ مالِكٍ، لم يَعْدِلْ إلى الاستشهادِ بالشعْرِ، ولو اسْتَحْضَرَها الزَّمخشريُّ وابنُ الحاجِبِ، لم يَقُولا ما قَالَاه، وقد اشْتَمَلَ بيتُ كَعْبٍ رَحِمَه اللهُ على الإخبارِ بالفِعلِ في " صَدَقَتْ " وفي الاسمِ في قولِه : " مَقبولُ ".
المسألةُ الرابعةُ: يَحْتَمِلُ قولُه: " مَوعودَها " ثلاثةَ أَوْجُهٍ :
أحدُهما : أن يكونَ اسمَ مفعولٍ على ظَاهِرِه، ويكونَ المرادُ به الشخصَ الموعودَ.
والثاني: أن يكونَ كذلك، ويكونَ الْمُرادُ به الشيءَ الموعودَ به.
والثالثُ: أن يكونَ مصدرًا على رأيِ أبي الحسَنِ في أنَّ الْمَصدَرَ يأتي على زِنَةِ مَفعولٍ، كالْمَعسورِ والْمَيسورِ، وفي قولِهم: دَعْهُ مِن مَعسورٍ إلى مَيسورٍ، أي: مِن عُسْرِه إلى يُسرِه، وحُمِل عليه قولُه تعالى: { بَأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ } أي: بأيِّكُمُ الفِتنةُ. وقيلَ: بل الْمَفتونُ اسمُ مفعولٍ، وأَيِّكُم مُبتدأٌ، والباءُ فيه زَائدةٌ، والمعنى: أَيُّكم الشخصُ الْمَفتونُ.
فإنْ قَدَّرْتَه اسْمًا للشخْصِ، فانتصابُه على الْمَفعوليَّةِ على وَجهِ الكلامِ وحَقيقتِه، وإن قَدَّرْتَه اسْمًا للموعودِ به، احْتَمَلَ أن يكونَ مَفعولًا به على الْمَجازِ، وكأنها وَعَدَتْ ذلك الشيءَ أنْ تَفِيَ به , وأن يكونَ على إسقاطِ " في " تَوَسُّعًا، كما في قولِهم في الْمَثَلِ: صَدَقَنِي سِنَّ بِكْرِهِ. ويَحتاجُ حينئذٍ إلى تَقديرِ مَفعولٍ حَقِيقِيٍّ، أي: لو صَدَقْتِنِي في الوَعْدِ الذي وَعَدَتْ به.
وإن قَدَّرْتَه مَصدرًا كان على التَّوَسُّعِ، أي: في وَعْدِها.
قولُه: " أو لو أنَّ النُّصْحَ مَقبولُ " فيه أربعُ مَسائلَ:
إحداها: أنه قد يَتَمَسَّكُ به مَن يَرَى أنَّ " أو " تأتي بمعنى الواوِ، ويَدَّعِي أنه ليس مُرادُه أن يَقَعَ أحَدُ الأمرينِ، بل أن يَقَعَا جَميعًا . وهذا قولُ أبي الْحَسَنِ، والْجرميِّ، وجماعةٍ مِن الْكُوفيِّينَ، وجَعَلُوا منه قولَه تعالى: { إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } وقولَ الشاعرِ: ( البحر الطويل ).


وقد زَعَمَتْ بأنِّي فاجِرٌ = لِنَفْسِي تُقاهَا أو عليها فُجُورُها
واسْتَدَلَّ ابنُ مالِكٍ بقولِ الآخَرِ: ( جريرٍ ) ( البحر البسيط )
جاءَ الْخِلافةَ أو كانت له قَدَرًا = كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ
ولعلَّ الاستدلالَ ببَيتِ كعبٍ أَظْهَرُ؛ لأنَّ " أو " في الآيةِ مُحتَمِلَةٌ للإبهامِ وللشَّكِّ مَصروفًا إلى الْمُخَاطَبِينَ , أي: لو رَأَيْتُمُوهم لشَكَكْتُم في عِدَّتِهم، فقُلتمْ: مائةُ ألْفٍ أو يَزيدونَ، وللإضرابِ: عندَ مَن أَثْبَتَه , وكلُّ ذلك مَقولٌ في الآيةِ.
وأمَّا البيتُ الأَوَّلُ، فمعناه: لِنَفْسي تُقاها إن كنتُ مُتَّقِيًا، أو عليها فُجورُها إن كنتُ فاجرًا، فـ" أو " فيه لأحَدِ الشيئينِ وليستْ بمعنى الواوِ.
وأمَّا البيتُ الثاني، فالذي وَقَعْتُ عليه في إنشادِه في كُتُبِ الشعْرِ والأدَبِ: " إذ كانت " فلعلَّ الذالَ تَصحيفٌ بالواوِ، وهو تَصحيفٌ قَريبٌ.
المسألةُ الثانيةُ: زَعَمَ الخليلُ أنه لا يَجوزُ الجمْعُ بينَ نحوِ: " يَسوءُ " و " يُسِيءُ" في قَافيتينِ، وإن جازَ جَمْعُ: " يَعودُ " و " يُعيدُ " واحْتَجَّ باختلافِ الرَّوِيِّ إذا خُفِّفَ الْهَمْزُ ؛ إذ يَصيرُ واوًا وياءً. وخالَفَه أبو الْحَسَنِ مُحْتَجًًّا بأنَّ الشاعِرَ إذا بَنَى القَصيدةَ على التحقيقِ أَمِنَ الاختلافَ , واسْتَدَلَّ أبو الفَتْحِ لأبي الْحَسَنِ بقولِ الحماسيِّ: ( البحر الطويل ).
لكلِّ أُناسٍ مَقْبَرٌ بفِنَائِهِمْ = فهم يَنْقُصونَ والقُبورُ تَزيدُ
وما إن يَزالُ رَسْمُ دارٍ قد اخْلَقَتْ = وعَهْدٌ لِمَيْتٍ بالفَناءِ جَديدُ
وذلك أنَّ الشاعِرَ بَناهُ على تَخفيفِ هَمْزٍ " اخْلَقَتْ" ولولَا ذلكَ لانْكَسَرَ الوَزْنُ، وإذا جازَ بِناءُ الشِّعْرِ على التخفيفِ، فبِناؤُه على التحقيقِ أَوْلَى؛ لأنَّه الأَصْلُ ، وبيتُ كعبٍ نَظيرُ بيتِ الحماسيِّ.
وأَغْرَبُ مِن الاحتياطِ الذي ذَكَرَه الخليلُ رَحِمَه اللهُ في القَوَافِي ما قالَه أبو مُحَمَّدِ بنُ الْخَشَّابِ رَحِمَه اللهُ مِن أنه لا يَجوزُ أن تَكونَ القوافِي الْمُقَيَّدَةُ لو أُطْلِقَتْ لاختَلَفَ إعرابُها، واعْتَرَضَ على أبي القاسِمِ الحريريِّ في قولِه في الْمَقامَةِ التاسعةِ والعِشرينَ:


يا صارفًا عَنِّي الْمَوَدَّهْ = والزمانُ له صُروفُ
ومُعَنِّفِي في نُصْحِ مَن = جَاوَزْتَ تَعنيفَ العَسوفِ
لا تُلْحِنِي فيما أَتَيْتُ = فإنني بهمُ عَروفُ
ولقد نَزَلْتُ بهمْ فلم = أَرَهُمْ يُراعُون الضُّيوفَ
وبَلَوْتُهُم فوَجَدْتُهم = لَمَّا سَبَكْتُهُمُ زُيوفَ
مجزوءُ الكامِلِ الْمُرفَلِ.
ألا ترَى أنها إذا أُطْلِقَتْ ظَهَرَ الأوَّلُ والثالثُ مَرفوعينِ، والرابعُ والخامسُ مَنصوبينِ، والثاني مَجرورًا، وكذا باقي القَصيدةِ.
واعلَمْ أنَّ أَشعارَهم نَاطِقَةٌ بإلغاءِ هذا الذي اعْتَبَرَه ابنُ الْخَشَّابِ، بل قالوا في الأَسْجَاعِ ـ معَ أنها أَوْسَعُ مَجالًا مِن القَوافِي ـ في أنَّ مَبناهَا على سُكونِ الأعجازِ، كقولِهم: ما أَبْعَدَ ما فاتَ، وما أَقربَ ما هو آتٍ؛ فإنهما لو حُرِّكَا لاختَلَفا. ومِن مَجيءِ ذلك في الشِّعْرِ قولُ امرئِ القَيْسِ: ( البحر الطويل )
إذا ذُقْتَ فاهَا قُلْتَ طَعْمُ مُدامَةٍ = مُعَتَّقَةٍ مِمَّا تَجيءُ به التَّجْرُ
ثم قالَ: ( البحر الطويل )
إذا قَامَتَا يَضَّوَّعُ الْمِسْكُ مِنْهُمَا = برائحةٍ بينَ اللَّطِيمَةِ والْقَطْرِ
قولُه: " طَعْمُ " يُرْوَى مَرفوعًا بتقديرِ: هذا طَعْمُ، ومنصوبًا بتقديرِ، ذُقْتَ، والتَّجْرُ جَمْعُ تُجَّارٍ، ككَتْبٍ وكُتَّابٍ، وتُجَّارٌ جَمْعُ تَجْرٍ، كصَحْبٍ وصِحابٍ، والتَّجْرُ اسمُ جَمْعِ تاجرٍ عندَ سِيبويهِ، وجَمْعٌ له عندَ أبي الْحَسَنِ، فالتُّجُرُ بضَمَّتَيْنِ عندَه جَمْعُ جَمْعِ الْجَمْعِ، وعندَ سِيبويهِ جَمْعُ جَمْعِ اسمِ الْجَمْعِ، واللَّطيمةُ: الْعِيرُ التي تَحْمِلُ الْمِسْكَ، والقَطْرُ: العُودُ.
المسألةُ الثالثةُ: الألِفُ واللامُ في " النُّصْحِ " خَلَفٌ عن الضميرِ، والأَصْلُ: أو لو أنَّ نُصْحَها على إضافةِ المصدَرِ إلى المفعولِ، ومنه قولُه تعالى: { إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } أي: واشْتَعَلَ رأسي ، وقولُه تعالى: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} أي: مَأواهُ، وقولُ العرَبِ: مَرَرْتُ بالرَّجُلِ الْحَسَنِ الوَجْهُ، برَفعِ الوَجْهِ، أي وَجْهٌ، سواءٌ قُدِّرَ فاعلًا، كما يقولُ الْجُمهورُ، أو بَدَلَ بعضٍ مِن ضميرٍ مُستَتِرٍ في الوَصْفِ، كما يقولُ أبو عَلِيٍّ، ذَكَرَه في قولِه تعالى: { جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ } وهو تَكَلُّفٌ خِلافُ الظاهرِ، وليس بِمُتَأَتٍّ في مِثلِ: مَرَرْتُ بالرجُلِ الكريمِ الأبُ، ولا مَخْلَصَ مِن دَعْوَى تقديرِ الضميرِ، أو كونِ " أل " نائبةً عنه؛ لأنَّ الصفةَ كما تَفتَقِرُ إلى ضميرٍ يَرْبِطُها بالموصوفِ، كذلك بَدَلُ البعضِ يَفتَقِرُ إلى ضَميرٍ يَرْبِطُه بالْمُبْدَلِ منه، ونيابةُ " أل " عن الضميرِ قالَ بها الكُوفِيُّونَ وبعضُ البَصريِّينَ، وهو ظاهِرُ مَذهبِ سِيبويهِ، كقولِه في ضَرَبَ زيدٌ الظَّهْرَ والبَطْنَ في مَن رَفَعَ: إنَّ المعنى ظَهْرُه وبَطْنُه. ولم يَقُلْ: الظهرُ منه والبطْنُ منه، كما يَقولُ أَكثرُ البَصريِّينَ، ومِن حُجَّتِهم قولُ طَرَفَةَ: ( البحر الطويل ).
رَحيبٌ قِطابٌ الْجَيْبِ منها رَقيقةً = بِجَسِّ النَّدَامَى بَضَّةُ الْمُتَجَرَّدِ
فجَمَعَ بينَ " أل " والضميرِ، فدَلَّ على أنها ليستْ عِوَضًا عنه.
والجوابُ: أنَّ " أل " هنا لِمُجَرَّدِ التعريفِ مِثلُها في الرجُلِ، لا للتعريفِ والتعويضِ مِثلُها في: { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } كما أنَّ الهاءَ في " وِجْهَة " لِمُجَرَّدِ التأنيثِ، مِثْلُها في مُسْلِمَة، لا للتأنيثِ والتعويضِ مِثْلُها في " عِدَة " وأيضًا فقد يَجْتَمِعُ العِوَضُ والْمُعَوَّضُ منه في الضرورةِ كقولِه:
أقولُ يا اللهمَّ يا اللهُمَّا
وقولِه:
هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ مِن فَمَوَيْهِمَا
والرحيبُ: الواسِعُ، والقِطَابُ: مَجْمَعُ الجيبِ، ومنه: قَطَّبَ بينَ عَيْنَيْهِ: إذا جَمَعَ، وجاؤوني قاطِبَةً، أي: جميعًا، يقولُ: إنَّ عُنُقَها واسعٌ بدليلِ اتِّساعِ مُجْتَمَعِ جَيْبِها. والْبَضَّةُ: البيضاءُ الرَّخْصَةُ، والْمُتَجَرَّدُ، بفَتْحِ الراءِ: الْجَسَدُ.
تَنبيهٌ: نِيابةُ " أل " عن الضميرِ في نَحْوِ: حَسَنُ الوجهِ من حيثُ هو الضميرُ، لا مِن حيثُ هو مُضافٌ إليه، ورُبَّمَا تُوُهِّمَ مِن كلامِهم الثاني، وقد اسْتَحْسَنَ ذلك الزَّمخشريُّ، حتى جَوَّزَ نِيابَتَها عن الْمُضافِ إليه الْمُظْهَرِ، فقالَ في قولِه تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ } : إنَّ الأصلَ أسماءُ الْمُسَمَّيَاتِ، ولا أَعْلَمُ أَحَدًا قالَ بهذا قَبْلُ، والمشهورُ في الآيةِ الكريمةِ قولان :
أحدُهُمَا: أنَّ الأَصْلَ مُسَمَّيَاتُ الأسْماءِ ثُمَّ حَذَفَ الْمُضافَ، وعادَ الضميرُ مِن ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ عليه ) كما عادَ على الْمُضافِ المحذوفِ في قولِه تعالى : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ } الأصْلُ: أو كذي ظُلُمَاتٍ يَغشاهُ.
الثاني: أنَّ الأسماءَ أُريدَ بها الْمُسَمَّيَاتُ، فلا حَذْفَ ألْبَتَّةَ.
المسألةُ الرابعةُ: أنه أَخْبَرَ عن اسمِ " أنَّ " بعدَ " لو " بالْمُفْرَدِ، وقد مَضَى ذلك مَشْرُوحًا.
قالَ :
7- لكنَّها خُلَّةٌ قد سِيطَ مِن دَمِهَا = فَجْعٌ ووَلْعٌ وإخلافٌ وتَبديلُ
قولُه: " لكنها خُلَّةٌ" البيتَ: مَوْقِعُ لكنَّ وما بعدَها مِمَّا قَبْلَها كموقِعِها في قولِك: لو كانَ عالِمًا لأَكْرَمْتُه، لكنه ليس بعالِمٍ ولا صالِحٍ في أنَّ ما بعدَها توكيدٌ لمفهومِ ما قَبْلَها معَ زِيادةٍ عليه.
وقولُه: " قد سِيطَ " إلى آخِرِه, جُملةٌ في مَوْضِعِ الرَّفْعِ صِفةٌ لِخُلَّةٍ، ولولا هي لم تَحْصُل الفائدةُ، ونَظيرُها الجملةُ التي بعدَ قومٍ مِن قولِه تعالى: { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ }. وعُلِمَ بذلك أنَّ الفائدةَ كما تَحْصُلُ مِن الْخَبَرِ كذلك تَحْصُلُ مِن صِفتِه، وهذا يُشْكِلُ على أبي عليٍّ في مَسألةٍ؛ وذلك أنه حَكَى عن أبي الْحَسَنِ رَحِمَه اللهُ أنه امْتَنَعَ مِن إجازةِ: أَحَقُّ الناسِ بمالِ أبيه ابنُه؛ لأنه ليس في الخبَرِ إلا ما في الْمُبتدأِ . ثم قالَ: فإن قلتَ: أَحَقُّ الناسِ بمالِ أبيه ابنُه البارُّ به، أو النافِعُ له، أو نحوَ ذلك، كانت المسألةُ على فَسادِها أيضًا؛ لأن الْخَبَرَ نفسَه غيرُ مفيدٍ ولا يَنفعُه مَجيءُ الصِّفةِ مِن بعدِه ؛ لأنَّ وَضْعَ الْخَبَرِ على تَناوُلِ الفائدةِ منه، لا مِن غيرِه. حَكَى ذلك عنه عبدُ الْمُنْعِمِ الإسكندريُّ، في كتابِ " التُّحْفَةِ " ونظيرُ تصحيحِ الصفةِ للخَبريَّةِ بتصحيحِها للابتدائيَّةِ في قولِه تعالى: { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ } وتصحيحُها لدخولِ الفاءِ في الخبَرِ في قولِه تعالى: { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ }.
ومِن هنا أَجازَ يُونسُ في النُّدْبَةِ: وا زيدٌ الطَّوِيلَاهُ، تَنزيلًا للصِّفَةِ والموصوفِ مَنزِلةَ الشيءِ الواحدِ، ويَشْهَدُ له قولُ بعضِ العرَبِ: واجُمْجُمَتَيَّ الشامِيتِيناهُ، وإذا جازَ للحالِ أن تَحْصُلَ به الفائدةُ المقصودةُ مِن الكلامِ كما في قولِه تعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ }.
{ فَمَا لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } . إذ السؤالُ إنما هو في المعنى عن الحالِ، فجَوازُ ذلك في الصِّفَةِ أَجْدَرُ، وعلى مسألةِ الحالِ يَتَخَرَّجُ قولُ الحسَنِ البَصريِّ: "كأنك بالدنيا لم تكنْ، وبالآخِرَةِ لم تَزَلْ". وذلك بأن تُقَدِّرَ الظرْفَ خَبَرًا، والجملةَ الْمَنْفِيَّةَ حالًا، ويُؤَيِّدُه أنها رُوِيَتْ مَقرونةً بالواوِ، فانْتَفَى أن يكونَ خَبَرًا، وعلى ذلك قولُهم: كأنك بالشمسِ وقد طَلَعَتْ. وقولُ الحريريِّ:
كأنِّي بكَ تَنْحَطُّ إلى القَبْرِ وتَنْغَطُّ
وقد أَسْلَمَكَ الرَّهْطُ إلى أَضْيَقَ مِن سَمِّ
أي: كأنِّي بكَ مُنْحَطًّا.
وأمَّا قولُ الْمُطَرَّزِيِّ: إنَّ الأصلَ كأني أُبْصِرُكَ، ثم حُذِفَ الفِعْلُ، ففيه حَذْفُ فِعْلٍ، وزيادةُ حَرْفٍ.
وقولُه: سِيطَ: مِن ساطَ الماءَ وغيرَه، يَسُوطُه سَوْطًا، إذا خَلَطَه بغيرِه، وضَرَبَهما حتى اخْتَلَطَا، ومنه قِيلَ للآلَةِ التي يُضْرَبُ بها: " سَوْطٌ " ؛ لأنه يَسُوطُ اللحمَ بالدَّمِ، ويَجوزُ أن يُقرأَ: " قد شِيطَ " بالشينِ الْمُعْجَمَةِ؛ لأنه يُقالُ: شَاطَه بمعنى: سَاطَهُ، وقد رُوِيَ بيتُ الْمُتَلَمِّسِ بالوجهينِ وهو:
( البحر الطويل)
أَحارِثُ إنَّا لو تُشَاطُ دِماؤُنا = تَزَايَلْنَ حَتَّى لا يَمَسَّ دَمٌ دَمَا
قولُه: تَزَايَلْنَ . البيتُ جارٍ على ما يَزْعُمُه العربُ مِن أنَّ دَمَ المتباغِضَيْنِ لا يَخْتَلِطُ، ولهذا قالَ: ( البحر الوافر ).
فلو أَنَّا عَلَى حَجَرٍ ذُبِحْنَا = جَرَى الدَّمَيَانِ بالْخَبَرِ اليَقينِ
ولِمَا لَحَظُوه بينَ الْمُتباغِضَيْنِ مِن تَباعُدِ قُلُوبِهما، وتَزايُلِ دِمائِهما، سَمَّوْهُما: " خَصْمَيْنِ " ؛ لأنَّ كُلًّا منهما في خَصْمٍ، والْخُصْمُ بالضَّمِّ: الجانبُ والناحيةُ. وقالَ الزَّمخشريُّ: أَتانِي آتٍ في النومِ فقالَ: مِمَّ اشْتُقَّ اسمُ الْعَدُوِّ؟ فقلتُ: من " العَدْوَةِ " ؛ لأنَّ كُلًّا مِن الْمُتَعَادِيَيْنِ في " عَدوةٍ " واشْتَقَّهُ غيرُه من عَدَا يَعْدُو؛ لأن كُلًّا منهما يَعْدُو على الآخَرِ، والعِدوةُ: شَطُّ الوادي، وأَوَّلُها مُثَلَّثٌ، ويُقالُ أيضًا: عِدْيَةٌ بقَلْبِ الواوِ ياءً للكَسرةِ، ولم يُعْتَدَّ بالدالِ لسُكونِها، ونَظيرُه : صِبْيَةٌ، وقد قُرئَ بالأَوْجُهِ الأربعةِ.
ويَجوزُ في أَوَّلِ سِيطَ وشِيطَ ونحوِهِما مِن فَعَلَ المفعولُ الثلاثيُّ الْمُعَلُّ العينِ إخلاصُ الكَسْرِ، وهو لغةُ قُريشٍ ومَن جاوَرَهم، وإشمامُ الكسرةِ الضمَّ وهو لغةُ كثيرٍ مِن قَيْسٍ وأكثرِ بني أَسَدٍ، وإخلاصُ الضمِّ، وهو لُغةُ بعضِ تَميمٍ وجميعِ فَقْعَسٍ ودُبَيْرٍ، وهما مِن فُصَحَاءِ بني أَسَدٍ.
ونَظيرُ بيتِ الْمُتَلَمِّسِ في رِوايتِه بالسينِ والشينِ بيتُ ابنِ دُرَيْدٍ: ( بحرُ الرجَزِ )
أَرْمُقُ الْعَيْشَ على بَرَضٍ فإنْ = رُمْتُ ارتشافًا رُمْتُ صَعْبَ الْمُنْتَسَا
فمَن رَواهُ بالْمُهْمَلَةِ فهو مِن قولِهم: نَسَأَ اللهُ في أَجَلِكَ، أي: أَخَّرَ، والأَلِفُ على هذا مُبْدَلَةٌ عن الهمْزِ , والمعنى: أُعْطَى مِن العيشِ ما يَسُدُّ رَمَقِي، أي: بَقِيَّةَ نَفْسِي، فإن قَصَدْتَ مَصَّ الشيءِ رُمْتَ الْمُسْتَبْعَدَ الصَّعْبَ وفيه تَقديمُ الصِّفةِ، وإضافتُها إلى الموصوفِ، كقولِهم: أخلاقُ ثِيابٍ، ومَن رَوَاهُ بالْمُعجَمَةِ فمعناه: استقصاءُ الشُّرْبِ بالْمَشافِرِ. وبيتُ عُروةَ بنِ أُذَيْنَةَ: ( البحر البسيط ).
لقد عَلِمْتُ وما الإسرافُ مِن خُلُقِي = أنَّ الذي هو رِزْقِي سوفَ يَأْتِينِي
وهو بالْمُعْجَمَةِ أَظهرُ، ومعناه: التطَلُّعُ إلى الشيءِ وبعدَه:
أَسْعَى إليه فيُعَنِّينِي تَطَلُّبُه = ولو قَعَدْتُ أَتَانِي لا يُعَنِّينِي
ولهذا الشعْرِ حِكايةٌ حَسَنَةٌ، وهي أنَّ قائلَه وَفَدَ على هِشامِ بنِ عبدِ الْمَلِكِ في جَماعةٍ مِن الشُّعراءِ، فقالَ: ألستَ القائلَ، وأَنْشَدَه البيتينِ؟ قالَ: نعمْ. قالَ: فما بالُك قد جِئْتَ مِن الْحِجازِ إلى الشامِ تَطْلُبُ الرِّزْقَ؟ فقالَ له: لقد وَعَظْتَ يا أميرَ المؤمنينَ، وأَذْكَرْتَنِي ما أَنسانِيهِ الدَّهْرُ. ثم خَرَجَ مِن فَوْرِه، فرَكِبَ راحِلَةً وتَيَمَّمَ الْحِجازَ، ومَكَثَ هِشامٌ يَوْمَه مُشْتَغِلًا عنه، فلَمَّا جاءَ الليلُ، ودَخَلَ إلى فِراشِه، ذَكَرَه، فقالَ : رجلٌ مِن قُريشٍ، قالَ حِكمةً، فرَدَدْتُه، ثم هو شاعرٌ، ولا آمَنُ لِسانَه، فلَمَّا أَصْبَحَ جَهَّزَ مَوْلًى له إلى الْحِجازِ، وأَعطاهُ مِائتَيْ دِينارٍ فلم يُدْرِكْه حتى دَخَلَ بيتَه، فلَمَّا دَفَعَها إليه، قالَ له: أَبْلِغْ أميرَ المؤمنينَ السلامَ، وقُلْ له: كيفَ رأيتَ البيتينِ؟ سَعَيْتُ فأَكْدَيْتُ، ورَجَعْتُ إلى بَيْتِي، فَأَتَانِي رِزْقِي.
ومِن ذلك قولُ الآخَرِ: ( البحر الوافر ).


أُعَلِّمُه الرِّمايةَ كلَّ يومٍ = فلَمَّا اشْتَدَّ ساعِدُه رَمَانِي
وَكَمْ عَلَّمْتُه نَظْمَ الْقَوَافِي = فلَمَّا قالَ قَافِيَةً هَجَانِي
الروايةُ الْجَيِّدَةُ " اسْتَدَّ " بالْمُهْمَلَةِ مِن السَّدَادِ، وهو الصوابُ، ومَن أَعْجَمَها ذَهَبَ به إلى معنى الاشتدادِ والقُوَّةِ.
ومِن ذلك قولُهم: سَمَّتَ العاطِسَ، وشَمَّتَه، فمَن أَهْمَلَها، فمَعناه: دَعَا له بالبَقاءِ على سَمْتِه، ومَن أَعْجَمَها، فمَعناه: دَعَا له بأن يُسْلَبَ عنه شامِتُوه، أي: يُصيبَه شيءٌ، فيَشْمَتَ به عَدُوُّه، وقد فُسِّرَا بغيرِ ما ذَكرناهُ وليس بِمُنَاسِبٍ.
وكذلك قولُهم: الشِّطْرَنْجُ، يُرْوَى بالْمُهمَلَةِ؛ لأنه يُجْعَلُ أَسْطُرًا، وبِالْمُعْجَمَةِ؛ لأن اللاعبينَ يَقتسمانِ القِطَعَ شَطْرَيْنِ، والشطْرُ: النِّصْفُ .
قالَ عَنترةُ بنُ شَدَّادٍ العَبْسِيُّ: ( البحر الكامل ).
إني امرُؤٌ مِن خَيْرِ عَبْسٍ مَنْصِبًا = شَطْرِي وأَحْمِي سائِرِي بالْمُنْصُلِ
وذلك لأنَّ أباه عَرَبِيٌّ، وأمَّه أَمَةٌ , فَشَطْرُهُ مِن جِهةِ أبيه يُفاخِرُ به الناسَ، وشَطْرُه مِن جِهةِ أُمِّهِ يُحامِي عنه بالنَّصْلِ: وهو السيفُ . وفي البيتِ استعمالُ " سائر " بمعنى الباقِي، لا بمعنى الجميعِ، ولا نَعْلَمُ أحدًا مِن أَئِمَّةِ اللغةِ ذَكَرَ أنها بمعنى الجميعِ إلا صاحبَ " الصِّحَاحِ " وهو وَهْمٌ.
وقولُه: " مِن دَمِها " أي: في دَمِها، كقولِه تعالى: { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ } ،{ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ }.
واختُلِفَ في وَزْنِ " دَم " فقالَ سِيبويهِ وأصحابُه: " فَعْلٌ " بالإسكانِ، واحْتَجُّوا بأَمرينِ:
أحدُهما: جَمْعُه على دماءٍ ودَمِيٍّ، كما جُمِعَ نحوَ: ظَبْيٍ ودَلْوٍ على ذلك، ولو كان مِثلَ عَصَا وقَفًا، لم يُجْمَعْ عليهما.
والثاني: أنَّ الحركةَ زِيادةٌ، فلا تُدْعَى إليه إلا بدليلٍ.
وقالَ الْمُبَرَّدُ: " فَعَل " بالتحريكِ بدليلينِ.
أحدُهما بأنَّ فِعْلَه: دَمِيَ يَدْمَى، كفَرِحَ يَفْرَحُ، فأَصْلُ الدمِ: دَمِيَ، كفَرِحَ، قالَ أبو بكرٍ: وليس قولُه بشيءٍ؛ لأن كلامَنا في الدَّمِ الذي هو جَوهَرٌ، لا في الدَّمِ الذي هو حَدَثٌ.
والثاني: أنَّهم لَمَّا رَجَعُوا إليه لامَه قَلَبُوها ألِفًا: ( بحرُ الرمَلِ ).
غَفِلَتْ ثم أَتَتْ تَطْلُبُهُ = فإذا هي بعِظامٍ ودِمَا
ولو كانت العينُ ساكنةً لصَحَّت اللامُ، كما في ظَبْيٍ وغَزْوٍ.
وقالَ أبو الفَتْحِ: والجوابُ عن هذا بأنَّ الْمُرادَ إمَّا الْمَصْدَرُ على حَذْفِ مُضافٍ , أي: ذي دِمَا، وإمَّا الْجَوْهَرُ، ولكنه ردَّ اللامَ، وأَبْقَى العينَ الْمُتَحَرِّكَةَ كما كانتْ قبلَ الرَّدِّ.
قلتُ: ويُؤَيِّدُ الثانيَ قولُه: ( البحر الكامل )
قد أَقْسَمُوا لا يَمْنَحُونَك نَفْعَهمْ = حتى تَمُدَّ إليهمُ كَفَّ اليدِ
واليدُ: " فَعْلٌ " بالإسكانِ عندَ الْمُبَرَّدِ وغيرِه مِن البَصرِيِّينَ، بل ذَكَرَ الْجَوهريُّ أنه مُتَّفَقٌ عليه، وليسَ كذلك، بل قالَ الكُوفِيُّونَ: إنها " فَعَلٌ " بالتحريكِ، واختارَه ابنُ طاهِرٍ.
فإن قُلْتَ: فكيفَ قالَ الآخَرُ: إنَّ مع اليومِ أخاه غَدْوًا؟
قلتُ: يَجِبُ أن يُدَّعَى أنه نَطَقَ بالكلمةِ على أَصْلِها، ولم يُقَدِّرْ أنه رَدَّ اللامَ بعدَ حَذْفِها، وإنما وَجَبَ هذا التقديرُ للجَمْعِ بينَ الأَدِلَّةِ.
قولُه: " فَجَعٌ " هو مَصدَرُ فَجَعَه، إذا أصابَه بمكروهٍ، والفَجيعةُ: ما أَوْجَعَ مِن الْمَصائبِ.
قولُه: " وَلَعٌ " وهو مَصدَرُ " وَلَعَ " بالفتْحِ إذا كَذَبَ، وإنما قالوا: وَلَعٌ والِعٌ على الْمَجازِ الإسناديِّ، كما قالوا: عَجَبٌ عاجِبٌ، وجَمْعُ الوالِعِ وَلَعَةٌ، ككاذِبٍ وكَذَبَةٍ، والوَلَعانُ بالتحريكِ، بمعنى: الوَلْعِ بالإسكانِ.
قالَ: وهُنَّ مِن الإخلافِ، والوَلَعانُ أي: مِن أهلِ الإخلافِ، أو قَدَّرَ أنهنَّ خُلِقْنَ من هذينِ الوصفينِ على الْمُبالَغَةِ في وَصْفِهِنَّ بهما، ومِثلُه: { خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } ويُؤَيِّدُه أنَّ بَعْدَه { فَلَا تَسْتَعْجِلُونَ }. وقيلَ: العَجَلُ: الطينُ، بلُغَةِ حِمْيَرَ، وأَنْشَدَ:
والنَّخْلُ تَنْبُتُ بينَ الماءِ والعَجَلِ
وليس يَثبُتُ عندَ عُلماءِ اللغةِ.
قولُه: " وإخلافٌ وتَبديلٌ " مَصدَرُ أَخلَفَ، وبَدَّلَ، ومعنى البيتِ: أنَّ هذه المرأةَ قد خُلِطَ بدَمِها الإفجاعُ بالمكروهِ، والكَذِبُ في الْخَبَرِ، والإخلافُ في الوَعْدِ، وتَبديلُ خَليلٍ بآخَرَ، وصارَ ذلك سَجِيَّةً لها، لا طَمَعَ في زَوَالِه عنها.

8- فما تَدومُ على حالٍ تكونُ بها = كما تَلَوَّنُ في أثوابِها الْغُولُ
قولُه: " فما تَدومُ ": الفاءُ للسبَبِيَّةِ، أي: فلِمَا جُبِلَتْ عليه مِن الإخلافِ والتبديلِ لا تَدومُ على حالٍ. " وتَدومُ " تَامَّةٌ لا نَاقصةٌ؛ لأن " ما " الْمُتَقَدِّمَةَ عليها نافيةٌ لا ظَرْفِيَّةٌ، ولأنها بلَفْظِ الْمُضارِعِ، والناقصةُ جامِدَةٌ على لَفْظِ الْمُضِيِّ على الصحيحِ.
وقولُه: " على حالٍ " مُتَعَلِّقٌ بتَدومُ. أو حالٌ، والحالُ: ما الإنسانُ عليه مِن خَيرٍ وشَرٍّ، وتأنيثُها كما جاءَ في البيتِ أَكْثَرُ مِن تَذكيرِها، والتذكيرُ لغةُ الْحِجازِيِّينَ، والجمْعُ أحوالٌ؛ كمالٍ وأموالٍ وربما قالوا: أَحْوِلَةٌ . حَكاهُ اللَّحيانيُّ، وقد يُقالُ: حالةٌ. قالَ الفَرَزْدَقُ: ( البحر الطويل ).
على حالةٍ لو أنَّ في القومِ حَاتِمًا = على جُودِه لضَنَّ بالماءِ حاتِمِ
هذا هو المشهورُ في روايةِ هذا البيتِ، ورَوَاهُ الْمُبَرَّدُ في " الكاملِ " على ساعةٍ. و " حاتِمِ " في البيتِ مَخفوضٌ بدَلٌ مِن الهاءِ مِن " جُودِه " ولم يَجْعَل الجوهريُّ الحالَ والحالةَ بمعنًى، بل جَعَلَهما من بابِ تَمْرَةٍ وتَمْرٍ، وهو غريبٌ، وقد يُقالُ في الحالةِ: " آلةٌ " بهمزةٍ مكانَ الحاءِ كقولِ الراجزِ: ( البحر الرَّجَز ) :
قد أَتْرُكُ الآلةَ بعدَ الآلةِ = وأَترُكُ العاجِزَ بالْجَدَالَةِ
ورواه بعضُهم: " قد أَرْكَبُ الحالةَ بعدَ الحالةِ ". والْجَدالةُ بالفَتْحِ: الأرضُ. يُقالُ: طَعَنَه، فجَدَلَه: أي: رَماهُ إلى الأرضِ.
وقولُه: " تَكونُ بِهَا " في مَوْضِعِ خَفْضٍ , صِفةٌ لحالٍ، ورابطُها، الضميرُ المجرورُ، ويَحْتَمِلُ قولُه: " تكونُ " التمامَ والنُّقصانَ، فالظرْفُ مُتَعَلِّقٌ بها وبالاستقرارِ، ويَجوزُ على وَجْهِ التَّمامِ كونُ الظرْفِ حالًا، فيَتَعَلَّقُ بالاستقرارِ، كما في وَجهِ النُّقصانِ، والباءُ للإلْصَاقِ، مِثلُها في قولِك: بزَيْدٍ داءٌ , أو بمعنى " على "، مِثلُها في قولِه تعالى: { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ } أو بمعنى " في " مِثلُها في قولِه تعالى : { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } ويَحْتَمِلُ باءُ بالحِجابِ السببيَّةَ.
وقولُه: " كما " الكافُ وما حرفانِ: جارٌّ، ومَصدَرِيٌّ، خِلافًا لابنِ + مَضاءٍ في زَعْمِه أنَّ الكافَ اسمٌ أَبَدًا؛ لأنها بمعنى "مِثل" وللأَخْفَشِ في إِجازةِ كَوْنِها اسْمًا، وإن لم يَدْخُلْ عليها عامِلٌ مِن عوامِلِ الأسماءِ، وله ولابنِ السَّرَّاجِ في اسْمِيَّةِ " ما " الْمَصْدَرِيَّةِ. وتَرِدُ كما في العربيَّةِ على خمسةِ أَوْجُهٍ:
أحدُها: ما ذَكَرْنَا في كونِ الكافِ جَارَّةً، " وما " مَصدَرِيَّةً وهي وَصِلَتُها في مَوضِعِ جَرٍّ.
الثاني: أن تكونَ الكافُ جَارَّةً، و " ما " مَوصولًا اسْمِيًّا، وقد أُجِيزَ ذلك في قولِه تعالى: { قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } قيلَ: التقديرُ، كالذي هو آلِهَةٌ لهم.
الثالثُ: أن تكونَ الكافُ جَارَّةً و " ما " زائدةً غيرَ لازِمَةٍ، كقولِه: ( البحر الطويل ).
ونَنْصُرُ مَوْلانا ونَعْلَمُ أنَّهُ = كما الناسُ مَجرومٌ عليه وجَارِمُ
الرابعُ: أن يكونَ كذلك إلا أنَّ زِيادةَ " ما " لازِمةٌ، وذلك في نحوِ قولِهم: هذا حقٌّ كما أنك ههنا. قالَ سِيبوَيْهِ رَحِمَه اللهُ: زَعَمَ - يعني: الخليلُ- أنَّ " ما " لَغْوٌ، إلا أنها لا تُحْذَفُ كَراهةَ أنْ يَجِيءَ لَفْظُها كلَفْظِ " كأنَّ " .
الخامسُ: أن تكونَ " ما " كافَّةً للكافِ عن عَمَلِ الجَرِّ كقولِ: ( البحر الطويل ).
أخٌ ماجِدٌ لم يُخْزِنِي يومَ مَشْهَدٍ = كما سيفُ عمرٍو لم تَخُنْهُ مَضارِبُهْ
وقد خَرَّجَ عليه الآيةَ الزَّمخشريُّ وغيرُه، ومَن وَصَلَ " ما " الْمَصدرِيَّةَ بالجُمَلِ الاسميَّةِ ادَّعَى ذلك هنا، وأَبْطَلَ هذا القَسَمَ.
وقولُه: " تَلَوَّنُ " أَصْلُه: تَتَلَوَّنُ، فحُذِفَت التاءُ الثانيةُ للتَّخْفِيفِ، وقالَ هِشامٌ الكوفيُّ: المحذوفُ الأُولَى، وهو بعيدٌ؛ لأن حَرْفَ المضارَعَةِ حرفُ مَعْنًى، ولأنَّ الثِّقَلَ، إنما حَصَلَ بالثانيةِ، قيلَ: ولأنَّ الثانيةَ قد ثَبَتَ لها التَّغييرُ في مِثلِ " تَذَّكَّرُونَ " بالإدغامِ، ويَرُدُّه أنَّ الأُولَى ثَبَتَ فيها ذلك أيضًا، كما في قراءةِ البَزِّيِّ: { وَلَا تَيَمَّمُوا }.
وقولُه: تَلَوَّنُ في أَثوابِها الْغُولُ: صِلَةٌ لِمَا، وما وصِلَتُها في مَوْضِعِ جَرٍّ بالكافِ، والكافُ ومَجرورُها في مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحذوفٍ دَلَّ عليه ما قَبْلَه؛ لأن الذي لا يَدومُ على حالٍ مُتَلَوِّنٌ، فكأنه قالَ: تَتَلَوَّنُ تَلَوُّنًا، كما يَتَلَوَّنُ الغُولُ، وهي مِن تَشبيهِ الْمَعقولِ بالمحسوسِ، كتَشبيهِ العِلْمِ بالنُّورِ.
والهاءُ في " أثوابِها " عائدةٌ على مُتَأَخِّرٍ لَفْظًا، مُتَقَدِّمٍ رُتْبَةً ونِيَّةً، كالهاءِ من قولِه تعالى: { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى }.
ويُستفادُ من قولِه: " تَلَوَّنُ " وقولِه: " في أثوابِها " تأنيثُ الغُولِ، كما اسْتُفِيدَ من قولِه: " بها " تأنيثُ الحالِ.
والغُولُ بالضَّمِّ: كلُّ شيءٍ اغتالَ الإنسانَ، فأَهْلَكَهُ، والمرادُ هنا: الواحدةُ مِن السَّعَالِي، وهي إناثُ الشياطينِ، سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنها فيما زَعَمُوا تَغتالُهم، أو لأنها تَتَلَوَّنُ كلَّ وَقْتٍ، من قولِهم: تَغَوَّلَت عليَّ البلادُ، إذا اخْتَلَفَتْ.
وللعرَبِ أُمورٌ تَزْعُمُها لا حقيقةَ لها، منها: أنَّ الغُولَ تَتَرَاءَى لهم في الْفَلَوَاتِ، وتَتَلَوَّنُ لهم، وتُضِلُّهُم عن الطريقِ.
ومنها: الْهَديلُ، زَعَمُوا أنه فَرْخٌ كان على عهدِ نوحٍ عليه السلامُ، فصادَه بعضُ الجوارِحِ، وأنَّ جميعَ الحمامِ تَبكِيهِ إلى يومِ القِيامةِ , قالَ: ( البحر المتقارِب ).
يُذَكِّرُنِيكِ حَنينُ العَجُولِ = وصوتُ الحمامةِ تَدْعُو هَدِيلًا
العَجولُ: بالفتْحِ: الفاقِدَةُ لوَلَدِها مِن الإِبِلِ.
ومنها: الصَّفَرُ، زَعَمُوا أنه حَيَّةٌ في جَوفِ الإنسانِ تَعَضُّ عندَ الجوعِ شَراسِيفَهُ , وهي أطرافُ الأضلاعِ التي تُشْرِفُ على البَطْنِ، قالَ أَعْشَى باهِلَةَ: ( البحر البسيط ).
لا يَتَأَرَّى لِمَا في القِدْرِ تَرْقُبُهُ = ولا يَعَضُّ على شُرْسُوفِه الصَّفَرُ
يُقالُ: تَأَرَّى بالمكانِ: إذا أَقامَ به، أي: لا يَحْبِسُ نفسَه لإدراكِ طَعامِ القِدرِ ليَأكلَه.
ومنها: الْهَامَةُ، زَعَمُوا أنها طائرٌ يَخرُجُ مِن رأسِ الْمَقتولِ، فيَصيحُ: اسْقُونِي ؛ فإني عَطشانُ، إلى أن يُؤْخَذَ بثأرِه، وقالَ ( البحر البسيط ).
يا عمرُو إن لا تَدَعْ شَتْمِي ومَنْقَصَتِي = أَضْرِبْكَ حتى تَقولَ الْهَامَةُ اسْقُونِي
ومنها: النَّوْءُ، وهو أن يَسْقُطَ نَجْمٌ مِن مَنازِلِ القَمَرِ الثمانيةِ والعِشرينَ مِن الْمَغْرِبِ مَعَ طُلوعِ الفَجْرِ، ويَطْلُعُ في تلك الساعةِ آخَرُ يُقابِلُه مِن الْمَشْرِقِ، فيأتي الْمَطَرُ وأمورٌ أُخَرُ مِن الْخُرافاتِ لا حقيقةَ لشيءٍ فيها، وفي الحديثِ: ((لَا عَدْوَى وَلَا هَامَةَ وَلَا نَوْءَ وَلَا صَفَرَ)) وفي حديثٍ آخَرَ: ((لَا طِيَرَةَ وَلَا نَوْءَ وَلَا غُولَ)). رواهما مسلِمٌ، وقالَ بعضُ الشُّعراءِ: ( البحر البسيط ).
الْجُودُ والغُولُ والعَنقاءُ ثالثةٌ = أسماءُ أشياءَ لم تُخْلَقْ ولم تَكُنِ
ويُجْمَعُ الغُولُ على " غِيلانٍ " وعلى " أَغوالٍ " قالَ: ( البحر الطويل ).
أيَقْتُلُنِي والْمَشْرِفِيُّ مُضَاجِعِي = ومَسنونةٌ زُرْقٌ كأَنيابِ أَغوالِ
وليس بذي رُمْحٍ فيَطْعَنُنِي بِهِ = وليس بذي سَيْفٍ وليس بنَبَّالِ
قولُه: " والْمَشْرِفِيُّ مُضَاجِعِي " : حالٌ مِن المفعولِ. وقولُه: وليس بذي رُمْحٍ: حالٌ مِن الفاعلِ، والواوانِ وَاوَا الحالِ؛ إذ لا يُعْطَفُ حالٌ على أُخرى مُخَالِفَةٍ لها في صاحبِها، لا يُقالُ: لَقِيتُه مُصْعِدًا ومُنْحَدِرًا، ورابطُ كلٍّ مِن الْجُملتينِ يُصاحِبُها الواوُ والضميرُ.
" والْمَشْرِفِيُّ " بفَتْحِ الميمِ: السيفُ، مَنسوبٌ إلى الْمَشارِفِ: قُرًى من أرضِ العَرَبِ يَجودُ فيها طَبْعُ السُّيوفِ.
" والزُّرْقُ " النِّصالُ، وَصَفَها بالزُّرْقَةِ لِخُضْرَتِها وصِقَالِها.
واسْتَوْفَى في البيتِ الثاني ذِكْرَ المشهورِ مِن آلاتِ القَتْلِ، والمعنى: ليس مِن الفُرسانِ فيَطْعَنَنِي بالرُّمْحِ، ويَقْتُلَنِي بالسيفِ، ولا مِن الرماةِ فيَرْمِيَنِي.
" والْغَوْلُ " بالفَتْحِ: ما يَغتالُ الشيءَ ويَذهبُ به، ومنه قولُهم: الغَضَبُ غَوْلُ الْحِلْمِ، والحرْبُ غَوْلُ النفوسِ، وقولُه تعالى: { لَا فِيهَا غَوْلٌ } أي: ليس فيها ما يَغتالُ عقولَهم، فيَذْهَبُ بها، قالَه أبو عُبيدةَ وأَنْشَدَ: ( البحر المتقارِب )

وما زَالَت الكَاسُ تَغْتَالُنَا = وتَذهَبُ بالأَوَّلِ الأَوَّلِ
وقالَ الجَوْهَريُّ: المعنى أنه ليس فيها غائِلَةُ الصُّدَاعِ، واسْتَدَلَّ بقولِه تعالى: { لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ } وقولِه تعالى: { لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ } وقالَ البخاريُّ في صحيحِه في تفسيرِ الآيةِ: " الْغَوْلُ: وَجَعُ البطْنِ " انتهى وهو غريبٌ. وأمَّا " الْغَيْلُ " فسيأتي تفسيرُه إن شاءَ اللهُ تعالى عندَ ذِكْرِه في القَصيدةِ.



  #6  
قديم 20 محرم 1430هـ/16-01-2009م, 04:59 PM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي (تابع) شرح جمال الدين محمد بن هشام الأنصاري

وقالَ رَحِمَه اللهُ تعالى ورَضِيَ عنه:
9- ولا تَمَسَّكُ بالعَهْدِ الذي زَعَمَتْ = إلا كما يُمْسِكُ الماءَ الغَرابيلُ
قولُه: " ولا تَمَسَّكُ " عَطْفٌ على " فما تَدومُ " وتَمَسَّكُ: إمَّا بضَمِّ التاءِ وكَسْرِ السينِ الْمُشَدَّدَةِ مُضارِعُ " مَسَّكَ " بالتشديدِ، وإمَّا بفَتْحِها مُضارِعُ " تَمَسَّكَ " والأَصْلُ تَتَمَسَّكُ، فحُذِفَتْ إحدى التاءَيْنِ، يُقالُ: مَسَّكَ بالشيءِ، وتَمَسَّكَ به، وأَمْسَك، واسْتَمْسَكَ، بمعنًى . وقُرِئَ: { وَلَا تُمَسَّكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } بضَمِّ التاءِ وفَتْحِ الميمِ. وتُمْسِكُوا بضَمِّ التاءِ وسكونِ الميمِ، وقُرِئَ في غيرِ السبْعِ بفَتْحِهما، وقالَ تعالى: { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ } قيلَ: وفي التشديدِ معنى التكثيرِ، وهذا وَهْمٌ، وإنما يُفيدُ التشديدُ التكثيرَ إذا لم يكن الفعْلُ مَوضوعًا عليه، كما في " حَدَّثَ " و " خَبَّرَ " ولم يكنْ لإفادةِ تَعْدِيَةِ القاصِرِ إلى المفعولِ، كما في " فَرَّحْتُه " ولا التعَدِّي لواحدٍ إلى التَّعَدِّي لاثنينِ، كعَلَّمْتُه الْحِسابَ، ومِثالُ ذلك: قَتَّلْتُ وكسَّرْتُ وحَوَّلْتُ وطَوَّفْتُ.
وقولُه: " زَعَمَتْ " إمَّا بمعنى: تَكَفَّلَتْ ومَصْدَرُه : الزعْمُ، بالفَتْحِ، والزَّعامةُ، والتقديرُ: الذي زَعَمَتْ به، كما قالَ تعالى: { وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } وقولِه: ( البحر الطويل ).
تَقولُ هَلَكْنَا إن هَلَكْتُ وإنما = على اللهِ أرزاقُ العِبادِ كما زَعَمْ
وإمَّا بمعنى " قالَتْ " ومَصدَرُه: الزَّعْمُ، مُثَلَّثُ الفاءِ، وهو قولٌ يَدَّعِيهِ الْمُدَّعِي، مُحْتَمِلٌ للحَقِّ والباطلِ، وغَلَبَ استعمالُه في الباطلِ، ومنه: { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا }، { فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ } ومِن استعمالِه في الْحَقِّ قَولُ أبي طالِبٍ يُخاطِبُ سَيِّدَنَا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ( البحر الكامل ).
ودَعَوْتَنِي وزَعَمْتَ أنَّك ناصِحٌ = ولقد صَدَقْتَ وكنتَ ثَمَّ أَمِينَا
وقولُ كُثَيِّرٍ : ( البحر الطويل )
وقد زَعَمَتْ أني تَغَيَّرْتُ بَعْدَها = ومَن ذا الذي يا عَزُّ لا يَتَغَيَّرُ
تَغَيَّرَ جِسْمِي والْخَليقَةُ كالتي = عَهِدْتُ ولم يُخْبِرْ بسِرِّكِ مُخْبِرُ
وقولُ سِيبويهِ: وزَعَمَ الخليلُ، وإنما يقولُ ذلك إذا كان الخليلُ قد خُولِفَ في ذلك القولِ، وكان الراجِحُ قولَه، والتقديرُ على هذا الوجهِ: الذي زَعَمَتْ أنها تَفِي به، أو الذي زَعَمَت الوفاءَ به واقِعًا، والأَوَّلُ أَوْلَى؛ لأن صاحِبَ " العينِ " ذَكَرَ أنَّ الغالِبَ وُقوعُ " زَعَمَ " على أنَّ وَصِلَتِها، وأنَّ وُقوعَه على الاسمينِ خاصٌّ بالشِّعْرِ كقولِه: ( البحر الخفيف )
زَعَمَتْنِي شيخًا ولستُ بشيخٍ = إنما الشيخُ مَن يَدِبُّ دَبِيبًا
وقالَ تعالى: { أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } أي: أنهم شُركاءُ، وهذا أَوْلَى مِن أن يكونَ التقديرُ: تَزعمونَهم شُرَكَائِي؛ ولأنه قد جاءَ في مَكانٍ آخَرَ: { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ }.
وقولُه: " كما " الكافُ: جَارَّةٌ، وما: مَصدرِيَّةٌ، وهي وَصِلَتُها في مَوضِعِ جَرٍّ، والجارُّ والمجرورُ: إمَّا حالٌ مِن ضميرِ مَصْدَرِ تَمَسَّكُ، أي: وما تُمْسِكُه إلا مُشَبَّهًا لهذا الإمساكِ، وإما نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ محذوفٍ، أي: إلا تَمَسُّكًا كهذا الإمساكِ، وهذا الاستثناءُ نَظيرُ الغايةِ في قولِه تعالى: { حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } وقولِهم: حتى يَبْيَضَّ القارُّ، وحتى يَؤُوبَ القارظانِ، وهما رجُلانِ مِن عَنْزَةَ خَرَجَا يَجْنِيانِ القُرْظَ، فلم يَرْجِعا.
وقد كَثُرَ وَصْفُهم النساءَ بالإخلافِ، ومنه قولُ ابنِ السَّرَّاجِ النحويِّ: ( البحر الكامل ).

مَيَّزْتُ بينَ جَمَالِها وَفِعَالِها = فإذا الْمَلاحةُ بالْخِيانةِ لا تَفِي
حَلَفَتْ لنا أن لا تَخونَ عُهُودَنا = فكأنها حَلَفَتْ لنا أن لا تَفِي
وقولُ الآخَرِ: ( البحر الطويل )
وإن حَلَفَتْ لا يَنْقُضُ النأيُ عَهْدَها = فليس لِمَخضوبِ البَنانِ يَمِينُ
وقولُ الحارِثِ بنِ عُمرَ الكِنديِّ: ( البحر الخفيف )
كلُّ أُنْثَى وإِنْ بَدَا لَكَ مِنْهَا = آيةُ الحبِّ حُبُّها خَيْتَعُورُ
أي: مُضْمَحِلٌّ، وهو بالخاءِ الْمُعْجَمَةِ، والعينِ المهمَلَةِ، بينَهما مُثَنَّاةٌ مِن تحتُ، ثم مُثَنَّاةٌ مِن فوقُ.
قالَ رَحِمَه اللهُ تعالى ورَضِيَ عنه آمينَ:
10- فلا يَغُرَّنَّكَ ما مَنَّتْ وما وَعَدَتْ = إنَّ الأمانِيَّ والأحلامَ تَضليلُ
الفاءُ: لِمَحْضِ السببيَّةِ، كالواقِعَةِ في جوابِ الشرْطِ؛ لأن ما قَبْلَها خَبَرٌ، وما بعدَها طَلَبٌ، وَعَطْفُ أحدِهما على الآخَرِ مُمْتَنِعٌ على الصحيحِ، ومِثلُه: زَيدٌ كاذبٌ فلا يُغْتَرُّ بقولِه، ولا ناهيةٌ فالفِعْلُ بعدَها في مَوضِعِ جَزْمٍ، ولكنه مَبْنِيٌّ لنُونِ التوكيدِ الْمُبَاشِرَةِ، وقيلَ: لا تُشْتَرَطُ الْمُباشَرَةُ، فنحوَ: لتُبْلَوُنَّ مَبْنِيٌّ أيضًا، وقيلَ: الجميعُ مُعْرَبٌ تَقديرًا، والمختارُ الأَوَّلُ، ونونُ التوكيدِ الخفيفةُ بِمَنْزِلَةِ إعادةِ الفِعلِ ثانيًا، والشديدةُ بِمَنْزِلَةِ إعادتِه ثانيًا وثالثًا، قالَه الخليلُ، وليست الخفيفةُ مُخَفَّفًةً مِن الشديدةِ، خِلافًا للكُوفِيِّينَ، وتوكيدُ الفِعلِ بعدَ " لا " جائزٌ في النَّثْرِ باتِّفاقٍ، إن كانتْ ناهيةً نحوَ: { وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا } وقولِ كعبٍ: فَلَا يَغُرَّنَّكَ، وخاصٌّ بالشعْرِ عندَ الْجُمهورِ إن كانت نافيةً كقولِه: ( البحر البسيط ).
تاللهِ لا يُحْمَدَنَّ المرءُ مُجْتَنِبًا = فِعلَ الكِرامِ وإن فاقَ الوَرَى حَسَبَا
وأَجازَه ابنُ جِنِّي وابنُ مالِكٍ وغيرُهما في النَّثْرِ تَمَسُّكًا بظَاهِرِ قولِ اللهِ تعالى: { ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ } { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً }.
والكافُ مفعولٌ قُدِّمَ وُجوبًا؛ لأنه ضَميرٌ لو تَأَخَّرَ لَزِمَ انفصالُه، ومِثالُه: أَكْرَمَنِي زَيدٌ، والْخِطابُ إمَّا لغيرِ مُعَيَّنٍ مِثلُ: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ } على أَحَدِ الوَجهينِ، وإمَّا لنفسِه على طريقةِ التجريدِ، ومِثلُه: قولُك: يا نَفْسُ، وقولُ امرئِ القيسِ بنِ حَجَرٍ خِلافًا لِمَنْ غَلِطَ : ( البحر المتقارِب ).
تَطاوَلَ لَيْلُك بالأَثْمُدِ = ونَامَ الْخَلِيُّ ولم تَرْقُدِ
والأَثْمُدُ: بفَتْحِ الهمزةِ وضَمِّ الميمِ: اسمُ مَوْضِعٍ.
وقولُه: " ما مَنَّتْ " تَحْتَمِلُ " ما " أَوْجُهًا:
أحدُها: أن يكونَ موصولًا اسْمِيًّا بمعنى الذي، فمَوضِعُها رَفْعٌ على الفاعليَّةِ، وقولُ بعضِ الْمُعْرِبِينَ في مثلِ ذلك: إنها وَصِلَتَها في مَوْضِعِ رَفْعٍ. مردودٌ بظُهورِ الإعرابِ في نفسِ الموصولِ، في نحوِ: جاءَ اللذانِ قامَا، ولْيَقُمْ أيُّهُم هو أَفْضَلُ ، وقولُ بَنِي عُقَيْلٍ أو هُذَيْلٍ: جاءَ اللذونَ قاموا، وقولُ بني هُذَيْلٍ: جاءَ اللاؤون فَعَلُوا، قالَ: ( البحر الوافِر )

هم اللاؤونَ فَكُّوا الغُلَّ عَنِّي = ِمَرْوِ الشاهِجَانِ وَهُمْ جَنَاحِي
الثاني: أن يكونَ نَكِرَةً مَوصوفةً بمعنى " شيءٍ " فيكونَ أيضًا في مَوْضِعِ رَفْعٍ على الفاعليَّةِ.
والثالثُ: أن تكونَ مَصدرِيَّةً بِمَنْزِلَةِ أنَّ وأنْ، فتكونُ وَصِلَتُها في مَوْضِعِ رَفْعٍ، ولا يكونُ الْمَوْضِعُ لها وَحْدَها؛ لأنها حَرْفٌ على الصحيحِ.
ووَزْنُ مَنَّتَ " فَعَّتْ " وأَصْلُه: مَنَّيَتْ على وزنِ " فَعَّلَتْ " فتَحَرَّكَت الياءُ، وانْفَتَحَ ما قبلَها، فقُلِبَتْ ألِفًا، فالْتَقَى ساكنانِ، فحُذِفَتْ، وهو مُتَعَدٍّ لاثنينِ، قالَ الفَرزْدَقُ : ( البحر الكامل ).
فانْعِقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ فَإِنَّمَا = مَنَّتْكَ نَفْسُكَ في الخلاءِ ضَلالَا
وهما محذوفان في البيتِ، التقديرُ: إذا جَعَلْتَ " ما " اسمًا: مَنَّتْكَهُ، أو مَنَّتْكَ إِيَّاهُ، وإذا جَعَلْتَ حرفًا " ما " : مَنَّتْكَ الوَصْلَ أي : فلا يَغُرَّنَّكَ تَمْنِيَتُها إيَّاكَ الوَصْلَ، ولم تُقَدِّرِ الثانيَ حينئذٍ ضميرًا؛ لأن الضميرَ لا يَعودُ إلا على الأسماءِ، ولهذا اسْتُدِلَّ على اسْمِيَّةِ " مهما" و " ما التَّعَجُّبِيَّةِ " و " أل " الموصولةِ بعَودِ الضميرِ عليهنَّ في قولِه تعالى : { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ } وقولِك: ما أَحسنَ زيدًا، وجاءني الضارِبُ ومَن زَعَمَ حَرفيَّةَ " أل " قَدَّرَ مَرْجِعَ الضميرِ مَوصوفًا مَحذوفًا.
فإن قلتَ: كيف جَوَّزْتَ تقديرَ المفعولِ الثاني على الوجهينِ الأَوَّلَيْنِ ضَميرًا منفصلًا مع أنهم نَصُّوا على امتناعِ العائدِ الْمُنْفَصِلِ، نحوَ: جاءَ الذي إيَّاهُ أَكْرَمْتُ، أو ما أَكْرَمْتُ إلا إيَّاهُ؟ قلتُ: إنما امْتَنَعَ في نحوِ: ما أَوْرَدْتُه؛ لأن حَذْفَه في الْمِثالِ الثاني مُستلزِمٌ لِحَذْفِ إلا، فيُوهِمُ نفيَ الفعلِ عن المذكورِ، وإنما المرادُ به نفيُه عمَّا عَدَّه، وأمَّا الْمِثالُ الأوَّلُ؛ فإنَّ فَصْلَ الضميرِ فيه يُفيدُ الاختصاصَ عندَ البَيانيِّ، والاهتمامَ عندَ النَّحْويِّ، فإذا حُذِفَ فإنما يَتبادَرُ الذهْنُ إلى تقديرِه مُؤَخَّرًا على الأصلِ، فيَفوتُ الغَرَضُ الذي فُصِلَ لأجْلِه، وأمَّا الضميرُ في البيتِ؛ فإنه يَسْتَوِي معناه مُتَّصِلًا ومُنْفَصِلًا، فلا يَفوتُ بتقديرِه مُتَّصِلًا غَرَضٌ، وبهذا يُجابُ عن سؤالٍ يُورَدُ في نحوِ قولِه تعالى: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وتقديرُه: أنه إن قُدِّرَ: ومِمَّا رَزقناهمُوهُ لزِمَ اتِّصالُ الضميرينِ الْمُتَّحِدَي الرُّتْبَةِ، وذلك قليلٌ في ضَميرِ الغَيْبَةِ، مُمْتَنِعٌ في غيرِهما، ولا يَحْسُنُ حَمْلُ التنزيلِ على القليلِ، وإن قُدِّرَ: رَزقناهمْ إيَّاهُ لَزِمَ حَذْفُ العائدِ الْمُنْفَصِلِ، والجوابُ بالثاني، وأنَّ العائدَ الْمُنْفَصِلَ لا يَمْتَنِعُ حَذْفُه على الإطلاقِ.
وقولُه: " وما وَعَدَتْ ": لك في " ما " هذه الأَوْجُهُ الثلاثةُ، ووَعَدَ أيضًا يَتَعَدَّى لاثنينِ نحوَ: { وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ } { أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا } التقديرُ أيضًا: ما وَعَدَتْكَهُ أو ما وَعَدَتْكَ إيَّاه، أو ما وَعَدَتْكَ الوَصْلَ. والوَعْدُ هنا للخَيْرِ؛ لأن الْمَوْضِعَ لا يَحتمِلُ غيرَه، وعَكْسُه: { وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } وإذا لم قَرينةٌ، فالوَعْدُ للخيرِ، والإيعادُ للشرِّ، قالَ: ( البحر الطويل ).
وإني وإن أَوْعَدْتُه أو وَعَدْتُهُ = لَمُخْلِفُ إِيعادِي ومُنْجِزُ مَوْعِدِي
وقولُه: " إنَّ الأمانِيَّ " الروايةُ بكَسْرِ همزةِ " إنَّ " علَى أنه تعليلٌ مُستأنَفٌ، ومِثلُه في تعليلِ النهيِ: { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا } وفي تعليلِ الأمرِ: { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } { اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }. { اخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ } ، { اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } وفي تعليلِ الخبَرِ { إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } وفَتْحُ أنَّ فيهنَّ على إضمارِ لامِ العِلَّةِ جائزٌ لغةً، وقد جَاءَت الروايةُ بالوَجهينِ في آيةِ الطُّورِ، وجَوَّزَهما في قولِ الْمُلَبِّي: لَبَّيْكَ إنَّ الحمْدَ والنِّعْمَةَ لك، والكسْرُ أَرْجَحُ؛ لأن الكلامَ حِينئذٍ جُملتانِ لا جُملةٌ واحدةٌ، وتَكثيرُ الْجُمَلِ في مَقامِ الثناءِ والتعظيمِ مَطلوبٌ، ولأنَّ إطلاقَ الثناءِ أَوْلَى مِن تَقييدِه، وإنما يَلْزَمُ التقييدُ على الكَسْرِ إذا قُدِّرَ استئنافًا بَيَانِيًّا، أعني: أن يُقَدَّرَ جوابًا لسؤالٍ مُقَدَّرٍ، أمَّا إذا قُدِّرَ استئنافًا نَحْوَيًّا فلا.
والأمانِيَّ: جَمْعُ أُمْنِيَةٍ، كالأَثافِيِّ جَمْعُ أَثْفِيَةٍ، ومِثلُه الأضاحِيُّ، والأواقِيُّ وتخفيفُ يَاءَاتِهن جائزٌ، وأصلُ أُمْنِيَةٍ: أُمْنُويَةٌ " أُفْعُولَةٌ " كأُكذوبةٍ وأُعجوبةٍ، ثم قَلَبُوا وأَدْغَمُوا، ثم أَبْدَلُوا الضمَّةَ كَسرةً.
قولُه: والأحلامَ: هو جَمْعُ حُلُمٌ بضَمَّتَيْنِ، وهو ما يراه النائمُ، وفِعْلُه: حَلَمَ، بالفتحِ، بوَزْنِ رَأَى، وأمَّا الْحِلْمُ بالكسْرِ، فهو الصَّفْحُ وكَرَمُ الْخُلُقِ، وفِعْلُه: حَلُمَ بالضمِّ، مثلَ كَرُمَ؛ لأنه سَجِيَّةٌ، وأمَّا الْحَلَمُ بالفَتْحِ فهو فَسادُ الْجِلْدِ وتَفَتُّتُه، وفِعْلُه: حَلِمَ بالكسْرِ؛ لأنه وَزْنٌ يَغْلِبُ في العَاهاتِ الظاهِرَةِ كمَرِضَ وسَقِمَ، والباطنةِ كحَمِقَ ورَعِنَ، قالَ عمرُو بنُ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنه يُخاطِبُ مُعاويةَ رَضِيَ اللهُ عنه: ( البحر الوافر ).
فإنك والكتابَ إلى عَلِيٍّ = كدابِغَةٍ وقد حَلِمَ الأديمُ
قولُه: والأحلامَ عَطْفٌ على اسمِ إنَّ ، ويَجوزُ رَفْعُه، فإن قُلْتَ: إنما يُجيزُ ذلك الكِسائيُّ، وقد خالَفَه تِلميذُه الْفَرَّاءُ، فاشْتَرَطَ خَفاءَ إعرابِ الاسمِ، نحوَ: إنك وزَيدٌ ذَاهبانِ، وخَالَفَهما جميعُ البَصرِيِّينَ، فمَنَعُوا ذلك مُطْلَقًا، قلتُ: هذا مَوْضِعٌ يَكْثُرُ فيه الوَهْمُ، وإنما الْخِلافُ حيث يَتَعَيَّنُ كونُ الْخَبَرِ لاسمينِ جَميعًا، نحوَ إنك وزيدٌ ذَاهبانِ، وأمَّا نحوَ: إنَّ زَيْدًا وعمرٌو في الدارِ، فجائزٌ باتِّفاقٍ، ومنه قولُه تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ } وبيتُ كَعْبٍ إذا رَفَعَ الأحلامَ إذ التضليلُ مَصدَرٌ، فيَصِحُّ الإخبارُ به عن الواحدِ وما فَوْقَه، وإنما الْخِلافُ في تَخريجِ ذلك، فقالَ الكُوفِيُّونَ: مَعطوفٌ على مَحَلِّ الاسمِ، وقالَ البَصرِيُّونَ: هو إمَّا مُبتدأٌ حُذِفَ خَبَرُه، والجملةُ مُعترِضَةٌ بينَ اسمِ إنَّ وخَبَرِها، وإمَّا مُبتدأٌ خَبَرُه ما بعدَه، وحُذِفَ خَبَرُ " إنَّ لدَلالةِ خَبَرِ الْمُبتدأِ عليه، ويَشهَدُ للأَوَّلِ قولُه: ( البحر الطويل ) :
فمَن يَكُ أَمْسَى بالمدينةِ رَحْلُه = فإني وقَيَّارٌ بها لغَريبُ
وقَيَّارٌ: اسمٌ لفَرَسِه، بدليلِ أنَّ اللامَ لا تَدْخُلُ في خَبَرِ المبتدأِ، ويَشْهَدُ للثاني قولُه: ( البحر الطويل ):
خَلِيلَيَّ هل طِبٌّ فإني وأنتما = وإن لم تَبُوحَا بالْهَوى دَنِفَانِ
بدليلِ أنه لا يُخْبَرُ عن الواحدِ بالْمُثَنَّى، ومنه قِراءةُ بعضِهم: { إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } برَفْعِ مَلائكتِه، أي: إنَّ اللهَ يُصَلِّي، وملائكتُه يُصَلُّونَ، إذ لا يُخْبَرُ عن الواحدِ بالْجَمْعِ، وقد يُخَرَّجُ على الوجهِ الأَوَّلِ على أن يُقَدَّرَ الجمْعُ للتعظيمِ مِثلُه في :{ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ }.
وقولُه: " تَضليلُ " تَفعيلٌ مِن الضلالِ، أي: تَضييعٌ وإِبطالٌ. ومنه: { أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ } ولهذا قيلَ لامرئِ القَيْسِ بنِ حَجَرٍ: " الْمَلِكُ الضليلُ "؛ لأنه ضَلَّلَ مُلْكَ أبيه، أي: ضَيَّعَه، والأصْلُ: ذواتُ تَضليلٍ، ومِثلُه: { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ } أي: هم ذَوُو دَرجاتٍ، أو جُعِلَتْ نفسُ التضليلِ مُبالَغَةً، كقولِ الآخَرِ يَذْكُرُ ظَبيةً فَقَدَتْ وَلَدَها: ( البحر البسيط )
تَرْتَعُ ما رَتَعَتْ حتى إذا ادَّكَرَتْ = فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ
فجَعَلَها نفسَ الإقبالِ والإدبارِ، لكَثْرَةِ وُقوعِهما منها، قالَ:
11- كانت مَواعِيدُ عُرقُوبٍ لها مَثَلًا = وما مَواعِيدُها إلا الأباطيلُ
لـ " كان " الناقِصَةِ مَعنيانِ:
أحدُهما: الدَّلالةُ على ثُبوتِ خَبَرِها لاسْمِها في الزَّمَنِ الماضي، نحوَ: كان زيدٌ فَقِيرًا.
والثاني: الدَّلالةُ على تَحَوُّلِ اسْمِها مِن وَصْفٍ إلى آخَرَ، نحوَ: { وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً } أي: فصارَتْ وصِرْتُمْ، ومنه كان في البيتِ، أي: صارَتْ مَواعيدُ عُرقوبٍ مَثَلًا لها بينَ الناسِ، لشُهرةِ اتِّصافِها بالإخلافِ.
ومَواعيدُ: جَمْعُ مِيعادٍ، كمَوازينَ جَمْعِ مِيزانٍ، لا جَمْعُ " مَوعودٍ "؛ لأن المعْنَى ليس عليه، ولأنَّ مَفعولًا صِفَةٌ، كمَضروبٍ ومَقتولٍ لا يُكَسَّرُ، وأمَّا نحوَ مَشَائِيمَ ومَلاعينَ فَشَاذٌّ. فإن قُلتَ: إنما يَجوزُ أن يكونَ جَمْعًا لِمَوعودٍ بمعنى الوَعْدِ؟ قلتُ: مَجيءُ الْمَصْدَرِ على " مَفعولٍ " إمَّا معدومٌ، وإمَّا نادرٌ وجَمْعُ الْمَصْدَرِ غيرُ قِياسٍ.
وعُرقُوبٍ: بضَمِّ أوَّلِه كعُصفورٍ، وليس في العربيَّةِ فَعلولٍ بالفتْحِ إلا صَعْفُوقٍ وخَرنوبٍ في لُغَيَّةٍ، وهو عَلَمٌ مَنقولٌ مِن عُرقوبِ الرجُلِ، وهو ما انْحَنَى فوقَ عَقِبِها، وعُرقوبُ الوَادِي، وهو مُنْعَطَفُه، وهو رَجُلٌ مِن العَمالِقَةِ، وهو عُرقوبُ بنُ مَعْبَدِ بنِ زُهَيْرٍ، أَحَدُ بني عبدِ شَمْسِ بنِ ثَعلبةَ، أو عُرقوبُ بنُ صَخْرٍ، على خِلافٍ في ذلك، وكان مِن خَبَرِه أنه وَعَدَ أَخًا له ثَمَرَةَ نَخْلِه، وقالَ: ائْتِنِي إذا طَلَعَ النخْلُ، فلَمَّا أَطْلَعَ قال: إذا أَبْلَحَ فلَمَّا أَبْلَحَ قالَ: إذا أَزْهَى، فلَمَّا أَزْهَى قالَ: إذا أَرْطَبَ، فلَمَّا أَرْطَبَ قالَ: إذا صارَ تَمْرًا، فلَمَّا صارَ تَمْرًا جَذَّه مِن الليلِ، ولم يُعْطِه شيئًا فضَرَبُوا به الْمَثَلَ مِن الإخلافِ، فقالوا: أَخْلَفُ مِن عُرقوبٍ، وقالَ عَلْقَمَةُ الأَشْجَعِيُّ: ( البحر الطويل ).
وَعَدْتَ وكان الْخُلْفُ منك سَجِيَّةً = مواعيدُ عُرقوبٍ أَخاهُ بيَثْرِبِ
قالَ التِّبريزيُّ: والناسُ يَرْوُونَ يَثْرِبَ في هذا البيتِ بالثاءِ الْمُثَلَّثَةِ والراءِ المكسورةِ، وإنما هو بالْمُثَنَّاةِ، وبالراءِ المهمَلَةِ المفتوحةِ، مَوْضِعٌ بقُرْبِ مَدينةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالَه ابنُ الكلبيِّ، قُلْتُ، وقالَه أيضًا أبو عُبيدةَ، وقد خُولِفَا في ذلك. قالَ ابنُ دُرَيْدٍ: اخْتَلَفُوا في عُرقوبٍ، فقيلَ: هو مِن الأَوْسِ، فيُصْبِحُ على هذا أن يكونَ بالْمُثَلَّثَةِ وبالمكسورةِ، وقيلَ: مِن العماليقِ، فيكونُ بالْمُثَنَّاةِ، وبالمفتوحةِ؛ لأنَّ العماليقَ كانت مَنازِلُهم مِن اليَمامةِ إلى وَبَارٍ ويَثربُ هناك، قالَ: وكانت العَماليقُ أيضًا في المدينةِ . انتهى.
وقالَ الحافظُ أبو الْخَطَّابِ بنُ دِحْيَةَ: سُمِّيَت المدينةُ يَثْرِبَ باسمِ الذي نَزَلَها مِن العَماليقِ، وهو يَثْرِبُ بنُ عُبيدٍ وبنو عُبيدٍ هم الذين سَكَنُوا الْجُحْفَةَ، فأَجْحَفَت بهم السُّيولُ، فسُمِّيَتْ الْجُحْفَةَ، ولا يَجوزُ الآنَ أنْ تُسَمَّى المدينةُ يَثْرِبَ لقولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَقُولُونَ يَثْرِبَ وَهِي الْمَدِينَةُ" وكأنه كَرِهَ هذا الاسمَ؛ لأنه مِن مَادَّةِ التثريبِ، وأمَّا قولُه تعالى: { يَا أَهْلَ يَثْرِبَ } فحكايةٌ عمَّنْ قالَه مِن المنافقينَ. ومِن الغريبِ قولُ بعضِهم: إنَّ " عُرقوبًا " جَبَلٌ مُظَلَّلٌ بالسَّحابِ، وإنه لا يُمْطَرُ أبدًا، فالإضافةُ في " مَواعيدُ عُرقوبٍ " إلى المفعولِ، كأنه وَعَدَ بالْمَطَرِ ولم يُمْطِرْ، أو إلى الفاعلِ على الْمَجازِ، كأنه وَعَدَ الناظرَ إليه أن يُمْطِرَ ولم يُوفِ بذلك، وعلى ما سَبَقَ فهو فاعلٌ لا غيرُ.
قولُه : " لَهَا " تَحْتَمِلُ اللامُ ثلاثةَ أَوْجُهٍ: أحدُها: أن تَتَعَلَّقَ بكان على القولِ بأنَّ لها دَلالةً على الحدَثِ، وهو الصحيحُ، وقد اسْتُدِلَّ على صِحَّةِ التَّعَلُّقِ بها بقولِه تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا } إذ لا يَتَعَلَّقُ اللامُ بعَجَبًا، ولا بِأَوْحَيْنا، لامتناعِ تَقَدُّمِ مَعمولِ الْمَصْدَرِ عليه، وتَقَدُّمِ معمولِ الصِّلَةِ على الموصولِ؛ ولأنَّ المعنى ليس على الثاني، وإذا بَطَلَ تَعَلُّقُها بهما، تَعَيَّنَ تَعَلُّقُها بكان، وفيه نَظَرٌ؛ لأن الْمَصْدَرَ هنا ليس في تقديرِ فِعْلٍ، أو حرفٍ مَصْدَرِيٍّ، إذ ليس فيه معنى الحدوثِ، بل هو مِثلُه في قولِك: لزيدٍ مَعرِفَةٌ بالنَّحْوِ، وذَكاءٌ في الطِّبِّ، ولا يَقْدَحُ ذلك في عَمَلِه في الظرْفِ وإن قَدَحَ في عَملِه في الفاعلِ والمفعولِ الصريحِ؛ لأن الظرْفَ يَعملُ فيه رائحةُ الفعلِ، وهذا الْمَوْضِعُ قد وَهِمَ فيه كثيرٌ، حتى إِنَّهم احتاجُوا إلى تقديرِ عاملٍ للظَّرْفِ في قولِه تعالى: { لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا } وقولِ الحماسيِّ:
وبعضُ الْحِلْمِ عندَ الْجَهْـ = ـلِ للذِّلَّةِ إِذعانُ
والثاني: أن يكونَ حالًا مِن " مَثَلًا " على أنه كان صِفةً له ثم قُدِّمَ عليه على حَدِّ قولِه:
لِمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلُ
الثالثُ: أن يكونَ خَبَرًا لكان. و" مَثَلًا " حالٌ تَوَقَّفَتْ عليها فائدةُ الْخَبَرِ، كما في قولِه تعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } وعليهما فتَعَلُّقُها بِمَحذوفٍ.
قولُه: " مَثلًا " الْمَثَلُ: كلُّ شيءٍ حاكَيْتَ به شيئًا، ومِن ثَمَّ قالوا للصُّوَرِ الْمَنقوشةِ: تَماثيلُ، وهي جَمْعُ تِمثالٍ، ويُطْلَقُ على ثلاثةِ أُمورٍ:
أحدُها: الْمِثْلُ بكَسْرِ الميمِ وسكونِ الثاءِ، وهو النظيرُ، يُقالُ: مِثْلٌ ومَثَلٌ ومَثيلٌ، كما يُقالُ: شِبْهٌ وشَبَهٌ وشَبيهٌ.
الثاني: القولُ السائرُ الْمُمَثَّلُ مَضْرِبُه بِمَوْرِدِه، وقد صَنَّفَ العُلماءُ في هذا كُتُبًا.
الثالثُ: النعتُ، نحوَ: { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى }، { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } الآيةَ { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ }، { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا }.
وقولُه: " وما مَواعيدُها " : الضميرُ للمرأةِ، ويُرْوَى: " مَواعيدُه، أي: عُرقوبٍ.
وقولُه: " أباطيلُ " جَمْعُ باطلٍ: ضِدُّ الْحَقِّ، وهو جَمْعٌ على غيرِ قِياسِ واحدِه، ونظيرُه: حديثٌ وأحاديثُ، وعَروضٌ وأَعاريضُ.
قالَ :
12- أَرْجُو وآمُلُ أن تَدْنُو مَوَدَّتُها = وما إخالُ لَدَيْنَا منك تَنويلُ

للرجاءِ معنيان:
أحدُهما: التأميلُ، وهو المرادُ هنا، ويُستعمَلُ في الإيجابِ والنفيِ، وقد اجْتَمَعَا في قولِه تعالى: { وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ }.
والثاني: الخوفُ، وذَكَرَ الفَرَّاءُ أنه مُخْتَصٌّ بالنفيِ نحوَ: { مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } أي: ما لَكُمْ لا تَخافُونَ للهِ عَظمةً، وقولِ الْهُذَلِيِّ يَصِفُ شَخْصًا يَشْتَارُ عَسَلًا وهو لا يُبَالِي بِلَسْعِ النحلِ: ( البحر الطويل )
إذا لسَعَتْهُ لم يَرْجُ لَسْعَهَا = وحالَفها في بيتِ نُوبٍ عواسلُ
وحالَفها بالحاءِ الْمُهْمَلَةِ: أي: خالَطَها. والنُّوبُ: النحلُ، وهي جَمْعُ نايِبٍ، كَفَارَةٍ وفُرْةٍ، سُمِّيَتْ نُوبًا لسُودِها، ويُرْوَى: وخالَفَها بالْمُعْجَمَةِ.
وقيلَ: لا تَخْتَصُّ بالنفيِ بدليلِ { وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ } وجَوَّزَ ابنُ الْخَبَّازِ في قولِ ابنِ مُعْطِي: يقولُ راجي رَبِّه الغفورِ : كونُه بمعنى الآمُلِ، أو الخائفِ، والظاهِرُ الأوَّلُ لقَرينةِ ذِكْرِ الغَفورِ، وأمَّا الآيةُ فتَحتَمِلُ ثلاثةَ أَوْجُهٍ:
أحدُها: أن يُرادَ: افْعَلُوا ما تَرْجُونَ به حُسْنَ العَاقِبَةِ، فأُقِيمَ الْمُسَبَّبُ مَقامَ السَّبَبِ.
الثاني: أو يكونوا أُمِرُوا بالرجاءِ والْمُرادُ اشْتراطُ ما يُسَوِّغُه مِن الإيمانِ كما يُؤْمَرُ الكافرُ بالشرْعِيَّاتِ على إرادةِ هذا الشرْطِ .
الثالثُ: أن يكونَ الرجاءُ بمعنى الْخَوْفِ.
وقولُه: " وَآمُلُ ": الأَمَلُ هو الرَّجَاءُ. قيلَ: وإنما عُطِفَ عليه؛ لأنه يكونُ في الْمُمْكِنِ، والمستحيلِ، والرجاءُ يَخُصُّ الْمُمْكِنَ قلتُ: وإنما هذا الفَرْقُ بينَ التَّمَنِّي والرجاءِ، وإنما الْمُصَحِّحُ للعَطْفِ اختلافُ اللفظِ نحوَ: { فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا } وقولِه:
أَقْوَى وأَقْفَرَ بعدَ أمِّ الْهَيْثَمِ
ومِثلُه في الأسماءِ: { إِنَّما أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ } { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } { لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا } وقولُه:
وأَلْفَى قولَهَا كَذِبًا ومَيْنًا
ولا يُعْطَفُ هذا النوعُ إلا بالواوِ قالَ ابنُ مالِكٍ: وقد أُنِيبَتْ أو عنها في اللفظِ في قولِه تعالى: { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا } وفيه نَظَرٌ، لإمكانِ أن يُرادَ بالْخَطيئةِ: ما وَقَعَ وبالإثْمِ: ما وَقَعَ عَمْدًا.
فإن قُلْتَ: هَلَّا قَدَّرْتَ الجملةَ حالًا مِن فاعلِ " أَرْجُو " لتَسْلَمَ مِن مُخالَفَةِ الأصْلِ في العَطْفِ؟
قلتُ: إن سَلِمْتَ مِن ذلك، وَقَعْتَ في مُخالَفَةِ أَصلينِ، إذ الأَصْلُ في الحالِ أن تكونَ مَبْنِيَّةً لا مُؤَكِّدَةً، والأصلُ في المضارِعِ الْمُثْبَتِ الخالي مِن قد إذا وَقَعَ حالًا أن لا يَقْتَرِنَ بالواوِ نحوَ: { وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ } ونحوَ: { وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }.
وفي قولِه هنا: " وآمُلُ "، وقولِه فيما سَيأتِي: وقالَ كلُّ خليلٍ كُنْتُ آمُلُه، وقولِه: والعفوُ عندَ رسولِ اللهِ مأمولُ، دليلٌ على أنه كما يُقالُ أَمَّلْتُه بالتشديدِ فهو مُؤَمَّلٌ، كذلك يُقالُ: أَمَلْتُه بالتخفيفِ، فهو مَأْمُولٌ، وقد سُئِلَ في مدينةِ السلامِ عن مَسائلَ ومِن جُملتِها هذه، فكَتَبَ أبو نِزارٍ الْمُتَلَقَّبُ بِمَلِكِ النُّحاةِ أنه لا يُجيزُ أن يُقالَ: مَأمولُ، إِلَّا أن يَسْمَعَه الثِّقَةُ: أَمَلَ بالتخفيفِ. وكَتَبَ الإمامُ أبو مَنصورٍ الْجَواليقِيُّ أنه لا رَيبَ في جَوازِ ذلك، وأنَّ الأَئِمَّةَ رَوَوْهُ كالخليلِ وغيرِه، ثم أَنْشَدَ قولَ كَعْبٍ :
والعفوُ عندَ رسولِ اللهِ مأمولُ
وقولَ بعضِ الْمُعَمِّرِينَ ( مجزوء ـ الكامل المرفل ):
المرءُ يَأْمُلُ أن يَعيشَ = وطُولُ عَيْشٍ قد يَضُرُّهْ
وكتَبَ الإمامُ أبو السَّعاداتِ ابنُ الشَّجَرِيِّ بالجوازِ أيضًا، وتَعَرَّضَ لأبي نِزارٍ، ونَسَبَه إلى الْجَهْلِ، ثم قالَ: وقولُه: إنه لا يُجيزُ " مأمولًا " إلا أن يَسْمَعَه الثقةُ " أَمَلَ " مَن لم يَعْلَمْ أنهم قالوا: فقيرٌ، مع أنهم لم يَقولوا " فَقُرَ " وإنما يقولون: افْتَقَرَ، افَتَرَاهُ يَمْنَعُ " فَقيرًا " لكونِ الثِّقَةِ لم يَسْمَعْه فَقُرَ، مع أنَّ القرآنَ قد وَرَدَ به في قولِه تعالى: { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } ولَيْتَ شِعْرِي ما الذي سَمِعَ هذا الرجُلُ مِن اللغةِ حتى أَنْكَرَ أن يَفوتَه هذا الْحَرْفُ، بل يَنبغِي له إذا أَمْعَنَ النَّظَرَ في كُتُبِ اللغةِ، فلم يَجِدْهُ، ثم سَمِعَ: والعفوُ عندَ رسولِ اللهِ مأمولُ أن يُسَلِّمَ لكَعبٍ، ويُذْعِنَ صاغرًا . انتهى مُلَخَّصًا.
ومِن الغريبِ أنَّ هذين الإمامينِ لم يَسْتَدِلَّا على مَجيءِ " أَمَلَ " بالبيتينِ المذكورينِ في هذه القَصيدةِ، بل تَكَلَّفَ ابنُ الجَواليقيِّ، وأَنْشَدَ قولَ شاعرٍ آخَرَ، وقولُ ابنِ الشَجَرِيِّ: إنه لم يَسْمَعْ فيه " فَقُرَ " اعْتَمَدَ فيه على كلامِ سِيبويهِ والأكثرينَ، وذكَرَ ابنُ مَالِكٍ أنَّ جَماعةً مِن أَئِمَّةِ اللغةِ نَقَلُوا مَجيءَ " فَقُرَ " بالضَّمِّ والكَسْرِ، وأنَّ قولَهم في التَّعَجُّبِ: ما أَفْقَرَه مَبْنِيٌّ على ذلك، وليس بشَاذٍّ، كما زَعَمُوا.
وفي قولِه: أَرْجُو وآمُلُ الْتِفَاتٌ عن الْخِطابِ في قولِه: " فلا يَغُرَّنَّكَ " إلى التَّكَلُّمِ الذي بَدَأَ به في قولِه: فقَلْبِي اليومَ مَتبولُ، وإن كان الْخِطابُ في قولِه: " فلا يَغُرَّنَّكَ " لغيرِه فلا الْتِفَاتَ في واحدٍ فيهما.
وقولُه: " أَنْ تَدْنُو " تَنَازَعَه الفِعلانِ، فأُعْمِلَ الثاني، وحُذِفَ مفعولُ الأَوَّلِ، ولا يَحْسُنُ أن يُقالَ: أُعْمِلَ الأوَّلُ، وحُذِفَ مفعولُ الثاني على حَدِّ قولِه: ( البحر الكامل ـ مجزوء ) :

بعُكَاظَ يُعْشِي الناظرينَ = إذا هُمُ لَمَحُوا شُعاعَهْ
الأصلُ: لَمَحُوهُ؛ لأن ذلك ضَرورةٌ، فلا يُخْرَجُ عليه ما وُجِدَتْ عنه مَندوحةٌ.
وقولُه: " أن تَدْنُو " بالإسكانِ مُحْتَمِلٌ لوجهينِ :
أحدُهما: أن يكونَ أَهْمَلَ " أن " الْمَصْدَرِيَّةَ حَمْلًا على " ما " الْمَصدرِيَّةِ كما قالَ: ( البحر الطويل ).
إذا كان أَمْرُ الناسِ عندَ عَجُوزِهِمْ = فلا بُدَّ يَلْقَوْنَ كلَّ ثُبُورِ
وكَقراءَةِ مُجاهِدٍ: { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمُّ الرَّضَاعَةَ } كذا قالوا ويُمْكِنُ يُخَرَّجُ على أنها عامِلَةٌ، وذلك بأن يكونَ الأَصْلُ: يُتِمُّونَ بواوِ الجماعةِ حَمْلًا على مَعْنَى " مَن " مِثلُ: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ } ثم حُذِفَت النونُ للناصِبِ، والواوُ للساكنينِ.
والوجهُ الثاني: أنه أَجْرَى الفتحةَ على الواوِ مُجْرَى الضمَّةِ للضرورةِ. قالَ الْمُبَرَّدُ: وهو مِن أَحْسَنِ الضَّروراتِ، وقد جاءَ ذلك في أَخَفَّ مِن الواوِ، وهي الياءُ كقولِ الأَعْشَى: ( البحر الطويل ).
فآلَيْتُ لا أَرْثِي لها مِن كَلالةٍ = ولا مِن جَفًا حتى تُلاقِي مُحَمَّدَا
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويَجوزُ أن يَكونَ أَصْلُه " تُلاقينَ " على أنه الْتَفَتَ مِن الغَيْبَةِ إلى الْخِطابِ، ويَشْهَدُ له أنه خاطَبَها في البيتِ بعدَه بقولِه:
متى ما تُنَاخِي عندَ بابِ ابنِ هاشِمٍ = تُرَاحِي وتَلْقَى مِن فَوَاضِلِه نَدَى
ولكن يُبْعِدُه أنَّ الالتفاتَ لا يُوجَدُ في جُملةٍ واحدةٍ إلا نادِرًا، كقِراءةِ الْحَسَنِ " إيَّاكَ يُعْبَدُ " بل قد جاءَ إسكانُ الواوِ في النَّثْرِ، كقراءةِ بعضِ السلَفِ { أَوْ يَعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } بل جاءَ إسكانُ الياءِ في النَّثْرِ في الاسمِ مع أنَّ الياءَ أَخَفُّ مِن الواوِ، والاسمَ أَخَفُّ مِن الفِعْلِ، كقراءةِ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ، ( مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهَالِيكُمْ ) وقُرِئَ أيضًا ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيْ مِنْ وَرَائِي ) ( فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافِيْ ) بياءٍ ساكنةٍ جَمعُ صافٍ، أي: خَوالِصَ للهِ.
قولُه: " إِخَالُ " بمعنى أَظُنُّ، وهما سِيَّانِ في نَصْبِ المفعولينِ، وجَوازُ سَدِّ أنَّ أو أنْ وصِلَتِهما مَسَدَّهُما، وجوازُ الإلغاءِ للتَوَسُّطِ والتأَخُّرِ، واتِّحادُ الفاعلِ والمفعولِ ضَميرينِ مُتَّصِلَيْنِ لِمُسَمًّى واحدٍ، والاعتراضُ بهما بينَ حَرْفٍ ومَطلوبِه، ووُجوبُ التعليقِ لاعتراضِ ما له صَدْرُ الكلامِ، وحَذْفُ المفعولينِ اختصارًا لدَليلٍ واقتصارًا لإفادةِ تَجَدُّدِ الفِعْلِ وحُدوثِه.
مِثالُ نَصْبِهما المفعولين قولُه: ( البحر الطويل )

وخِلْتُ بُيُوتِي في يَفاعِ مُمَنَّعِ = تَخالُ به راعي الْحَمولةِ طائرًا

اليَفاعُ: ما ارْتَفَعَ مِن الأرضِ، والْحَمولةُ بالفتحِ: الإِبِلُ وغيرُها مِمَّا يُحْمَلُ عليه.
ومِثالُ سَدِّ ما ذُكِرَ مَسَدَّهما قَولُ الْهُذَلِيِّ: ( البحر الكامل )
فغُيِّرْتُ بعدَهم بعَيشِ ناصِبِ = وإخالُ أني لاحِقٌ مُسْتَتْبِعُ
وقولُ ابنِ دُرَيْدٍ ( البحر الرجَز ):
ما خِلْتُ أنَّ الدَّهْرَ يَثْنِينِي على = صَرَّاءَ لا يَرْضَى بها صُبُّ الكُدَى
الصَّرَّاءُ بالصادِ الْمُهْمَلَةِ: الصخرةُ الصَّمَّاءُ الْمَلْسَاءُ، والكُدَى جَمْعُ كُدْيَةٍ، وهي الأرضُ الصَّلْبَةُ، والضَّبَابُ مُولَعَةٌ بها.
ومثالُ الإلغاءِ قولُه: ( البحر البسيط )
أبا الأَراجيزِ يا ابنَ اللؤمِ تُوعِدُنِي = وفي الأراجيزِ خِلْتُ اللؤمُ والْخَوَرُ
كذا رواه النَّحْوِيُّونَ، وزَعَمَ الجاحِظُ أنَّ الصوابَ " والْفَشَلُ " وأنَّ القَصيدةَ لامِيَّةٌ، والصوابُ أنهما قَصيدتانِ.
ومِثلُ الاتِّحادِ والاعتراضِ الْمَذكورينِ قولُه: ( البحر الْمُنْسَرِح )
ما خِلْتُنِي زَلْتُ بَعْدَكم ضَمِنًا = أَشْكُو إليكم حُمَوَّةَ الْأَلَمِ
الضَّمِنُ كالزَّمِنِ وَزنًا ومَعْنًى، والْحُمَوَّةُ بضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وتَشديدِ الواوِ: السَّوْرَةُ.
ومِن الاعتراضِ قولُه:
وما أَدْرِي وسَوفَ إِخالُ أَدْرِي ... البيتَ.
ومِثالُ التعليقِ قولُه: وإخالُ إني لاحِقٌ مُسْتَتْبِعُ فيمَنْ رَواهُ بكَسْرِ الهمزةِ مِن إني، ووَجْهُهُ أنَّ الأصلَ: إني لَلَاحِقٌ، فعُلِّقَ باللامِ، ثم حُذِفَ لفْظُها، وبَقِيَ حُكْمُها.
ومِثالُ حَذْفِ المفعولينِ أن يُقالَ: أَزَيْدٌ قائمٌ؟ فتَقولُ: خِلْتُ. وفي الْمَثَلِ: مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ، أي: مَن يَسْمَعْ خبرًا يَحْدُثْ له ظَنٌّ.
وكَسْرُ همزةِ إخالُ فَصِيحٌ استمعالًا، شَاذٌّ قِياسًا، وفَتْحُها لغةُ أَسَدٍ، وهو بالعَكْسِ، وحُكْمُ حَرْفِ الْمُضارَعَةِ في غيرِ هذا الْحَرْفِ أن يُضَمَّ بإجماعٍ إن كان الماضي رُبَاعِيًّا، نحوَ: أُدَحْرِجُ وأُكْرِمُ، وتُفْتَحُ في لُغةِ الْحِجازِيِّينَ، فيما نَقَصَ أو زَادَ، كيَضْرِبُ، ويَنْطَلِقُ، ويَسْتَخْرِجُ وأمَّا غيرُهم فيَكْسِرُ غيرَ الياءِ في ثلاثِ مَسائلَ:
إحداها: في تَفْعَلُ بالفَتْحِ مُضارِعُ فَعِلَ بالكَسْرِ، كعَلِمْتَ تَعْلَمُ، بخِلافِ تَذْهَبُ؛ فإنَّ مَاضِيَهُ مَفتوحٌ، وتَثِقُ ؛ فإنَّ الْمُضارِعَ مَكسورٌ، ومَن قالَ: تَحْسَبُ بالفَتْحِ، كَسَرَ، ومَن كَسَرَ فَتَحَ، وقُرِئَ { وَلَا تَرْكَنُوا } وقالَ الشاعِرُ: ( بحر الرَّجَزِ ).
قلتُ لبَوَّابٍ لَدَيْهِ دَارُهَا = تِيذَنْ فإني حَمُوُها وجَارُهَا
أي: لِتَأْذَنْ، أَمَرَ الفاعلُ الْمُخاطَبَ باللامِ، وحَذَفَها، وبَقِيَ عَمَلُها، وكَسَرَ أَوَّلَ الْمُضارِعِ، وسَمِعْتُ بَدَوِيًّا يَقولُ في الْمَسْعَى، إنك تِعْلَمُ ما لا نِعْلَمُ بكَسْرِ التاءِ والنونِ.
الثانيةُ: أن يكونَ الماضي مَبدوءًا بِهَمْزَةِ الوَصْلِ نحوَ: ينطلِقُ ويستخرِجُ. وقُرِئَ: { يَوْمَ تِبْيَضُّ وُجُوهٌ } { وَإِيَّاكَ نِسْتَعِينُ } وأَمَّا مَن كَسَرَ في " نِعْبُدُ " فكأنه نَاسَبَ بينَ كَسْرِ النونينِ.
والثالثةُ: أن يكونَ مَبدوءًا بتاءِ الْمُطاوَعَةِ أو شِبْهِها، نحوَ: تِتَذَكَّرُ وتِتَكَلَّمُ، وكأنهم جَعَلُوا هذا الكَسْرَ عِوَضًا عن كَسْرِ أَوَّلِ الماضي في نحوِ: نِستعينُ، وثانيه في نحوِ: تِعْلَمُ، وأمَّا نحوَ: تِتَكَلَّمُ فكأنهم حَمَلُوا تَفَعَّلَ على انْفَعَلَ؛ لأنهما للمُطاوَعَةِ. تقولُ: كَسَّرْتُه ـ بالتشديدِ فتَكَسَّرَ، وكَسَرْتُه ـ بالتخفيفِ ـ فانْكَسَرَ، وإنما لم يُجِيزُوا كَسْرَ الياءِ لثِقَلِ الكَسْرِ عليها، ولكنهم جَوَّزُوهُ إذا تَلَاهَا واوٌ ليَتَوَصَّلُوا به إلى قَلْبِها ياءً، نحوَ: وَجِلَ يَيْجَلُ.
قولُه: " لَدَيْنَا " قيلَ: لَدَى لغةٌ في لَدُن، والصحيحُ أنها مُرادِفَةٌ لعِنْدَ، وهو قولُ سِيبويهِ، فتكونُ للقُرْبِ الْحِسِّيِّ، نحوَ: { إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ } { وَأَلْفَيَا سَيِّدَها لَدَى الْبَابِ } والمعنويِّ، نحوَ قولِك: لَدَيْهِ فِقهٌ وأَدَبٌ، وتُقْلَبُ ألِفُها ياءً معَ الضميرِ في لُغةِ الْجُمهورِ.

وما أَدْرِي وسَوْفَ إِخالُ أَدْرِي = أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِساءُ
فإنْ تكنِ النِّساءَ مُخَبَّآتٍ = فحُقَّ لكلِّ مُحْصَنَةٍ هِداءُ
وفي البيتِ الأوَّلِ دليلٌ على أنَّ القوْمَ مُخْتَصٌّ بالرجالِ، ونَظيرُه قولُه تعالى: { لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ } ثم قالَ تعالى: { وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ } وكثيرٌ مِن الناسِ يَرْفَعُ النساءَ في البيتِ تَوَهُّمًا منهم أنه الاسمُ، ومُخَبَّآتٌ الخبَرُ، وإنما الاسمُ ضميرُ آلِ حِصْنٍ، والنساءُ خبَرٌ، ومُخَبَّآتٌ حالٌ، أي: فإن كُنَّ آلُ حِصْنٍ النساءَ مُخَبَّآتٍ فحُقَّ لهن أن يُهْدَيْنَ إلى أزواجِهِنَّ كسائِرِ الْمُتَزَوِّجاتِ.
والوجهُ الثاني: أن يكونَ مُبتدأً مُخْبَرًا عنه بالظرْفِ الأَوَّلِ، أو الثاني، أو كِلَيْهِما، وساغَ الابتداءُ به لتَقَدُّمِ النفيِ ولِتَقَدُّمِ خَبَرِه ظَرْفًا، وإذا قُدِّرَ الظَّرفانِ خَبَرَيْنِ، قُدِّرَ لكلٍّ منهما مُتَعَلِّقٌ يَخُصُّه.
وإذا قُدِّرَ الْخَبَرُ الأَوَّلُ، فالظرْفُ الثاني إمَّا مُتَعَلِّقٌ به، أو بِمُتَعَلِّقِه المحذوفِ، على الخِلافِ المشهورِ في أنَّ العمَلَ للظرْفِ، أو للاستقرارِ وإمَّا حالٌ: فيَتَعَلَّقُ بمحذوفٍ، وفي صاحِبِ الحالِ وَجهانِ:
أحدُهما: أنه الضميرُ الْمُسْتَتِرُ في الظرْفِ الأَوَّلِ؛ لأن الصحيحَ أنَّ الظرْفَ يَتَحَمَّلُ ضَميرًا مُنْتَقِلًا إليه مِن الاستقرارِ المحذوفِ، ولهذا أُكِّدَ في قولِ كُثَيِّرٍ ( البحر الطويل ).
قولُه: " مِنْكِ " بعدَ قولِه: " مَوَدَّتُها " فيه الْتِفَاتٌ مِن الغَيْبَةِ إلى الْخِطَابِ، كقولِه تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فإنْ كان قولُه: " أَرْجُو آمُلُ " الْتِفَاتًا عن الْخِطابِ في قولِه: " فلا يَغُرَّنَّكَ " ففي البيتِ الْتِفَاتَانِ.
قولُه: " تنويلُ " لك في ارتفاعِه وجهان:
أحدُهما: أن يكونَ فاعلًا إمَّا بالظرْفِ الأَوَّلِ أو الثاني، أمَّا على قولِ الأَخْفَشِ والكُوفِيِّينَ: إنه لا يُشْتَرَطُ في إعمالِ الظرْفِ الاعتمادُ فلا إشكالَ، وأمَّا على قولِ الْجُمهورِ: إنَّ ذلك شَرْطٌ فَعَلَى أن يكونَ إخالُ مُعتَرِضَةً بينَ النافِي والظَّرْفَيْنِ، فإن قلتَ: هل يَجوزُ أن يكونَ الظَّرفانِ قد تَنازعاهُ؟ فإن أَعْمَلْتَ الأَوَّلَ أَضْمَرْتَ في الثاني اتِّفاقًا، وإن أَعْمَلْتَ الثانيَ أَضْمَرْتَ في الأَوَّلِ عندَ البَصرِيِّينَ، وحَذَفْتَ مَعمولَه عندَ الكِسائيِّ، وأَعْمَلْتَ فيه الاثنينِ عندَ الْفَرَّاءِ، كما تَقولُ في: قامَ وقَعَدَ زَيدٌ؟ .
قلتُ: شَرْطُ صِحَّةِ التَّنَازُعِ أن يكونَ بينَ العامِلَيْنِ ارتباطٌ، فلا يَجوزُ نحوَ: قامَ قَعَدَ زَيدٌ بغيرِ عَطْفٍ، وهذا بِمَنْزِلَتِهِ.
فإن قلتَ: فما الدليلُ على جَوازِ ما زَعَمْتَه مِن صِحَّةِ الاعتراضِ بينَ النافِي والْمَنْفِيِّ؟ قلتُ: قولُ الشاعرِ ( البحر الْمُنْسَرِح ):
ولا أَراهَا تَزالُ ظالِمَةً = تَحْدِثُ لي قَرحةٌ وتَنْكَؤُهَا
وقد ثَبَتَ الاعتراضُ بينَ الْحَرْفِ ومَصحوبِه في كَلِمَتَيْ: خِلْتُ وإخالُ أَنْفُسِهما، فالأَوَّلُ: كما تَقَدَّمَ مِن قولِ الشاعرِ: " ما خِلْتُنِي زَلْتُ بعدَكم ضَمِنًا " والثاني: كقولِ زُهيرٍ ( بحر الوافِر ) :

فإن يك جُثمانِي بأَرْضٍ سِواكُمُ = فإنَّ فُؤادِي عندَكِ الدَّهْرَ أَجْمَعُ

وزَعَمَ ابنُ خَروفٍ أنه لا يَتَحَمَّلُه إلا بشَرْطِ التأَخُّرِ عن الْمُبتدأِ، وزَعَمَ آخَرونَ أنه لا يَتَحَمَّلُه مُطْلَقًا أو تَأَخَّرَ، والصحيحُ الأوَّلُ، ثم قالَ ابنُ جِنِّي في قولِ الشاعرِ: ( البحر الوافِر )
ألا يا نَخْلَةً مِن ذاتِ عِرْقٍ = عليكِ ورحمةُ اللهِ السلامُ
الناسُ يَتَلَقَّونَ هذا البيتَ على أنه مِن تقديمِ المعطوفِ على المعطوفِ عليه، وليس بلَازِمٍ لِجَوازِ أن يكونَ العَطْفُ على ضَميرِ الرحمةِ الْمُسْتَتِرِ في " عليكِ " على حَدِّ قولِ بعضِهم: مَرَرْتُ برَجُلٍ سواءٌ والعَدَمُ، ولا يَرِدُ عليه أن يُقالَ: تَخَلَّصَ مِن وَجهٍ ضَعيفٍ إلى آخَرَ ضَعيفٍ؛ لأن غَرَضَه أنَّ البيتَ مُحْتَمِلٌ، فلا دَليلَ فيه، ولأنَّ العَطْفَ على الضميرِ المرفوعِ أَسْهَلُ مِن تقديمِ المعطوفِ؛ فإنه لا يَقَعُ إلا في الشِّعْرِ، نعمْ مَن زَعَمَ أنَّ الظرْفَ لا يَتَحَمَّلُ ضَميرًا مُطْلَقًا، أو لا يَتَحَمَّلُه مع التَّقَدُّمِ، لَزِمَ عندَه أن يكونَ البيتُ مِن تقديمِ المعطوفِ.
والوجهُ الثاني مِن وَجْهَي صاحبِ الحالِ: أنه نَفسُ التنويلِ، على أنَّ الظرْفَ كان في الأَصْلِ صِفَةً له، فلَمَّا تَقَدَّمَه صارَ حالًا منه، وعامِلُه على هذا الوَجْهِ أيضًا الاستقرارُ الْمُقَدَّمُ لا الابتداءُ العامِلُ في " تنويلُ "؛ لأنَّ الحالَ إنما يَعْمَلُ فيها الفِعْلُ، أو شِبْهُهُ، أو معناه، وإنما جَوَّزْنا هذا الوجهَ بِناءً على صِحَّةِ اختلافِ عامِلَي الحالِ وصاحبِها، وهو قولُ سِيبويهِ، ولهذا قالَ في قولِه تعالى: { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً }: إنَّ " أُمَّةً " حالٌ مِن " أُمَّتِكُمْ "، مع أنَّ أُمَّتَكُم مَعمولٌ لإنَّ، والحالَ مَعمولٌ للتنبيهِ أو للإشارةِ. وقالَ في قولِ الشاعِرِ: " لِمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلُ" : إنَّ " مُوحِشًا " حالٌ مِن الطَّلَلِ، مع أنه لا يُجيزُ ارتفاعَ " طَلَل " على الفاعلِيَّةِ لعَدَمِ اعتمادِ الظرْفِ.
وإذا قُدِّرَ الخبَرُ الظرْفُ الثاني الأوَّلَ مُتَعَلِّقًا به، وجازَ تَقديمُه عليه للاتِّساعِ في الظَّرْفِ، ونظيرُه قولُهم: " أَكُلَّ يومٍ لكَ ثَوْبٌ " بتقديمِ الظَّرْفِ على الْجُملةِ بأَسْرِها، ولا يَجوزُ ذلك في الحالِ، لا تقولُ: جالسًا زيدٌ في الدارِ، ونَقَلَ جَماعةٌ الإجماعَ على ذلك، وأنَّ الخِلافَ إنما هو في التَّوَسُّطِ بينَ الظَّرْفِ الْمُؤَخَّرِ وبينَ الْمُخْبَرِ عنه، فمَنَعَه الجمهورُ لضَعْفِ العامِلِ، وأَجازَهُ الأَخْفَشُ ومُتابِعوهُ؛ تَمَسُّكًا بقِراءةِ الْحَسَنِ: { وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ }وقراءةِ آخَرَ { مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةً} بنَصْبِ مَطْوِيَّاتٍ بالكسرةِ، وخالصةً بالفتْحِ. وقيلَ: لا إجماعَ في المسألةِ لقولِ الأَخْفَشِ في "فِداءً لك أبي": إنَّ " فِداءً " حالٌ. ولقولِ ابنِ بُرهانَ في { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقُّ }: إنَّ " هنالك " حالٌ.
فإن قلتَ: أَخْبِرْني عن " إِخالُ " في البيتِ، أَمُعْمَلَةٌ، أمْ مُلغاةٌ أمْ مُعَلَّقَةٌ؟
قلتُ: كلُّ ذلك جائِزٌ.
أمَّا الإلغاءُ: فعلى أنَّ النافِيَ لَمَّا تَقَدَّمَها أَزالَ عنها الصدْرَ الْمَحْضَ، فَسَهُلَ إلغاؤُها كما سَهَّلََ إلغاءَ " ظَنَنْتُ " تَقَدُّمُ " متى " و "إنِّى " في: متى ظَنَنْتَ زَيدًا مُنْطَلِقًا، وقولِ الحماسيِّ: ( البحر البسيط ).

كذاك أُدِّبْتُ حتى صارَ مِن خُلُقِي = إني رأيتُ مِلاكُ الشِّيمةِ الأَدَبُ
أو على تقديرِ النافِي داخلًا على الْجُملةِ الاسمِيَّةِ، وتقديرُ " إخالُ " مُعْتَرِضَةً بينَهما كما قَدَّمْنَا.
وأمَّا التعليقُ: فعلى أنَّ الأَصْلَ لـ: " لَدَيْنَا " فعَلَّقَ الفعلَ باللامِ، ثم حُذِفَتْ، وبَقِيَ التعليقُ كما تَقَدَّمَ في قولِ الْهُذَلِيِّ: " وإخالُ إنِّي لاحِقٌ " فيمَن كَسَرَ الهمزةَ.
وأمَّا الإعمالُ: فجَزَمَ به ابنُ مالِكٍ بَدْرُ الدينِ، وليس كذلك لِمَا بَيَّنَّا، ولَمَّا نُبَيِّنْ، ووَجْهُهُ أنْ يكونَ مفعولُها الأَوَّلُ ضميرَ الشأنِ للحديثِ: " إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ " وحِكايةُ الخليلِ: إنَّ بك زَيدٌ مأخوذٌ أي: إنه, كذا قالوا، وليس بِمُتَعَيِّنٍ في حِكايةِ الخليلِ، بل يَجوزُ أن يكونَ التقديرُ: إنك، وهو أَوْلَى؛ لأنَّ ضميرَ الشأنِ خارِجٌ عن القِياسِ لعَوْدِه على المتأَخِّرِ، ولتفسيرِه بالْجُمْلَةِ، فلا يَنبغِي الْحَمْلُ عليه مع إمكانِ غيرِه، ولهذا كان الأَوْلَى في الضميرِ المنصوبِ " بأنَّ " من قولِه تعالى: { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ } أن يُقَدَّرَ عائدًا علَى " الشيطانِ " لا ضميرَ الشأنِ، خِلافًا للزَّمَخشريِّ، ومِمَّا يُؤَيِّدُ ذلك قراءةُ بَعْضِهم " وقَبيلَهُ " بالنَّصْبِ وضميرُ الشأنِ لا يُتْبَعُ بتابِعٍ، والأصلُ تَوَافُقُ الْقِرَاءَتينِ.
واعلَمْ أنَّ البيتَ مُشْتَمِلٌ على أربعِ جُمَلٍ: الأُولَى: " أَرْجُو " وفاعِلُه ولا مَحَلَّ لها؛ لأنها مُستأنَفَةٌ.
والثانيةُ: " آمُلُ " وفاعِلُه، ولا مَحَلَّ لها؛ لأنها مَعطوفةٌ على ما لا مَحَلَّ له، وقد مَضَى أنه لا يَحْسُنُ تَقديرُها حالِيَّةً.
والثالثةُ: " إخالُ " وفاعلُه، وهي مُستأنَفَةٌ أيضًا لا حالِيَّةٌ؛ لأنَّ المضارِعَ الْمَنْفِيَّ بما كالمضارِعِ الْمُثْبَتِ في وُجوبِ تَجَرُّدِه مِن واوِ الحالِ، كقولِه: ( البحر الطويل ):
عَهِدْتُكَ ما تَصْبُو وفيك شَبيبةٌ = فما لك بعدَ الشِّيبِ صَبًّا مُتَيَّمًا
الرابعةُ: لدَيْنَا مِنك تَنويلُ، ولا مَحَلَّ لها إن قُدِّرَتْ " إخالُ " مُلغاةً؛ لأنَّها حِينئذٍ مُسْتَأْنَفَةٌ، ومَحَلُّها النَّصْبُ إن قُدِّرَتْ مُعْمَلَةً أو مُعَلَّقَةً؛ لأنَّها مَفعولٌ ثانٍ على الأَوَّلِ، وفي مِوْضِعِ الْمَفْعُولَينِ على الثاني، قالَ ابنُ النَّحَّاسِ: الْمُتَأَخِّرُ أَقَمْتُ زَمَنًا. أقولُ: القِياسُ يَقتضِي جَوازَ العَطْفِ على مَحَلِّ الْجُملةِ الْمُعَلَّقِ عنها العامِلُ بالنَّصْبِ، ثم رَأيتُ ذلك مَنصوصًا عليه . انتهى بمعناه .
وهذه مسألةٌ ظاهِرَةٌ مِن قولِ النَّحوِيِّينَ: إنَّ الْمُعَلَّقَ غيرُ عاملٍ في اللفظِ، وهو عاملٌ في الْمَحَلِّ، كلُّهم يَقولُ ذلك، وصَرَّحُوا أيضًا بجَوازِ العَطْفِ بالنصْبِ، وجاءَ السَّماعُ به كقولِ كُثَيِّرٍ: ( البحر الطويل ) :
وما كنتُ أَدْرِي قبلَ عَزَّةَ ما الْبُكَا = ولا مُوجِعَاتِ القلْبِ حَتَّى تَوَلَّتِ
فعَطَفَ مُوجِعاتِ بالنصْبِ على مَحَلِّ " ما الْبُكَا " .
فإن قلتَ: كيف جازَ أن يَنْفِيَ ظَنَّ حُصولِ التنويلِ بعدَ ما أَثْبَتَ رَجاءَ دُنُوِّ الْمَوَدَّةِ.
قلتُ: الْمَوَدَّةُ والتنويلُ شَيئانِ لا شيءٌ واحدٌ فلا يَمْتَنِعُ أنْ تَوَدَّه بقَلْبِها، وَتَمْنَعَه مِن نَوَالِها، على أنهما لو كانا شيئًا واحدًا، لم يَضُرَّ ذلك؛ فإنَّ للشعراءِ طَريقةً مألوفةً يَعودُ أحدُهم على ما قَرَّرَه بالنَّقْضِ إِيذَانًا بالدَّهْشِ والْحَيْرَةِ، ويُسَمَّى ذلك في عِلْمِ البَديعِ: رُجوعًا ، ومنه قولُه: ( البحر البسيط ).
قِفْ بالديارِ التي لم يَعْفِهَا القِدَمُ = بَلَى وغَيَّرَها الأرواحُ والدِّيَمُ
وقولُه : ( البحر الطويل )
فإنك لم تُبْعِدْ على مُتَعَهَّدٍ = بَلَى كلُّ مَن تَحْتَ التُّرابِ بَعيدُ
وأمَّا قولُه: ( البحر الطويل )
وقد زَعَمُوا أنَّ الْمُحِبَّ إذا دَنَا = يَمَلُّ وأنَّ النأْيَ يَشْفِي مِن البُعْدِ
بكلٍّ تَدَاوَيْنَا فلم يُشْفَ ما بِنَا = على أنَّ قُربَ الدارِ خيرٌ مِن الْبُعْدِ
على أنَّ قُرْبَ الدارِ ليس بنَافِعٍ = إذا كان مَن تَهْوَاهُ ليس بِذِي وُدِّ
فليس مِن ذلك خِلافًا لِمَنْ وَهِمَ، وإنما هو مِن بابِ التخصيصِ والتقييدِ، وذلك أنَّ صَدْرَ البيتِ الثاني لَمَّا اقْتَضَى أنه لا خَيرَ لِلْمُحِبِّ في قُرْبِ الدارِ، اسْتَدْرَكَهُ بما ذَكَرَ في عَجُزِهِ ولَمَّا اقْتَضَى هذا العَجُزُ أنَّ قُرْبَ الدارِ نافعٌ بكُلِّ حالٍ اسْتَدْرَكَهُ بما ذَكَرَ في البيتِ الثالثِ.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
البردة, شرح

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:35 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir