هو (زهير بن أبي سلمى) واسم أبي سلمى (ربيعة بن رياح بن قرة بن الحارث بن مازن) وينتهي نسبه إلى (مضر بن نزار بن معد بن عدنان)
وهو أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء وإنما اختلفوا في تقديم أحد الثلاثة على صاحبيه، وأما الثلاثة فلا اختلاف فيهم، وهم (امرؤ القيس) و(زهير) و(النابغة الذبياني).
وكان من حديث (زهير) وأهل بيته أنهم كانوا من (مزينة) إحدى قبائل مضر. وكان يقيم هو وأبوه وولده في منازل بني (عبد الله بن غطفان) بالحاجز من (نجد) ولذلك كان يذكر في شعره بني (مرة وغطفان) ويمدحهم.
نشأ (زهير) فيهم وهناك قال قصيدته المعلقة يذكر فيها قتل (ورد بن حابس) العبسي (هرم بن ضمضم) المري، ويمدح فيها (هرم بن سنان بن أبي حارثة) و(الحارث بن عوف) و(سعد بن ذبيان) المريين لأنهما احتملا ديته من مالهما.
وكان (زهير) بعد ذلك يكثر من مدح (هرم) وأبيه (سنان) وله فيهما قصائد غر. فحلف (هرم) أن لا يمدحه إلا أعطاه ولا يسأله إلا أعطاه ولا يسلم عليه إلا أعطاه عبدا أو وليدة أو فرسا. فاستحيا (زهير) من كثرة بذله له على كل حال. وجعل يتجنب مقابلته.
وكان إذا رآه في محفل قال: (عموا صباحا غير (هرم) وخيركم استثنيت).
كان (زهير) قد رأى في منامه في آخر عمره أن آتيا أتاه فحمله إلى السماء حتى كاد يمسها بيده، ثم تركه فهوى إلى الأرض، فلما احتضر قص رؤياه على ولده (كعب) ثم قال: (إني لا أشك أنه كائن من خبر السماء بعدي، فإن كان فتمسكوا به وسارعوا إليه) ثم توفي قبل مبعث النبي عليه الصلاة السلام بسنة.
وكانت وفاته سنة (631) لميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام.
امتاز (زهير) بما نظمه من منثور الحكمة البالغة، وكثرة الأمثال وسني المدح، وتجنب وحشي الكلام وعدم مدح أحد إلا بما فيه، وقد كان أحسن الشعراء شعرا، وأبعدهم عن سخف الكلام، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من اللفظ.
وكان لزهير أخلاق عالية، ونفس كبيرة، مع سعة صدر وحلم وورع، فرفع القوم منزلته وجعلوه سيدا، وكثر ماله واتسعت ثروته. وكان مع ذلك عريقا في الشعر.
وكان لشعره تأثير كثير في نفوس العرب. وهو واسطة عقد الفحول من شعراء الطبقة الأولى.
وكان (زهير) شديد العناية بتنقيح شعره، حتى ضرب به المثل، وسميت قصائده بالحوليات، نسبة إلى الحول؛ أي: السنة، وذلك لأنه كان ينظم القصيدة في أربعة أشهر، ويهذبها بنفسه في أربعة اشهر، ويعرضها على أصحابه الشعراء في أربعة أشهر، فلا يشهرها حتى يأتي عليها حول كامل.
معلقة (زهير) أشعر شعره. وقد جمعت ما أشبه كلام الأنبياء، وحكمة الحكماء، ففيها الحكمة البالغة، والموعظة الحسنة، والأخلاق الفاضلة، والمعاني العالية، والأغراض النبيلة، أضف إلى ذلك ما حوته من الأساليب البليغة، والكلام الجزل.
وقد أنشأها يمدح بها (الحارث بن عوف) و(هرم بن سنان) المريين، ويذكر سعيهما بالصلح بين (عبس وذبيان) وتحملها ديته من مالهما.
1 - أمن أم أوفى دمنة لم تكلم بحومانة الدراج فالمتثلم
الدمنة: ما اسود من آثار الدار بالبعر، والرماد وغيرهما، والجمع الدمن، والدمنة الحقد، والدمنة السرجين. وهي في البيت بمعنى الأول. حومانة الدراج والمتثلم: موضعان. وقوله: أمن أم أوفى يعني أمن منازل الحبيبة المكناة بأم أوفى دمة لا تجيب؟ وقوله: لم تكلم، جزم بلم ثم حرك الميم بالكسر لأن الساكن إذا حرك كان الأحرى تحريكه بالكسر. ولم يكن بد ههنا من تحريكه ليستقيم الوزن ويثبت السجع، ثم أشبعت الكسرة بالإطلاق لأن القصيدة مطلقة القوافي.
يقول: أمن منازل الحبيبة المكناة بأم أوفى دمنة لا تجيب سؤالها بهذين الموضعين. أخرج الكلام في معرض الشك ليدل بذلك على أنه لبعد عهده بالدمنة وفرط تغيرها لم يعرفها معرفة قطع وتحقيق.
2 - ودار لها بالرقمتين كأنها مراجيع وشم في نواشر معصم
الرقمتان: حرتان إحداهما قريبة من البصرة والأخرى قريبة من المدينة. المراجيع: جمع المرجوع، من قولهم: رجعه رجعا، أراد الوشم المجدد والمردد. نواشر المعصم: عروقه، الواحد: ناشر، وقيل ناشرة. والمعصم: موضع السوار من اليد، والجمع المعاصم.
يقول: أمن منازلها دار بالرقمتين؟ يريد أنها تحل الموضعين عند لانتجاع ولم يرد أنها تسكنهما جميعا لأن بينهما مسافة بعيدة ثم شبه رسوم دارها بهما بوشم في المعصم قد ردد وجدد بعد انمحائه شبه رسوم الدار عد تجديد السيول إياها بكشف التراب عنها بتجديد الوشم.
وتلخيص المعنى: أنه أخرج الكلام في معرض الشك في هذه الدار أهي لها أم لا.
ثم شبه رسومها بالوشم المجدد في المعصم، وقوله: ودار لها بالرقمتين، يريد: وداران لها بهما، فاجتزأ بالواحد عن التثنية لزوال اللبس إذ لا ريب في أن الدار الواحدة لا تكون قريبة من البصرة والمدينة، وقوله: كأنها، أراد كأن رسومها وأطلالها فحذف المضاف.
3 - بها العين والأرآم يمشين خلفة وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
قوله: بها العين، أي البقر العين، فحذف الموصوف لدلالة الصفة عليه، والعين: الواسعات العيون، والعين سعة العين. الأرآم: جمع رئم وهو الظبي الأبيض خالص البياض، وقوله: خلفة؛ أي: يخلف بعضها بعضا إذا مضى قطيع منها جاء قطيع آخر، ومنه قوله تعالى {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} يريد أن كلا منهما يخالف صاحبه فإذا ذهب النهار جاء الليل وإذا ذهب الليل جاء النهار.
الأطلاء: جمع الطلا وهو ولد الظبية والبقرة الوحشية، ويستعار لولد الإنسان ويكون هذا الاسم للولد من حين يولد إلى شهر أو أكثر منه.
الجثوم: للناس والطير والوحوش بمنزلة البروك للبعير والفعل جثم يجثم والمجثم موضع الجثوم، والمجثم الجثوم، فالمفعل من باب فعل يفعل، إذا كان مفتوح العين كان مصدرا وإذا كان مكسور العين كان موضعا، نحو: المضرب بالفتح والمضرب بالكسر.
يقول: بهذه الدار بقر وحش واسعات العيون وظباء بيض يمشين بها خالفات بعضها بعضا، وتنهض أولادها من مرابضها لترضعها أمهاتها.
4 - وقفت بها من بعد عشرين حجة فلأيا عرفت الدار بعد توهم
الحجة: السنة، والجمع الحجج. اللأي: الجهد والمشقة.
يقول: وقفت بدار أم أوفى بعد مضي عشرين سنة من بينها، وعرفت دارها بعد التوهم بمقاساة جهد ومعاناة مشقة، يريد أنه لم يثبتها إلا بعد جهد ومشقة لبعد العهد بها ودروس أعلامها.
5 -أثافي سفعا في معرس مرجل ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلم
الأثفية والإثفية: جمعها الأثافي والأثافي بتثقيل الياء وتخفيفها، وهي حجارة توضع القدر عليها، ثم إن كانت من الحديد سمي منصبا، والجمع المناصب، ولا يسمى أثفية. السفع: السود، والأسفع مثل الأسود والسفاع مثل السواد. المعرس: أصله المنزل، من التعريس وهو النزول في وقت السحر، ثم استعير للمكان الذي تنصب فيه القدر، المرجل: القدر عند (ثعلب) من أي صنف من الجواهر كانت النؤي نهير يحفر حول البيت ليجري فيه الماء الذي ينصب من البيت عند المطر، ولا يدخل البيت، والجمع الآناء والنئي الجذم: الأصل، ويروى: كحوض الجد، والجد: البئر القريبة من الكلإ وقيل بل هي البئر القديمة.
يقول: عرفت حجارة سودا تنصب عليها القدر، وعرفت نهيرا كان حول بيت أم أوفي بقي غير متثلم كأنه أصل حوض، نصب أثافي على البدل من الدار في قوله: عرفت الدار، يريد أن هذه الأشياء دلته على أنها دار أم أوفى.
6 - فلما عرفت الدار قلت لربعها: إلا انعم صباحا أيها الربع واسلم
كانت العرب تقول في تحيتها: انعم صباحا أي نعمت صباحا، أي طاب عيشك في صباحك، من النعمة وهي طيب العيش، وخص الصباح بهذا الدعاء لأن الغارات والكرائه تقع صباحا، وفيها أربع لغات: انعم صباحا، بفتح العين، من نعم ينعم مثل علم يعلم.
والثانية: انعم، بكسر العين، من نعم ينعم، مثل حسب يحسب، ولم يأت على فعل يفعل من الصحيح غيرهما، وقد ذكر سيبويه أن بعض العرب أنشده قول امرئ القيس: [الطويل]
إلا انعم صباحا أيها الطلل البالي وهل ينعمن من كان في العصر الخالي؟
بكسر العين من ينعم. والثالثة عم صباحا من وعم يعم مثل وضع يضع، والرابعة عم صباحا ومن وعم يعم مثل وعد يعد.
يقول: وقفت بدار أم أوفى فقلت لدارها محييا إياها وداعيا لها: طاب عيشك في صباحك وسلمت.
7- تبصر خليلي هل ترى من ظعائن تحملن بالعلياء من فوق جرثم
الظعائن: جمع ظعينة، لأنها تظعن من زوجها، من الظعن والظعن وهو الارتحال بالعلياء أي بالأرض العلياء أي: المرتفعة، جرثم: ماء بعينه.
يقول: فقلت لخليلي: انظر يا خليلي هل ترى بالأرض العالية من فوق هذا الماء نساء في هوادج على إبل؟ يريد أن الوجد برح به والصبابة ألحت عليه حتى ظن المحال لفرط ولهه، لأن كونهن بحيث يراهن خليله بعد مضي عشرين سنة محال. التبصر: النظر. التحمل: الترحل.
8 - جعلن القنان عن يمين وحزنه وكم بالقنان من محل ومحرم
القنان: جبل لبني أسد. عن يمين: يريد الظعائن. الحزن: ما غلظ من الأرض وكان مستوياً والحزن ما غلظ من الأرض وكان مرتفعا. من محل ومحرم، يقال: حل الرجل من إحرامه وأحل.
وقال الأصمعي: من محل ومحرم، يريد من له حرمة ومن لا حرمة له، وقال غيره: ويريد دخل في أشهر الحل ودخل في أشهر الحرم.
يقول: مررت بهم أشهر الحل وأشهر الحرم.
9 - علون بأنماط عتاق وكلة وراد حواشيها مشاكهة الدم
الباء في قوله علون بأنماط للتعدية، ويروى: وعالين أنماطا، ويروى: وأعلين، وهما بمعنى واحد، والمعالاة قد تكون بمعنى الإعلاء ومنه قول الشاعر: [الرجز]
عاليت أنساعي وجلب الكور على سراة رائح ممطور
أنماط: جمع نمط وهو ما يبسط من صنوف الثياب. العتاق: الكرام، الواحد عتيق. الكلة: الستر الرقيق، والجمع الكلل. الوراد: جمع ورد وهو الأحمر والذي يضرب لونه إلى الحمرة المشاكهة: المشابهة، ويروى وراد الحواشي لونها لون عندم. العندم: البقم، والعندم: دم الأخوين.
يقول: وأعلين أنماطا كراما ذات أخطار أو ستراً رقيقا, أي ألقينها على الهوادج وغشينها بها, ثم وصف تلك الثياب بأنها حمر الحواشي يشبه ألوانها الدم في شدة الحمرة أو البقم أو دم الأخوين.
10 - ووركن في السوبان يعلون متنه عليهن دل الناعم المتنعم
السوبان: الأرض المرتفعة اسم علم لها. التوريك: ركوب أوراك الدواب الدل والدلال والدالة واحد، وقد أدلت المرأة وتدللت النعمة: طيب العيش. والتنعم: تكلف النعمة.
يقول: وركبت هؤلاء النسوة أوراك ركابهن في حال علوهن متن السوبان، وعليهن دلال الإنسان الطيب العيش الذي يتكلف ذلك.
11 - بكرن بكورا واستحرن بسحرة فهن ووادي الرس كاليد للفم
بكر وابتكر وبكر وأبكر: سارة بكرة. استحر: سار سحرا، سحرة: اسم للسحر، ولا تصرف سحرة وسحر إذا عنيتهما من يومك الذي أنت فيه، وإن عنيت سحرا من الأسحار صرفتهما، وادي الرس: واد بعينه.
يقول: ابتدأن السير وسرن سحرا وهن قاصدات لوادي الرس لا يخطئنه كاليد القاصدة للفم لا تخطئه.
12 - وفيهن ملهى للطيف ومنظر أنيق لعين الناظر المتوسم
الملهى: اللهو وموضعه. اللطيف: المتأنق الحسن المنظر. الأنيق: المعجب فعيل بمعنى المفعل كالحكيم بمعنى المحكم، والسميع بمعنى المسمع، والأليم بمعنى المؤلم، ومنه قوله عز وجل: {عذاب أليم}.ومنه قول ابن معد يكرب: [الوافر]
أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع
أي: المسمع. والإيناق: الإعجاب. التوسم: التفرس. ومنه قوله تعالى: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين}.وأصله من الوسام والوسامة، وهما الحسن كأن التوسم تتبع محاسن الشيء، وقد يكون من الوسم فيكون تتبع علامات الشيء وسماته.
يقول: وفي هؤلاء النسوان لهو أو موضع لهو للمتأنق الحسن المنظر ومناظر معجبة لعين الناظر المتتبع محاسنهن وسمات جمالهن.
13 - كأن فتات العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطم
الفتات: اسم لما انفت من الشيء أي تقطع وتفرق، وأصله من الفت وهو التقطيع والتفريق، والفعل منه فت يفت، والمبالغة التفتيت، والمطاوع الانفتات والتفتت. الفنا: عنب الثعلب. التحطم: التكسر. والحطم: الكسر. العهن. الصوف المصبوغ والجمع العهون.
يقول: كأن قطع الصوف المصبوغ الذي زينت به الهوادج في كل منزل نزلته هؤلاء النسوة حب عنب ثعلب في حال كونه غير محطم، لأنه إذا حطم زايله لونه، شبه الصوف الأحمر بحب عنب الثعلب قبل حطمه.
14 - فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم
الزرقة: شدة الصفاء، ونصل أزرق وماء أزرق إذا اشتد صفاؤهما، والجمع زرق، ومنه زرقة العين. الجمام: جمع جم الماء وجمته وهو ما اجتمع منه في البئر والحوض أو غيرهما. وضع العصي: كناية عن الإقامة، لأن المسافرين إذا أقاموا وضعوا عصيهم. التخيم: ابتناء الخيمة.
يقول: فلما وردت هؤلاء الظعائن الماء وقد اشتد صفاء ما جمع منه في الآبار والحياض، عزمن على الإقامة كالحاضر المبتني الخيمة.
15 - ظهرن من السوبان ثم جزعنه على كل قيني قشيب ومفأم
الجزع: قطع الوادي، والفعل جزع يجزع، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
أي قاطع. القين: كل صانع عند العرب، فالحداد قين، والجزار قين، فالقين هنا الرحال، وجمع القين قيون مثل بيت وبيوت، وأصل القين الإصلاح، والفعل منه قان يقين، ثم وضع المصدر موضع اسم الفاعل وجعل كل صانع قينا لأنه مصلح ومنه قول الشاعر [الطويل]
ولي كبد مجروحة قد بدا بها صدوع الهوى لو أن قينا يقينها
أي لو أن مصلحا يصلحها. ويروى: على كل حيري، منسوب إلى الحيرة، وهي بلدة، القشيب: الجديد، المفأم: الموسع.
يقول: علون من وادي السوبان ثم قطعنه مرة أخرى لأنه اعترض لهن في طريقهن مرتين وهن على كل رحل حيري أو قيني جديد موسع.
16 - فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهم
يقول: حلفت بالكعبة التي طاف حولها من بناها من القبيلتين. جرهم: قبيلة قديمة تزوج فيهم إسماعيل عليه السلام فغلبوا على الكعبة والحرم بعد وفاته عليه السلام، وضعف أمر أولاده، ثم استولى عليها بعد جرهم خزاعة إلى أن عادت إلى قريش، وقريش اسم لولد النضر بن كنانة.
17 - يمينا لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم
السحيل: المفتول على قوة واحدة، المبرم: المفتول على قوتين أو أكثر، ثم يستعار السحيل للضعيف والمبرم للقوي.
يقول: حلفت يمينا، أي حلفت حلفا، نعم السيدان وجدتما على كل حال ضعيفة وحال قوية، لقد وجدتما كاملين مستوفيين لخلال الشرف في حال يحتاج فيها إلى ممارسة الشدائد وحال يفتقر فيها إلى معاناة النوائب، وأراد بالسيدين هرم بن سنان والحارث بن عوف، مدحهما لإتمامهما الصلح بين عبس وذبيان وتحملهماأعباء ديات القتلى.
18 - تداركتما عبسا وذبيان بعد ما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
التدارك: التلافي، أي تداركتما أمرهما. التفاني: التشارك في الفناء منشم، قيل فيه: إنه اسم امرأة عطارة اشترى قوم منها جفنة من العطر وتعاقدوا وتحالفوا وجعلوا آية الحلف غمسهم الأيدي في ذلك العطر، فقاتلوا العدو الذي تحالفوا على قتاله فقتلوا عن آخرهم فتطير العرب بعطر منشم وسار المثل به، وقيل: بل كان عطارا يشترى منه ما يحنط به الموتى فسار المثل بعطره.
يقول: تلافيتما أمر هاتين القبيلتين بعدما أفنى القتال رجالهما وبعد دقهم عطر هذه المرأة، أي بعد إتيان القتال على آخرهم كما أتى على آخر المتعطرين بعطر منشم.
19- وقد قلتما: إن ندرك السلم واسعا بمال ومعروف من القول نسلم
السلم: الصلح، يذكر ويؤنث.
يقول: وقد قلتما: إن أدركنا الصلح واسعا، أي إن اتفق لنا إتمام الصلح بين القبيلتين ببذل المال وإسداء معروف من الخير سلمنا من تفاني العشائر.
20 - فأصبحتما منها على خير موطن بعيدين فيها من عقوق ومأثم
العقوق: العصيان، ومنه قوله عليه السلام: ((لا يدخل الجنة عاق لأبويه)) المأثم: الإثم، يقال: أثم الرجل يأثم إذا أقدم على إثم، وأثّّمه الله يؤثمه إثاما وإثما إذا جازاه بإثمه، وآثمه إيثاما صيره ذا إثم، وتأثم الرجل تأثما إذا تجنب الإثم، مثل تحرج وتحنث وتحوب إذا تجنب الحرج والحنث والحوب.
يقول: فأصبحتما على خير موطن من الصلح بعيدين في إتمامه من عقوق الأقارب والإثم، بقطيعة الرحم.
وتلخيص المعنى: إنكما طلبتما الصلح بين العشائر ببذل الأعلاق وظفرتما به وبعدتما عن قطيعة الرحم. والضمير في منها يعود إلى السلم، يذكر ويؤنث.
21 - عظيمين في عليا معد هديتما ومن يستبح كنزا من المجد يعظم
العليا: تأنيث الأعلى، وجمعها العليات والعلى مثل الكبرى في تأنيث الأكبر والكبريات والكبر في جمعها وكذلك قياس الباب. وقوله: هديتما، دعاء لهما. الاستباحة: وجود الشيء مباحا، وجعل الشيء مباحا، والاستباحة الاستئصال. ويروى يعظم من الإعظام بمعنى التعظيم، ونصب عظيمين على الحال.
يقول: ظفرتما بالصلح في حال عظمتكما في الرتبة العليا من شرف معد وحسبها ثم دعا لهما فقال: هديتما إلى طريق الصلاح والنجاح والفلاح، ثم قال: ومن وجد كنزا من المجد مباحا واستأصله عظم أمره أو عظم فيما بين الكرام.
22 - تعفى الكلوم بالمعين فأصبحت ينجمها من ليس فيها بمجرم
الكلوم والكلام: جمع كلم وهو الجرح، وقد يكون مصدرا كالجرح، التعفية: التمحية، من قولهم: عفا الشيء يعفو إذا أنمحى ودرس، وعفاه غيره يعفيه وعفاه أيضا عفوا، ينجمها أي يعطيها نجوما، يقول: تمحى وتزال الجراح بالمئين من الإبل، فأصبحت الإبل يعطيها نجوما من هو بريء الساحة بعيد عن الجرم في هذه الحروب، يريد أنهما بمعزل عن إراقة الدماء وقد ضمنا إعطاء الديات ووفيا به وأخرجاها نجوما، وكذلك تعطى الديات.
23 - ينجما قوم لقوم غرامة ولم يهريقوا بينهم ملء محجم
أراق الماء والدم يريقه وهراقه يهريقه وأهراقه يهريقه لغات، والأصل اللغة الأولى. والهاء في الثانية بدل من الهمزة في الأولى، وجمع في الثالثة بين البدل والمبدل توهما أن همزة أفعل لم تلحقه بعد. المحجم: آلة الحجام، والجمع المحاجم.
يقول: ينجم الإبل قوم غرامة لقوم، أي ينجمها هذان السيدان غرامة للقتلى، لأن الديات تلزمهم دونهما، ثم قال: وهؤلاء الذين ينجمون الديات لم يريقوا مقدار ما يملأ محجما من الدماء، والملء مصدر ملأت الشيء، والملء مقدار الشيء الذي يملأ الإناء وغيره، وجمعه أملاء يقال: أعطني ملء القدح وملئيه وثلاثة أملائه.
24 - فأصبح يجري فيهم من تلادكم مغانم شتى من إفال مزنم
التلاد والتليد: المال القديم الموروث، المغانم: جمع المغنم وهو الغنيمة شتى أي متفرقة، الإفال: جمع أفيل وهو الصغير السن من الإبل المزنم المعلم بزنمة.
يقول: فأصبح يجري في أولياء المقتولين من نفائس أموالكم القديمة الموروثة غنائم متفرقة من إبل صغار معلمة، وخص الصغار لأن الديات تعطى من بنات اللبون والحقاق والأجذاع ولم يقل المزنمة وإن كان صفة الإفال حملا على اللفظ لأن فعالا من الأبنية التي اشترك فيها الآحاد والجموع وكل بناء انخرط في هذا السلك ساغ تذكيره حملا على اللفظ.
25 - ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة وذبيان هل أقسمتم كل مقسم
الأحلاف والحلفاء: الجيران، جمع حليف على أحلاف كما جمع نجيب على أنجاب وشريف على أشراف، وشهيد على أشهاد، أنشد يعقوب: [الرجز]
قد أغتدي لفتية أنجاب وجهمه الليل إلى ذهاب
أقسم أي حلف، وتقاسم القوم أي تحالفوا والقسم الحلف، والجمع الأقسام وكذلك القسيمة، هل أقسمتم أي قد أقسمتم ومنه قوله تعالى {هل أتى على الإنسان} أي قد أتى، وأنشد سيبويه [البسيط]
سائل فوارس يربوع بشدتنا أهل رأونا بسفح القف ذي الأكم
أي قد رأونا لأن حرف الاستفهام لا يلحق حرف الاستفهام.
يقول: أبلغ ذبيان وحلفاءها وقل لهم قد حلفتم على إبرام حبل الصلح كل حلف فتحرجوا من الحنث وتجنبوا.
26 - فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يقول: لا تخفوا من الله ما تضمرون من الغدر ونقض العهد ليخفى على الله، ومهما يكتم من شيء يعلمه الله، يريد أن الله عالم بالخفيات والسرائر ولا يخفى عليه شيء من ضمائر العباد، فلا تضمروا الغدر ونقض العهد فإنكم إن أضمرتموه علمه الله، وقوله: يكتم الله، أي يكتم من الله.
27 - يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقم
أي يؤخر عقابه ويرقم في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل العقاب في الدنيا قبل المصير إلى الآخرة فينتقم من صاحبه، يريد لا مخلص من عقاب الذنب آجلا أو عاجلا.
28 - وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
الذوق: التجربة. الحديث المرجم: الذي يرجم فيه بالظنون أي يحكم فيه بظنونها.
يقول: ليست الحرب إلا ما عهدتموها وجربتموها ومارستم كراهتها وما هذا الذي أقول بحديث مرجم عن الحرب، أي هذا ما شهدت عليه الشواهد الصادقة من التجارب وليس من أحكام الظنون.
29 - متى تبعثوها تبعثوها ذميمة وتضر إذا ضريتموها فتضرم
الضرى: شدة الحرب واستعار نارها، وكذلك الضراوة، والفعل ضري يضرى، والإضراء والتضرية الحمل على الضراوة ضرمت النار تضرم ضرما واضطرمت وتضرمت: التهبت، وأضرمتها وضرمتها: ألهبتها.
يقول: متى تبعثوا الحرب تبعثوها مذمومة أي تذمون على إثارتها، ويشتد ضرمها إذا حملتموها على شدة الضرى فتلتهب نيرانها.
وتلخيص المعنى: إنكم إذا أوقدتم نار الحرب ذممتم، ومتى أثرتموها ثارت وهيجتموها هاجت. يحثهم على التمسك بالصلح ويعلمهم سوء عاقبة إيقاد نار الحرب.
30 - فتعرككم عرك الرحى بثفالها وتلقح كشافا ثم تنتج فتتئم
ثفال الرحى: خرقة أو جلدة تبسط تحتها ليقع عليها الطحين. والباء في قوله بثفالها بمعنى مع. اللقح واللقاح: حمل الولد، يقال: لقحت الناقة، والإلقاح جعلها كذلك. الكشاف: أن تقلح النعجة في السنة مرتين. أنتجت الناقة إنتاجا: إذا ولدت عندي، ونتجت الناقة تنتج نتاجا. الإتآم: أن تلد الأنثى توأمين، وامرأة – متآم إذا كان ذلك دأبها، والتوأم يجمع على التؤام ومنه قول الشاعر: [الرجز]
قالت لنا ودمعها تؤام كالدر إذ أسلمه النظام
يقول: وتعرككم الحرب عرك الرحى الحب مع ثفاله، وخص تلك الحالة لأنه لا يبسط إلا عند الطحن، ثم قال: وتلقح الحرب في السنة مرتين وتلد توأمين، جعل إفناء الحرب إياهم بمنزلة طحن الرحى الحب، وجعل صنوف الشر تتولد من تلك الحروب بمنزلة الأولاد الناشئة من الأمهات، وبالغ في وصفها باستتباع الشر شيئين: أحدهما جعله إياها لاقحة كشافا، والآخر إتآمها.
31 - فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
الشؤم: ضد اليمن، ورجل مشؤوم ورجال مشائيم كما يقال رجل ميمون ورجال ميامين. والأشأم أفعل من الشؤم وهو مبالغة المشؤوم وكذلك الأيمن مبالغة الميمون، وجمعه الأشائم، وأراد بأحمر عاد أحمر ثمود وهو عاقر الناقة واسمه قدار بن سالف.
يقول: فتولد لكم أبناء في أثناء تلك الحروب كل واحد منهم يضاهي في الشؤم عاقر الناقة ثم ترضعه الحروب وتفطمهم، أي تكون ولادتهم ونشوؤهم في الحروب فيصبحون مشائيم على آبائهم.
32 - فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها قرى بالعراق من قفيز ودرهم
أغلت الأرض تغل إذا كانت لها غلة، أظهر تضعيف المضاعف في محل الجزم والبناء على الوقف، يتهكم ويهزأ بهم.
يقول: فتغل لكم الحروب حينئذ ضروبا من الغلات لا تكون تلك الغلات لقرى من العراق التي تغل الدراهم بالقفيزات، وتلخيص المعنى أن المضار المتولدة من هذه الحروب تربي على المنافع المتولدة من هذه القرى، كل هذا حث منه إياهم على الاعتصام بحبل الصلح، وزجر عن الغدر بإيقاد نار الحرب.
33 - لعمري لنعم الحي جر عليهم بما لا يؤاتيهم حصين بن ضمضم
جر عليهم: جنى عليهم، والجريرة الجناية، والجمع الجرائر. يؤاتيهم: يوافقهم وهذه المؤاتاة قتل ورد بن حابس العبسي هرم بن ضمضم قبل هذا الصلح، فلما اصطلحت القبيلتان عبس وذبيان استتر وتوارى حصين بن ضمضم لئلا يطالب بالدخول في الصلح، وكان ينتهز الفرصة حتى ظفر برجل من عبس بواء بأخيه فشد عليه فقتله فركبت عبس فاستقر الأمر بين القبيلتين على عقل القتيل.
يقول: أقسم بحياتي لنعمت القبيلة جنى عليهم حصين بن ضمضم، وإن لم يوافقوه في إضمار الغدر ونقض العهد.
34 - وكان طوى كشحا على مستكنة فلا هو أبداها ولم يتقدم
الكشح: منقطع الأضلاع، والجمع كشوح، والكاشح المضمر العداوة في كشحه، وقيل بل هو من قولهم: كشح يكشح كشحا إذا أدبر وولى، وإنما سمي العدو كاشحا لإعراضه عن الود والوفاق، ويقال: طوى كشحه على كذا أي أضمر في صدره الاستكنان: طلب الكن، والاستكنان الاستتار وهو في البيت على المعنى الثاني. فلا هو أبداها أي فلم يبدها. ويكون لا مع الفعل الماضي بمنزلة لم مع الفعل المستقبل في المعنى، كقوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى}.أي: فلم يصدق ولم يصل، وقوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة}.أي: لم يقتحمها وقال أمية بن أبي الصلت: [الرجز]
إن تغفر اللهم فاغفر جما وأي عبد لك لا ألما
أي لم يلم بالذنب. وقال الراجز:
أي لم يفعله
يقول: وكان حصين أضمر في صدره حقدا وطوى كشحه على نية مستترة فيه ولم يظهرها لأحد ولم يتقدم عليها قبل إمكانه الفرصة.
يقول: لم يتقدم لما أخفى فيعجل به، ولكن أخره حتى يمكنه.
35 - وقال سأقضي حاجتي ثم أتقي عدوي بألف من ورائي ملجم
يقول: وقال حصين في نفسه: سأقضي حاجتي من قتل قاتل أخي أو قتل كفؤ له، ثم أجعل بيني وبين عدوي ألف فارس ملجم فرسه أو ألفا من الخيل ملجما.