632- وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ: "بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الثَّقَلِ - أو قَالَ: فِي الضَّعَفَةِ - مِنْ جَمْعٍ بلَيْلٍ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
مُفْرَداتُ الحديثِ:
-الثَّقَلِ: بفَتْحِ الثَّاءِ المُثَلَّثَةِ وفَتْحِ القَافِ، قالَ في النِّهايَةِ: هو مَتَاعُ المُسَافِرِ.
-الضَّعَفَةِ: بفَتْحِ الضادِ المُعْجَمَةِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ والفاءِ، جَمْعُ ضَعِيفٍ، هُمُ النِّساءُ والأطفالُ، وكِبَارُ السِّنِّ والمَرْضَى.
-جَمْعٍ: بفَتْحِ الجِيمِ وسُكونِ المِيمِ فعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، هي مُزْدَلِفَةُ، سُمِّيَتْ بذلك لاجتماعِ الناسِ فيها، أو لجَمْعِ الصلاتَيْنِ؛ المَغْرِبِ والعِشَاءِ فيها.
633- وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها قَالَتْ: "اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ المُزْدَلِفَةِ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَهُ، وكَانَتْ ثَبِطَةً – يعني: ثَقِيلَةً - فأَذِنَ لَهَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
مُفْرَداتُ الحديثِ:
-ثَبِطَةً: يُقالُ: ثَبَطَهُ يَثْبُطُه ثَبْطاً، من بَابِ نَصَرَ، بمعنَى عَوَّقَهُ وبَطَّأَهُ، فالثَّبِطُ هو الثَّقِيلُ، والمَرْأَةُ ثَبِطَةٌ، جَمْعُها ثَبِطَاتٌ.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثَيْنِ:
1-في الحديثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ هَدْيَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البياتُ بمُزْدَلِفَةَ إلى بعدَ طُلوعِ الفَجْرِ.
قالَ في المُغْنِي: والمُسْتَحَبُّ الاقتداءُ برَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المَبيتِ إلى أَنْ يُصْبِحَ، ثمَّ يَقِفَ حَتَّى يُسْفِرَ.
2-أمَّا الضَّعَفَةُ من النِّساءِ، والصِّبْيانِ، والكِبَارِ العَاجِزِينَ، والمَرْضَى، وكذلك من لا يَسْتَغْنُونَ عن رُفْقَتِه من الأَقْوِيَاءِ، فَلاَ بَأْسَ من تَقْدِيمِهم بعدَ مُنْتَصَفِ ليلةِ النَّحْرِ إلى مِنًى.
قالَ في المُغْنِي: ولا نَعْلَمُ في تَقْدِيمِهم مُخالفاً، ولأنَّ فيهِ رِفْقاً بهم، ودَفْعاً لمَشَقَّةِ الزِّحامِ عنهم، واقتداءً بفِعْلِ نَبِيِّهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3-قالَ الوَزِيرُ: أَجْمَعُوا على جَوازِ الدَّفْعِ من مُزْدَلِفَةَ بعدَ نِصْفِ اللَّيْلِ إِلاَّ أبا حَنِيفَةَ قالَ: عليه دَمٌ.
ودليلُ الجُمهورِ حَدِيثُ ابنِ عَبَّاسٍ: "كُنْتُ فِيمَنْ قَدَّمَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ضَعَفَةِ أَهْلِهِ مِن مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى". رواهُ الْبُخَارِيُّ (1678)، ومُسْلِمٌ (1293).
قالَ التِّرْمِذِيُّ: عليهِ العَمَلُ عندَ أهْلِ العِلْمِ.
قالَ الشيخُ مُحَمَّدُ بنُ إِبْرَاهِيمَ آلُ الشَّيْخِ: وله الدَّفْعُ من مُزْدَلِفَةَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وبَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ يَأْبَى ذلك، ويَقُولُ: إِنَّهُ مَا جَاءَ إِلاَّ في حَقِّ الضَّعِيفِ، فلا يَكُونُ مُسَوِّغاً لبَقِيَّةِ النَّاسِ أَنْ يَدْفَعُوا مِثْلَهم، وهذا أحْوَطُ، وإلى هذا ذَهَبَ الشيخُ، وابنُ القَيِّمِ.
والليلُ الشرعِيُّ المُعتَبَرُ من غَيابِ الشَّمْسِ إلى طُلُوعِ الفَجْرِ.
4-مَكانُ الوُقوفِ يَكُونُ فِي أيِّ جُزْءٍ مِن مُزْدَلِفَةَ التي تَقَدَّمَ تَحْدِيدُها، وأَفْضَلُه عندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ، وهو الجَبَلُ الصَّغِيرُ الذي فيهِ المَسْجِدُ لمَن سَهُلَ عليه ذلك، أمَّا مَن لَمْ يَسْهُلْ عليهِ فالرِّفْقُ بنَفْسِه ورُفْقَتِه أَوْلَى.
خِلافُ العُلماءِ:
اخْتَلَفَ العُلماءُ فِي حُكْمِ المَبِيتِ بمُزْدَلِفَةَ، ويُرَادُ بالمَبِيتِ بها الحُصولُ فيها تلك الليلةَ.
فذَهَبَ الإِمَامُ أَحْمَدُ إلى وُجوبِه إلى بعدَ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ، على غَيْرِ السُّقَاةِ والرُّعَاةِ، وإِنْ لَمْ يُدْرِكْها إلاَّ بعدَ نِصْفِ اللَّيْلِ أجْزَأَ؛ لأنَّ الحُكْمَ مَنُوطٌ بالنِّصْفِ الأَخِيرِ، وأمَّا الشَّافِعِيُّ: فالصَّحِيحُ من مَذْهَبِهِ أنَّ الوَاجِبَ جُزْءٌ من النِّصْفِ الثاني من اللَّيْلِ، وقالَ مَالِكٌ: الوَاجِبُ هو النُّزُولُ بمُزْدَلِفَةَ لَيْلاً قَبْلَ الفَجْرِ، بقَدْرِ مَا يَحُطُّ رِحَالَهُ، وهو سائِرٌ من عَرَفَةَ إلى مِنًى.
وأمَّا الأَحْنَافُ: فالمَبِيتُ بمُزْدَلِفَةَ عندَهم سُنَّةٌ، والواجِبُ عندَهم هو الوُقوفُ زَمَناً بعدَ صَلاةِ الصُّبْحِ إلى طُلُوعِ الشَّمْسِ.
وذهَبَ قِلَّةٌ مِن العُلماءِ مِنْهم الشَّعْبِيُّ، وعَلْقَمَةُ، والنَّخَعِيُّ، وأبو بَكْرِ بنِ خُزَيْمَةَ إلى أنَّ مَن فَاتَهُ الوُقوفُ بمُزْدَلِفَةَ فَاتَهُ الحَجُّ.
وأَقْرَبُ هذه الأقوالِ للصَّوابِ الذي هو هَدْيُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حَجَّتِه القَوْلُ الأَوَّلُ، ولا يُخالِفُه شَيْءٌ من الأدِلَّةِ عندَ التَّأَمُّلِ، واللهُ أعْلَمُ.