ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ فِي عِبَادَتِهِ وَاسْتِعَانَتِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
فَالْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ هُمْ لَهُ وَبِهِ، يَعْبُدُونَه وَيَسْتعينُونه.
وَطَائِفَةٌ تَعْبُدُه مِنْ غَيْرِ اسْتِعَانَةٍ وَلاَ صَبْرٍ، فَتَجِدُ عِنْدَ أَحَدِهِمْ تَحَرِّيًا لِلطَّاعَةِ وَالْوَرَعِ، وَلُزُومَ السُّنَّةِ، لَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ تَوَكُّلٌ وَاسْتِعَانَةٌ وَصَبْرٌ، بَلْ فِيهِمْ عَجْزٌ وَجَزَعٌ.
وَطَائِفَةٌ فِيهِم اسْتِعَانَةٌ وَتَوَكُّلٌ وَصَبْرٌ، مِنْ غَيْرِ اسْتِقَامَةٍ عَلَى الْأَمْرِ وَلاَ مُتَابَعَةٍ لِلسُّنَّةِ، فَقَدْ يُمْكِنُ أَحَدُهُمْ، وَيَكُونُ لَهُ نَوْعٌ مِنَ الحَالِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَيُعْطَى مِنَ المُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ مَا لَمْ يُعْطَهُ الصِّنْفُ الْأَوَّلُ، وَلَكِنْ لاَ عَاقِبَةَ لَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنَ المُتَّقِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى، فَالْأَوَّلُونَ لَهُمْ دِينٌ ضَعِيفٌ، وَلَكِنَّهُ مُسْتَمِرٌّ بَاقٍ إِنْ لَمْ يُفْسِدْهُ صَاحِبُهُ بِالْجَزَعِ وَالْعَجْزِ، وَهَؤُلاَءِ لِأَحَدِهِمْ حَالٌ وَقُوَّةٌ، وَلَكِنْ لاَ يَبْقَى لَهُ إِلاَّ مَا وَافَقَ فِيهِ الْأَمْرَ، وَاتَّبَعَ فِيهِ السُّنَّةَ.
وَشَرُّ الْأَقْسَامِ مَنْ لاَ يَعْبُدُهُ وَلاَ يَستعِينُه، فَهُوَ لاَ يَشْهَدُ أَنَّ عَمَلَهُ لِلَّهِ، وَلاَ أَنَّهُ بِاللَّهِ. فَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ مِنَ القَدَرِيَّةِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْقَدَرَ هُمْ فِي تَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلاَءِ الْجَبْرِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنِ الشَّرْعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلَكِنْ فِيهِمْ مَنْ فِيهِ نَوْعُ بِدَعٍ مَعَ إِعْرَاضٍ عَنْ بَعْضِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، حَتَّى يَجْعَلُوا الْغَايَةَ هِيَ مُشَاهَدَةُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْفَنَاءِ فِي ذَلِكَ، فَيَصِيرُونَ أَيْضًا مُعْتَزِلِينَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَسُنَّتِهِمُ، فَهُمْ مُعْتَزِلَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ البِدْعَةِ شَرًّا مِنْ بِدْعَةِ أُولَئِكَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَكِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ نَشَأَتْ مِنَ البَصْرَةِ.