دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > جامع علوم القرآن > الإكسير في علم التفسير

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23 محرم 1432هـ/29-12-2010م, 08:29 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي الكلام عن علمي المعاني والبيان


القسم الثالث
في علمي المعاني والبيان

[الإكسير في علم التفسير: 59]

القسم الثالث
في علمي المعاني والبيان
لكونهما من أنفس علوم القرآن
وقد صنف الناس فيهما كتبًا كثيرة، إلا أن من أحسن ما رأيت فيها، كتابًا صنفه الشيخ الإمام العلامة حجة العرب، ولسان الأدب: ضياء الدين أبو الفتح نصر الله بن محمد بن الأثير الجزري رحمه الله، ترجمه بالجامع الكبير في صناعة المنظوم والمنثور، سلك فيه مذهب الإطناب، حتى لم يبق دون فهمه حجاب، وضمنه غرائب، وأتى فيه بعجائب، فعمدت في هذا القسم إلى الإتيان بجميع مقاصد كتابه عريًا عن إسهابه وإطنابه، جامعًا فيه بين البيان والإيجاز، معرضًا عن الرمز والإلغاز، ولم ألتزم الإتيان بحجم دون حجمه، بل بمقاصده في نظم دون نظمه، مع زيادات لفظية نقلتها من كتب أهل هذا العلم، واستخرجت دررها من تيار الفهم تارة في القواعد والتحقيقات، وتارة في الأمثلة والاستشهادات، ومرة في ضبط كلياته بالحدود والرسوم، تقريبًا لتحقيقه على الأذهان والفهوم، وقد أنكرت عليه في مواضع استعرتها، فبينت صوابها واستدركتها.
[الإكسير في علم التفسير: 61]
ومن نظر في الكتابين بعين الإنصاف وأعرض عن الجيف والإجحاف، علم أن بعد الطل سيلاً جحافًا، وأن المئين مواد الآلاف
وفيه مقدمة وجملتان:
أما المقدمة، ففيها أبحاث:
[الإكسير في علم التفسير: 62]
البحث الأول
في الكشف عن حقيقة هذا العلم
وإنما يتم ذلك بالكشف عن حقائق مفرداته، وهي: العلم، والبيان.
أما العلم، فقد تقدم بيانه وأنه صفة للنفس يوجب لها تمييزًا جازمًا، وحيث أضيف العلم إلى شيء من المعلومات، فالمراد: تعلق العلم بذلك المعلوم، فمعنى علم الفقه: العلم بأحكام الفقه، وعلم المعاني: العلم بأحكامها مما سيأتي تفصيله.
وأما المعاني، فهي: جمع معنى، وهو: مدلول اللفظ، والمراد بحسب قصد المتكلم، والأصل فيه كسر النون، وتشديد الياء، لأنه مشتق من عنيت الشيء - إذا أراد به تكلامك - أعنيه، وهو معنى كقولك: رميته فهو مرمي، ولعله إنما خفف، لكثرته في الكلام، ولذلك أثر فيه التخفيف، وإخراج الشيء عن أصله كقولهم في أي شيء: إيشٍ، وحذف ألف بسم الله كتابة، وقطع همزته في النداء، نحو: يا ألله، وترك الهمزة في الدرية والبرية، وإن كان هو الأصل فيهما، إذ هما من درأ وبرأ.
وأما البيان، فهو:
إما مصدر من بان يبين، إذا ظهر، ونظيره من ذوات الواو: جاز جوازًا.
[الإكسير في علم التفسير: 63]
أو اسم مصدر من ذلك، أو مصدر محذوف الزوائد من أبان الشيء يبينه إذا أظهره، إبانة، وأصله إبيانًا، وبيان اسم له، كالنبات للإنبات في قوله تعالى: {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} وهذا أولى، لأن البيان يوصف به المتكلم، يقال: رجل ذو بيان، أي ذو إبانةٍ لمعاني كلامه، أي: إظهارٍ لها، ولا يصح ههنا أن يقال: رجل ذو ظهور إلا بتأويل بعيد، أي ذو كلام له ظهور، أو ذو ظهور لكلامه.
إذا ثبت هذا، فمعنى قولنا علم المعاني والبيان: العلم المراد بالألفاظ، وإظهار المراد بها، ثم يتفاوت ذلك الإظهار بحسب تفاوت القوى النفسية، والقرائح الذهنية، فيظهر بذلك التفاوت في مقادير البلغاء، ومراتب الخطباء والنصحاء، فأعلى مراتب البيان: إظهار المراد بالكلام غاية الإظهار.
فإن قلت: ما ذكرته في الكشف عن حقيقة هذا العلم، يقتضي أن الكلام كلما كان في البيان أدخل، كان في الظهور والجلاء أبلغ، وإلى الأفهام أسبق، والأمر على العكس من ذلك، فإن النكت التي ذكرها أهل هذا العلم من القرآن وكلام العرب مما سيأتي أمثلته في غاية الدقة من الأذهان، ولا يحققها إلا الأذكياء الأعيان، فقد بان بذلك أن هذا العلم على عكس ما قررتموه في تحقيقه.
قلت: ليس الأمر كما ذكرت، وإنما زلت قدمك في هذه الشبهة من جهة: أن الظهور على ضربين:
ظهور بديهي. كظهور البديهيات لنا نحو: إن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، وأن الشيء الواحد لا يكون موجودًا معدومًا، ولا قديمًا حادثًا معًا.
وظهور نظري، أي: مترتب على النظر، كظهور النظريات لنا، نحو: حدوث العالم، ووجود صانعه، وقدمه، وحوار بعثة الرسل، ونحوها، فإن هذه قضايا لا تظهر لنا صحتها بديهة، بل إذا نظرنا في براهينها، ترتب ظهور العلم بها على ذلك النظر ترتبًا
[الإكسير في علم التفسير: 64]
لازمًا، وظهورًا لا خفاء به، فأنت حملت الظهور الذي فسرنا البيان به، على الظهور البديهي، وليس بصحيح، وإنما هو الظهور النظري، فإن النكت الثانية التي زعمت أنها تدق عن الأذهان، ولا يدركها إلا الأعيان، إذا نظر فيها من دقت عن ذهنه نظرًا صحيحًا، وكان أهلاً للنظر فيها، ظهرت له ظهورًا لا يمارى فيه، ويستطرفها استطرافًا لا خفاء به، وكثيرًا ما يرى في الفعليات القواطع ما يكون العاقل غافلاً عنه، لا شعور له به، فإذا نبه عليه، أو نظر فيه، أدنى تنبيه أو نظر، ظهر له، فيظل باهتًا كأنه لم يؤت العقل إلا تلك الساعة، والله أعلم.
إذا تقرر هذا فموضوع هذا العلم، هو المعاني، لأنها هي التي تبحث فيه عن عوارضها اللاحقة لها، من تقديم وتأخير، وإضمار وتقدير، وإطناب وإيجاز، وكناية وألغاز، وغير ذلك من العوارض.
ومبادئه، هي: النظر في الألفاظ، وما يتعلق بها من خفتها وعذوبتها، وفي المعاني من سهولتها ورقتها، وسلاستها وحلاوتها، ونحو ذلك مما نذكر في أحكامه العامة والخاصة.
ومسائله، هي: تعلق النظر في تركيب المعاني، ونحوه مما يذكر في أحكامه الخاصة.
تعريفه: أنه علم يبحث فيه عن أحكام الألفاظ والمعاني بحيث يجعل لكل منها ما يقتضيه كيفية وكمية، ووضع يستحقه بمقتضى المناسبة العقلية، مثاله: قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} لما كان المقصود الأهم ههنا تبيين تحقق نصرهم عليه تعالى، قدمه، وكان حقه التأخير، لكونه خبر كان، فهذا تقديم في الموضع بحسب المناسبة العقلية، ونظائره كثيرة تأتي إن شاء الله تعالى.
[الإكسير في علم التفسير: 65]
البحث الثاني
في بيان فضيلة هذا العلم وشرفه
وهو من وجوه:
أحدها قوله تعالى: {الرحمن (1) علم القرآن (2) خلق الإنسان (3) علمه البيان (4) الشمس والقمر بحسبان}
وجه دلالته أنه تعالى، أثنى على نفسه في معرض التمدح بفضل آيات عظيمة، وهي تعليم القرآن، وخلق الإنسان، وجري الشمس والقمر بحسبان، وسجود النجم والشجر، وما بعد ذلك من الآيات، وذكر جملتها تعليم البيان، فدل على أنه أثر شريف من آثار الله تعالى وعظيم آياته، قياسًا له على ما اكتنفه من الآيات قبله وبعده.
فإن قلت: يفتقر ثبوت هذا الدليل إلى بيان: أن البيان في هذه الآية هو الذي أنتم بصدد إثباته، وإلا فبتقرير أن لا يكون هو المراد، لأن يكون لكم في الآية حجة.
قلت: نعم. والدليل عليه أن الحسن البصري، قال: هو النطق والتمييز.
وقال محمد بن كعب: هو ما يقول، وما يقال له.
[الإكسير في علم التفسير: 66]
وقال يمان: هو الكتابة والخط.
وكل هذا راجع إلى ما قلناه، وما في معناه، ثم إن هذا موافق لظاهر اللفظ، وهو أولى من غيره.
الثاني: قوله تعالى: {أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين} إلى قوله تعالى: {أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين}، أيكون –سبحانه وتعالى- قول من نسبه إلى إنجاب البنات مستدلاً عليه بأن عدم الإبانة في الخصام صفة نقص، وهي قائمة بالبنات، ومن قامت به صفة النقص، لا يصلح أن يتخذه الناقصون عضدًا ومستندًا، فضلاً عن أكمل الأكملين.
الثالث: قول فرعون: {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين}، فجعل عدم البيان صفة نقص لا يعبأ بمن قامت، ووجه الحجة منه، أنه أدرك ذلك ببدهيته، ووافقه عليه أهل عصره، فدل على أنه بديهي متقرر في النفوس، كالنقص بالخرس والعمى والشلل، فلزم بالضرورة أن يكون البيان صفة كمال يجب أن تعظم من قامت به، ولهذا لما دخل ضمرة بن ضمرة النهشلي -وكان دميم الخلقة– على النعمان بن المنذر، ازدراه حين رآه، وقال: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) وهو أول من قال هذه الكلمة، فذهبت مثلاً لكل من بان خُبره دون خَبره، فقال له:
[الإكسير في علم التفسير: 67]
ضمرة: أبيت اللعن أيها الملك، إن الرجال لا تكال بالصيعان، وإنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، إن قاتل، قاتل بجنان، وإن نطق، نطق ببيان، فقال له النعمان: صدقت، لله أبوك، ثم سأله عن أمور، أجابه فيها بجواب شاف، وبيان واف، فعرف حينئذ قدره، وعظمه، وأنعم عليه، وجعله من خاصته.
في الأثر: المرء مخبوء تحت لسانه.
وفي الشعر:
لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده = فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وكائن ترى من صامت لك معجب = زيادته أو نقصه في التكلم
وكل ذلك إشارة إلى البيان مدحًا، والعي ذمًا.
الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن من البيان لسحرًا))، يصفه بأن له من التأثير في النفوس، كتأثير السحر من الأعراض الانفعالية عليه، وقد تعسف بعضهم فزعم أن هذا ذم له، لتشبيهه بالسحر المحرم، وهذا كلام من لا يعرف علم البيان، ونحن هنا بصدد تنبيه مثله في هذه الشبهة على مناقب هذا العلم الحسنة، وصفاته المستحسنة، وقد رد عليه العلماء في شرح هذا الحديث، كأبي أحمد العسكري، وأبي الرضا الرواندي، وغيرهما.
ويدل على بطلان قوله أن هذا الحديث صدر سياق الثناء على بعض البلغاء
[الإكسير في علم التفسير: 68]
والتعجب منه، ثم إن تشبيه الشيء بالشيء من جهة، لا توجب تشابههما من كل جهة.
ويحكى عن عمر بن عبد العزيز أو غيره من أعيان السلف، أنه سمع رجلاً بليغًا يتكلم، فقال: هذا هو السحر الحلال، فحكم عليه بأنه سحر، ووصفه بنقيض وصفه، وهذا أبلغ ما يكون في مدحه، وهو تصريح بنقيض قول هذا المتعسف.
الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم، فلعل أحدكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار))، وفي لفظ: ((ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض))، وناهيك بعلم يبلغ تأثيره إلى أن يحق الباطل، ويبطل الحق، شرفًا، فكيف به إذا استعمل في تحقيق الحق وإبطال الباطل؟، وهل ترى شيئًا يقوم له، أو يقاومه؟، كلا والله، بل هو كما قال البحتري:
وقاطع للخصوم اللد أن نخبت = قلوبهم، فسرايا عزمه نخب
السادس: أنا نقول: لا خلاف أن القرآن نزل على وفق قانون علم البيان، بل أرباب هذا العلم كملوه من القرآن، وحينئذ كونه على وفق هذا القانون، إما أن يكون هو أكمل أحواله وأتمها، أو لا، فإن كان الأول، فلا حاجة لنا للدلالة على شرف هذا العلم إلى غيره، وإن كان الثاني لزم قيام صفة النقص بالقرآن، وأن له حالة كمال بالقوة لم يخرج إلى الفعل، وهو باطل، فإن التزم ذلك ملحد ممن يطعن في
[الإكسير في علم التفسير: 69]
آيات الله تعالى بما تضمنه من التكرير والاختلاف الذي يزعم أنه تناقض، فالبحث معه غير ههنا، فليبرر لنا فريته، وليسمع الجواب.
وبالجملة، فشرف هذا العلم بشرط تعلق فائدته وتصورها مدرك بديهة وطبعًا، فلا حاجة له إلى الاستدلال، وإنما تبرعنا بالوجوه المذكورة تبرعًا، وأمثالها كثير ضربنا عنه؛ لأجل الاختصار، والله أعلم.
[الإكسير في علم التفسير: 70]
البحث الثالث
في النظر في الألفاظ والمعاني
لا شك في ورود الكلام قرآنًا كان أو غيره على أنحاء مختلفة، وأحوال متفاوتة، تارة في الوضع، وتارة في العموم والخصوص، وآونة في الزيادة والنقص، ومرة في الإطناب والاختصار، وغير ذلك من الأحوال، فإذا وجدنا شيئًا من ذلك، نظرنا فيه، فمتى وجدنا معنى مناسبًا يصلح أن يكون علة ومقتضيًا له، وجب إضافته إليه متحدًا، كان ذلك المناسب، أو متعددًا، وإنما قلنا ذلك؛ لأن نسبة الكلام المجرد إلى أحواله المعتورة عليه من تقديم وتأخير، وزيادة ونقص، وعموم وخصوص، وإيجاز وأطناب مستوية، فلو لم يكن اختصاصه ببعض هذه الأحوال دون بعض في بعض الأماكن، لمقتض وموجب، لكان عبثًا، وترجيحًا من غير مرجح، وهو محال، ومثال ذلك قوله تعالى حيث بشر زكريا بيحيى: {كذلك الله يفعل ما يشاء}، وحيث بشر مريم بعيسى: {كذلك الله يخلق ما يشاء}، والخلق أخص من الفعل، إذ كل خلق فعل، وليس كل فعل خلقًا، وحينئذ، فلولا مقتض مناسب خصص أحد الوضعين بالآخر، لكان التخصيص ترجيحًا من غير مرجح.
والذي قلته: إن تقرير هذا المقتضى المناسب، هو أن قصة مريم في عيسى أخص من قصة زكريا في ولادته يحيى، وبيانه: أن قصتيهما اشتركتا في كونهما عجبًا؛ لأن
[الإكسير في علم التفسير: 71]
حصول الولد للشيخ الكبير الذي بلغ من الكبر عتيًا من امرأة عاقر، والبكر البتول من غير أن يمسها بشر، كلاهما على خلاف العادة، وهو عجب، لكن قصة مريم أعجب وأخص من وجوه:
أحدها: أن كل مولود من غير أب عجب، وليس كل عجب مولودًا من غير أب.
الثاني: أن الولادة بغير أب معجزة، وليس ولادة الشيخ والعجوز العقيم معجزًا، لأن ذلك قد وجد في حق إبراهيم وسارة، ولم يعد معجزًا، أقصى ما في الباب أنه كرامة، لكن درجة الكرامة دون درجة المعجز بالضرورة، ولئن سلم أن ولادة العقيم معجز، لكن في بعض الصور، لا في كلها، بخلاف الولادة بغير أب، فإنه معجز في كل صورة.
الثالث: أن كل معجز عجب خارق للعادة، وليس كل عجب خارق للعادة معجزًا، وإذا تقرر بما ذكرته أن قصة مريم أخص، كان ذلك مقتضى مناسبًا، لاختصاصها بالخلق الذي هو من الفعل أخص، وما أظن عاقلاً يفهم هذا البحث، ويتصوره يشك في حسنه، وفي شرف هذا العلم الذي استمد منه، والله أعلم.
واعلم أن لما ذكرنا من إضافة التخصيص إلى المقتضى المناسب نظائر تؤكده، وتشهد لصحته:
أحدها: قول الفقهاء: الأصل في الأحكام التعليل، فمتى وجدنا للحكم علة مناسبة، أضفناه إليها، أو قسنا عليه ما وجدت فيه، وبهذا استدلوا على صحة العلة القاصرة، أعني: بأن الأصل التعليل، فحكم القاصرة معلل بها بمقتضى الأصل، وبأن فائدتها: فهم الحكم بعلته، وهو أدعى إلى الامتثال.
الثاني: قول الأصوليين ذكر حكم عقب الوصف المناسب يفيد عليته نحو:
[الإكسير في علم التفسير: 72]
{الزانية والزاني فاجلدوا}، {والسارق والسارقة فاقطعوا}، أي: لعلة الزنا والسرقة.
قال علماء البيان: وإنما قدم الله تعالى ذكر المرأة في الزنا، وأخره في السرقة، لأنها في السرقة أضعف، وفي الزنا أشبق، وهمتها فيه وإليه أسبق، وهذا مقتض مناسب –لاختلاف هذا الوضع- مليح، فاعرفه.
الثالث: قولهم شرط المجاز، النقل، للعلاقة الظاهرة، فحيث وجدناه تجوزنا، واستعملنا، ولم نتوقف على النقل والاستعمال عن العرب، وهذا أقوى المذهبين فيه.
الرابع: قول الاشتقاقيين: شرط الاشتقاق: اتفاق لفظتين في الحروف الأصول والمعنى، وحصول تغيير ما، فحيث وجدنا ذلك، حكمنا بالاشتقاق، ونحوه: قول القياسيين: شرط القياس: وجود جامع بين الأصل والفرع، فحيث وجدناه قسنا، والله أعلم.
فإن قلت: دليلك على هذا البحث وهو قولك: لو لم يكن التخصيص لمقتض مناسب عيبًا وترجيحًا من غير مرجح، مبني على أصليين: -
أحدهما: أن أفعال الله تعالى معللة.
والثاني: أن الترجيح من غير مرجح محال، والمنع في كليهما مشهور، لاسيما في الأول، ورأى الجمهور منعه.
قلت: أما قولك: إنه مبني على أن أفعال الله تعالى معللة، فجوابه من وجوه:
أحدها: منع كونه مبنيًا على ذلك، وليس على المانع ذكر مستند المنع، لكنا نتبرع به، وهو مبني على مقدمات:
[الإكسير في علم التفسير: 73]
إحداهن: إن معتقدنا، إن وجب النظر في التوحيد، والإلهية، ونحوهما من مقومات الإيمان بالشرع، لكن حصوله بالعقل.
الثانية: إن الشرع إنما يثبت بوجود المعجز.
الثالثة: إن معجز شرعنا القرآن الذي نحن بصدد الكلام فيه في علم البيان.
الرابعة: إن الخلاف في تعليل الأفعال، إنما يوجه البحث فيه بعد وجود هذه المقدمات، وهو فرع عليها؛ لأن موضوعه أفعال الله تعالى، وثبوت أفعاله تعالى متفرع على ثبوت ذاته، ومقومات توحيده، وثبوت ذاته متفرع على وجوب النظر المتفرع على ثبوت الشرع، المتفرع على ثبوت المعجز: الذي هو القرآن المتوقف على أقصى مراتب علم البيان، وإلا لم يتحقق إعجازه، وحينئذ نقول: تعليل الأفعال مبني على علم البيان بالوسائط المذكورة، فلو كان علم البيان مبنيًا على تعليل الأفعال، لزم الدور، وأنه محال.
الثاني: إثبات تعليل الأفعال بالدليل، وقد قرر في مواضع.
الثالث: هب أن هذا سلم لك في القرآن، لكونه من أفعال الله تعالى عندك، وأنها غير معللة، فكيف يسلم لك في كلام الآدميين الذي هو من أفعالهم، والتعليل فيها لازم اتفاقًا، ولا شك أنا رتبنا البحث على مطلق الكلام، لا في خصوص كونه قرآنًا.
وأما قولك: أنه مبني على استحالة الترجيح من غير مرجح، وهو ممنوع، فجوابه:
بإثبات استحالته بالدليل، وقد قررته في كتاب (بغية السائل).
وتلخيص برهانه هاهنا: أن حقيقة الترجيح بلا مرجح،، أنه فعل بلا فاعل، وأثر بلا مؤثر، وهو محال، والمانعون لاستحالته، إنما جوزوه لصور ذكروها، توهموا أنها اشتملت على الترجيح من غير مرجح، منها:
[الإكسير في علم التفسير: 74]
أن اختصاص كل واحد من كواكب الفلك بموضعه منه، ترجيح بلا مرجح، لاستواء نسبته إلى كل موضع من الفلك.
وجوابها من وجهين:
أحدهما: منع استواء النسبة، لجواز مناسبة طبيعية بينه وبين مركزه المخصوص من الفلك.
الثاني: إن المرجح عندنا تخصيص القادر المختار، الكامل الاختيار.
ومنها: إن وجود العالم الكلي، وسائر جزئياته في وقت وجوده المخصوص دون ما قبله، وبعده، ترجيح من غير مرجح.
وجوابها: ما سبق في التي قبلها.
ومنها: أن الهارب من عدو أو سبع، يعرض له طريقان مستويان من كل جهة، فيسلك أحدهما، والجائع يبدأ في الأكل بأحد الرغيفين، بل بأحد جوانب الرغيف دون باقيها، ترجيح من غير مرجح.
وجواب هذه الصورة يمنع عدم المرجح، فهي دعوى مجردة، وتقريره طويل ذكرته في كتاب (البغية)، ثم إن دليلنا قاطع، وما ذكروه ظاهر محتمل، فلا يعارضه.
وليكن هذا آخر الكلام في المقدمة، وإنما أطلنا فيها، لأن مدار هذا العلم على مباحثها المذكورة، وبالله التوفيق.
[الإكسير في علم التفسير: 75]

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الكلام, عن

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
برنامج عملي لتدبر القرآن الكريم في الحلقات القرآنية ريهام الصياد مكتبة المعهد 1 18 ربيع الأول 1432هـ/21-02-2011م 12:49 PM


الساعة الآن 11:09 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir