دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > مكتبة علوم العقيدة > شرح أسماء الله الحسنى > المرتبع الأسنى

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12 جمادى الآخرة 1431هـ/25-05-2010م, 06:34 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي البابُ الحادي والعشرونَ: في ذكرِ قواعدَ مُهِمَّةٍ في بابِ الأسماءِ والصفاتِ

قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: (البابُ الحادي وكالعِشرونَ: في ذِكْرِ بعضِ القواعدِ والفوائدِ المُهِمَّةِ في بابِ الأسماءِ والصفاتِ
(ما يَجْرِي صِفةً أوْ خَبَراً على الربِّ تَبَارَكَ وتعالى أَقسامٌ:
- أحدُها: ما يَرْجِعُ إلى نفْسِ الذاتِ كقولِكَ: ذاتٌ، ومَوجودٌ، وشَيْءٌ.
- الثاني: ما يَرجعُ إلى صفاتٍ مَعنويَّةٍ كالعليمِ والقديرِ والسميعِ.
- الثالثُ: ما يَرجِعُ إلى أفعالِهِ نحوَ الخالقِ والرزَّاقِ.
- الرابعُ: ما يَرجِعُ إلى التنـزيهِ الْمَحْضِ ولا بُدَّ مِنْ تَضَمُّنِهِ ثبوتاً؛ إذ لا كَمالَ في العدَمِ الْمَحْضِ كالقدوسِ السلامِ.
- الخامسُ: ولم يَذْكُرْهُ أكثرُ الناسِ وهوَ الاسمُ الدالُّ على جُملةِ أوصافٍ عديدةٍ لا تَخْتَصُّ بصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بلْ هوَ دَالٌّ على [جُملةِ] معناهُ لا على مَعنًى مُفْرَدٍ نحوَ: المجيدِ، العظيمِ، الصمَدِ ؛ فإنَّ ((الْمَجيدَ)) مَن اتَّصَفَ بصِفاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ صفاتِ الكمالِ، ولَفْظُهُ يَدُلُّ على هذا، فإنَّهُ موضوعٌ للسَّعَةِ والكثرةِ والزيادةِ فمنهُ: “ اسْتَمْجَدَ المَرْخُ والعَفَارُ، وأَمْجَدَ النَّاقَةَ عَلَفاً، ومنهُ: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)} [البروج: 15] صِفةٌ للعَرْشِ لسَعَتِهِ وعِظَمِهِ وشَرَفِهِ.
وَتَأَمَّلْ كيفَ جاءَ هذا الاسمُ مُقْتَرِناً بطلَبِ الصلاةِ مِن اللهِ على رَسولِهِ كما عَلَّمَنَاهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؛ لأنَّهُ في مَقامِ طَلَبِ المزيدِ والتعرُّضِ لسَعَةِ العطاءِ وكَثرتِهِ ودَوامِهِ، فأَتَى في هذا المطلوبِ باسمٍ يَقتضِيهِ، كما تقولُ: اغْفِرْ لي وارْحَمْنِي إنكَ أنتَ الغفورُ الرحيمُ، ولا يَحْسُنُ: إنكَ أنتَ السميعُ البصيرُ فهوَ راجعٌ إلى الْمُتَوَسَّلِ إليهِ بأسمائِهِ وصفاتِهِ، وهوَ مِنْ أَقْرَبِ الوسائلِ وأَحَبِّها إليهِ. ((وقدْ قَرَّرْنَا في مَواضِعَ مُتعدِّدَةٍ أنَّ اللهَ سبحانَهُ يُدْعَى بأسمائِهِ الْحُسْنَى فيُسألُ لكلِّ مطلوبٍ باسمٍ يُناسبُهُ ويَقتضيهِ)) ([1]) (و... الداعي يُشْرَعُ لهُ أن يَخْتِمَ دعاءَهُ باسمٍ مِن الأسماءِ الْحُسنى مُناسِبٍ لِمَطلوبِهِ أوْ يَفْتَحَ دُعاءَهُ بهِ. و... هذا مِنْ قَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] قالَ سُليمانُ عليهِ السلامُ في دُعائِهِ لرَبِّهِ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)} [ص: 35] وقالَ الخليلُ وابنُهُ إسماعيلُ في دُعائِهِما {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)} [البقرة: 128] وكان النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقولُ: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ)) مائةَ مَرَّةٍ في مَجْلِسِهِ ([2])، وقالَ لعائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها وقدْ سَأَلَتْهُ: "إِنْ وافَقْتُ ليلةَ القَدْرِ مَا أَدْعُو بهِ؟" قالَ: قولِي: ((اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فاعْفُ عَنِّي)) ([3]) وقالَ للصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنهُ وقدْ سألَهُ أن يُعَلِّمَهُ دُعاءً يَدْعُو بهِ في صلاتِهِ ((قُل اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كَثِيراً وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) ([4])) ([5]) ومنهُ الحديثُ الذي في الْمُسْنَدِ والتِّرمذيِّ: ((أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) ([6]) ومنهُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) ([7]) فهذا سؤالٌ لهُ وَتَوَسُّلٌ إليهِ بحمْدِهِ، وأنَّهُ الذي لا إلهَ إلاَّ هوَ الْمَنَّانُ، فهوَ توسُّلٌ إليهِ بأسمائِهِ وصفاتِهِ، وما أَحَقَّ ذلكَ بالإجابةِ وأعظمَهُ مَوْقِعاً عندَ المسئولِ. وهذا بابٌ عظيمٌ مِنْ أبوابِ التوحيدِ أَشَرْنَا إليهِ إشارةً، وقدْ فُتِحَ لِمَنْ بَصَّرَهُ اللهُ.
وَلْنَرْجِعْ إلى المقصودِ وهوَ وَصْفُهُ تعالى بالاسمِ الْمُتَضَمِّنِ لصفاتٍ عديدةٍ، فـ ((العظيمُ)) مَن اتَّصَفَ بصفاتٍ كثيرةٍ مِنْ صفاتِ الكمالِ. وكذلكَ ((الصَّمَدُ)) , قالَ ابنُ عباسٍ: هوَ السيِّدُ الذي كَمُلَ في سُؤْدَدِهِ، وقالَ ابنُ وائلٍ: هوَ السيِّدُ الذي انتهى سُؤْدَدُهُ، وقالَ عِكرمةُ: الذي ليسَ فوقَهُ أَحَدٌ، وكذلكَ قالَ الزَّجَّاجُ: الذي يَنْتَهِي إليهِ السُّؤْدَدُ، فقدْ صَمَدَ لهُ كلُّ شيءٍ. وقالَ ابنُ الأنباريِّ: لا خِلافَ بينَ أهلِ اللغةِ أنَّ ((الصمَدَ)) السيِّدُ الذي ليسَ فوقَهُ أحَدٌ، الذي يَصْمُدُ إليهِ الناسُ في حوائجِهم وأمورِهم.
واشتقاقُهُ يَدُلُّ على هذا فإنَّهُ مِن الجمْعِ والقصْدِ الذي اجْتَمَعَ القصْدُ نحوَهُ واجتمَعَتْ فيهِ صِفاتُ السؤدَدِ، وهذا أصلُهُ في اللغةِ كما قالَ:

ألا بَكَّرَ الناعِي بِخَيْرِ بني أَسَدْ بعمرِو بنِ يَربوعٍ وبالسيِّدِ الصمَدْ

والعربُ تُسَمِّي أشرافَها بالصمَدِ لاجتماعِ قَصْدِ القاصدينَ إليهِ، واجتماعِ صفاتِ السيادةِ فيهِ.
- السادسُ: صفةٌ تَحْصُلُ مِن اقترانِ أحَدِ الاسمينِ والوصفينِ بالآخَرِ، وذلكَ قَدْرٌ زائدٌ على مُفْرَدَيْهِمَا نحوَ: الغنيُّ الحميدُ، العفُوُّ القديرُ، الحميدُ المجيدُ، وهكذا عامَّةُ الصِّفَاتِ المقترِنَةِ والأسماءِ المزدَوِجَةِ في القرآنِ، فإنَّ الغِنَى صِفةُ كمالٍ، والحمدَ كذلكَ، واجتماعُ الغِنَى معَ الحمْدِ كمالٌ آخَرُ، فلهُ ثَناءٌ مِنْ غِناهُ وثَناءٌ مِنْ حَمْدِهِ وثناءٌ مِن اجتماعِهما، وكذلكَ العفوُّ القديرُ، والحميدُ المجيدُ، والعزيزُ الحكيمُ فتَأَمَّلْهُ فإنَّهُ مِنْ أَشرَفِ المعارِفِ)([8]).
* * *
[فصلٌ]:
(ويَجِبُ أن يُعْلَمَ هنا أُمورٌ:
[أحدُها]: (أنَّ أسماءَهُ الْحُسْنَى لها اعتبارانِ:
اعتبارٌ مِنْ حيثُ الذاتُ.
واعتبارٌ مِنْ حيثُ الصِّفَاتُ.
فهيَ بالاعتبارِ الأوَّلِ مُترادِفَةٌ، وبالاعتبارِ الثاني مُتبايِنَةٌ) ([9]).
[الثاني]: (أنَّ ما يَدخُلُ في بابِ الإخبارِ عنهُ - تعالى - أَوْسَعُ مِمَّا يَدْخُلُ في بابِ أسمائِهِ وصِفاتِهِ، كالشيءِ الموجودِ والقائمِ بنفسِهِ فإنَّهُ يُخْبَرُ بهِ عنهُ , ولا يَدخُلُ في أسمائِهِ الْحُسْنَى وصفاتِهِ العُلْيَا). ([10])
[الثالثُ]: (أنَّ ما يُطْلَقُ عليهِ في بابِ الأسماءِ والصفاتِ تَوْقِيفِيٌّ، وما يُطْلَقُ عليهِ مِن الإخبارِ لا يَجِبُ أن يكونَ تَوْقِيفِيًّا كالقديمِ والشيءِ والموجودِ والقائمِ بنفسِهِ. فهذا فصْلُ الخطابِ في مسألةِ أسمائِهِ هلْ هيَ توقيفيَّةٌ أوْ يَجوزُ أن يُطْلَقَ عليهِ منها بعضُ ما لم يَرِدْ بهِ السمْعُ)([11]).
[الرابعُ]: (أنَّ الصفةَ إذا كانت مُنقسِمَةً إلى كمالٍ ونَقْصٍ لم تَدْخُلْ بِمُطْلَقِها في أسمائِهِ بلْ يُطْلَقُ عليهِ منها كمالُها، وهذا كالمريدِ والفاعلِ والصانعِ، فإنَّ هذهِ الألفاظَ لا تَدخلُ في أسمائِهِ، ولهذا غَلِطَ مَنْ سَمَّاهُ بالصانعِ عندَ الإطلاقِ، بلْ هوَ الفَعَّالُ لِمَا يُريدُ فإنَّ الإرادةَ والفعلَ والصنْعَ مُنقسِمَةٌ، ولهذا إِنَّمَا أَطْلَقَ على نفسِهِ مِنْ ذلكَ أَكملَهُ فِعْلاً وَخَبَراً). ([12])
[الخامسُ]: (أنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن الإخبارِ عنهُ بالفعْلِ مُقَيَّداً أن يُشْتَقَّ لهُ منهُ اسمٌ مُطْلَقٌ كما غَلِطَ فيهِ بعضُ المتأخِّرِينَ، فجَعَلَ مِنْ أسمائِهِ الْحُسْنَى الْمُضِلَّ الفاتنَ الماكرَ، تعالى اللهُ عنْ قولِهِ؛ فإنَّ هذهِ الأسماءَ لم يُطْلَقْ عليهِ سبحانَهُ منها إلاَّ أفعالٌ مَخصوصةٌ مُعَيَّنَةٌ، فلا يَجوزُ أن يُسَمَّى بأسمائِها المطلَقَةِ، واللهُ أعلمُ)([13]).
[السادسُ]: ([أنَّ] اللهَ تعالى لم يَصِفْ نفسَهُ بالكيدِ والمكْرِ والخداعِ والاستهزاءِ مُطْلَقاً، ولا ذلكَ داخلٌ في أسمائِهِ الْحُسْنَى، ومَنْ ظَنَّ مِن الْجُهَّالِ الْمُصَنِّفِينَ في شَرْحِ الأسماءِ الْحُسْنَى أنَّ مِنْ أسمائِهِ الماكرَ المخادِعَ المستهزئَ الكائدَ فقدْ فَاهَ بأمرٍ عظيمٍ تَقْشَعِرُّ منهُ الجلودُ، وتَكادُ الأسماعُ تُصَمُّ عندَ سماعِهِ، وغَرَّ هذا الجاهلَ أنَّهُ سُبحانَهُ وتعالى أَطْلَقَ على نفسِهِ هذهِ الأفعالَ فاشتَقَّ لهُ منها أسماءً، وأسماؤُهُ كلُّها حُسْنَى فأَدْخَلَها في الأسماءِ الْحُسْنَى، وأَدْخَلَها وقَرَنَها بالرحيمِ الودودِ الحكيمِ الكريمِ. وهذا جَهْلٌ عظيمٌ فإنَّ هذهِ الأفعالَ ليستْ ممدوحةً مُطْلَقاً، بلْ تُمْدَحُ في مَوضعٍ وتُذَمُّ في مَوضعٍ، فلا يَجوزُ إطلاقُ أفعالِها على اللهِ مُطْلَقاً، فلا يُقالُ: إنَّهُ تعالى يَمْكُرُ ويُخادِعُ ويَستهزئُ ويَكيدُ، فكذلكَ بطريقِ الأَوْلَى لا يُشْتَقُّ لهُ منها أسماءٌ يُسَمَّى بها، بلْ إذا كانَ لَمْ يَأْتِ في أسمائِهِ الْحُسْنَى الْمُريدُ ولا المتكلِّمُ ولا الفاعلُ ولا الصانعُ؛ لأن مُسمَّيَاتِها تَنقسمُ إلى ممدوحٍ ومَذمومٍ، وإِنَّمَا يُوصَفُ بالأنواعِ المحمودةِ منها، كالحليمِ والحكيمِ، والعزيزِ والفعَّالِ لِمَا يُريدُ، فكيفَ يكونُ منها الماكرُ المخادعُ الْمُستهزئُ.
ثُمَّ يَلْزَمُ هذا الغالطَ أن يَجْعَلَ مِنْ أسمائِهِ الْحُسْنى الداعيَ والآتيَ، والجائِيَ والذاهِبَ والقادمَ والرائدَ، والناسِيَ والقاسمَ، والساخطَ والغضبانَ واللاعنَ إلى أضعافِ ذلكَ مِن الأسماءِ التي أَطْلَقَ على نفسِهِ أفعالَها في القرآنِ، وهذا لا يَقولُهُ مُسلمٌ ولا عاقلٌ.
والمقصودُ أنَّ اللهَ سُبحانَهُ لم يَصِفْ نفسَهُ بالكيدِ والمكْرِ والْخِداعِ إلاَّ على وجهِ الجزاءِ لِمَنْ فَعَلَ ذلكَ بغيرِ حَقٍّ، وقدْ عُلِمَ أنَّ المجازاةَ على ذلكَ حسنةٌ مِن المخلوقِ، فكيفَ مِن الخالقِ سُبحانَهُ)([14])
([و] لا رَيبَ أنَّ هذهِ المعانيَ يُذَمُّ بها كثيراً، فيُقالُ: فلانٌ صاحبُ مَكرٍ وخِداعٍ وكَيْدٍ واستهزاءٍ، ولا تَكادُ تُطلَقُ على سبيلِ المدْحِ بخِلافِ أَضْدَادِها، وهذا هوَ الذي غَرَّ مَنْ جَعَلَها مَجازاً في حقِّ مَنْ يَتعالى ويَتقدَّسُ عنْ كلِّ عَيبٍ وذَمٍّ.
والصوابُ أنَّ مَعانِيَها تَنقسِمُ إلى محمودٍ ومذمومٍ؛ فالمذمومُ منها يَرجِعُ إلى الظلْمِ والكذِبِ؛ فما يُذَمُّ منها إِنَّمَا يُذَمُّ لكونِهِ مُتَضَمِّناً للكذِبِ أو الظلْمِ أوْ لهما جَميعاً، وهذا هوَ الذي ذَمَّهُ اللهُ تعالى لأهلِهِ:
-كما في قولِهِ تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] فإنَّهُ ذَكَرَ هذا عَقِيبَ قولِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)} [البقرة: 8] فكانَ هذا القولُ منهم كَذِباً وظُلْماً في حَقِّ التوحيدِ والإيمانِ بالرسولِ واتِّبَاعِهِ.
- وكذلكَ قولُهُ: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ} الآيَةَ [النحل: 45].
- وقولُهُ: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43].
- وقولُهُ: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)} [النمل: 50-51].
فلَمَّا كانَ غالبُ استعمالِ هذهِ الألفاظِ في المعاني المذمومةِ ظَنَّ الْمُعَطِّلُونَ أنَّ ذلكَ هوَ حقيقتُها، فإذا أُطْلِقَتْ لغيرِ الذمِّ كانَ مَجازاً، والحقُّ خِلافُ هذا الظنِّ، وأنَّها مُنقسِمَةٌ إلى محمودٍ ومَذمومٍ:
- فما كانَ منها مُتَضَمِّناً للكذِبِ والظلْمِ فهوَ مذمومٌ.
- وما كانَ منها بحقٍّ وعَدْلٍ ومُجازاةٍ على القبيحِ فهوَ حَسَنٌ محمودٌ؛ فإنَّ المخادِعَ إذا خادَعَ بباطلٍ وظُلْمٍ، حَسُنَ مِن الْمُجَازِي لهُ أن يَخْدَعَهُ بِحَقٍّ وعَدْلٍ، وذلكَ إذا مَكَرَ واسْتَهْزَأَ ظالماً مُتَعَدِّياً كانَ الْمَكْرُ بهِ والاستهزاءُ عَدْلاً حَسَناً كما فَعَلَهُ الصحابةُ بكَعْبِ بنِ الأشرفِ وابنِ أبي الحُقَيْقِ وأبي رافعٍ وغيرِهم مِمَّنْ كانَ يُعادِي رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فخادَعُوهُ حتَّى كَفَوْا شَرَّهُ وأَذاهُ بالقتْلِ، وكان هذا الخِداعُ والمكْرُ نُصرةً للهِ ورسولِهِ.
وكذلكَ ما خَدَعَ بهِ نُعيمُ بنُ مَسعودٍ المشركينَ عامَ الخنْدَقِ حتَّى انْصَرَفُوا.
وكذلكَ خِداعُ الْحَجَّاجِ بنِ عِلاطٍ لامرأتِهِ وأهلِ مَكَّةَ حتَّى أَخَذَ مالَهُ.
وقدْ قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((الْحَرْبُ خَدْعَةٌ)).
وجَزاءُ الْمُسيءِ بِمِثلِ إساءَتِهِ جائزٌ في جميعِ الْمِلَلِ، مُسْتَحْسَنٌ في جميعِ العقولِ. ولهذا كادَ سُبحانَهُ ليُوسفَ حينَ أَظهرَ لإخوتِهِ ما أَبْطَنَ خِلافَهُ، جزاءً لهم على كيدِهم لهُ معَ أبيهِ حيث أَظْهَرُوا لهُ أَمْراً وأَبْطَنُوا خِلافَهُ، فكان هذا مِنْ أَعدَلِ الكيدِ، فإنَّ إخوتَهُ فَعَلُوا بهِ مِثلَ ذلكَ حتَّى فَرَّقُوا بينَهُ وبينَ أبيهِ، وادَّعَوْا أنَّ الذئبَ أَكَلَهُ، ففَرَّقَ بينَهم وبينَ أخيهم بإظهارِ أنَّهُ سَرَقَ الصُّواعَ ولم يكنْ ظَالِماً لهم بذلكَ الكيدِ، حيث كانَ مقابَلَةً ومُجازاةً، ولم يكنْ أيضاً ظالِماً لأخيهِ الذي لم يَكِدْهُ بلْ كانَ إحساناً إليهِ وإكراماً لهُ في الباطنِ، وإن كانتْ طُرُقُ ذلكَ مُسْتَهْجَنَةً، لكن لَمَّا ظَهَرَ بالآخرةِ بَراءتُهُ ونَـزاهتُهُ مِمَّا قَذَفَهُ بهِ، وكان ذلكَ سبباً في اتِّصالِهِ بيُوسُفَ واختصاصِهِ بهِ، لم يكنْ في ذلكَ ضَرَرٌ عليهِ، يَبْقَى أن يُقالَ: وقدْ تَضَمَّنَ هذا الكيدُ إيذاءَ أبيهِ وتَعريضَهُ لألَمِ الْحُزْنِ على حُزْنِهِ السابقِ، فأيُّ مَصلحةٍ كانت ليَعقوبَ في ذلكَ؟
فيقالُ: هذا مِن امتحانِ اللهِ تعالى لهُ، ويُوسفُ إِنَّمَا فَعَلَ ذلكَ بالوحيِ، واللهُ تعالى لَمَّا أرادَ كرامتَهُ كَمَّلَ لهُ مَرْتَبَةَ الْمِحْنةِ والبَلْوَى ليَصْبِرَ فيَنالَ الدرجةَ التي لا يَصِلُ إليها إلاَّ على حَسَبِ الابتلاءِ، ولوْ لم يكنْ في ذلكَ إلاَّ تكميلُ فَرَحِهِ وسرورِهِ باجتماعِ شَمْلِهِ بحبيبِهِ بعدَ الفِراقِ، وهذا مِنْ كمالِ إحسانِ الربِّ تعالى أن يُذيقَ عبدَهُ مَرارةَ الكَسْرِ قبلَ حَلاوةِ الجبْرِ، ويُعَرِّفَهُ قَدْرَ نِعمتِهِ عليهِ بأن يَبتليَهُ بضِدِّهَا. كما أنَّهُ سُبحانَهُ وتعالى لَمَّا أرادَ أن يُكَمِّلَ لآدمَ نَعيمَ الجنَّةِ أذاقَهُ مَرارةَ خُروجِهِ منها، ومُقاساةَ هذهِ الدارِ الممزوجِ رَخاؤُها بشِدَّتِها، فما كَسَرَ عَبْدَهُ المؤمنَ إلاَّ لِيَجْبُرَهُ، ولا مَنَعَهُ إلاَّ لِيُعْطِيَهُ، ولا ابتلاهُ إلاَّ ليُعافِيَهُ ولا أَماتَهُ إلاَّ ليُحْيِيَهُ، ولا نَغَّصَ عليهِ الدنيا إلاَّ لِيُرَغِّبَهُ في الآخرةِ، ولا ابتلاهُ بِجَفَاءِ الناسِ إلاَّ لِيَرُدَّهُ إليهِ.
فعُلِمَ أنَّهُ لا يَجوزُ ذمُّ هذهِ الأفعالِ على الإطلاقِ، كما لا تُمْدَحُ على الإطلاقِ، والمكْرُ والكيدُ والخداعُ لا يُذَمُّ مِنْ جِهةِ العِلْمِ ولا مِنْ جِهةِ القُدرةِ، فإنَّ العلْمَ والقدرةَ مِنْ صفاتِ الكمالِ، وإِنَّمَا يُذَمُّ ذلكَ مِنْ جِهةِ سوءِ القَصْدِ وفَسادِ الإرادةِ، وهوَ أنَّ الماكرَ المخادعَ يَجورُ ويَظلمُ بفِعْلِ ما ليسَ لهُ فِعْلُهُ أوْ تَرْكِ ما يَجِبُ عليهِ فِعْلُهُ)([15]).
[السابعُ]: أنَّ أسماءَهُ تعالى:
- منها: ما يُطْلَقُ عليهِ مُفْرَداً ومُقْتَرِناً بغيرِهِ: وهوَ غالبُ الأسماءِ كالقديرِ والسميعِ والبصيرِ والعزيزِ والحكيمِ. وهذا يُسَوِّغُ أن يُدْعَى بهِ مُفْرَداً ومُقْتَرِناً بغيرِهِ، فتقولُ: يا عزيزُ يا حليمُ يا غفورُ يا رحيمُ. وأن يُفْرَدَ كلُّ اسمٍ.
وكذلكَ في الثناءِ عليهِ والخبرِ عنهُ بما يُسَوِّغُ لكَ الإفرادَ والجمْعَ.
- ومنها: ما لا يُطْلَقُ عليهِ بِمُفردِهِ بلْ مَقروناً بِمُقَابِلِهِ: كالمانِعِ والضارِّ والمنتقِمِ، فلا يَجوزُ أن يُفْرَدَ هذا عنْ مُقابِلِهِ فإنَّهُ مَقرونٌ بالْمُعْطِي والنافعِ والعفُوِّ، فهوَ المعطِي المانعُ، الضارُّ النافعُ، المنتقِمُ العفُوُّ، المعِزُّ المذِلُّ؛ لأنَّ الكمالَ في اقترانِ كلِّ اسمٍ مِنْ هذهِ بما يُقابِلُهُ؛ لأنَّهُ يُرادُ بهِ أنَّهُ المنفرِدُ بالربوبيَّةِ وتدبيرِ الخلْقِ والتصَرُّفِ فيهم عَطاءً ومَنْعاً ونَفْعاً وضَرًّا وعَفْواً وانتقاماً. وأمَّا أن يُثْنَى عليهِ بمُجَرَّدِ المنْعِ والانتقامِ والإضرارِ فلا يَسُوغُ.
فهذهِ الأسماءُ المزدوِجَةُ تَجْرِي الأسماءُ منها مَجْرَى الاسمِ الواحدِ الذي يَمْتَنِعُ فَصْلُ بعضِ حُروفِهِ عنْ بعضٍ، فهيَ - وإن تَعَدَّدَتْ - جاريَةٌ مَجْرَى الاسمِ الواحدِ، ولذلكَ لم تَجِئْ مُفْرَدَةً، ولم تُطْلَقْ عليهِ إلاَّ مُقْتَرِنَةً، فاعْلَمْهُ.
فلوْ قُلتَ: يا مُذِلُّ يا ضَارُّ يا مانعُ، وأَخْبَرْتَ بذلكَ لم تكنْ مُثْنِياً عليهِ ولا حامداً لهُ حتَّى تَذْكُرَ مُقابِلَها)([16]).
[الثامنُ]: ([أنَّ] أسماءَ الربِّ تعالى... أعلامٌ دالَّةٌ على مَعَانٍ هيَ بها أوصافٌ فلا تُضادُّ فيها العَلَمِيَّةُ الوَصْفَ، بخِلافِ غيرِها مِنْ أسماءِ المخلوقينَ؛ فهوَ: اللهُ الخالقُ البارئُ الْمُصَوِّرُ، القَهَّارُ. فهذه أسماءٌ لهُ دَالَّةٌ على مَعَانٍ هيَ صفاتُهُ ([17])...
و[مِمَّا يُبَيِّنُ ذلكَ أنَّ]... أسماءَ الربِّ تعالى كلَّها أسماءُ مَدْحٍ، فلوْ كانتْ أَلْفَاظاً مُجَرَّدةً، لا معانيَ لها لَمْ تَدُلَّ على الْمَدْحِ، وقدْ وَصَفَها اللهُ سُبحانَهُ بأنَّها حُسْنَى كلَّها فقالَ: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف: 180] فهيَ لم تكنْ حُسْنَى لِمُجَرَّدِ اللَّفظِ, بلْ لدَلالتِها على أوصافِ الكمالِ، ولهذا لَمَّا سَمِعَ بعضُ العربِ قَارِئاً يَقرأُ [المائدة: 38]: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} -واللهُ غفورٌ رحيمٌ - قالَ: ليسَ هذا كلامَ اللهِ تعالى، فقالَ القارئُ: أَتُكَذِّبُ بِكَلامِ اللهِ تعالى؟ فقالَ: لا، ولكنْ ليسَ هذا بكلامِ اللهِ، فعادَ إلى حِفْظِهِ وقَرَأَ: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} فقالَ الأعرابيُّ: صَدَقْتَ، عَزَّ فَحَكَمَ فَقَطَعَ، وَلَوْ غَفَرَ وَرَحِمَ لَمَا قَطَعَ.
ولهذا إذا خُتِمَتْ آيَةُ الرحمةِ باسمِ عذابٍ أوْ بالعكسِ، ظَهَرَ تَنَافُرُ الكلامِ وعَدَمُ انتظامِهِ. وفي السُّنَنِ مِنْ حديثِ أُبَيِّ بنِ كعبٍ حديثُ: ((قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ)) ثُمَّ قالَ: ((لَيْسَ مِنْهَا إِلاَّ شَافٍ كَافٍ إِنْ قُلْتَ سَمِيعاً عَلِيماً عَزِيزاً حَكِيماً مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ، أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ)) ([18]). ولوْ كانت هذهِ الأسماءُ أَعلاماً مَحْضَةً لا مَعْنَى لها لم يكنْ فَرْقٌ بينَ خَتْمِ الآيَةِ بهذا أوْ بهذا.
(([و] لوْ كانت ألفاظاً لا مَعانِيَ فيها لم تكنْ حُسْنَى، ولا كانتْ دَالَّةً على مَدْحٍ ولا كمالٍ. ولَسَاغَ وُقوعُ أسماءِ الانتقامِ والغضَبِ في مَقامِ الرحمةِ والإحسانِ، وبالعكسِ. فيقالُ: اللَّهمَّ إني
ظَلمتُ نفسِي، فاغْفِرْ لي إنكَ أنتَ المنتقِمُ، واللَّهمَّ أَعْطِنِي، فإنكَ أنتَ الضارُّ المانعُ، ونحوَ ذلكَ)) ([19])
- وأيضاً فإنَّهُ سبحانَهُ يُعَلِّلُ أحكامَهُ وأفعالَهُ بأسمائِهِ، ولوْ لم يكنْ لها معنًى لَمَا كانَ التعليلُ صحيحاً كقولِهِ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)} [نوح: 10]) ([20]).
(وفي هذا أَظهرُ الدَّلالةِ على أنَّ أسماءَ الربِّ تعالى مُشْتَقَّةٌ مِنْ أوصافٍ وَمَعَانٍ قامَتْ بهِ، وأنَّ كلَّ اسمٍ يُناسِبُ ما ذُكِرَ مَعَهُ، واقْتَرَنَ بِهِ، مِنْ فِعْلِهِ وَأَمْرِهِ). ([21])
- (وأيضاً فإنَّهُ سُبحانَهُ يُسْتَدَلُّ بأسمائِهِ على توحيدِهِ ونَفْيِ الشريكِ عنهُ - ولوْ كانتْ أسماءً لا مَعْنَى لها لم تَدُلَّ على ذلكَ - كقولِ هارونَ لِعَبَدَةِ العِجْلِ: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ}[طه: 90] وقولِهِ سُبحانَهُ في القِصَّةِ: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)} [طه: 98] وقولـِهِ تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163] وقولـِهِ سُبحانَهُ في آخِرِ سُورةِ الحشْرِ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} [الحشر: 22-23] فسَبَّحَ نفسَهُ عنْ شِرْكِ المشركينَ بهِ عَقِبَ تَمَدُّحِهِ بأسمائِهِ الْحُسْنَى الْمُقْتَضِيَةِ لتوحيدِهِ واستحالةِ إثباتِ شريكٍ لهُ.
ومَنْ تَدَبَّرَ هذا المعنى في القرآنِ هَبَطَ بهِ على رِياضٍ مِن العلْمِ حَمَاهَا اللهُ عنْ كلِّ أَفَّاكٍ مُعْرِضٍ عنْ كتابِ اللهِ واقتباسِ الْهُدَى منهُ. ولوْ لم يكنْ في كتابِنا هذا إلاَّ هذا الفضْلُ وحدَهُ لكَفَى مَنْ لهُ ذَوقٌ ومَعرفةٌ، واللهُ الموَفِّقُ للصوابِ) ([22]).
- (وأيضاً: لوْ لم تكنْ أسماؤُهُ مُشتمِلَةً على مَعَانٍ وصِفَاتٍ لم يَسُغْ أن يُخْبَرَ عنهُ بأفعالِها. فلا يقالُ: يَسْمَعُ ويَرَى، ويَعْلَمُ ويُقَدِّرُ ويُريدُ. فإنَّ ثُبوتَ أحكامِ الصِّفَاتِ فرْعُ ثبوتِها. فإذا انْتَفَى أَصْلُ الصفةِ استحالَ ثُبوتُ حُكْمِها.
- وأيضاً فلوْ لم تكنْ أسماؤُهُ ذواتِ معانٍ وأوصافٍ لكانتْ جامدةً كالأعلامِ الْمَحضةِ التي لم تُوضَعْ لِمُسَمَّاهَا باعتبارِ معنًى قامَ بهِ. فكانتْ كلُّها سواءً، ولم يكنْ فرْقٌ بينَ مدلولاتِها. وهذا مكابَرَةٌ صريحةٌ، وبُهْتٌ بَيِّنٌ. فإنَّ مَنْ جَعَلَ معنى اسمِ ((القديرِ)) هوَ معنى اسمِ ((السميعِ، البصيرِ)) ومعنى اسمِ ((التوَّابِ)) هوَ مـــعنَى اسـمِ ((المنتقِمِ)) ومـعـنى اسمِ ((المعـطِي)) هوَ معـنى اسمِ ((المانـعِ)) فقدْ كابَرَ العقلَ واللغةَ والفطرةَ) ([23]).
- (وأيضاً فإنَّ اللهَ سُبحانَهُ يُعَلِّقُ بأسمائِهِ المعمولاتِ مِن الظروفِ والجارِّ والمجرورِ وغيرِهما, ولوْ كانتْ أعلاماً مَحْضَةً لم يَصِحَّ فيها ذلكَ كقولِهِ: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} [النور: 35] {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)} [التوبة: 47]، {فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)} [آل عمران: 63]، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)} [الأحزاب: 43]، {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)} [التوبة: 117]، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} [البقرة: 284]، {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)} [البقرة: 19]، {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)} [النساء: 39]، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)} [الكهف: 45]، {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)} [هود: 111]، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحجرات: 18]، {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)} [الشورى: 27] ونظائرُهُ كثيرةٌ.
- وأيضاً فإنَّهُ سبحانَهُ يَجعلُ أسماءَهُ دَليلاً على ما يُنكرُهُ الجاحدونَ مِنْ صفاتِ كمالِهِ كقولِهِ تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14]). ([24])
[والمقصودُ] أنَّ أسماءَهُ الْحُسْنَى... أعلامٌ وأوصافٌ والوصفُ بها لا يُنافِي العَلَمِيَّةَ بخلافِ أوصافِ العِبادِ فإنَّها تُنافِي عَلَمِيَّتَهم؛ لأنَّ أوصافَهم مُشترِكَةٌ فنافَتْها العَلَميَّةُ المُخْتَصَّةُ بخلافِ أوصافِهِ تعالى.
[التاسعُ]: (أنَّ صفاتِ الربِّ جلَّ جلالُهُ داخلةٌ في مُسَمَّى اسمِهِ. فليسَ اسمُهُ ((اللهُ، والربُّ، والإلهُ)) أسماءً لذاتٍ مُجَرَّدةٍ لا صِفَةَ لها الْبَتَّةَ. فإنَّ هذهِ الذاتَ المُجَرَّدةَ وُجودُها مستحيلٌ. وإِنَّمَا يَفْرِضُها الذهْنُ فرْضَ الْمُمْتَنِعَاتِ. ثُمَّ يَحْكُمُ عليها. واسمُ ((اللهِ)) سُبحانَهُ ((والربِّ، والإلهِ)) اسمٌ لذاتٍ لها جميعُ صِفاتِ الكمالِ ونعوتِ الجلالِ. كالعلْمِ، والقُدرةِ، والحياةِ، والإرادةِ، والكلامِ، والسمعِ والبصرِ، والبقاءِ، والقِدَمِ وسائرِ الكمالِ الذي يَسْتَحِقُّهُ اللهُ لذاتِهِ. فصفاتُهُ داخلةٌ في مُسَمَّى اسْمِهِ. فتجريدُ الصِّفَاتِ عن الذاتِ، والذاتِ عن الصِّفَاتِ: فرْضٌ وخيالٌ ذِهْنِيٌّ لا حقيقةَ لهُ. وهوَ أمْرٌ اعتباريٌّ لا فائدةَ فيهِ. ولا يَترتَّبُ عليهِ معرفةٌ ولا إيمانٌ، ولا هوَ عَلَمٌ في نفسِهِ. وبهذا أجابَ السلَفُ الجهميَّةَ لَمَّا اسْتَدَلُّوا على خَلْقِ القرآنِ. بقولِهِ تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] قالوا: والقرآنُ شيءٌ.
فأجابَهم السلَفُ بأنَّ القرآنَ كلامُهُ، وكلامُهُ مِنْ صفاتِهِ، وصفاتُهُ داخلةٌ في مُسَمَّى اسمِهِ كعِلْمِهِ وقُدرتِهِ وحياتِهِ وسَمْعِهِ وبصرِهِ ووَجهِهِ ويَدَيْهِ، فليسَ (اللهُ) اسماً لذاتٍ لا نعتَ لها ولا صفةَ ولا فعلَ ولا وجهَ ولا يدينِ. ذلكَ إلهٌ معدومٌ مَفروضٌ في الأذهانِ، لا وجودَ لهُ في الأعيانِ كإلهِ الْجَهميَّةِ، الذي فَرَضوهُ غيرَ خارجٍ عن العالَمِ ولا داخلٍ فيهِ ولا مُتَّصِلٍ بهِ ولا مُنفصِلٍ عنهُ ولا مُحايثٍ لهُ ولا مُبايِنٍ.
وكإلهِ الفلاسفةِ الذي فَرضوهُ وُجوداً مُطْلَقاً لا يَتَخَصَّصُ بصفةٍ ولا نَعْتٍ ولا لهُ مَشيئةٌ ولا قُدرةٌ ولا إرادةٌ ولا كلامٌ.
وكإلهِ الاتحاديَّةِ الذي فَرضوهُ وُجوداً سارياً في الموجوداتِ ظاهراً فيها، هوَ عينُ وجودِها.
وكإلهِ النصارَى الذي فَرضوهُ قد اتَّخَذَ صاحبةً وولداً، وتَدَرَّعَ بناسوتَ وَلَدِهِ، واتَّخَذَ منهُ حِجاباً.
فكلُّ هذهِ الآلهةِ مِمَّا عَمِلَتْهُ أيدي أَفْكَارِها.
وإلهُ العالمينَ الحقُّ هوَ الذي دَعَتْ إليهِ الرسُلُ وعَرَفُوهُ بأسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ فوقَ سماواتِهِ على عرشِهِ بائنٌ مِنْ خَلْقِهِ، موصوفٌ بكلِّ كمالٍ، منـزَّهٌ عنْ كلِّ نَقْصٍ، لا مِثالَ لهُ، ولا شريكَ، ولا ظهيرَ، ولا يَشفعُ عندَهُ أَحَدٌ إلاَّ بإذنِهِ {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)} [الحديد: 3] غَنِيٌّ بذاتِهِ عنْ كلِّ ما سِواهُ، وكلُّ ما سِواهُ فقيرٌ إليهِ بذاتِهِ). ([25])
[العاشرُ]: (أنَّ أسماءَ الربِّ تَبارَكَ وتعالى دالَّةٌ على صفاتِ كمالِهِ. فهيَ مُشْتَقَّةٌ مِن الصِّفَاتِ. فهيَ أسماءٌ، وهيَ أوصافٌ. وبذلكَ كانتْ حُسْنَى)([26]) [فـ](الاسمُ إذا أُطْلِقَ عليهِ جازَ أن يُشْتَقَّ منهُ المصدَرُ والفعلُ، فيُخْبَرُ بهِ عنهُ فِعْلاً ومَصدراً نحو السميعِ البصيرِ القديرِ، يُطْلَقُ عليهِ منهُ السمْعُ والبصَرُ والقُدرةُ، ويُخْبَرُ عنهُ بالأفعالِ مِنْ ذلكَ نحوَ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [المجادلة: 1]. {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)} [المرسلات: 23] هذا إن كانَ الفعلُ مُتَعَدِّياً. فإن كانَ لازماً لم يُخْبَرْ عنهُ بهِ نحوَ الحيِّ، بلْ يُطْلَقُ عليهِ الاسمُ والمصدَرُ دونَ الفعْلِ فلا يقالُ: حَيِيَ)([27]).
[الحاديَ عشرَ]: ([أنَّ] الربَّ - تعالى – يُشتَقُّ لهُ مِنْ أوصافِهِ وأفعالِهِ أسماءٌ، ولا يُشْتَقُّ لهُ مِنْ مَخلوقاتِهِ. وكلُّ اسمٍ مِنْ أسمائِهِ فهوَ مُشْتَقٌّ مِنْ صفةٍ مِنْ صفاتِهِ، أوْ فـعـلٍ قـائـمٍ بهِ، فـلوْ كانَ يُشتَقُّ لهُ اسمٌ باعتبارِ المخلوقِ المنفصِلِ [كان] يُسَمَّى مُتَكَوِّناً ومُتَحَرِّكاً وساكناً وطويلاً وأبيضَ وغيرَ ذلكَ؛ لأنَّهُ خالقُ هذهِ الصِّفَاتِ.
فلَمَّا لم يُطْلَقْ عليهِ اسمٌ مِنْ ذلكَ معَ أنَّهُ خالقُهُ عُلِمَ أنَّهُ يَشْتَقُّ أسماءَهُ مِنْ أفعالِهِ وأوصافِهِ القائمةِ بهِ. وهوَ سُبحانَهُ لا يَتَّصِفُ بما هوَ مخلوقٌ منفصِلٌ عنهُ، ولا يَتَسَمَّى باسمِهِ.
ولهذا كانَ قولُ مَنْ قالَ: إنَّهُ يُسَمَّى مُتَكَلِّماً بكلامٍ مُنفصِلٍ عنهُ وَخَلَقَهُ في غيرِهِ، ومُريداً بإرادةٍ منفصِلةٍ عنهُ، وعادلاً بِعَدْلٍ مخلوقٍ منفصلٍ عنهُ، وخالقاً بِخَلْقٍ منفصلٍ عنهُ هوَ المخلوقُ، قَوْلاً باطلاً مخالِفاً للعقْلِ والنقْلِ واللغةِ، معَ تناقُضِهِ في نفسِهِ. فإن اشتُقَّ لهُ اسمٌ باعتبارِ مخلوقاتِهِ لَزِمَ طَرْدُ ذلكَ في كلِّ صِفَةٍ أوْ فعلٍ خَلَقَهُ ([28])، وإن خُصَّ ذلكَ ببعضِ الأفعالِ والصفاتِ دونَ بعضٍ كانَ تَحَكُّماً لا مَعْنَى لهُ.
وحقيقةُ قولِ هؤلاءِ أنَّهُ لم يَقُمْ بهِ عَدْلٌ ولا إحسانٌ ولا كلامٌ ولا إرادةٌ، ولا فِعْلٌ الْبَتَّةَ، ومَنْ تَجَهَّمَ منهم نَفَى حقائقَ الصِّفَاتِ، وقالَ: لم تَقُمْ بهِ صفةٌ ثُبوتيَّةٌ؛ فنَفَوْا صفاتِهِ ورَدُّوهَا إلى السُّلوبِ والإضافاتِ، ونَفَوْا أفعالَهُ ورَدُّوهَا إلى المصنوعاتِ المخلوقاتِ.
وحقيقةُ هذا أنَّ أسماءَهُ تعالى ألفاظٌ فارغةٌ عن المعاني لا حقائقَ لها، وهذا مِن الإلحادِ فيها، وإنكارِ أن تكونَ حُسْنَى. وقدْ قالَ تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف: 180].
وقدْ دَلَّ القرآنُ والسُّنَّةُ على إثباتِ مصادرِ هذهِ الأسماءِ لهُ سُبحانَهُ وَصْفاً كقولِهِ تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة: 165]، وقولِهِ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 58] وقولِهِ: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14]. وقولِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ ما انتهى إليهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)) ([29])، وقولِ عائشةَ: ((الْحَمْدُ للهِ الذي وَسِعَ سمْعُهُ الأصواتَ)) ([30])، وقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ)). ([31]) وقولِهِ: ((أَسْأَلُكَ [بِعِلْمِكَ] الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ)) ([32])، وقولِهِ: ((أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ أَنْ تُضِلَّني)) ([33])، ولولا هذهِ المصادِرُ لانْتَفَتْ حقائقُ الأسماءِ والصفاتِ والأفعالِ، فإنَّ أفعالَهُ غيرُ صفاتِهِ، وأسماءَهُ غيرُ صِفاتِهِ، فإذا لم يَقُمْ بهِ فِعْلٌ ولا صفةٌ فلا معنَى للاسمِ المُجَرَّدِ، وهوَ بمنـزِلةِ صوتٍ لايُفيدُ شيئاً، وهذا غايَةُ الإلحادِ) ([34]).
[الثانيَ عشرَ]: (أنَّ الاسمَ مِنْ أسمائِهِ تَبارَكَ وتعالى كما يَدُلُّ على الذاتِ والصفةِ التي اشْتُقَّ منها بالمطابَقَةِ. فإنَّهُ يَدُلُّ عليهِ دَلالتينِ أُخْرَيَيْنِ بالتَّضَمُّنِ واللُّزُومِ؛ فيَدُلُّ على الصفةِ بمفردِها بالتضمُّنِ، وكذلكَ على الذاتِ المُجَرَّدةِ عن الصفةِ، ويَدُلُّ على الصفةِ الأخرى باللزومِ؛ فإنَّ اسمَ ((السميعِ)):
- يَدُلُّ على ذاتِ الربِّ وسَمْعِهِ بالمطابَقَةِ.
- وعلى الذاتِ وَحْدَها، وعلى السمْعِ وَحْدَهُ بالتضَمُّنِ.
- ويَدُلُّ على اسمِ ((الحيِّ)) وصفةِ الحياةِ بالالتزامِ.
وكذلكَ سائرُ أسمائِهِ وصفاتِهِ. ولكن يَتفاوَتُ الناسُ في مَعرفةِ اللزومِ وعَدَمِهِ؛ ومِنْ هاهنا يَقَعُ اختلافُهم في كثيرٍ مِن الأسماءِ والصفاتِ والأحكامِ؛ فإنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ الفعلَ الاختياريَّ لازمٌ للحياةِ، وأنَّ السمعَ والبصرَ لازمٌ للحياةِ الكاملةِ، وأنَّ سائرَ الكمالِ مِنْ لوازمِ الحياةِ الكاملةِ أَثْبَتَ مِنْ أسماءِ الربِّ وصفاتِهِ وأفعالِهِ ما يُنْكِرُهُ مَنْ لم يَعرفْ لُزومَ ذلكَ، ولا عَرَفَ حقيقةَ الحياةِ ولوازمَها، وكذلكَ سائرُ صفاتِهِ.
فإنَّ اسمَ ((العظيمِ)) لهُ لوازمُ يُنْكِرُهَا مَنْ لم يَعرِفْ عَظمةَ اللهِ ولوازمَها.
وكذلكَ اسمُ ((العليِّ)) واسمُ ((الحكيمِ)) وسائرُ أسمائِهِ، فإنَّ مِنْ لوازمِ اسمِ ((العليِّ)) العُلُوَّ المطلَقَ، بكلِّ اعتبارٍ. فلهُ العلُوُّ المطلَقُ مِنْ جميعِ الوُجوهِ: عُلُوُّ القَدْرِ، وعلُوُّ القهْرِ، وعُلُوُّ الذاتِ. فمَنْ جَحَدَ عُلُوَّ الذاتِ فقدْ جَحَدَ لوازِمَ اسمِهِ ((العلِيِّ)).
وكذلكَ اسمُهُ ((الظاهرُ)) مِنْ لوازمِهِ: أن لا يكونَ فوقَهُ شيءٌ، كما في الصحيحِ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((وَأَنْتَ الظَّاهِرُ، فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ)) ([35]) بلْ هوَ سبحانَهُ فوقَ كلِّ شيءٍ؛ فمَنْ جَحَدَ فَوقيَّتَهُ سُبحانَهُ فقدْ جَحَدَ لوازِمَ اسمِهِ ((الظاهرِ)) , ولا يَصِحُّ أن يكونَ ((الظاهرُ)) هوَ مَنْ لهُ فَوقيَّةُ القَدْرِ فقطْ، كما يُقالُ: الذهَبُ فوقَ الفِضَّةِ، والجوهَرُ فوقَ الزُّجاجِ. لأنَّ هذهِ الفوقيَّةَ تَتعلَّقُ بالظهورِ، بلْ قدْ يكونُ الْمَفُوقُ أظهَرَ مِن الفائقِ فيها. ولا يَصِحُّ أن يكونَ ظهورَ القهْرِ والغلبةِ فقطْ، وإن كانَ سُبحانَهُ ظاهراً بالقهرِ والغَلبةِ، لمقابَلَةِ الاسمِ بـ ((الباطنِ)) وهوَ الذي ليسَ دونَهُ شيءٌ، كما قابَلَ ((الأوَّلَ)) الذي ليسَ قَبْلَهُ شيءٌ، بـ ((الآخِرِ)) الذي ليسَ بعدَهُ شيءٌ.
وكذلكَ اسمُ ((الحكيمِ)) مِنْ لوازمِهِ ثبوتُ الغاياتِ المحمودةِ المقصودةِ لهُ بأفعالِهِ، ووَضْعُهُ الأشياءَ في مَوْضِعِها، وإيقاعُها على أَحسَنِ الوُجوهِ. فإنكارُ ذلكَ إنكارٌ لهذا الاسمِ ولوازمِهِ؛ وكذلكَ سائرُ أسمائِهِ الْحُسْنَى). ([36])
[والمقصودُ] (أنَّ الاسمَ مِنْ أسمائِهِ [تعالى] لهُ دَلالاتٌ؛ دَلالةٌ على الذاتِ والصفةِ بالمطابَقَةِ، ودَلالةٌ على أحدِهما بالتضَمُّنِ، ودَلالةٌ على الصفةِ الأخرى باللزومِ)([37]).
(ودلالةُ الأسماءِ أنواعٌ ثلا = ثٌ كلُّها معلومةٌ ببيانِ
دَلَّتْ مُطابَقةً كذاكَ تَضَمُّناً = وكذا التزاماً واضحَ البرهانِ
أمَّا مطابَقةُ الدَّلالةِ فهيَ أنَّ = الاسمَ يُفهَمُ منهُ مَفهومانِ
ذاتُ الإلَهِ وذلكَ الوصْفُ الذي = يُشْتَقُّ منهُ الاسمُ بالْمِيزانِ
لكنْ دلالتُهُ على إحداهما = بِتَضَمُّنٍ فافْهَمْهُ فَهْمَ بيانِ
وكذا دَلالتُهُ على الصِّفَةِ التي = ما اشْتُقَّ منها فالتزامٌ دانِ
وإذا أَردتَ لذا مِثالاً بَيِّناً = فمِثالُ ذلكَ لفظةُ ((الرحمنِ))
ذاتُ الإلهِ ورحمةٌ مَدْلُولُها = فهما لهذا اللفظِ مَدلولانِ
إحداهما بعضٌ لذا الموضوعِ فهْـ = ـيَ تضمناً واضحُ التِّبيانِ
لكنَّ وَصْفَ الحيِّ لازمُ ذلكَ الْـ = ـمعنى لُزومَ العلْمِ للرحمنِ
فلذا دَلالتُهُ عليهِ بالتزا = مٍ بَيِّنٍ والحقُّ ذو تِبيانِ) ([38])
[الثالثَ عشرَ]: (أنَّ الربَّ سُبحانَهُ وتعالى لهُ الأسماءُ الْحُسْنَى، وأسماؤُهُ مُتضمِّنَةٌ لصفاتِ كمالِهِ، وأفعالُهُ ناشئةٌ عنْ صِفاتِهِ، فإنَّهُ سُبحانَهُ لم يَسْتَفِدْ كمالاً بأفعالِهِ، بلْ لهُ الكمالُ التامُّ المطلَقُ، وفِعَالُهُ عنْ كَمَالِهِ، والمخلوقُ كَمَالُهُ عَنْ فِعَالِهِ؛ فإنَّهُ فَعَلَ فَكَمُلَ بِفِعْلِهِ، وأسماؤُهُ الْحُسنى تَقتضِي آثارَها، وتَستلزِمُها استلزامَ المقتضِي الموجِبِ لموجَبِهِ ومُقتضاهُ، فلا بُدَّ مِنْ ظهورِ آثارِها في الوُجودِ، فإنَّ مِنْ أسمائِهِ الخلاَّقَ المقتضِيَ لوُجودِ الخلْقِ، ومِنْ أسمائِهِ الرزَّاقَ المقتضِيَ لوُجودِ الرزْقِ والمرزوقِ، وكذلكَ الغَفَّارُ والتوَّابُ والحكيمُ والعَفُوُّ، وكذلكَ الرحمنُ الرحيمُ، وكذلكَ الحَكَمُ العَدْلُ إلى سائرِ الأسماءِ، ومنها الحكيمُ المستلزِمُ لظهورِ حِكْمَتِهِ في الوُجودِ، والوجودُ مُتَضَمِّنٌ لخلْقِهِ وأَمْرِهِ، {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]. فَخَلْقُهُ وأَمْرُهُ صَدَرَا عنْ حِكمتِهِ وعِلْمِهِ، وحِكمتُهُ وعِلْمُهُ اقْتَضَيَا ظُهورَ خَلْقِهِ وأَمْرِهِ، فمَصدَرُ الخلْقِ والأمْرِ عنْ هذينِ المتضَمِّنَيْنِ لهاتينِ الصفتينِ؛ ولهذا يَقْرِنُ سبحانَهُ بينَهما عندَ ذِكْرِ إنـزالِ كتابِهِ، وعندَ ذِكْرِ مُلْكِهِ ورُبوبيَّتِهِ؛ إذ هما مَصْدَرُ الخلْقِ والأمْرِ، ولَمَّا كانَ سُبحانَهُ كاملاً في جميعِ أوصافِهِ، ومِنْ أجَلِّها حِكمتُهُ كانتْ عامَّةَ التعلُّقِ بكلِّ مقدورٍ، كما أنَّ عِلْمَهُ عامُّ التَّعَلُّقِ بكلِّ معلومٍ، ومَشيئتَهُ عامَّةُ التعَلُّقِ بكلِّ موجودٍ، وسَمْعَهُ وبَصرَهُ عامُّ التعلُّقِ بكلِّ مسموعٍ ومَرْئِيٍّ، فهذا مِنْ لوازمِ صِفاتِهِ فلا بُدَّ أنْ تكونَ حِكمتُهُ عامَّةَ التَّعَلُّقِ بكلِّ ما خَلَقَهُ وقَدَّرَهُ وأَمَرَ بهِ ونَهَى عنهُ، وهذا أَمْرٌ ذاتِيٌّ للصفةِ يَمْتَنِعُ تَخَلُّفُهُ وانفكاكُهُ عنها، كما يَمتنِعُ تَخَلُّفُ الصفةِ نفسِها وانفكاكُها عنه) ([39]).
([والمقصودُ] أنَّ أفعالَ الربِّ تبارَكَ وتعالى صادرةٌ عنْ أسمائِهِ وصفاتِهِ، وأسماءَ المخلوقينَ صادرةٌ عنْ أفعالِهم.
فالربُّ تَبَارَكَ وتعالى فِعالُهُ عنْ كمالِهِ، والمخلوقُ كمالُهُ عنْ فِعالِهِ، فاشتُقَّتْ لهُ الأسماءُ بعدَ أنْ كَمُلَ بالفعْلِ. فالربُّ لم يَزَلْ كامِلاً فحَصَلَتْ أَفعالُهُ عنْ كمالِهِ؛ لأنَّهُ كاملٌ بذاتِهِ وصفاتِهِ، فأفعالُهُ صادرةٌ عنْ كمالِهِ، كَمُلَ فَفَعَلَ، والمخلوقُ فَعَلَ فَكَمُلَ الكمالَ اللائقَ به)([40]).
[الرابعَ عشرَ]: (أنَّ الربَّ سُبحانَهُ كاملٌ في أوصافِهِ وأسمائِهِ وأفعالِهِ فلا بُدَّ مِنْ ظهورِ آثارِها في العالمِ، فإنَّهُ محسنٌ، ويَستحيلُ وُجودُ الإحسانِ بدونِ مَنْ يُحْسِنُ إليهِ، ورَزَّاقٌ فلا بُدَّ مِنْ وُجودِ مَنْ يَرْزُقُهُ، وغَفَّارٌ، وحليمٌ، وجَوَادٌ، ولطيفٌ بعِبادِهِ، ومَنَّانٌ، ووَهَّابٌ، وقابضٌ، وباسطٌ، وخافضٌ، ورافعٌ، ومُعِزٌّ، ومُذِلٌّ، وهذه الأسماءُ تَقتضِي مُتَعَلِّقَاتٍ تَتَعَلَّقُ بها وآثاراً تَتَحَقَّقُ بها. فلم يكنْ بُدٌّ مِنْ وُجودِ مُتَعَلِّقَاتِها وإلاَّ تَعطَّلتْ تلكَ الأوصافُ وبَطَلَتْ تلكَ الأسماءُ، فتَوسُّطُ تلكَ الآثارِ لا بُدَّ منهُ في تَحَقُّقِ معاني تلكَ الأسماءِ والصفاتِ)([41]) .
([فإ]نه سُبحانَهُ أَبْرَزَ خَلْقَهُ مِن العَدَمِ إلى الوُجودِ ليُجْرِيَ عليهِ أحكامَ أسمائِهِ وصفاتِهِ، فيُظْهِرَ كمالَهُ الْمُقَدَّسَ، وإن كانَ لم يَزَلْ كاملاً، فمِنْ كمالِهِ ظُهورُ آثارِ كمالِهِ في خَلْقِهِ وأَمْرِهِ، وقضائِهِ وقَدَرِهِ، ووَعدِهِ ووَعيدِهِ، ومَنْعِهِ وإعطائِهِ، وإكرامِهِ وإهانتِهِ، وعَدْلِهِ وفضْلِهِ، وعَفْوِهِ وإنعامِهِ، وسَعَةِ حِلْمِهِ، وشِدَّةِ بَطْشِه)([42]) (فإنَّ لكلِّ صفةٍ مِن الصِّفَاتِ العُلْيَا حُكماً ومُقتضياتٍ وأَثَراً هوَ مَظْهَرُ كمالِها وإن كانت كاملةً في نفسِها، لكنَّ ظهورَ آثارِها وأحكامِها مِنْ كمالِها فلا يَجوزُ تَعطيلُهُ.
فإنَّ صِفةَ القادِرِ تَستدعِي مَقدوراً، وصِفَةَ الخالقِ تَستدعِي مَخلوقاً وصِفةَ الوَهَّابِ الرازقِ المعطِي المانعِ الضارِّ النافعِ المقدِّمِ المؤخِّرِ المعِزِّ المذِلِّ العفُوِّ الرؤوفِ تَستدعِي آثارَها وأحكامَها)([43]).
(وقد اقْتَضَى كمالُهُ المقدَّسُ سُبحانَهُ أنَّهُ كلَّ يومٍ هوَ في شأنٍ. فمِنْ جُملةِ شُؤونِهِ أن يَغْفِرَ ذَنْباً، ويُفَرِّجَ كَرْباً، ويَشْفِيَ مَرِيضاً، ويَفُكَّ عانِياً، ويَنْصُرَ مَظلوماً، ويُغيثَ مَلهوفاً، ويَجْبُرَ كسيراً، ويُغْنِيَ فَقيراً، ويُجيبَ دَعوةً، ويُقيلَ عَثرةً، ويُعِزَّ ذَليلاً، ويُذِلَّ مُتَكَبِّراً، ويَقْصِمَ جَبَّاراً، ويُميتَ ويُحْيِيَ، ويُضْحِكَ ويُبْكِيَ، ويَخْفِضَ ويَرفعَ، ويُعْطِيَ ويَمْنَعَ، ويُرْسِلَ رُسُلَهُ مِن الملائكةِ ومِن البَشَرِ في تَنفيذِ أوامِرِهِ، وسَوْقِ مَقاديرِهِ التي قَدَّرَها إلى مَواقيتِها التي وَقَّتَها لها. وهذا كلُّهُ لم يكنْ ليَحْصُلَ في دارِ البقاءِ، وإِنَّمَا اقْتَضَتْ حِكمتُهُ البالغةُ حصولَهُ في دارِ الامتحانِ والابتلاءِ) ([44]).
[الخامسَ عشرَ]: (أنَّ مِنْ أسمائِهِ الْحُسْنَى ما يكونُ دَالاًّ على عِدَّةِ صفاتٍ، ويكونُ ذلكَ الاسمُ مُتناوِلاً لجميعِها تَناوُلَ الاسمِ الدالِّ على الصفةِ الواحدةِ لها، كما تَقَدَّمَ بيانُهُ، كاسمِهِ العظيمِ والمجيدِ والصمَدِ، كما قالَ ابنُ عبَّاسٍ فيما رواهُ عنهُ ابنُ أبي حاتمٍ في تفسيرِهِ: الصمَدُ السيِّدُ الذي قدْ كَمُلَ في سُؤْدَدِهِ، والشريفُ الذي قدْ كَمُلَ في شَرَفِهِ، والعظيمُ الذي قدْ كَمُلَ في عظمتِهِ، والحليمُ الذي قدْ كَمُلَ في حِلْمِهِ، والعليمُ الذي قدْ كَمُلَ في عِلْمِهِ، والحكيمُ الذي قدْ كَمُلَ في حِكمتِهِ، وهوَ الذي قدْ كَمُلَ في أنواعِ شَرَفِهِ وسُؤددِهِ , وهوَ اللهُ سُبحانَهُ هذهِ صفتُهُ لا تَنبغِي إلاَّ لهُ ليسَ لهُ كُفُواً أحَدٌ، وليسَ كمثلِهِ شيءٌ، سُبحانَ اللهِ الواحدِ القهَّارِ. هذا لفْظُهُ.
وهذا مِمَّا خَفِيَ على كثيرٍ مِمَّنْ تَعَاطَى الكلامَ في تفسيرِ الأسماءِ الْحُسْنَى , فَفَسَّرَ الاسمَ بدونِ معناهُ، ونَقَصَهُ مِنْ حيثُ لا يَعلمُ، فمَنْ لم يُحِطْ بهذا عِلْماً بَخَسَ الاسمَ الأعظمَ حَقَّهُ وهَضَمَهُ مَعناهُ. فَتَدَبَّرْهُ)([45]).
[السادسَ عشرَ]: (إحصاءُ الأسماءِ الْحُسنى والعلْمُ بها أصلٌ للعلْمِ بكلِّ معلومٍ، فإنَّ المعلوماتِ سِواهُ إمَّا أن تكونَ خَلْقاً لهُ تعالى أوْ أَمْراً، إما علمٌ بما كَوَّنَهُ أوْ عِلْمٌ بما شَرَعَهُ.
ومَصْدَرُ الخلْقِ والأمْرِ عنْ أسمائِهِ الْحُسْنَى، وهما مُرْتَبِطانِ بها ارتباطَ المقتضَى بمقْتَضِيهِ. فالأمرُ كلُّهُ مَصدرُهُ عنْ أسمائِهِ الْحُسْنَى، وهذا كلُّهُ حَسَنٌ لا يَخْرُجُ عنْ مَصالِحِ العِبادِ والرأفةِ والرحمةِ بهم، والإحسانِ إليهم بتكميلِهم بما أَمَرَهم بهِ ونَهاهُمْ عنهُ، فأمْرُهُ كلُّهُ مَصلحةٌ وحِكمةٌ ورحمةٌ ولُطْفٌ وإحسانٌ؛ إذ مَصْدَرُهُ أسماؤُهُ الْحُسْنَى، وفِعْلُهُ كلُّهُ لا يَخْرُجُ عن العَدْلِ والحكمةِ والمصلَحَةِ والرحمةِ؛ إذ مَصدرُهُ أسماؤُهُ الْحُسْنَى، فلا تَفاوُتَ في خَلْقِهِ ولا عَبَثَ، ولم يَخْلُقْ خَلْقَهُ باطِلاً، ولا سُدًى ولا عَبَثاً.
وكما أنَّ كلَّ مَوجودٍ سِواهُ فبِإيجادِهِ، فوُجودُ مَنْ سِواهُ تابعٌ لوُجودِهِ تَبَعَ المفعولِ المخلوقِ لخالقِهِ، فكذلكَ العلْمُ بها أَصْلٌ للعلْمِ بكلِّ ما سِواهُ، فالعلْمُ بأسمائِهِ وإحصاؤُها أَصْلٌ لسائرِ العلومِ، فمَنْ أَحْصَى أسماءَهُ كما يَنبغِي للمخلوقِ أَحْصَى جميعَ العلومِ؛ إذ إِحصاءُ أسمائِهِ أصْلٌ لإحصاءِ كلِّ معلومٍ؛ لأنَّ المعلوماتِ هيَ مِنْ مُقتضاها ومُرتبطةٌ بها.
وَتَأَمَّلْ صدورَ الخلْقِ والأمرِ عنْ عِلْمِهِ وحِكمتِهِ تعالى، ولهذا لا تَجِدُ فيها خَلَلاً ولا تَفاوُتاً؛ لأن الخلَلَ الواقعَ فيما يَأمُرُ بهِ العبدُ أوْ يَفعلُهُ إمَّا أن يكونَ لِجَهْلِهِ بهِ أوْ لعَدَمِ حِكمتِهِ. وأمَّا الربُّ تعالى فهوَ العليمُ الحكيمُ فلا يَلْحَقُ فِعْلَهُ ولا أَمْرَهُ خللٌ ولا تَفاوُتٌ ولا تَناقُضٌ)([46]).
[السابعَ عشرَ]: (في بيانِ مَراتبِ إحصاءِ أسمائِهِ التي مَنْ أَحصاهَا دَخَلَ الجنَّةَ، وهذا هوَ قُطْبُ السعادةِ ومَدارُ النجاةِ والفلاحِ:
الْمَرتبةُ الأُولَى: إحصاءُ ألفاظِها وعَدَدِها.
الْمَرتبةُ الثانيَةُ: فَهْمُ مَعانِيهَا ومَدلولِها.
المرتبةُ الثالثةُ: دُعاؤُهُ بها كما قالَ تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] وهوَ مَرتبتانِ:
- إحداهما: دُعاءُ ثناءٍ وعِبادةٍ.
- والثاني: دُعاءُ طَلَبٍ ومسألةٍ.
فلا يُثْنَى عليهِ إلاَّ بأسمائِهِ الْحُسْنَى وصفاتِهِ العُلَى، وكذلكَ لا يُسألُ إلاَّ بها، فلا يُقالُ: يا موجودُ أوْ يَا شيءُ أوْ يا ذاتُ اغْفِرْ لي وارْحَمْنِي، بلْ يُسأَلُ في كلِّ مطلوبٍ باسمٍ يكونُ مُقْتَضِياً لذلكَ المطلوبِ، فيكونُ السائلُ مُتَوَسِّلاً إليهِ بذلكَ الاسمِ؛ ومَنْ تَأَمَّلَ أَدعيَةَ الرسُلِ - ولا سِيَّما خاتَمُهم وإمامُهم - وَجَدَها مُطابِقَةً لهذا.
وهذه العبارةُ أَوْلَى مِنْ عبارةِ مَنْ قالَ: يَتَخَلَّقُ بأسماءِ اللهِ؛ فإنَّها ليستْ بعبارةٍ سَديدةٍ، وهيَ مُنْتَزَعَةٌ مِنْ قولِ الفَلاسفةِ بالتَّشَبُّهِ بالإلهِ على قَدْرِ الطاقةِ.
وأَحْسَنُ منها عبارةُ أبي الحكَمِ بنِ بَرهانَ وهيَ: التعَبُّدُ.
وأحسَنُ منها العِبارةُ المطابِقَةُ للقرآنِ وهيَ: الدُّعاءُ، المتضمِّنُ للتَّعَبُّدِ والسُّؤالِ.
فمَراتبُها أربعةٌ:
- أشَدُّها إنكاراً عبارةُ الفلاسفةِ وهيَ التَّشَبُّهُ.
- وأحسَنُ منها عبارةُ مَنْ قالَ: التخَلُّقُ.
- وأحسَنُ منها عِبارةُ مَنْ قالَ: التعَبُّدُ.
- وأَحْسَنُ مِن الجميعِ الدعاءُ , وهيَ لفظُ القرآنِ)([47]).
[الثامنَ عشرَ]: (أنَّ الأسماءَ الْحُسْنَى لا تَدْخُلُ تحتَ حَصْرٍ ولا تُحَدُّ بعَددٍ، فإنَّ للهِ تعالى أسماءً وصفاتٍ اسْتَأْثَرَ بها في عِلْمِ الغَيْبِ عندَهُ، لا يَعْلَمُها مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، كما في الحديثِ الصحيحِ: ((أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ /أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ/ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنوْدَكَ)).
فجَعَل أسماءَهُ ثلاثةَ أَقسامٍ:
- قِسمٌ سَمْعِيٌّ سَمَّى بهِ نفسَهُ: فأَظْهَرَهُ لِمَنْ شاءَ مِنْ ملائكتِهِ أوْ غيرِهم، ولم يُنْـزِلْ بهِ كتابَهُ.
- وقِسْمٌ أَنْزَلَ بهِ كتابَهُ: فتَعَرَّفَ بهِ إلى عِبادِهِ.
- وقِسمٌ اسْتَأْثَرَ بهِ في عِلْمِ غَيْبِهِ: فلم يَطَّلِعْ عليهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، ولهذا قالَ: ((اسْتَأْثَرْتَ بِهِ)) أي: انْفَرَدْتَ بعِلْمِهِ، وليسَ المرادُ انفرادَهُ بالتَّسَمِّي بهِ؛ لأن هذا الانفرادَ ثابتٌ في الأسماءِ التي أَنْزَلَ بها كتابَهُ.
ومِنْ هذا قولُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في حديثِ الشفاعةِ: ((فَيَفْتَحُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ بِمَا لا أُحْسِنُهُ الْآنَ)) وتلكَ الْمَحامدُ تَفِي بأسمائِهِ وصفاتِهِ. ومنهُ قولُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلم: ((لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)) ([48]).
وأمَّا قولُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ))([49]) فالكلامُ جُملةٌ واحدةٌ. وقولُهُ ((مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ)) صِفَةٌ لا خَبَرٌ مُسْتَقْبَلٌ، والمعنى: لهُ أسماءٌ مُتعدِّدَةٌ مِنْ شأنِها أنَّ مَنْ أَحصاهَا دَخَلَ الجنَّةَ، وهذا لا يَنْفِي أن يكونَ لهُ أسماءٌ غيرُها. وهذا كما تقولُ: لفلانٍ مائةُ مَملوكٍ قدْ أَعَدَّهُمْ للجهادِ، فلا يَنْفِي هذا أن يكونَ لهُ مَماليكُ سِواهُمْ مُعَدُّونَ لغيرِ الجهادِ. وهذا لا خِلافَ بينَ العلماءِ فيه)([50]).
[التاسعَ عشرَ]: (أنَّ الصفةَ متى قامَتْ بِمَوصوفٍ لَزِمَها أمورٌ أربعةٌ: أمرانِ لَفظيَّانِ، وأمرانِ مَعنويَّانِ:
● أ - فاللفظيانِ: ثُبوتيٌّ وسَلْبِيٌّ:
- فالثبوتيُّ: أن يُشْتَقَّ للموصوفِ منها اسمٌ.
- والسلبيُّ: أن يَمتنعَ الاشتقاقُ لغيرِهِ.
● ب - والمعنويَّانِ: ثبوتِيٌّ وسلبيٌّ.
- فالثبوتيُّ: أن يعودَ حُكْمُها إلى الموصوفِ ويُخْبَرَ بها عنهُ.
- والسلبيُّ: أن لا يعودَ حُكْمُها إلى غيرِهِ ولا يكونَ خَبَراً عنهُ.
وهيَ قاعدةٌ عظيمةٌ في مَعرفةِ الأسماءِ والصفاتِ، فلْنَذْكُرْ مِنْ ذلكَ مِثالاً واحداً, وهوَ صفةُ الكلامِ؛ /فإنَّها إذا قامتْ بِمَحَلٍّ كانَ هوَ المتكلِّمَ/([51]) دونَ مَنْ لم تَقُمْ بهِ، وأَخْبَرَ عنهُ بها وعادَ حُكْمُها إليهِ دونَ غيرِهِ، فيُقالُ: قالَ وأَمَرَ ونَهَى، ونَادَى وناجَى، وأَخْبَرَ وخاطَبَ، وتَكَلَّمَ وكَلَّمَ، ونحوَ ذلكَ.
وامْتَنَعَتْ هذهِ الأحكامُ لغيرِهِ، فيُسْتَدَلُّ بهذه الأحكامِ والأسماءِ على قيامِ الصفةِ بهِ، وسلبِها عنْ غيرِهِ على عَدَمِ قِيامِها بهِ.
وهذا هوَ أصلُ أهلِ السنَّةِ الذي رَدُّوا بهِ على المعتزِلةِ والْجَهميَّةِ، وهوَ مِنْ أصَحِّ الأصولِ طَرْداً وعَكْساً) ([52]).
[العشرونَ]: (أنَّ الصفةَ يَلْزَمُها لوازمُ مِنْ حيثُ هيَ هيَ، فهذه اللوازمُ يَجِبُ إثباتُها، ولا يَصِحُّ نَفْيُها؛ إذ نَفْيُها مَلزومٌ كنَفْيِ الصفةِ، مِثالُهُ الفِعْلُ والإدراكُ للحياةِ، فإنَّ كلَّ حيٍّ فَعَّالٌ مُدْرِكٌ، وإدراكُ المسموعاتِ بصفةِ السمْعِ، وإدراكُ المُبْصَرَاتِ بصفةِ البَصَرِ، وكَشْفُ المعلوماتِ بصفةِ العلْمِ، والتمييزُ لهذه الصِّفَاتِ.
فهذه اللوازمُ يَنْتَفِي رَفْعُها عن الصفةِ فإنَّها ذاتيَّةٌ لها، ولا يَرتفعُ ([53]) إلاَّ برفعِ الصفةِ، ويَلزمُها لوازمُ مِنْ حيث كونُها صفةً للقديمِ، مثلَ كونِها واجبةً قديمةً عامَّةَ التعَلُّقِ؛ فإنَّ صفةَ العلْمِ واجبةٌ للهِ قديمةٌ غيرُ حادثةٍ، مُتعلِّقَةٌ بكلِّ معلومٍ على التفصيلِ.
وهذه اللوازمُ مُنتَفِيَةٌ عن العلْمِ الذي هوَ صفةٌ للمخلوقِ، ويَلزمُها لوازمُ مِنْ حيث كونُها صفةً لهُ، مثلَ كونِها مُمْكِنَةً، حادثةً بعدَ أن لم تكنْ، مخلوقةً، غيرَ صالحةٍ للعمومِ، مفارِقَةً لهُ، فهذه اللوازمُ يَستحيلُ إضافتُها إلى القديمِ، واجعَلْ هذا التفصيلَ مِيزاناً لكَ في جميعِ الصِّفَاتِ والأفعالِ، واعْتَصِمْ بهِ في نفيِ التشبيهِ والتمثيلِ، وفي بُطلانِ النفيِ والتعطيلِ، واعتَبِرْهُ في العُلُوِّ والاستواءِ تَجِدْ هذهِ الصفةَ:
- يَلزَمُها كونُ العالي فوقَ السافلِ في القديمِ والحديثِ: فهذا اللازمُ حقٌّ لا يَجوزُ نفيُهُ.
- ويَلزَمُها كونُ السافلِ حَاوِياً للأَعْلَى مُحِيطاً بهِ حاملاً لهُ، والأعلى مُفْتَقِرٌ إليهِ: وهذا في بعضِ المخلوقاتِ لا في كلِّها، بلْ بعضُها لا يَفتقِرُ فيهِ الأعلى إلى الأسفلِ، ولا يَحويهِ الأسفلُ ولا يُحيطُ بهِ، ولا يَحملُهُ كالسماءِ معَ الأرضِ.
فالربُّ تعالى أجلُّ شأناً وأعظمُ أن يَلزمَ مِنْ عُلُوِّهِ ذلكَ، بلْ لوازمُ عُلُوِّهِ مِنْ خصائصِهِ، وهيَ حَمْلُهُ للسافِلِ وفَقْرُ السافلِ إليهِ، وغِناهُ سُبحانَهُ عنهُ وإحاطتُهُ عزَّ وجَلَّ بهِ، فهوَ فوقَ العرْشِ معَ حَمْلِهِ العرشَ وحَمَلَتَهُ، وغِناهُ عن العرْشِ وفَقْرِ العرشِ إليهِ، وإحاطتِهِ بالعَرْشِ وعدَمِ إحاطةِ العرْشِ بهِ، وحَصْرِهِ للعرْشِ وعَدَمِ حَصْرِ العرشِ لهُ. وهذه اللوازمُ مُنْتَفِيَةٌ عن المخلوقِ.
وأصحابُ التلبيسِ واللَّبْسِ لا يُمَيِّزُونَ هذا التمييزَ، ولا يُفَصِّلونَ هذا التفصيلَ، ولوْ مَيَّزوا وفَصَّلوا لَهُدُوا إلى سواءِ السبيلِ، وعَلِموا مُطابَقَةَ العقلِ الصريحِ للتنـزيلِ، ولَسَلَكُوا خلْفَ الدليلِ، ولكن فارَقُوا الدليلَ وضَلُّوا عنْ سواءِ السبيلِ)([54]).
[الحادي والعشرونَ]: (أنَّ أسماءَهُ كلَّها حُسْنَى ليسَ فيها اسمٌ غيرَ ذلكَ أصلاً، وقدْ تَقدَّمَ أنَّ مِنْ أسمائِهِ ما يُطْلَقُ عليهِ باعتبارِ الفعلِ، نحوَ الخالقِ والرازقِ والْمُحْيِي والمميتِ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ أفعالَهُ كلَّها خيراتٌ مَحْضٌ لا شَرَّ فيها؛ لأنَّهُ لوْ فَعَلَ الشرَّ لاشْتُقَّ لهُ منهُ اسمٌ، ولم تكنْ أسماؤُهُ كلُّها حُسْنَى، وهذا باطلٌ.
فالشرُّ ليسَ إليهِ، فكما لا يَدْخُلُ في صفاتِهِ ولا يَلْحَقُ ذاتَهُ لا يَدخُلُ في أفعالِهِ، فالشرُّ ليسَ إليهِ، لا يُضافُ إليهِ فِعْلاً ولا وَصْفاً، وإِنَّمَا يَدخُلُ في مَفعولاتِهِ. وفرْقٌ بينَ الفعْلِ والمفعولِ، فالشرُّ قائمٌ بمفعولِهِ المبايِنِ لهُ , لا بفِعْلِهِ الذي هوَ فِعْلُهُ، فتَأَمَّلْ هذا فإنَّهُ خَفِيَ على كثيرٍ مِن المتكلِّمينَ، وزَلَّتْ فيهِ أقدامٌ، وضَلَّتْ فيهِ أفهامٌ، وهَدَى اللهُ أهلَ الحقِّ لِمَا اخْتَلَفُوا فيهِ بإذنِهِ، واللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى صراطٍ مُستقيمٍ) ([55]).
[الثاني والعشرونَ]: ([أنَّ] صِفَاتِ السَّلْبِ الْمَحْضِ... لا تَدْخُلُ في أوصافِهِ تعالى إلاَّ أنْ تكونَ متضمِّنَةً لِثُبُوتٍ، كالأحَدِ المتضمِّنِ لانفرادِهِ بالربوبيَّةِ والإلهيَّةِ، والسلامِ المتضمِّنِ لبراءتِهِ مِنْ كلِّ نَقْصٍ يُضَادُّ كمالَهُ، وكذلكَ الإخبارُ عنهُ بالسُّلُوبِ هوَ لِتَضَمُّنِهَا ثُبُوتَاً ؛ (([لـ] أنَّ كلَّ ما يُنَـزَّهُ الربُّ عنهُ إن لم يكنْ مُتَضَمِّناً لإثباتِ كمالِهِ ومُسْتَلْزِماً لأمرٍ ثبوتيٍّ، يُوصَفُ بهِ لم يكنْ في تنـزيهِهِ عنهُ مَدْحٌ ولا حَمْدٌ ولا تَمجيدٌ ولا تَسبيحٌ؛ إذ العَدَمُ المحضُ كاسمِهِ لا حَمْدَ فيهِ ولا مَدْحَ، وإِنَّمَا يُمْدَحُ سُبحانَهُ بِنَفْيِ أمورٍ تَستلْزِمُ أموراً هيَ حقٌّ ثابتٌ موجودٌ يَسْتَحِقُّ الحمدَ عليها، وذلكَ الحقُّ الموجودُ يُنافِي ذلكَ الباطلَ الْمَنْفِيَّ، فيُسْتَدَلُّ برفعِ أحدِهما على ثبوتِ الآخَرِ، فتارةً يُسْتَدَلُّ بثبوتِ تلكَ المحامدِ والكمالاتِ على نفيِ النقائصِ التي تُنَافِيهَا، وتارةً يُسْتَدَلُّ بِنَفْيِ تلكَ النقائصِ على ثبوتِ الكمالاتِ التي تُنافِيهَا، فهوَ سُبحانَهُ القُدُّوسُ السَّلامُ كما قالَ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] لكمالِ حياتِهِ وقَيُّومِيَّتِهِ و {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3] لكمالِ عِلْمِهِ {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)} [ق: 38] لكمالِ قُدرتِهِ {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف: 49] لكمالِ عَدْلِهِ وغِناهُ ورحمتِهِ، و {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه: 52] لكمالِ عِلْمِهِ وحِفْظِهِ {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] لكمالِ قُدرتِهِ وقُوَّتِهِ،{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14]، و{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)} [الإخلاص: 3] لكمالِ صَمَدِيَّتِهِ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 4] لتفرُّدِهِ بالكمالِ المطلَقِ الذي لا يُشارِكُهُ فيهِ غيرُهُ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111] لكمال عِزَّتِهِ وسُلطانِهِ، {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)} [الشمس: 15] فنَفَى عنْ نفسِهِ خوفَ عاقبةِ ما فَعَلَهُ مِنْ إهلاكِ أعدائِهِ، بخِلافِ المخلوقِ، فإنَّهُ إذا انْتَقَمَ مِنْ عَدُوِّهِ يَخافُ عاقبةَ ذلكَ، إمَّا مِن اللهِ وإمَّا مِن المُنْتَصِرِينَ لعَدُوِّهِ، وذلكَ على اللهِ مُحَالٌ، والخوفُ يَتضَمَّنُ نُقصانَ العلْمِ والقُدرةِ والإرادةِ، فإنَّ العالمَ بأنَّ الشيءَ لا يكونُ لا يَخافُهُ، والعالمُ بأنَّهُ يكونُ ولا بُدَّ، قدْ يَئِسَ مِن النجاةِ منهُ فلا يَخافُ، فإن خافَ فخَوفُهُ دونَ خوْفِ الراجِي.
وأمَّا نَقْصُ القُدرةِ فلأنَّ الخائفَ مِن الشيءِ هوَ الذي لا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عنْ نفسِهِ فإذا تَيَقَّنَ أنَّهُ قادرٌ على دَفْعِهِ لم يَخَفْهُ.
وأمَّا نَقْصُ الإرادةِ فلأنَّ الخائفَ يَحْصُلُ لهُ الخوفُ بدونِ مَشيئتِهِ واختيارِهِ، وذلكَ مُحالٌ في حَقِّ مَنْ هوَ بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كلِّ شيءٍ قديرٌ، ومَنْ لا يكونُ شيءٌ إلاَّ بمشيئتِهِ وإرادتِهِ , فما شاءَ كانَ وما لم يَشَأْ لم يكنْ، وهذا لا يُنافِي كَراهتَهُ سُبحانَهُ وبُغْضَهُ وغَضَبَهُ؛ فإنَّ هذهِ الصِّفَاتِ لا تَستلزِمُ نَقْصاً لا في عِلْمِهِ ولا في قُدرتِهِ ولا في إرادتِهِ، بلْ هيَ كمالٌ؛ لأن سَبَبَها العلمُ بقُبْحِ المكروهِ المبغوضِ المغضوبِ عليهِ، وكُلَّمَا كانَ العلْمُ بحالِهِ أَهَمَّ كانت كراهتُهُ وبُغْضُهُ أَقْوَى، ولهذا يَشْتَدُّ غَضَبُهُ سُبحانَهُ على مَنْ قَتَلَ نَبِيَّهُ أوْ قَتَلَهُ نَبِيُّه([56]))) ([57]) .
وكذلكَ قولُهُ تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] متضمِّنٌ لعظمتِهِ، وأنَّهُ جَـلَّ عنْ أن يُـدْرَكَ بحيثُ يُحاطُ بهِ، وهذا مُطَّرِدٌ في كلِّ ما وَصَفَ بهِ نفسهُ مِن السُّلوبِ)([58]).
[الثالثُ والعشرون]: ([أنَّ] المعارضينَ بينَ الوحيِ والعقْلِ مِن الْجَهميَّةِ المُعَطِّلَةِ والفلاسفةِ الْمَلاحِدةِ، ومَن اتَّبَعَ سُبُلَهُم هم دائماً يُدْلُونَ بنفيِ التشبيهِ والتمثيلِ، ويَجعلونَهُ جُنَّةً لتعطيلِهم ونَفْيِهم، فجَحَدُوا عُلُوَّهُ على خَلْقِهِ ومُباينتَهُ لهم. وتَكَلُّمَهُ بالقرآنِ والتوراةِ والإنجيلِ وسائرِ كُتُبِهِ، وتَكليمَهُ لِمُوسى، واستواءَهُ على عَرْشِهِ ورُؤيَةَ المؤمنينَ لهُ بأبصارِهم مِنْ فوقِهم في الجنَّةِ، وسلامَهُ عليهم، وتَجَلِّيَهُ لهم ضَاحِكاً، وغيرَ ذلكَ مِمَّا أَخْبَرَ بهِ عنْ نفسِهِ، وأَخْبَرَ بهِ عنهُ رسولُهُ، وتَتَرَّسُوا بنفيِ التشبيهِ واتَّخَذُوهُ جُنَّةً يَصُدُّونَ بهِ القلوبَ عن الإيمانِ باللهِ وبأسمائِهِ وصِفاتِهِ، وكلُّ مَنْ نَفَى شيئاً مِمَّا وَصَفَ بهِ نفسَهُ جَعَلَ نفيَ التشبيهِ لهُ كالوِقايَةِ في الفعْلِ، حتَّى آلَ ذلكَ ببعضِهم إلى أنْ نَفَى ذاتَهُ وماهِيَّتَهُ خَشيَةَ التشبيهِ، فقالَ: هوَ وُجودٌ مَحْضٌ لا مَاهيَّةَ لهُ، ونَفَى آخَرونَ وُجودَهُ بالكُلِّيَّةِ خَشيَةَ التشبيهِ، وقالوا: يَلْزَمُنَا في الوُجودِ مَا لَزِمَ مُثْبِتِي الصِّفَاتِ والكلامِ والعُلُوِّ في ذلكَ، فنحن نَسُدُّ البابَ بالكُلِّيَّةِ.
ولا رَيبَ أنَّ الْمُشَبِّهَةَ الْمَحْضَةَ خيرٌ مِنْ هؤلاءِ وأَحسنُ قَوْلاً في رَبِّهِم، وأحسنُ ثناءً عليهِ منهم.
والطائفةُ المُعَطِّلَةُ بِمَنـزلةِ مَنْ قَدَحَ في مُلْكِ الْمَلِكِ وسُلطانِهِ، ونَفَى قُدرتَهُ وعِلمَهُ وتَدبيرَهُ لِمَملكتِهِ وسائرَ صفاتِ الْمُلْكِ.
والطائفةُ الثانيَةُ بِمَنـزلةِ مَنْ شَبَّهَهُ بِمَلِكِ غيرِهِ، موصوفٍ بأكملِ الصِّفَاتِ وأَحْسَنِ النعوتِ.
فيَنبغِي أن تَعْلَمَ في هذا قاعدةً نافعةً جِدًّا، وهيَ أنَّ نَفْيَ الشِّبْهِ والمِثْلِ والنظيرِ ليسَ في نفسِهِ صفةَ مَدْحٍ، ولا كَمالٍ ولا يُحْمَدُ بهِ المنفيُّ عنهُ ذلكَ بِمُجَرَّدِهِ؛ فإنَّ العَدَمَ الْمَحضَ الذي هوَ أَخَسُّ المعلوماتِ وأَنْقَصُها يُنْفَى عنهُ الشِّبْهُ والْمِثلُ والنظيرُ، ولا يكونُ ذلكَ كَمَالاً ومَدْحاً إلاَّ إذا تَضَمَّنَ كونَ مَنْ نُفِيَ عنهُ ذلكَ قد اخْتَصَّ مِنْ صفاتِ الكمالِ ونُعوتِ الجلالِ بأوصافٍ بَايَنَ بها غيرَهُ، وخَرَجَ بها عنْ أن يكونَ لهُ نظيرٌ أوْ شبهٌ، فهوَ لتَفَرُّدِهِ بها عنْ غيرِهِ، صحَّ أن يُنْفَى عنهُ الشبْهُ والْمِثْلُ والنظيرُ والكفءُ، فلا يُقالُ لِمَنْ لا سَمْعَ لهُ، ولا بَصَرَ ولا حياةَ ولا عِلْمَ ولا كلامَ ولا فِعْلَ، ليسَ لهُ شِبْهٌ ولا مِثْلٌ ولا نظيرٌ، اللَّهمَّ إلاَّ في بابِ الذمِّ والعيبِ؛ أيْ: قدْ سُلِبَ صفاتِ الكمالِ كُلَّها بحيثُ صارَ لا شِبْهَ لهُ في النقْصِ. هذا الذي عليهِ فِطَرُ الناسِ وعقولُهم، واستعمالُهم في المدْحِ والذمِّ، كما قالَ شاعرُ القومِ:

ليسَ كمِثلِ الفتى زُهَيْرِ خُلْقٌ يُساويهِ في الفضائلِ

وقالَ الآخرُ: ما إن كَمِثْلِهمُ في النَّاسِ مِنْ أَحَدٍ.
وقالَ الفَرَزْدَقُ:

فما مِثلُهُ في الناسِ إلاَّ مُمَلَّكاً أبو أمِّهِ حيٌّ أَبوهُ يُقارِبُهُ

أيْ: ما مِثْلُهُ في الناسِ حيٌّ يُقارِبُهُ إلاَّ مُمَلَّكٌ هوَ خالُهُ.
وقالَ الآخرُ:
فما مِثلُهُ فيهم ولا هوَ كائنٌ وليسَ يكونُ - الدهرَ- ما دامَ يَذْبُلُ

نَفَى أن يكونَ لهُ مِثْلٌ في الحالِ والماضي والمستقبَلِ.
وقالَ الآخرُ:

ولم أَقُلْ مثلَكَ أَعْنِي بِهِ سواكَ يا فَرْداً بلا شَبَهِ

ومنهُ قولُهم: فلانٌ نَسيجُ وحدِهِ، شبَّهَهُ بثوبٍ لم يُنْسَجْ لهُ نظيٌر في حُسْنِهِ وصِفاتِهِ، فعكَسَ المُعَطِّلَةُ المعنى، وقَلَّبُوا الحقائقَ، وأَزَالُوا دَلالةَ اللفظِ عنْ مَوْضِعِها وجَعَلُوا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] جُنَّةً وتُرْساً لنَفْيِ عُلُوِّهِ - سُبحانَهُ - على عَرْشِهِ وتكليمِهِ لرُسُلِهِ وإثباتِ صفاتِ كَمالِهِ). ([59])
[الرابعُ والعشرونَ]: ([أنَّ] كلَّ ما يُنَزَّهُ سُبحانَهُ عنهُ مِن العيوبِ والنقائصِ فهوَ داخلٌ فيما نَـزَّهَ نفسَهُ عنهُ، وفيما يُسَبَّحُ بهِ ويُقَدَّسُ ويُحْمَدُ ويُمَجَّدُ، وداخلٌ في معاني أسمائِهِ الْحُسْنَى، وبذلكَ كانت حُسْنَى؛ أيْ: أحسنَ مِنْ غيرِها، فهيَ أَفعلُ تَفضيلٍ مُعَرَّفَةٌ باللامِ؛ أيْ: لا أَحسنَ منها بوجهٍ مِن الوُجوهِ. بلْ لها الْحُسْنُ الكاملُ التامُّ المطلَقُ، وأسماؤُهُ الْحُسْنَى وآياتُهُ البَيِّنَاتُ مُتضمِّنَةٌ لذلكَ ناطقةٌ بهِ صريحةٌ فيهِ، وإنْ أَلْحَدَ الْمُلْحِدونَ، وزَاغَ عنها الزائغونَ). ([60])
[الخامسُ والعشرونَ]: (أنَّ العقلَ... [لا يُمْكِنُه] تَعرُّفُ كُنْهِ الصفةِ وكَيفيَّتِها. فإنَّهُ لا يَعْلَمُ كيفَ اللهُ إلاَّ اللهُ، وهذا معنى قولِ السلَفِ: "بِلا كَيْفٍ" أيْ: بلا كيفٍ يَعْقِلُهُ البَشَرُ. فإنَّ مَنْ لا تُعْلَمُ حَقيقةُ ذاتِهِ وماهِيَّتِهِ، كيفَ تُعْرَفُ كَيفيَّةُ نُعوتِهِ وصِفاتِهِ؟! ولا يَقدَحُ ذلكَ في الإيمانِ بها، ومَعرِفَةِ مَعانِيهَا؛ فالكيفيَّةُ وراءَ ذلكَ، كما أنَّا نَعرِفُ مَعانِيَ ما أَخْبَرَ اللهُ بهِ مِنْ حقائقِ ما في اليومِ الآخرِ، ولا نَعْرِفُ حقيقةَ كيفيَّتِهِ، معَ قُرْبِ ما بينَ المخلوقِ والمخلوقِ. فعَجْزُنَا عنْ مَعرِفَةِ كيفيَّةِ الخالقِ وصفاتِهِ أَعظمُ وأَعظَمُ.
فكيفَ يَطمَعُ العقلُ المخلوقُ المحصورُ المحدودُ في مَعرِفَةِ كيفيَّةِ مَنْ لهُ الكمالُ كلُّهُ، والجمالُ كلُّهُ، والعلْمُ كُلُّهُ، والقُدرةُ كلُّها والعظمةُ كلُّها، والكبرياءُ كلُّها؟ مَنْ لوْ كَشَفَ الْحِجابَ عنْ وَجْهِهِ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُهُ السماواتِ والأرضَ وما فيهما وما بينَهما وما وراءَ ذلكَ؟ الذي يَقْبِضُ سماواتِهِ بيدِهِ، فتَغيبُ كما تَغيبُ الْخَردلةُ في كَفِّ أَحَدِنا؟ الذي نِسبةُ علومِ الخلائقِ كلِّها إلى عِلْمِهِ أقَلُّ مِنْ نِسبةِ نَقرةِ عُصفورٍ مِنْ بِحارِ العِلْمِ؟ الذي لوْ أنَّ البحرَ - يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سبعةُ أَبْحُرٍ – مِدادٌ، وأشجارَ الأرضِ - مِنْ حينَ خُلِقَت إلى قيامِ الساعةِ - أقلامٌ: لفَنِيَ الْمِدادُ وفَنِيَت الأقلامُ، ولَمْ تَنْفَدْ كَلماتُهُ؟ الذي لوْ أنَّ الخلْقَ مِنْ أَوَّلِ الدنيا إلى آخرِها - إنْسَهم وجِنَّهُم، وناطقَهم وأَعجمَهم- جُعِلوا صَفًّا واحداً: ما أَحاطُوا بهِ سُبحانَهُ؟ الذي يَضَعُ السماواتِ على إِصبعٍ مِنْ
أَصابعِهِ، والأرضَ على إِصْبَعٍ، والجبالَ على إصبعٍ، والأشجارَ على إصبعٍ. ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ. ثُمَّ يقولُ: أنا الْمَلِكُ؟
فقاتَلَ اللهُ الْجَهْمِيَّةَ والمُعَطِّلَةَ! أينَ التشبيهُ هاهنا؟ وأينَ التمثيلُ؟ لقد اضْمَحَلَّ هاهنا كلُّ موجودٍ سِواهُ. فَضْلاً عنْ أن يكونَ لهُ ما يُمَاثِلُهُ في ذلكَ الكمالِ، ويُشابِهُهُ فيهِ.
فسُبحانَ مَنْ حَجَبَ عُقولَ هؤلاءِ عنْ مَعرفتِهِ، ووَلاَّهَا ما تَوَلَّتْ مِنْ وُقوفِها معَ الألفاظِ التي لا حُرْمَةَ لها، والمعاني التي لا حقائقَ لها.
ولَمَّا فَهِمَتْ هذهِ الطائفةُ مِن الصِّفَاتِ الإلهيَّةِ ما تَفْهَمُهُ مِنْ صفاتِ المخلوقينَ فَرَّتْ إلى إنكارِ حقائقِها، وابتغاءِ تَحريفِها وسَمَّتْهُ تَأْوِيلاً. فشَبَّهَتْ أَوَّلاً، وعَطَّلَتْ ثانياً، وأَساءَت الظَّنَّ برَبِّها وبكتابِهِ وبِنَبِيِّهِ وبِأَتْبَاعِهِ.
- أمَّا إساءةُ الظنِّ بالرَّبِّ: فإنَّها عَطَّلَتْ صفاتِ كمالِهِ، ونسَبَتْهُ إلى أنَّهُ أَنْزَلَ كتاباً مُشْتَمِلاً على ما ظاهِرُهُ كفْرٌ وباطلٌ، وأنَّ ظاهِرَهُ وحقائقَهُ غيرُ مُرادِهِ.
- وأمَّا إساءةُ ظَنِّها بالرسولِ: فلأنَّهُ تَكَلَّمَ بذلكَ وقَرَّرَهُ وأَكَّدَهُ، ولم يُبَيِّنْ للأُمَّةِ أنَّ الحقَّ في خِلافِهِ وتأويلِهِ.
- وأمَّا إساءةُ ظَنِّها بأَتْبَاعِهِ: فبِنسبتِهم لهم إلى التشبيهِ والتمثيلِ، والجهْلِ والْحَشْوِ.
وهم عندَ أَتباعِهِ أَجْهَلُ مِنْ أن يُكَفِّروهم، إلاَّ مَنْ عانَدَ الرسولَ، وقَصَدَ نَفيَ ما جاءَ بهِ. والقومُ عندَهم في خَفَارةِ جَهْلِهم، قدْ حُجِبَتْ قلوبُهم عنْ مَعرفةِ اللهِ وإثباتِ حقائقِ أسمائِهِ وأوصافِ كمالِه)([61]). *
[السادسُ والعشرون]: (المجازُ والتَّأْويلُ لا يَدْخُلُ في المنصوصِ وإِنَّمَا يَدخلُ في الظاهرِ المحتَمِلِ لهُ، وهنا نُكتةٌ يَنبغِي التَّفَطُّنُ لها، وهيَ أنَّ كونَ اللفظِ نَصًّا يُعْرَفُ بشيئينِ:
- أحدُهما: عدَمُ احتمالِهِ لغيرِ مَعناهُ وَضْعاً: كالعشَرةِ.
- والثاني: ما اطَّرَدَ استعمالُهُ على طريقةٍ واحدةٍ في جميعِ مَواردِهِ: فإنَّهُ لا يَقْبَلُ تأويلاً ولا مَجازاً، وإن قُدِّر تَطَرَّقَ ذلكَ إلى بعضِ أَفرادِهِ، وصار هذا بِمَنـزلةِ خَبَرِ المتواتِرِ لا يَتَطَرَّقُ
احتمالُ الكَذِبِ إليهِ، وإن تَطَرَّقَ إلى كلِّ واحدٍ مِنْ أَفرادِهِ بِمُفْرَدِهِ.
وهذه عِصْمَةٌ نافعةٌ تَدُلُّكَ على خَطَأِ كثيرٍ مِن التَّأْويلاتِ للسَّمْعِيَّاتِ التي اطَّرَدَ استعمالُها في ظاهرِها، وتأويلُها - والحالةُ هذهِ – غَلَطٌ؛ فإنَّ التأويلَ إِنَّمَا يكونُ لظاهرٍ قدْ وَرَدَ شاذًّا مخالِفاً لغيرِهِ مِن السَّمْعِيَّاتِ فيُحتاجُ إلى تأويلِهِ لتُوَافِقَها.
فأمَّا إذا ما اطَّرَدَتْ كلُّها على وَتيرةٍ واحدةٍ صارتْ بِمَنـزلةِ النَّصِّ وأَقْوَى، وتأويلُها مُمتنِعٌ. فَتَأَمَّلْ هذا)([62]).
[السابعُ والعشرونَ]: (في بيانِ ما يَقبلُ التَّأْويلَ مِن الكلامِ وما لا يَقبلُهُ.
لَمَّا كانَ وَضْعُ الكلامِ للدَّلالةِ على مُرادِ الْمُتَكَلِّمِ، وكان مُرادُهُ لا يُعْلَمُ إلاَّ بكلامِهِ انْقَسَمَ كلامُهُ ثلاثةَ أقسامٍ:
أحدُها: ما هوَ نَصٌّ في مُرادِهِ لا يَحْتَمِلُ غيرَهُ.
الثاني: ما هوَ ظاهرٌ في مُرادِهِ , وإن احتَمَلَ أن يُريدَ غيرَهُ.
الثالثُ: ما ليسَ بنَصٍّ ولا ظاهرٍ في المرادِ، بلْ هوَ مُجْمَلٌ يَحتاجُ إلى البيانِ.
فالأوَّلُ: يَستحيلُ دُخولُ التَّأْويلِ فيهِ، وتَحميلُهُ التَّأْويلَ كَذِبٌ ظاهرٌ على الْمُتَكَلِّمِ، وهذا شأنُ عامَّةِ نصوصِ القرآنِ الصريحةِ في مَعناها، كنصوصِ آياتِ الصِّفَاتِ والتوحيدِ، وأنَّ اللهَ سُبحانَهُ مُكَلِّمٌ مُتَكَلِّمٌ، آمِرٌ، ناهٍ، قائلٌ مخبرٌ مُوحٍ، حاكمٌ، واعدٌ مُوعِدٌ، مُنْبِئٌ هادٍ، داعٍ إلى دارِ السلامِ، فوقَ عِبادِهِ، عَلِيٌّ على كلِّ شيءٍ، مُسْتَوٍ على عَرْشِهِ، يَنْـزِلُ الأمرُ مِنْ عِنْدِهِ ويَعْرُجُ إليهِ، وأنَّهُ فَعَّالٌ حقيقةً، وأنَّهُ كلَّ يومٍ في شَأْنٍ، فَعَّالٌ لِمَا يُريدُ، وأنَّهُ ليسَ للخلْقِ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ ولا شفيعٌ ولا ظَهيرٌ، وأنَّهُ المنفرِدُ بالربوبيَّةِ والإلهيَّةِ والتدبيرِ والقيوميَّةِ، وأنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وأَخْفَى، وما تَسْقُطُ مِنْ ورقةٍ إلاَّ يَعْلَمُها، وأنَّهُ يَسمعُ الكلامَ الخفِيَّ كما يَسمعُ الْجَهْرَ، ويَرَى ما في السَّمَاواتِ والأرضِ، ولا يَخْفَى عليهِ منها ذَرَّةٌ واحدةٌ، وأنَّهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، فلا يَخرجُ مَقدورٌ واحدٌ عنْ قُدرتِهِ البَتَّةَ، كما لا يَخرجُ عنْ عِلْمِهِ وتَكوينِهِ، وأنَّ لهُ ملائكةً مُدَبِّرَاتٍ بأَمْرِهِ للعالَمِ، تَصْعَدُ وتَنْـزِلُ وتَتَحَرَّكُ وتَنتقلُ مِنْ مكانٍ إلى مكانٍ، وأنَّهُ يَذهبُ بالدنيا، ويُخَرِّبُ هذا العالَمَ، ويأتي بالآخِرةِ، ويَبعثُ مَنْ في القُبورِ - جَلَّ جَلالُهُ - إلى أَمثالِ ذلكَ مِن النصوصِ التي هيَ في الدَّلالةِ على مُرادِها كدَلالةِ لفظِ العشرةِ والثلاثةِ على مَدلولِهِ، وكدَلالةِ لفظِ الشمسِ والقمرِ، والليلِ والنهارِ، والبَرِّ والبحرِ، والخيلِ والبِغالِ، والإبلِ والبقرِ والغنَمِ، والذكَرِ والأُنْثَى على مَدلولِها، لا فَرْقَ بينَ ذلكَ الْبَتَّةَ.
ولهذا لَمَّا سَلَّطَت الْجَهْمِيَّةُ التَّأْويلَ على نُصوصِ الصِّفَاتِ، سَلَّطَت البَاطنِيَّةُ التَّأْويلَ على هذهِ الأمورِ وجَعلوها أَمْثَالاً مَضروبةً أُريدَ بها خِلافُ حَقائقِها وظَواهِرِها، وجَعَلُوا القرآنَ والشرْعَ كُلَّهُ مُؤَوَّلاً، ولهم في التَّأْويلِ كُتُبٌ مُستقِلَّةٌ نَظيرَ كُتُبِ الْجَهْمِيَّةِ في تأويلِ آياتِ الصِّفَاتِ وأحاديثِها.
فهذا القِسْمُ إن سُلِّطَ التَّأْويلُ عليهِ، عادَ الشرعُ كلُّهُ مُتَأَوَّلاً؛ لأنَّهُ أَظْهَرُ أقسامِ القرآنِ ثُبوتاً وأكثرُها وُرُوداً، ودَلالةُ القرآنِ عليهِ مُتنوِّعَةٌ غايَةَ التنَوُّعِ، فقَبولُ ما سِواهُ للتأويلِ أَقرَبُ مِنْ قَبولِهِ بكثيرٍ.

[فصلٌ]:
القسْمُ الثاني: ما هوَ ظاهرٌ في مُرادِ المتكلِّمِ، ولكِنَّهُ يَقْبَلُ التَّأْويلَ.
فهذا يُنظَرُ في وُرودِهِ، فإن اطَّرَدَ استعمالُهُ على وَجْهٍ واحدٍ، استحالَ تأويلُهُ بما يُخالِفُ ظاهِرَهُ؛ لأنَّ التَّأْويلَ إِنَّمَا يكونُ لِمَوْضِعٍ جاءَ نادراً خارجاً عنْ نظائرِهِ مُنْفَرِداً عنها، فيُؤَوَّلُ حتَّى يُرَدَّ إلى نظائِرِهِ، وتأويلُ هذا غيرُ مُمْتَنِعٍ؛ لأنَّهُ إذا عُرِفَ مِنْ عادَةِ المتكلِّمِ باطِّرَادِ كلامِهِ في تَوارُدِ استعمالِهِ معنًى أَلِفَهُ المخاطَبُ، فإذا جاءَ مَوْضِعٌ يُخالِفُهُ رَدَّهُ السامعُ بما عَهِدَ مِنْ عُرْفِ المخاطَبِ إلى عادتِهِ الْمُطَّرِدَةِ، هذا هوَ المعقولُ في الأذهانِ والفِطَرِ وعندَ كافَّةِ العُقلاءِ، وقدْ صَرَّحَ أَئِمَّةُ العربيَّةِ بأنَّ الشيءَ إِنَّمَا يَجوزُ حَذْفُهُ إذا كانَ الموضِعُ الذي ادُّعِيَ فيهِ حَذْفُهُ قد استُعْمِلَ فيهِ ثُبوتُهُ أكثرَ مِنْ حَذْفِهِ، فلا بُدَّ أن يكونَ مَوْضِعُ ادِّعاءِ الحذْفِ عندَهم صالحاً للثُّبوتِ، ويكونَ الثبوتُ معَ ذلكَ أكثرَ مِن الحذْفِ حتَّى إذا جاءَ ذلكَ مَحذوفاً في مَوْضِعٍ عُلِمَ بكثرةِ ذِكْرِهِ في نظائرِهِ أنَّهُ قدْ أُزيلَ مِنْ هذا الموضِعِ فحُمِلَ عليهِ، فهذا شأنُ مَنْ يَقْصِدُ البيانَ والدَّلالةَ، وأمَّا مَنْ يَقْصِدُ التلبيسَ والتعميَةَ فلهُ شأنٌ آخَرُ.
والقصْدُ أنَّ الظاهرَ في معناهُ إذا اطَّرَدَ استعمالُهُ في مَوارِدِهِ مُسْتَوِياً امْتَنَعَ تأويلُهُ، وإن جازَ تأويلُ ظاهرِ ما لم يَطَّرِدْ في مَوادِّ استعمالِهِ.
ومِثالُ ذلكَ: اطِّرَادُ قولِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] في جميعِ مَوارِدِهِ مِنْ أَوَّلِها إلى آخِرِها على هذا اللفظِ، فتأويلُهُ بـ (اسْتَوْلَى) باطلٌ. وإِنَّمَا كانَ يَصِحُّ أن لوْ كانَ أكثرُ مَجيئِهِ بلفْظِ (اسْتَوْلَى) ثُمَّ يَخْرُجُ موضِعٌ عنْ نظائِرِهِ ويَرِدُ بلفظِ (استوى) فهذا كانَ يَصِحُّ تأويلُهُ بـ (استولى). فتَفَطَّنْ لهذا الموضِعِ، واجْعَلْهُ قاعدةً فيما يَمْتَنِعُ تأويلُهُ مِنْ كلامِ المتكلِّمِ وما يَجوزُ تأويلُهُ.
ونظيرُ هذا اطِّرادُ النصوصِ بالنظَرِ إلى اللهِ، هكذا: (تَرَوْنَ رَبَّكُمْ)، (تَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّكُمْ)، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 23]، ولم يَجِئْ في مَوْضِعٍ واحدٍ: (تَرَوْنَ ثَوَابَ رَبِّكُمْ) فيُحْمَلَ عليهِ ما خَرَجَ عنْ نظائرِهِ.
ونظيرُ ذلكَ اطِّرَادُ قولِهِ: {وَنَادَيْنَاهُ} [مريم: 52]، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} [القصص:62]، {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} [الأعراف: 22]، {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص: 46]، و:{إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} [لنازعات: 16] ونظائرِها، ولم يَجِئْ في مَوْضِعٍ واحدٍ: (أَمَرْنَا مَنْ يُنَادِيَهُ) ولا: (نَادَاهُ مَلَكُنَا)، فتأويلُهُ بذلكَ عينُ الْمُحالِ والباطلِ.
ونظيرُ ذلكَ اطِّرادُ قولِهِ: ((يَنْـزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ…)) في نحوِ ثلاثينَ حَدِيثاً، كلُّها مُصَرِّحَةٌ بإضافةِ النـزولِ إلى الربِّ , ولم يَجِئْ مَوْضِعٌ واحدٌ بقولِهِ: ((يَنْـِزِلُ مَلَكُ رَبِّنَا)) حتَّى يُحْمَلَ ما خَرَجَ عنْ نظائرِهِ عليهِ.
وإذا تَأَمَّلْتَ نصوصَ الصِّفَاتِ التي لا تَسْمَحُ الجهميَّةُ بأنْ يُسَمُّوهَا نُصوصاً، فإذا احتَرَمُوها قالوا: ظواهِرُ سَمْعِيَّةٌ، وقدْ عارَضَتْها القواطِعُ العقليَّةُ! وَجَدْتَها كلَّها مِنْ هذا البابِ.
ومِمَّا يُقْضَى منهُ العَجَبُ أنَّ كلامَ شيوخِهم ومُصَنِّفِيهِم عندَهم نَصٌّ في مُرادِهِ لا يَحْتَمِلُ التَّأْويلَ، وكلامَ الموافقينَ عندَهم نَصٌّ لا يَجوزُ تأويلُهُ، حتَّى إذا جاءُوا إلى كلامِ اللهِ ورسولِهِ، وَقَفُوهُ على التَّأْويلِ، ووَقَفُوا التَّأْويلَ عليهِ، فقُلْ ما شِئْتَ، وحَرِّفْ ما شِئْتَ!. أَفَتَرَى بيانَ هؤلاءِ لِمُرَادِهِم أَتَمَّ مِنْ بيانِ اللهِ ورسولِهِ؟! أمْ كانوا مُستَوْلِينَ على بيانِ الحقائقِ التي سَكَتَ اللهُ ورسولُهُ عنْ بيانِها؟! بلْ أولئكَ هم الجاهلونَ الْمُتَهَوِّكُونَ.

[فصلٌ]:
القسمُ الثالثُ: الخطابُ الْمُجْمَلُ الذي أُحيلَ بيانُهُ على خِطابٍ آخَرَ.
فهذا أيضاً لا يَجوزُ تأويلُهُ إلاَّ بالخطابِ الذي بَيَّنَهُ، وقدْ يكونُ بيانُهُ معه، وقدْ يكونُ مُنْفَصِلاً عنهُ.
والمقصودُ أنَّ الكلامَ الذي هوَ عُرْضَةُ التَّأْويلِ، قدْ يكونُ لهُ عِدَّةُ معانٍ، وليسَ معه ما يُبَيِّنُ مُرادَ الْمُتَكَلِّمِ، فهذا للتأويلِ فيهِ مَجالٌ واسعٌ، وليسَ في كلامِ اللهِ ورسولِهِ مِنْ هذا النوعِ شيءٌ مِن الْجُمَلِ الْمُرَكَّبَةِ، وإن وَقَعَ في الحروفِ المفتتَحِ بها السُّوَرُ.
بلْ إذا تَأَمَّلَ مَنْ بَصَّرَهُ اللهُ طريقةَ القرآنِ والسُّنَّةِ وَجَدَها مُتَضَمِّنَةً لِرَفْعِ ما يُوهِمُهُ الكلامُ مِنْ خِلافِ ظاهِرِهِ، وهذا مَوْضِعٌ لطيفٌ جِدًّا في فَهْمِ القرآنِ نُشيرُ إلى بعضِهِ:
فمِنْ ذلكَ قولُهُ تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164]، رَفَعَ سُبحانَهُ تَوَهُّمَ المجازِ في تَكليمِهِ لكَلِيمِهِ بالمصدَرِ المؤكِّدِ الذي لا يَشُكُّ عربيُّ القلْبِ واللسانِ أنَّ المرادَ بهِ إثباتُ تلكَ الحقيقةِ، كما تقولُ العربُ: ماتَ موتاً، ونَزَل نُـزولاً؛ ونظيرُهُ التأكيدُ بالنفْسِ، والعينِ، وكُلٍّ، وأَجمعَ، والتأكيدُ بقولِهِ: “ حقًّا “ ونظائرِهِ.
ومِنْ ذلكَ قولُهُ تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} [المجادلة: 1] فلا يَشُكُّ صحيحُ الْفَهْمِ الْبَتَّةَ في هذا الْخِطابِ أنَّهُ نَصٌّ صريحٌ، لا يَحْتَمِلُ التَّأْويلَ بوجهٍ في إثباتِ صفةِ السمْعِ للرَّبِّ تعالى حقيقةً، وأنَّهُ بنفسِهِ سَمِعَ.
ومِنْ ذلكَ قولُهُ: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)} [الأعراف: 42] فرَفَعَ تَوَهُّمَ السامعِ أنَّ المكلَّفينَ عَمِلُوا جميعَ الصالحاتِ المقدورةِ والمعجوزِ عنها، كما يُجَوِّزُهُ أصحابُ تكليفِ ما لا يُطاقُ، رَفْعُ هذا التَّوَهُّمِ بجُملةٍ اعْتَرَضَ بها بينَ المبتدأِ وخبرِهِ يُزيلُ الإشكالَ.
ونظيرُهُ قولُهُ تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152].
ومِنْ ذلكَ قولُهُ تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84]. فلمَّا أَمَرَهُ بالقتالِ أخبَرَهُ أنَّهُ لا يكلَّفُ بغيرِهِ، بلْ إنَّما كُلِّفَ نفسَهُ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذلكَ بقولِهِ: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} لِئَلاَّ يَتَوَهَّمَ سامعٌ أنَّهُ: وإنْ لم يُكَلَّفْ بهم، فإنَّهُ يُهْمِلُهُمْ وَيَتْرُكُهُمْ.
ومِنْ ذلكَ قولُهُ تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} [الطور: 21]، فتَأَمَّلْ كم في هذا الكلامِ مِنْ رَفْعِ إيهامٍ، وإزالةِ ما عسى أن يَعْرِضَ للمخاطَبِ مِنْ لَبْسٍ:
فمنها قولُهُ: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} لئلا يُتَوَهَّمَ أن الاتِّبَاعَ في نَسَبٍ، أوْ تربيَةٍ، أوْ حُرِّيَّةٍ أوْ رِقٍّ، وغيرِ ذلكَ.
ومنها قولُهُ: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ} [الطور: 21] رفعاً لوَهْمِ مُتَوَهِّمٍ أنَّهُ يَحُطُّ الآباءَ إلى درجةِ الأبناءِ ليَحْصُلَ الإلحاقُ، والتبعيَّةُ، فأَزالَ هذا الوَهْمَ بقولِهِ: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ} أيْ: ما نَقَصْنَا الآباءَ بهذا الاتِّبَاعِ شيئاً مِنْ عمَلِهم، بلْ رَفَعْنَا الذرِّيَّةَ إليهم قرَّةً لعُيونِهم، وإن لم يكنْ لهم أعمالٌ يَسْتَحِقُّونَ بها تلكَ الدرجةَ.
ومنها قولُهُ: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} [الطور: 21] فلا يُتَوَهَّمُ أنَّ هذا الاتِّبَاعَ حاصلٌ في أهلِ الجنَّةِ وأهلِ النارِ، بلْ هوَ للمؤمنينَ دونَ الكُفَّارِ، فإنَّ اللهَ سُبحانَهُ لا يُعذِّبُ أحداً إلاَّ بكَسْبِهِ، وقدْ يُثيبُهُ مِنْ غيرِ كَسْبٍ منهُ.
ومنها قولُهُ تعالى:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)} [الأحزاب:32]، فلَمَّا أَمَرَهُنَّ بالتقوى التي مِنْ شَأْنِها التواضُعُ ولِينُ الكلامِ نَهَاهُنَّ عن الخضوعِ بالقولِ ؛ لئلا يَطْمَعَ فيهن ذو الْمَرَضِ، ثُمَّ أمَرَهُنَّ بعدَ ذلكَ بالقولِ المعروفِ، رَفْعاً لتَوَهُّمِ الإذْنِ في الكلامِ المنكَرِ، لَمَّا نُهِينَ عن الخضوعِ بالقولِ.
ومِنْ ذلكَ قولُهُ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]. فرَفَعَ تَوَهُّمَ فَهْمِ الخيطينِ مِن الخيوطِ بقولِهِ: {مِنَ الْفَجْرِ}.
ومِنْ ذلكَ قولُهُ تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)} [التكوير: 28] فأَثْبَتَ لهم مَشيئةً، فلَعَلَّ مُتَوَهِّماً يَتَوَهَّمُ استقلالَهُ بها، وأنَّهُ إن شاءَ أتى بها، وإن شاءَ لم يأتِ، فأزالَ سُبحانَهُ ذلكَ بقولِهِ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29]، [الإنسان: 30].
ثُمَّ لعلَّ مُتَوَهِّماً يَتَوَهَّمُ أنَّهُ [تعالى] يشاءُ الشيءَ بلا حِكمةٍ ولا عِلْمٍ بمواقِعِ مَشيئتِهِ، وحيثُ تَصْلُحُ، فأزالَ ذلكَ بقولِهِ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)} [الإنسان: 30].
ونظيرُ ذلكَ قولُهُ تعالى: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)} [المدثر: 54-56].
ومِنْ ذلكَ قولُهُ: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ} [التوبة: 111] فلعلَّ مُتَوَهِّماً يَتَوَهَّمُ أنَّ اللهَ سُبحانَهُ يَجُوزُ عليهِ تَرْكُ الوفاءِ بما وَعَدَ بهِ , فأَزالَ ذلكَ بقولِهِ: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 111].
ومِنْ ذلكَ قولُهُ تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158].
فلَمَّا ذَكَرَ إتيانَهُ سُبحانَهُ رُبَّمَا تَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أنَّ المرادَ إتيانُ بعضِ آياتِهِ أَزالَ هذا الوَهْمَ ورَفَعَ الإشكالَ بقولِهِ: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] فصارَ الكلامُ معَ هذا التقسيمِ والتنويعِ نَصًّا صريحاً في معناهُ لا يَحْتَمِلُ غيرَهُ (63).
وإذا تَأَمَّلْتَ أحاديثَ الصِّفَاتِ رأيتَ هذا لائحاً على صَفَحاتِها بادِياً على ألفاظِها كقولِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَاناً كَمَا تُرَى الشَّمْسُ فِي الظَّهِيرَةِ صَحْواً لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ، وَكَمَا يُرَى الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ)) (64).
وقولِهِ: ((مَا مِنْكُمْ إِلاَّ مَنْ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ وَلا حِجَابٌ يَحْجُبُهُ)) ([65]) فلَمَّا كانَ تكليمُ الملوكِ قدْ يَقَعُ بواسطةِ التُّرجُمانِ ومِنْ وَراءِ الْحِجابِ، أَزالَ هذا الوَهْمَ مِن الأفهامِ. وكذلكَ الحديثُ الآخَرُ ((أنَّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَرَأَ: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)} [النساء: 134]وَضَعَ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ)) ([66])، رَفْعاً لِتَوَهُّمِ مُتَوَهِّمٍ أنَّ المرادَ بالسمْعِ والبصرِ غيرُ الصفتينِ المعلومتينِ، وأمثالُ هذا كثيرٌ في القرآنِ والسُّنَّةِ. كما في الحديثِ الصحيحِ أنَّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ: ((يَقْبِضُ اللهُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ وَالأَرْضَ بِالْيَدِ الأُخْرَى)) ثُمَّ جَعَلَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقْبِضُ يَدَهُ ويَبْسُطُها ([67]) ؛ تحقيقاً لإثباتِ اليدِ وإثباتِ صفةِ القبضِ. ومِنْ إشارتِهِ بأُصْبُعِهِ إلى السماءِ، حينَ استَشْهَدَ ربَّهُ تَبَارَكَ وتعالى على الصحابةِ أنَّهُ قدْ بَلَّغَهُمْ ([68]) ؛ تَحقيقاً لإثباتِ صِفةِ العُلُوِّ، وأنَّ الربَّ الذي اسْتَشْهَدَهُ فوقَ العالمِ، مُسْتَوٍ على عَرْشِهِ.
فهذه أمثلةٌ يسيرةٌ ذَكرناها، ليَعْرِفَ الفَهِمُ الْمُنْصِفُ القاصدُ للْهُدَى والنجاةِ منها ما يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ وما لا يَقْبَلُهُ، ولا عِبْرَةَ بغيرِهِ. واللهُ الْمُستعانُ)([69]).
[الثامنُ والعشرونَ]: أنَّ الصِّفَاتِ ثلاثةُ أنواعٍ:
- صفاتُ كمالٍ.
- وصفاتُ نَقْصٍ.
- وصفاتٌ لا تَقتضِي كَمَالاً ولا نَقْصاً.
وإن كانت القِسمةُ التقديريَّةُ تَقتضِي قِسْماً رابعاً، وهوَ ما يكونُ كَمالاً ونَقْصاً باعتبارينِ.
والربُّ تعالى مُنَـزَّهٌ عن الأقسامِ الثلاثةِ، وموصوفٌ بالقِسمِ الأوَّلِ. وصفاتُهُ كلُّها صفاتُ كمالٍ مَحْضٍ، فهوَ موصوفٌ مِن الصِّفَاتِ بأكملِها، ولهُ مِن الكمالِ أَكْمَلُهُ.
وهكذا أسماؤُهُ الدالَّةُ على صِفاتِهِ هيَ أَحسنُ الأسماءِ وأَكملُها، فليسَ في الأسماءِ أَحْسَنُ منها، ولا يقومُ غيرُها مَقامَها، ولا يُؤَدِّي مَعناها، وتفسيرُ الاسمِ منها بغيرِهِ ليسَ تفسيراً بِمُرادفٍ مَحْضٍ، بلْ هوَ على سبيلِ التقريبِ والتفهيمِ.
وإذا عَرَفْتَ هذا، فلهُ مِنْ كلِّ صِفةِ كمالٍ أَحسنُ اسمٍ وأكمَلُهُ وأَتَمُّهُ معنًى، وأبعدُهُ وأَنـزهُهُ عنْ شائبةِ عَيبٍ أوْ نَقْصٍ.
فلهُ مِنْ صفةِ الإدراكاتِ: العليمُ الخبيرُ دونَ العاقلِ الفقيهِ، والسميعُ البصيرُ دونَ السامعِ والباصرِ والناظرِ.
ومِنْ صفاتِ الإحسانِ: البَرُّ الرحيمُ الودودُ، دونَ الرفيقِ والشَّفُوقِ ونحوِهما، وكذلكَ العليُّ العظيمُ دونَ الرفيعِ الشريفِ، وكذلكَ الكريمُ دونَ السخِيِّ، والخالقُ البارئُ المصوِّرُ دونَ الفاعلِ الصانعِ المشَكِّلِ، والغفورُ العفُوُّ دونَ الصفوحِ الساترِ.
وكذلكَ سائرُ أسمائِهِ تعالى يُجْرِي على نفسِهِ منها أَكْمَلَها وأحسنَها، وما لا يَقُومُ غيرُهُ مَقامَهُ.
فتَأَمَّلْ ذلكَ فأسماؤُهُ أَحسَنُ الأسماءِ، كما أنَّ صفاتِهِ أَكملُ الصِّفَاتِ؛ فلا تَعْدِلْ عما سَمَّى بهِ نفسَهُ إلى غيرِهِ، كما لا تَتجاوَزْ ما وَصَفَ بهِ نفسَهُ ووَصَفَهُ بهِ رسولُهُ إلى ما وَصَفَهُ بهِ الْمُبْطِلُونَ والمعَطِّلونَ) ([70]).
[التاسعُ والعشرونَ]: ([أنَّا] نَصِفُ اللهَ تعالى بما وَصَفَ بهِ نفسَهُ، وبما وَصَفَهُ بهِ رسولُهُ، مِنْ غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومِنْ غيرِ تَشبيهٍ ولا تَمثيلٍ، بلْ نُثْبِتُ لهُ سُبحانَهُ ما أَثْبَتَهُ لنفسِهِ مِن الأسماءِ والصفاتِ، ونَنْفِي عنهُ النقائصَ والعيوبَ ومشابَهَةَ المخلوقاتِ، إثباتاً بلا تَمثيلٍ، وتَنزيهاً بلا تَعطيلٍ، فمَنْ شَبَّهَ اللهَ بخَلْقِهِ فقدْ كَفَرَ، ومَنْ جَحَدَ ما وَصَفَ اللهُ بهِ نفسَهُ فقدْ كَفَرَ، وليسَ ما وَصَفَ بهِ نفسَهُ أوْ وَصَفَهُ بهِ رسولُهُ تَشبيهاً، فالمشَبِّهُ يَعبُدُ صَنَماً، والمعطِّلُ يَعبُدُ عَدَماً، والْمُوَحِّدُ يَعْبُدُ إلهاً واحداً صَمَداً {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11].
والكلامُ في الصِّفَاتِ كالكلامِ في الذاتِ، فكما أنَّا نُثْبِتُ ذاتاً لا تُشْبِهُ الذواتِ، فكذلكَ نَقولُ في صِفاتِهِ: إنَّها لا تُشْبِهُ الصِّفَاتِ، فليسَ كمثلِهِ شيءٌ، لا في ذاتِهِ، ولا في صفاتِهِ، ولا في أفعالِهِ، فلا نُشَبِّهُ صفاتِ اللهِ بصفاتِ المخلوقينَ، ولا نُزيلُ عنهُ سُبحانَهُ صِفَةً مِنْ صفاتِهِ لأَجْلِ شَناعةِ الْمُشَنِّعِينَ وتَلقيبِ الْمُفترينَ، كما أنَّا لا نَبْغَضُ أصحابَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، لتَسميَةِ الروافضِ لنا نَوَاصِبَ، ولا نُكَذِّبُ بقَدَرِ اللهِ ولا نَجْحَدُ كمالَ مَشيئتِهِ وقُدْرَتِهِ، لتَسميَةِ القَدَرِيَّةِ لنا مُجْبِرَةً، ولا نَجْحَدُ صفاتِ ربِّنَا تَبارَكَ وتعالى، لتَسميَةِ الْجَهْمِيَّةِ والمعتزِلَةِ لنا مُجَسِّمَةً مُشَبِّهَةً حَشْوِيَّةً، ورحمةُ اللهِ على القائلِ:

فإن كانَ تَجسيماً ثُبوتُ صِفَاتِهِ لَدَيْكُمْ فإنِّي اليومَ عَبْدٌ مُجَسِّمُ

ورَضِيَ اللهُ عن الشافعِيِّ حيث قالَ:

إن كانَ رَفْضاً حُبُّ آلِ مُحَمَّدِ فلْيَشْهَد الثَّقَلانِ أَنِّيَ رافِضِي

وقَدَّسَ اللهُ رُوحَ القائلِ - وهوَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَةَ - إذ يقولُ:

إن كانَ نَصْباً حُبُّ صَحْبِ مُحَمَّدِ فلْيَشْهَدِ الثَّقَلانِ أَنِّيَ نَاصِبِي)([71])

[الثلاثونَ]: ([أنَّ شأنَ] كلِّ مُبْطِلٍ [نفيُ] حقائقِ أسمائِهِ وصفاتِهِ بالتعبيرِ عنها بعباراتٍ اصطلاحيَّةٍ تَوَصَّلَ بها إلى نفيِ ما وَصَفَ بهِ نفسَهُ، كتسميَةِ الجهميَّةِ المُعَطِّلَةِ صفاتِهِ أَعْرَاضاً، ثُمَّ تَوَصَّلُوا بهذه التسميَةِ إلى نَفْيِهَا.
وسَمَّوا أفعالَهُ القائمةَ بهِ حوادثَ، ثُمَّ تَوَصَّلُوا بهذه التسميَةِ إلى نَفْيِها، وقالوا: لا تَحُلُّهُ الحوادثُ، كما قالت المُعَطِّلَةُ: ولا تقومُ بهِ الأعراضُ.
وسَمَّوا عُلُوَّهُ على خَلْقِهِ، واستواءَهُ على عرشِهِ، وكونَهُ قاهراً فوقَ عِبادِهِ تَحَيُّزاً وتَجسُّماً، ثُمَّ تَوَصَّلُوا بنفيِ ذلكَ إلى نفيِ عُلُوِّهِ عنْ خَلْقِهِ واستوائِهِ على عرشِهِ.
وسَمَّوا ما أَخْبَرَ بهِ عنْ نفسِهِ مِن الوجهِ واليدينِ والإصبعِ جوارحَ وأعضاءً، ثُمَّ نَفَوْا ما أَثْبَتَهُ لنفسِهِ بتَسميتِهم لهُ بغيرِ تلكَ الأسماءِ {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)} [النجم: 23].
فتَوَصَّلُوا بالتشبيهِ والتجسيمِ والتركيبِ والحوادثِ والأعراضِ والتحيُّزِ إلى تعطيلِ صفاتِ كمالِهِ ونعوتِ جَلالِهِ وأفعالِهِ، وأَخْلَوْا تلكَ الأسماءَ مِنْ مَعانِيها، وعَطَّلُوها مِنْ حقائقِها.
فيقالُ لِمَنْ نَفَى مَحَبَّتَهُ وكراهتَهُ لاستلزامِها مَيْلَ الطبعِ ونُفْرَتَه: ما الفرْقُ بينَكَ وبينَ مَنْ نَفَى كونَهُ مُرِيداً لاستلزامِ الإرادةِ حركةَ النفْسِ إلى جَلْبِ ما يَنفعُها ودَفْعِ ما يَضُرُّهَا، ومَنْ نَفَى سَمْعَهُ وبَصَرَهُ لاستلزامِ ذلكَ تأثُّرَ السمْعِ والبصرِ بالمسموعِ والمبْصَرِ، وانطباعَ صورةِ المرئيِّ في الرائي، وحَمْلَ الهواءِ الصوتَ المسموعَ إلى أُذُنِ السامعِ، ومَنْ نَفَى عِلْمَهُ لاستلزامِهِ انطباعَ صورةِ المعلومِ في النفْسِ الناطقةِ، ونَفَى غَضَبَهُ ورِضاهُ؛ لاستلزامِ ذلكَ حَركةَ القلبِ وانفعالَهُ بما يَرِدُ عليهِ مِن المؤلِمِ والسارِّ، ونَفَى كلامَهُ لاستلزامِ الكلامِ مَحَلاًّ يَقومُ بهِ ويَظْهَرُ منهُ مِنْ شَفَةٍ ولِسانٍ ولَهَوَاتٍ؟
ولَمَّا لم يُمْكِنْ أحداً أَقَرَّ بوجودِ ربِّ العالمينَ طَرْدُ ذلكَ وَقَعَ في التناقُضِ ولا بُدَّ؛ فإنَّهُ أيَّ شيءٍ أَثْبَتَهُ لَزِمَهُ فيهِ ما الْتَزَمَ، كمَنْ أَثْبَتَ ما نَفاهُ هوَ مِنْ غيرِ فَرْقٍ الْبَتَّةَ؛ ولهذا قالَ الإمامُ أحمدُ وغيرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السنَّةِ: لا نُـزِيلُ عن اللهِ صِفةً مِنْ صفاتِهِ لأَجْلِ شَناعةِ الْمُشَنِّعِينَ.
والمقصودُ: أنَّا لا نَجْحَدُ مَحَبَّتَهُ تعالى لِمَا يُحِبُّهُ وكراهتَهُ لِمَا يَكرهُهُ لتَسميَةِ النُّفَاةِ ذلكَ مُلاءَمَةً ومُنافَرَةً.
ويَنبغِي التَّفَطُّنُ لهذا الموضِعِ ؛ فإنَّهُ مِنْ أَعظمِ أصولِ الضلالِ. فلا نُسَمِّي العَرْشَ حَيِّزاً، ولا نُسَمِّي الاستواءَ تَحَيُّزاً، ولا نُسَمِّي الصِّفَاتِ أَعْرَاضاً، ولا الأفعالَ حوادثَ، ولا الوجهَ واليدينِ والأصابعَ جوارحَ وأعضاءً، ولا إثباتَ صفاتِ كمالِهِ التي وَصَفَ بها نفسَهُ تَجسيماً وتشبيهاً، فنَجْنِيَ جِنايتينِ عَظيمتينِ:
- جِنايَةً على اللفظِ.
- وجِنايَةً على المعنَى.
فنُبَدِّلَ الاسمَ ونُعَطِّلَ معناهُ)([72]). *
[الحادي والثلاثونَ]: (اخْتَلَفَ النُّظَّارُ في الأسماءِ التي تُطْلَقُ علَى اللهِ وعلَى العِبادِ، كالحيِّ والسميعِ والبصيرِ والعليمِ والقديرِ والملِكِ، ونحوِها:
- فقالت طائفةٌ مِن المتكلِّمينَ: هيَ حقيقةٌ في العبدِ مَجازٌ في الربِّ، وهذا قولُ غُلاةِ الجهميَّةِ، وهوَ أَخْبَثُ الأقوالِ وأَشَدُّها فَسَاداً.
- الثاني: مقَابِلُهُ، وهوَ: أنَّها حقيقةٌ في الربِّ مَجازٌ في العبدِ، وهذا قولُ أبي العبَّاسِ الناشِي.
- الثالثُ: أنَّها حقيقةٌ فيهما، وهذا قولُ أهلِ السُّنَّةِ، وهوَ الصوابُ.
واختلافُ الحقيقتينِ فيهما لا يُخْرِجُها عنْ كونِها حقيقةً فيهما. وللربِّ تعالَى منها ما يَليقُ بجلالِهِ، وللعبدِ منها ما يَليقُ بهِ. وليسَ هذا مَوْضِعَ التعَرُّضِ لِمَأْخَذِ هذهِ الأقوالِ وإبطالِ باطلِها، وتصحيحِ صَحِيحِها، فإنَّ الغرَضَ الإشارةُ إلَى أمورٍ يَنبغِي مَعرِفَتُها في هذا البابِ، ولوْ كانَ المقصودُ بَسْطَها لاستَدْعَتْ سِفْرَيْنِ أوْ أكثرَ. (73)
[الثاني والثلاثونَ]: أنَّ الاسمَ والصفةَ مِنْ هذا النوعِ لهُ ثلاثُ اعتباراتٍ:
- اعتبارٌ مِنْ حيث هوَ، معَ قَطْعِ النظَرِ عنْ تَقييدِهِ بالربِّ تَبَارَكَ وتعالَى أو العَبْدِ.
- الاعتبارُ الثاني: اعتبارُهُ مُضافاً إلَى الربِّ مُخْتَصًّا بهِ.
- الثالثُ: اعتبارُهُ مُضَافاً إلَى العبدِ مُقَيَّداً بهِ.
· فما لَزِمَ الاسمَ لذاتِهِ وحقيقتِهِ كانَ ثابتاً للربِّ والعبدِ، وللربِّ منهُ ما يَليقُ بكمالِهِ، وللعبدِ منهُ ما يَليقُ بهِ، وهذا كاسمِ السميعِ الذي يَلْزَمُهُ إدراكُ المسموعاتِ، والبصيرِ الذي يَلْزَمُهُ رؤيَةُ الْمُبْصَرَاتِ، والعليمِ والقديرِ وسائرِ الأسماءِ، فإنَّ شَرْطَ صِحَّةِ إطلاقِها حصولُ معانيها وحقائقِها للموصوفِ بها، فما لَزِمَ هذهِ الأسماءَ لذاتِها فإثباتُهُ للربِّ تعالَى لا مَحذورَ فيهِ بوجهٍ، بلْ ثَبَتَتْ لهُ علَى وجهٍ لا يُماثلُهُ فيهِ خَلْقُهُ ولا يُشابِهُهُمْ.
- فمَنْ نَفاهُ عنهُ لإطلاقِهِ علَى المخلوقِ أَلْحَدَ في أسمائِهِ، وجَحَدَ صفاتِ كمالِهِ.
- ومَنْ أَثْبَتَهُ لهُ علَى وجهٍ يُمَاثِلُ فيهِ خلْقَهُ فقدْ شَبَّهَهُ بخَلْقِهِ، ومَنْ شَبَّهَ اللهَ بخلْقِهِ فقدْ كَفَرَ.
- ومَنْ أَثْبَتَهُ لهُ علَى وجهٍ لا يُماثِلُ فيهِ خَلْقَهُ، بلْ كما يَليقُ بجلالِهِ وعظمتِهِ، فقدْ بَرِئَ مِنْ فَرْثِ التشبيهِ ودمِ التعطيلِ، وهذا طريقُ أهلِ السُّنَّةِ.
· وما لَزِمَ الصفةَ لإضافتِها إلَى العبدِ وَجَبَ نفيُهُ عن اللهِ، كما يَلْزَمُ حياةَ العبدِ مِن النومِ والسِّنَةِ والحاجةِ إلَى الغذاءِ، ونحوِ ذلكَ، وكذلكَ ما يَلْزَمُ إرادتَهُ مِنْ حركةِ نفسِهِ في جَلْبِ ما يَنتفِعُ بهِ ودَفْعِ ما يَتَضَرَّرُ بهِ، وكذلكَ ما يَلْزَمُ عُلُوَّهُ مِن احتياجِهِ إلَى ما هوَ عالٍ عليهِ، وكونِهِ مَحمولاً بهِ مُفْتَقِراً إليهِ مُحاطاً بهِ، كلُّ هذا يَجِبُ نفيُهُ عن القُدُّوسِ السلامِ تَبارَكَ وتعالَى ([74]).
· وما لَزِمَ صفةً مِنْ جهةِ اختصاصِهِ تعالَى بها فإنَّهُ لا يَثْبُتُ للمخلوقِ بوجهٍ، كعلْمِهِ الذي يَلْزَمُهُ القِدَمُ والوجوبُ والإحاطةُ بكلِّ معلومٍ، وقُدرتِهِ وإرادتِهِ وسائرِ صفاتِهِ، فإنَّ ما يَخْتَصُّ بهِ منها لا يُمْكِنُ إثباتُهُ للمخلوقِ.
فإذا أَحَطْتَ بهذه القاعدةِ خُبراً وعَقَلْتَهَا كما يَنبغِي خَلَصْتَ مِن الآفتينِ اللَّتينِ هما أصلُ بلاءِ المتكلِّمينَ: آفةِ التعطيلِ والتشبيهِ، فإنكَ إذا وَفَّيْتَ هذا الْمَقامَ حَقَّهُ مِن التَّصَوُّرِ أَثْبَتَّ للهِ الأسماءَ الْحُسْنَى والصفاتِ العُلَى حقيقةً فخَلَصْتَ مِن التعطيلِ، ونَفيتَ عنها خصائصَ المخلوقينَ ومُشابهتَهم؛ فخَلَصْتَ مِن التشبيهِ.
َتَدَبَّرْ هذا الموضعَ، واجْعَلْهُ جُنَّتَكَ التي تَرجعُ إليها في هذا البابِ. واللهُ الموفِّقُ للصوابِ)([75]).
[الثالثُ والثلاثونَ]: ([أنَّ] اللهَ سُبحانَهُ ليسَ كمثلِهِ شيءٌ، لا في ذاتِهِ، ولا في صفاتِهِ، ولا في أفعالِهِ. فالعارفونَ بهِ، المصدِّقونَ لرُسلِهِ، الْمُقِرُّونَ بكمالِهِ: يُثبتونَ لهُ الأسماءَ والصفاتِ، ويَنفونَ عنهُ مُشابَهَةَ المخلوقاتِ.
فيَجْمَعونَ بينَ الإثباتِ ونفيِ التشبيهِ، وبينَ التنـزيهِ وعدمِ التعطيلِ.
فمَذهبُهم حَسَنَةٌ بينَ سَيِّئَتَيْنِ، وهُدًى بينَ ضَلالتينِ.
فصِراطُهم صراطُ المنعَمِ عليهم، وصراطُ غيرِهم صِراطُ المغضوبِ عليهم والضالِّينَ. قالَ الإمامُ أحمدُ رَحِمَهُ اللهُ: لا نُـزيلُ عن اللهِ صِفةً مِنْ صفاتِهِ لأَجْلِ شَناعةِ الْمُشَنِّعِينَ، وقالَ: التشبيهُ أنْ تقولَ: يَدٌ كَيَدِي - تعالَى اللهُ عنْ ذلكَ عُلُوًّا كبيراً)([76]).
[الرابعُ والثلاثونَ]: ([أ]نَّ المعانيَ المفهومةَ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ لا تُرَدُّ بالشُّبُهاتِ؛ فيكونَ رَدُّها مِنْ بابِ تحريفِ الكَلِمِ عنْ مَواضِعِهِ، ولا يُتْرَكُ تَدَبُّرُها ومَعرفتُها، فيكونَ ذلكَ مشابَهَةً للذينَ إذا ذُكِّرُوا بآياتِ ربِّهم خَرُّوا عليها صُمًّا وعُمْيَاناً، ولا يُقالُ: هيَ ألفاظٌ لا تُعْقَلُ مَعانيها ولا يُعْرَفُ المرادُ منها، فيكونَ ذلكَ مُشابَهَةً للذينَ لا يَعلمونَ الكتابَ إلاَّ أَمَانِيَّ؛ بلْ هيَ آياتٌ بَيِّنَاتٌ دالَّةٌ علَى أَشرفِ المعاني وأَجَلِّها، قائمةٌ حقائقُها في صدورِ الذينَ أُوتُوا العلْمَ والإيمانَ، إثباتاً بلا تَشبيهٍ، وتَنزيهاً بلا تعطيلٍ، كما قامَتْ حقائقُ سائرِ صفاتِ الكمالِ في قلوبِهم كذلكَ، فكان البابُ عندَهم باباً واحداً، قد اطمأَنَّتْ بهِ قلوبُهم، وسَكَنَتْ إليهِ نفوسُهم، فَأَنِسُوا مِنْ صفاتِ كمالِهِ ونعوتِ جَلالِهِ بما اسْتَوْحَشَ منهُ الجاهلونَ الْمُعَطِّلُونَ، وسَكَنَتْ قلوبُهم إلَى ما نَفَرَ منهُ الجاحدونَ، وعَلِمُوا أنَّ الصِّفَاتِ حُكْمُها حُكْمُ الذاتِ؛ فكما أنَّ ذاتَهُ سُبحانَهُ لا تُشْبِهُ الذواتِ فصفاتُهُ لا تُشبِهُ الصِّفَاتِ، فما جاءَهم مِن الصِّفَاتِ عن المعصومِ تَلَقَّوْهُ بالقَبولِ، وقابَلُوهُ بالمعرفةِ والإيمانِ والإقرارِ؛ لعِلْمِهم بأنَّهُ صفةُ مَنْ لا شَبيهَ لذاتِهِ ولا لصفاتِهِ.
قالَ الإمامُ أحمدُ: [إِنَّمَا التشبيهُ أن يقولَ: يدٌ كيدٍ، أوْ: وجهٌ كوجهٍ]؛ فأمَّا إثباتُ يدٍ ليستْ كالأيدي، ووجهٍ ليسَ كالوجوهِ، فهوَ كإثباتِ ذاتٍ ليست كالذواتِ. وحياةٍ ليستْ كغيرِها مِن الحياةِ، وسَمْعٍ وبَصَرٍ ليسَ كالأسماعِ والأبصارِ، وليسَ إلاَّ هذا الْمَسْلَكَ أوْ مَسْلَكَ التعطيلِ الْمَحْضِ، أو التناقضَ الذي لا يَثْبُتُ لصاحبِهِ قَدَمٌ في النفيِ ولا في الإثباتِ، وباللهِ التوفيقُ)([77]) ).[المرتبع الأسنى: ؟؟]


([1]) بَدائِعُ الفَوائِدِ (2/ 204).
([2]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 280.
([3]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 280.
([4]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 282.
([5]) جلاءُ الأَفْهَامِ (166).
([6]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 279.
([7]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 110.
([8]) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 159-161).
(9) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 162).
وقال -رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- في جلاءِ الأفهامِ (91): (وقد اختلَفَ النُّظَّارُ في هذه الأسماءِ هل هي متباينةٌ نَظرًا إلى تبايُنِ مَعانِيها وأنَّ كلَّ اسمٍ يَدُلُّ على معنًى غيرِ ما يَدُلُّ عليه الآخَرُ أم هي مترادفةٌ لأنها تدُلُّ على ذاتٍ واحدةٍ فمَدْلُولُها لا تَعَدُّدَ فيه، وهذا شأنُ المُترادِفاتِ؟ والنزاعُ لفظيٌّ في ذلك. والتحقيقُ أن يُقالَ: هي مترادفةٌ بالنظرِ إلى الذاتِ مُتباينةٌ بالنظرِ إلى الصفاتِ، وكلُّ اسمٍ منها يَدُلُّ على الذاتِ الموصوفةِ بتلك الصفةِ بالمُطابَقةِ، وعلى أحدَهِما وَحْدَهُ بالتضمُّنِ، وعلى الصِّفَةِ الأُخْرَى بالالتزامِ).
([10]) وقالَ رَحِمَهُ اللهُ في مَدارِجِ السَّالِكينَ (3/ 384): (وكذلك بابُ الإخبارِ عنهُ بالاسمِ أَوْسَعُ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِهِ. فإنَّهُ يُخْبَرُ عَنْهُ "شَيْءٌ ومَوْجُودٌ، ومَذْكُورٌ، ومَعْلُومٌ، ومُرادٌ" لا يُسَمَّى بذلك).
([11]) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 162).
([12]) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 161)
([13]) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 162)
وقال -رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- في مَدارجِ السَّالكِينَ (3/ 383): (وقد أَخْطَأَ -أَقْبَحَ خَطَأٍ- مَنِ اشْتَقَّ له مِنْ كُلِّ فِعْلٍ اسمًا.
وبلَغَ بأَسمائِهِ زِيادةً على الألْفِ. فسَمَّاهُ (المَاكِرَ، والمُخادِعَ، والفَاتِنَ، والكَائِدَ) ونحوَ ذلك).
([14]) مُختصَرُ الصواعِقِ المُرسلَةِ (250)
([15]) مُختصَرُ الصواعِقِ المُرسلَةِ (248-250).
(16) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 167).
(17) وقال -رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- في القصيدةِ النُّونِيَّةِ (210- 211):
وَالْوَصْفُ مَعْنًى قَائِمٌ بِالذَّاتِ وَالْـ = أَسْمَاءُ أَعْلامٌ لَهُ بِوِزَانِ
أَسْمَاؤُهُ دَلَّتْ عَلَى أَوْصَافِهِ = مُشْتَقَّةٌ مِنْهَا اشْتِقَاقَ مَعَانِ
وصِفَاتُهُ دَلَّتْ عَلَى أَسْمَائِهِ = والفِعْلُ مُرْتَبِطٌ بِهِ الأَمْرَانِ
وَالْحُكْمُ نِسْبَتُهَا إِلَى مُتَعَلِّقَا= تٍ تَقْتَضِي آثَارَهَا بِبَيَانِ
وَلَرُبَّمَا يَعْنِي بِهِ الإِخْبَارَ عَنْ = آثارِهَا يُعْنَى بِهِ أَمْرَانِ
والفِعْلُ إِعطاءُ الإِرادَةِ حُكْمَهَا = مَعَ قُدْرَةِ الأَفْعَالِ وَالإِمْكَانِ
فإذا انتَفَتْ أَوْصَافُهُ سُبْحَانَهُ = فَجَمِيعُ هَذَا بَيِّنُ البُطْلانِ)
([18]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (20646)، ومسلمٌ في صلاةِ المسافرينَ / بابُ بيانِ أنَّ القرآنَ على سَبْعةِ أحرفٍ (1903)، والنَّسَائِيُّ في كتابِ الصلاةِ / بابُ جامعِ ما جاءَ في القرآنِ (938،939،940) بدون هذه الزيادةِ، وهي عند أبي داودَ في سُننِه في كتابِ الصلاةِ / بابُ: أُنْزِلَ القرآنُ على سَبْعَةِ أحرفٍ (1478).
([19]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (1/ 52).
([20]) جلاءُ الأَفْهَامِ (88).
([21]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (1/ 60).
([22]) جلاءُ الأَفْهَامِ (90).
([23]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (1/ 53).
([24]) جلاءُ الأَفْهَامِ (90-91).
([25]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (3/ 337-338).
([26]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (1/ 51-52).
([27]) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 162).
([28]) هكذا في الأصلِ، ولعلَّ الصوابَ: أو فِعْلٌ من أَفعالِ خَلْقِه.
([29]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 76.
([30]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 76.
([31]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 117.
([32]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (17861)، والنَّسَائِيُّ في كتابِ السهوِ / بابُ (63)، الحديثُ رقْمُ (1304،1305)، من حديثِ عمَّارِ بنِ ياسرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما.
([33]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (2743)، ومسلمٌ في كتابِ الذكرِ والدعاءِ / بابُ التعوُّذِ مِن شَرِّ ما عَمِلَ ومِنْ شَرِّ مَا لَمْ يَعْمَلْ (6837)، من حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
([34]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/ 262-264).
([35]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (10541،8737)، ومسلمٌ في كتابِ الذِّكْرِ والدعاءِ / بابُ ما يقولُ عندَ النومِ وأخذِ المَضْجَعِ (6827)، والتِّرْمِذِيُّ في كتابِ الدَّعَوَاتِ / بابُ (19)، الحديثُ رَقْمُ (3400)، وأبو داودَ في كتابِ الأدبِ / بابُ ما يقولُ عند النَّوْمِ (5051)، وابْنُ مَاجَهْ في كتابِ الدعاءِ / بابُ دُعاءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ (3831) من حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه.
([36]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (1/ 54-55).
([37]) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 162).
(38) القصيدةُ النونيةُ (252).
([39]) الصَّواعِقُ المُرْسَلَةُ (1563-1565).
([40]) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 162-163).
([41]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/ 143).
([42]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/ 198).
([43]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/ 150).
([44]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/ 198).
(45) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 166-168).
(46) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 163).
(47) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 164).
([48]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 117.
([49]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (7450،7568،10103،10154،10307)، والبُخَارِيُّ في كتابِ التوحيدِ / بابُ إنَّ للهِ مائةَ اسمٍ إلا واحدًا (7392)، ومسلمٌ في كتابِ الذكرِ والدعاءِ / بابٌ في أسماءِ اللهِ تعالَى وفضلِ مَنْ أَحْصاهَا (6750)، والتِّرْمِذِيُّ في كتابِ الدَّعَوَاتِ / بابُ (83)، الحديثُ رقْمُ (3506)، وابْنُ مَاجَهْ في كتابِ الدُّعاءِ / بابُ أسماءِ اللهِ عزَّ وجلَّ (3860) من حديثِ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه.
(50) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 166-167).
(51) (في الأصلِ: فإنه إذا قَامَتْ بمَحَلٍّ كانَتْ هو التَّكَلُّمَ. ولعلَّ الصوابَ ما أثبتناهُ).
(52) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 166).
(53) هكذا في الأصلِ، ولعلَّ الصوابَ: تَرْتَفِعُ.
([54]) الصَّواعِقُ المُرْسَلَةُ (4/ 1218-1220).
(55) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 163).
(56) يُشِيرُ إلى ما رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (3868) من حديثِ عاصـمٍ عن أبي وائلٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه مرفـوعًا: (أَشَدُّ الناسِ عَذابًا يَوْمَ القِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا، وإمامُ ضَلالَةٍ، ومُمَثِّلٌ مِنَ المُمَثِّلِينَ). وفيه عاصمُ بنُ أبي النَّجُودِ يُضَعَّفُ في الحديثِ، ورُويَ من طرقٍ أُخرَى بألفاظٍ مختلفةٍ، وفي الصحيحِ بعضُه؛ فقد أخرجَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في صحيحِه (كتابُ المغازِي / بابُ ما أصابَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ من الجِراحِ يومَ أُحُدٍ) من حديثِ عِكْرِمَةَ، عن ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهُما موقوفًا عليهِ: (اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ علَى مَنْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، وَاشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ علَى مَنْ دَمَّى وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ) . وفيه من حديثِ مَعْمَرٍ، عن هَمَّامٍ، سَمِعَ أبَا هُريْرَةَ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: ((اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِنَبِيِّهِ" يُشِيرُ إلى رَبَاعِيَتِهِ، "اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ في سبيلِ اللهِ))).
([57]) الصَّواعِقُ المُرْسَلَةُ (1444-1445).
([58]) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 161)
وقالَ -رَحِمَهُ اللهُ- في الصواعقِ المُرسَلَةِ (4/1368) (ومما يَنبغِي أن يُعلَمَ أنَّ كلَّ سَلْبٍ ونفيٍ لا يَتَضمَّنُ إثباتًا، فإنَّ الله لا يُوصَفُ به، لأنه عدمٌ مَحْضٌ، ونفيٌ صِرفٌ لا يَقتضِي مدحًا ولا كمالاً ولا تعظيمًا، ولهذا كان تَسبيحُه وتقديسُه -سُبحانَه- مُتضمنًا لعظَمَتِه، ومُستلزِمًا لصفاتِ كمالِه، ونعوتِ جَلالِه، وإلا فالمدحُ بالعدمِ المَحْضِ كلا مَدْحٍ، والعدمُ في نفسِه ليس بشيءٍ يُمْدَحُ به، ويُحْمَدُ عليه، ولا يُكْسِبُ القلبَ عِلْمًا بالمذكورِ، ولا مَحَبَّةً ولا قَصدًا له، ولهذا كان عدمُ السِّنَةِ والنَّوْمِ مَدْحًا وكمالاً في حقِّه سُبحانَهُ لتضمُّنِهِ واستلزامِهِ كمالَ حياتِه وقَيُّومِيَّتِهِ، ونَفْيُ اللُّغوبِ عنه كمالٌ لاستلزامِه كمالَ قُدرتِه وقوتِه، ونفيُ النسيانِ عنه كمالٌ لتضمنِه كمالَ علمِه، وكذلك نفيُ عُزوبِ شيءٍ عنه، ونفيُ الصاحبةِ والولَدِ كمالٌ لتضمنِهِ كمالَ غِناهُ وتَفَرُّدِه بالربوبيةِ وأن مَن في السماواتِ والأرضِ عَبِيدٌ له، وكذلك نَفْيُ الكُفُؤِ والسَّمِيِّ والمِثْلِ عنه كمالٌ: لأنه يَسْتَلْزِمُ ثُبوتَ جَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ له على أَكملِ الوُجوهِ واستحالةَ وجودِ مشاركٍ له فيها، فالذين يَصِفُونَهُ بالسُّلوبِ فَقَطْ من الجَهْميَّةِ والفلاسفةِ لم يَعْرِفُوهُ مِنَ الوجهِ الذي عَرَفَتْهُ به الرُّسُلُ وعَرَّفُوهُ به إلى الخلقِ وهو الوجهُ الذي يَحْمَدُه به ويُثنِي عليه به، ويُمَجَّدُ وتُعرَفُ به عَظَمَتُه وجلالُه، وإنَّما عَرَفُوهُ من الوجهِ الذي يَقُودُهم إلى تعطيلِ العلمِ والمعرفةِ والإيمانِ به بعدمِ اعتقادِهِمُ الحقَّ، واعتقادِهِم خِلافَ الحَقِّ، وحقيقةُ أمرِهم أنهم لم يُثبِتُوا للهِ عظمةً إلا ما تخيلُوه في نفوسِهم من السُّلوبِ والنفيِ الذي لا عَظمةَ فيه ولا مدحَ فضلاً عن أن يكونَ كَمالاً، بل ما أَثْبَتُوهُ مُسْتَلْزِمٌ لنفيِ ذاتِه رأسًا.
وأما الصفاتيةُ الذين يؤمنونَ ببعضٍ ويَجْحَدُونَ بعضًا، فإذا أَثْبَتُوا عِلمًا وقدرةً وإرادةً وغيرَها تَضمَّنَ ذلكَ إثباتَ ذاتٍ تَقُومُ بها هذه الصفاتُ، وتتميزُ بحقيقتِها وماهيَّتِها سواءٌ سَمَّوْهُ قَدَرًا أو لم يُسمُّوه، فإن لم يُثْبِتُوا ذاتًا مُتميِّزَةً بحقيقَتِها وماهيَّتِها كانوا قد أَثْبَتُوا صفاتٍ بلا ذاتٍ، كما أثبتَ إِخوانُهم ذاتًا بلا صفاتٍ وأثبتُوا أسماءً بلا معانٍ ولا حقائِقَ، وذلك كُلُّه مخالَفةٌ لصريحِ المعقولِ، وهم يَدَّعُونَ أنهم أربابُ عَقليَّاتٍ فلا بُدَّ من إثباتِ ذاتٍ مُحقَّقَةً لها الأسماءُ الحُسْنَى التي لا تَكُونُ حُسْنَى إلا إذا كانَتْ دَالَّةً على صفاتِ كَمالِهِ، وإلا فالأسماءُ فَارِغَةٌ لا مَعْنَى لها، لا تُوصَفُ بحُسْنٍ، فضلاً عن كونِها أحسنَ من غيرِها).
ـ وقالَ رَحِمَهُ اللهُ ـ في كتابِ الفوائدِ (181-182): (والمدحُ والثناءُ لا يَحْصُلانِ بالنفيِ المحضِ إن لم يَتَضمَّنْ ثبوتًا، فإنَّ النفيَ كاسمِهِ عدمٌ لا كمالَ فيه ولا مدحَ، فإذا تضمنَ ثُبوتًا صحَّ المدحُ به، كنَفْيِ النسيانِ المستلزمِ لكمالِ العلمِ وبيانِه، ونفيِ اللُّغوبِ والإعياءِ والتعبِ المستلزمِ لكمالِ القوةِ والقدرةِ، ونَفيِ السِّنَةِ والنومِ المستلزمِ لكمالِ الحياةِ والقيوميَّةِ، ونفيِ الولَدِ والصاحبةِ المستلزمِ لكمالِ الغِنَى والمُلكِ والرُّبُوبيةِ، ونفيِ الشريكِ والوليِّ والشفيعِ بدونِ إذنٍ المستلزمِ لكمالِ التوحيدِ والتفردِ بالكمالِ والإلهيةِ والمُلكِ، ونفيِ الظلمِ المتضمنِ لكمالِ العدلِ، ونفيِ إدراكِ الأبصارِ له المتضمنِ لِعَظَمَتِهِ وأنه أَجَلُّ من أن يُدْرَك وإن رَأتهُ الأبصارُ، وإلا فليسَ في كونِه لا يُرَى مَدحٌ بوجهٍ من الوجوهِ فإنَّ العدمَ المحضَ كذلك).
وقال -رَحِمَهُ اللهُ- في حادِي الأرواحِ (369-371) في مَعْرِضِ بيانِ أدلةِ الرؤيةِ (فصلٌ: الدليلُ السادسُ ـ قولُه عزَّ وجلَّ: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [ الأنعامُ: 103]. والاستدلالُ بهذا أَعْجَبُ، فإنَّهُ مِن أدلةِ النُّفاةِ، وقد قَرَّرَ شَيْخُنا وجهَ الاستدلالِ به أحسنَ تَقْرِيرٍ وألطفَهُ، وقال لي : أنَا أَلْتَزِمُ أنه لا يَحْتَجُّ مُبْطِلٌ بآيةٍ أو حديثٍ صحيحٍ على باطلِهِ إلا وفي ذلكَ الدليلِ مَا يَدُلُّ على نقيضِ قولِه، فمنها هذه الآيةُ وهي على جوازِ الرؤيةِ أدلُّ منها على امتناعِها، فإنَّ اللهَ سُبحانَهُ (وتَعالى) إنما ذَكَرَها في سِياقِ التمدُّحِ، ومعلومٌ أن المدحَ به إنما يكونُ بالأوصافِ الثُّبوتيَّةِ، وأما العدمُ المَحْضُ فليسَ بكَمالٍ، فلا يُمْدَحُ وإنما يُمْدَحُ الربُّ ـ تباركَ وتَعالَى ـ بالعدمِ إذا تضمنَ أمرًا وُجوديًّا كمدحِهِ بنَفْيِ السِّنَةِ والنومِ المُتضمِّنِ كمالَ القيُّومِيَّةِ، ونفيِ الموتِ المتضمنِ كمالَ الحياةِ ونفيِ اللُّغوبِ والإعياءِ المتضمنِ كمالَ القدرةِ ونفيِ الشريكِ والصاحبةِ والولَدِ والظهيرِ المتضمنِ كمالَ ربوبيتِهِ وإلهيَّتِه وقهرِه، ونفيِ الأكلِ والشُّربِ المتضمنِ لكمالِ صَمَديَّتِه وغِناهُ، ونفيِ الشفاعةِ عندَهُ بدونِ إذنِه المتضمنِ كمالَ توحيدِه وغناهُ عن خلقِه، ونفيِ الظلمِ المتضمنِ كمالَ عدلِه وعلمِه وغِناهُ، ونفيِ النسيانِ وعُزوبِ شيءٍ عن عِلمهِ المتضمنِ كمالَ عِلمِه وإحاطَتِه، ونفيِ المِثْلِ المتضمنِ لكَمالِ ذَاتِهِ وصِفاتِهِ ولهذا لم يَتَمَدَّحْ بعَدمٍ مَحْضٍ لا يَتَضَمَّنُ أمرًا ثُبوتيًّا. (فإنَّ المعدومَ يُشارِكُ المَوْصُوفَ في ذلك العدمِ، ولا يُوصَفُ الكَمالُ بأمرٍ يَشْتَرِكُ هو والمعدومُ فيهِ؛ فلو كانَ المُرادُ بقولِه: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} أنه لا يُرَى بحالٍ لم يَكُنْ في ذَلِكَ مَدْحٌ ولا كمالٌ، لمشاركةِ المعدومِ له في ذلك، فإن العدمَ الصِّرْفَ لا يُرَى ولا تُدْرِكُه الأبصارُ، والربُّ جلَّ جلالُه يَتعالَى أن يُمْدحَ بما يُشارِكُه فيه العدمُ المَحْضُ. فإذاً المعنَى أنه يُرَى ولا يُدْرَكُ، ولا يُحاطُ به، كما كانَ المَعْنَى في قولِه: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [ يُونُس: 61]، أنه يَعْلَمُ كُلَّ شيءٍ، وفي قولِه: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغوبٍ} [ق: 38]، أنه كاملُ القدرةِ، وفي قولِه: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [ الكهف: 49] أنه كاملُ العدلِ، وفي قولِه: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [ البقرةُ: 255]، أنه كاملُ القَيُّومِيَّةِ.
فقولُه: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعامُ: 103] يدُلُّ على غايةِ عَظَمَتِهِ، وأنه أَكْبَرُ مِن كُلِّ شيءٍ وأنه لِعَظَمَتِهِ لا يُدْرَكُ، بحيثُ يُحاطُ به، فإنَّ الإدراكَ هو الإحاطةُ بالشيءِ، وهو قدرٌ زائدٌ على الرؤيةِ كما قالَ تعالَى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ} [ الشعراءُ: 61]. فلم يَنْفِ موسَى الرؤيةَ، ولم يُرِيدُوا بقولِهم: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} إنا لمَرْئِيُّونَ. فإن مُوسَى ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ نَفَى إِدراكَهُم إياهُم بقولِه: (كلا) وأخبرَ اللهُ سبحانُه أنه لا يَخافُ دَرْكَهْم بقولِه: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى} [طه: 77]. فالرؤيةُ والإدراكُ كلٌّ منهما يوجَدُ معَ الآخَرِ وبدُونِه، فالربُّ تعالى يُرَى ولا يُدْرَكُ، كما يُعْلَمُ ولا يُحاطُ به، وهذا هو الذي فَهِمَتْهُ الصحابةُ والأئمةُ من الآيةِ.
قال ابنُ عباسٍ: (لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) لا تُحِيطُ به الأبصارُ، وقال قَتادةُ: هو أعظمُ من أن تُدْرِكُه الأبصارُ، وقال عَطِيَّةُ، يَنْظُرونَ إلى اللهِ ولا تُحِيطُ أبصارُهم به من عَظَمَتِهِ، وبَصَرُه يحيطُ بهم، فذلك قولُه [تعالَى]: {لاَ تُدْرِكُهُ الأبصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} فالمؤمنونَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ ـ تبارَكَ وتَعالَى ـ بأبصارِهِم عِيانًا ولا تُدْرِكُهُ أبصارُهم، بمعنَى أنها لا تُحِيطُ به إذ كانَ غيرُ جائزٍ أن يُوصفَ اللهُ عزَّ وجلَّ بأن شيئًا يُحيطُ به، وهو بكلِّ شيءٍ محيطٌ، وهكذا يُسْمِعُ كَلامَهُ مَنْ يَشاءُ مِن خَلقِه، ولا يُحيطونَ بكلامِه، وهكذا يَعْلَمُ الخلقُ ما عَلَّمَهُم، ولا يُحِيطُونَ بعِلمِه.
*ونظيرُ هذا: استدلالُهم على نفيِ الصفاتِ بقولِه تعالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [ الشورى: 11] وهذا من أعظمِ الأدلةِ على كَثْرَةِ صفاتِ كمالِهِ ونُعوتِ جَلالِهِ، وأنها لِكَثْرَتِهَا وعَظَمَتِهَا وسَعَتِهَا لم يَكُنْ له مِثْلٌ فيها، وإلا فلو أُرِيدَ بها نفيُ الصفاتِ لكانَ العدمُ المَحْضُ أولَى بهذا المدحِ منه معَ أنَّ جميعَ العقلاءِ، إنما يَفهمونَ من قولِ القائلِ: فلانٌ لا مِثْلَ له وليسَ له نظيرٌ، ولا شبيهٌ ولا مِثْلٌ، أنه قد تَمَيَّزَ عن الناسِ بأوصافٍ ونُعوتٍ لا يُشارِكُونَهُ فِيهَا، وكُلَّمَا كَثُرَتْ أَوْصَافُه ونُعوتُه فاقَ أَمْثَالَهُ، وبَعُدَ عن مُشابهةِ أَضرابِه، فقولُهُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، مِن أَدَلِّ شَيْءٍ على كَثْرَةِ نُعوتِهِ وصِفَاتِهِ وقولُه: {لا تُدْرِكُه الأَبْصَارُ} من أَدَلِّ شيءٍ على أنه يُرَى ولا يُدْرَكُ.
وقولُه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى علَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديدُ: 4]، مِن أَدَلِّ شيءٍ على مُباينةِ الربِّ لخلقِهِ، فإنه لم يَخْلُقْهُم في ذاتِه بل [خَلَقَهُمْ] خارجًا عن ذاتِه، ثم بانَ عنهم باستوائِه على عرشِهِ، وهو يعلَمُ ما هم عليه فيَراهُم ويَنْفُذُهُم بَصَرُه ويُحيطُ بهم علمًا وقدرةً وإرادةً وسَمْعًا وبَصَرًا، فهذا معنى كونِه سبحانَهُ معَهم أينما كانُوا، وتأمَّلْ حُسنَ هذه المقابلةِ لَفظًا ومعنًى بينَ قولِه: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعامُ: 103] فإنه سُبحانَهُ لِعَظمتِهِ يَتعالَى أن تُدْرِكَهُ الأبصارُ وتُحيطَ به، ولِلُطفِه وخِبرتِه يُدْرِكُ الأبصارَ فلا تَخْفَى عليه، فهو العظيمُ في لُطفِه، اللطيفُ في عَظمتِه، العالِي في قُربِه، القريبُ في عُلُوِّه الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}).
([59]) الصَّواعِقُ المُرْسَلَةُ (4/ 1366-1371).
([60]) الصَّواعِقُ المُرْسَلَةُ (1443)
([61]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (3/ 335-336).
([62]) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 15).
(63) وقالَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- في مَدارجِ السَّالكِينَ (3/ 329 - 330): (ومَن تأمَّلَ كيفيةَ وُرودِ آياتِ الصفاتِ في القرآنِ والسُّنَّةِ: عَلِمَ قَطعًا بُطلانَ تَأويلِها بما يُخرِجُها عن حقائِقِها، فإنها وَرَدَت على وجهٍ لا يَحْتَمِلُ معَه التأويلَ بوجهٍ.
فانظُرْ إلى قولِه تعالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ} هل يَحْتَمِلُ هذا التقسيمُ والتنويعُ تأويلَ إتيانِ الربِّ جَلَّ جَلالُه بإتيانِ ملائكتِه أو آياتِه؟ وهل يبقى مع هذا السياقِ شُبهةٌ أصلاً: أنه إِتْيانُهُ بنفسِه، وكذلك قولُه: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ والنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} - إلى أن قالَ– {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ففرَّقَ بينَ الإيحاءِ العامِّ والتكليمِ الخاصِّ، وجَعلَهُما نوعَينِ، ثم أَكَّدَ فِعلَ التكليمِ بالمصدرِ الرافعِ لتوهُّمِ ما يَقولُه المُحَرِّفُونَ.
وكذلك قولُه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} فنوَّعَ تَكليمَهُ إلى تكليمٍ بواسطةٍ، وتكليمٍ بغيرِ واسطةٍ. وكذلك قولُه لمُوسَى عليه السلامُ {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ علَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلامِي} ففرَّقَ بينَ الرسالةِ والكلامِ. والرسالةُ إنما هي بكلامِهِ.
وكذلك قولُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: ((((إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيانًا كمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ فِي الصَّحْوِ، لَيْسَ دُونَهُ سَحابٌ، وَكَما تَرَوْنَ الشَّمسَ فِي الظهيرةِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَها سَحابٌ)). ومعلومٌ أن هذا البيانَ والكشفَ والاحترازَ: يُنافِي إِرادةَ التأويلِ قَطعًا. ولا يَرْتَابُ فِي هذا مَن له عَقْلٌ ودِينٌ).
(64) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (10736)، والبُخَارِيُّ في كتابِ تفسيرِ القرآنِ / بابُ قولِ اللهِ تعالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (4581)، وفي كتابِ التوحيدِ / بابُ قولِ اللهِ تَعالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)} (7439)، ومسلمٌ في كتابِ الإيمانِ / بابُ معرفةِ طريقِ الرؤيةِ (450)، وابْنُ مَاجَهْ في المُقدِّمَةِ / بابٌ فيما أَنْكَرَتِ الجَهْمِيَّةُ (179) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنه بسياقٍ آخَرَ.
([65]) رواه البُخَارِيُّ في كتابِ التوحيدِ / بابُ قولِ اللهِ تَعالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)} (7443) من حديثِ عَدِيِّ بنِ حاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
([66]) رواهُ أَبُو داودَ في كتابِ السُّنَّةِ / بابٌ في الجهمِيَّةِ (4713) من حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه، وهو حديثٌ مُسلسَلٌ بالتحديثِ فيما دون الصحابيِّ، ورِجالُه ثِقاتٌ؛ قال أبو داودَ: وهذا ردٌّ على الجهميةِ.
([67]) رواهُ مسلمٌ في أولِ كتابِ صفةِ القيامةِ (6983)، وابْنُ مَاجَهْ في المُقَدِّمَةِ / بابٌ فيما أَنْكَرَتِ الجَهْمِيَّةُ (198) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ رضيَ اللهُ عنه على اختلافٍ في الألفاظِ.
([68]) رواه مسلمٌ في كتابِ الحجِّ / بابُ حَجَّةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ (2941)، وأبو داودَ في كتابِ المناسكِ / بابُ صِفَةِ حَجِّ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ (1902)، وابْنُ مَاجَهْ في كتابِ المناسكِ / بابُ حَجَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ (3074)، وهو جزءٌ من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ الطويلِ.
([69]) الصَّواعِقُ المُرْسَلَةُ (382-397).
(70) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 167-168).
([71]) مُقدِّمَةُ القصيدةِ النُّونِيَّةِ (22-23).
([72]) شِفَاءُ العَلِيلِ (1/ 325-326).
(73) وقال -رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- في مَدارجِ السَّالكِينَ (3/ 334): (لا يَتَعَدَّى بها اسمَهَا الخاصَّ الذي سماها اللهُ به. بل يَحْتَرِمُ الاسمَ كما يَحترِمُ الصفةَ. فلا يُعَطِّلُ الصفةَ. ولا يُغَيِّرُ اسمَها ويُعِيرُها اسمًا آخَرَ. كما تُسمِّي الجهميةُ والمُعطِّلَةُ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ وقُدرتَهُ وحَياتَهُ وكلامَهُ أَعراضًا، ويُسَمُّونَ وَجْهَهُ ويَديْهِ وقَدمَهُ –سُبحانَهُ- جَوارِحَ وأَبعاضًا، ويُسَمُّونَ حِكْمَتَهُ وغايةَ فِعلِه المطلوبةَ عِللاً وأَعراضًا، ويُسَمُّونَ أَفعالَهُ القائمةَ به حوادثَ، ويُسَمُّونَ عُلُوَّهُ على خلقِه واستواءَهُ على عرشِه تَحيُّزًا؛ ويَتواصَوْنَ بهذا المَكْرِ الكُبَّارِ إلى نفيِ ما دلَّ عليه الوحيُ، والعقلُ والفطرةُ، وآثارُ الصَّنعةِ من صفاتِه فيَسْطُونَ بهذه الأسماءِ ـ التي سَمَّوْها هم وآباؤُهم ـ على نفيِ صِفاتِه وحقائقِ أسمائِه).
ـ وقد أطالَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ في تفنيدِ دَعوَى المَجازِ وسَمَّاهُ طاغوتًا في كتابِ الصواعقِ المُرسلَةِ (انظُرِ المُخْتَصَرَ 2/231-437).
(74) وقال ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى ـ في بدائعِ الفوائدِ (2/82 ـ 83): (وخَصائِصُ المخلوقينَ لا يجوزُ إثباتُها لربِّ العالمينَ، بلِ الصفةُ المُضافةُ إلى اللهِ لا يَلْحَقُه فيها شيءٌ من خَصائِصِهم فإثباتُها له كذلك لا يُحتاجُ معه إلى تأويلٍ، فإنَّ اللهَ ليسَ كمِثْلِه شيءٌ، وقَد تَقَدَّمَ أن خصائصَ المخلوقينَ غيرُ داخلةٍ في الاسمِ العامِّ فضلاً عن دُخولِهَا في الاسمِ الخاصِّ المضافِ إلى الربِّ تعالَى وأنها لا يَدُلُّ اللفظُ عليها بوضعِه حتى يكونَ نَفيُها عن الربِّ تعالَى صَرْفًا للَّفْظِ عن حقيقَتِه، ومَنِ اغتفَرَ دُخولَها في الاسمِ المضافِ إلى الربِّ ثم تَوسَّلَ بذلك إلى نفيِ الصفةِ عنه فقد جَمعَ بينَ التشبيهِ والتعطيلِ، وأمَّا مَن لَمْ يُدْخِلْهَا في مُسَمَّى اللفظِ الخاصِّ ولا أَثْبَتَها للموصوفِ فقولُهُ محضُ التنزيهِ وإثباتُ ما أَثْبَتَ اللهُ لنفسِه، فتأمَّلْ هذه النُّكْتَةَ، ولْتَكُنْ منكَ على ذِكْرٍ في بابِ الأسماءِ والصفاتِ، فإنها تُزِيلُ عنكَ الاضطرابَ والشُّبْهَةَ واللهُ الموفقُ للصوابِ).
(75) بَدائِعُ الفَوائِدِ (1/ 164-166).
وقال ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى ـ كما في مُختصرِ الصواعقِ (301-302): (الوجهُ الخامسَ عَشَرَ: إن هذا النقصَ اللازمَ للصفةِ ليس هو من مَوضوعِها ولا مُسمَّى لفظِها، وإنما هو مِن خُصوصِ الإضافةِ، فالقَدْرُ الممدوحُ الذي هو موضوعُ الصفةِ والنقصُ اللازمُ غيرُ داخلٍ في موضوعِها، وكذلك لا دَلالَةَ في لَفظِها على العَدَمِ.
والوُجودُ غايةُ الكمالِ الذي لا كَمالَ فَوْقَه، وإنما ذلك من لوازمِ إضافَتِها ونِسْبَتِها إلى الربِّ سبحانَهُ، فإذًا موضوعُ لفظِها مُطلَقُ المَعنَى الممدوحِ، وخصوصُ الإضافةِ غيرُ داخلٍ في اللفظِ المُطلقِ، وعلى هذا فإذَا استُعْمِلَتْ في حقِّ الربِّ تعالَى كَانَتْ حَقِيقَةً، وإذا استُعْمِلَتْ لِلعَبْدِ كانَتْ حَقيقةً.
فتدبَّرْ هذا، فإنه فَصْلُ الخطابِ فيما يُطلَقُ على الربِّ والعبدِ، واعْتَبِرْ هذا فيما يُطْلَقُ على المخلوقِ نفسِه فإنه حقيقةُ معَ دَلالتِه على غايةِ المدحِ في مَحَلٍّ، وغايةِ الذمِّ في مَحَلٍّ آخَرَ.
(مِثالُه) قولُكَ: هذا كلامُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ وهَدْيُه وسَمْتُه، وهذا كلامُ الصِّدِّيقِ: وهذا كلامُ المُفتَرِي فهذا حقيقةٌ وهذا حقيقةٌ، وهما في غايةِ التضَادِّ والاختلافِ، وهذا التعريفُ بالإضافةِ نظيرُ التعريفِ باللامِ يَنْصَرِفُ إلى كُلِّ مَحلٍّ بحَسَبِه {فعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} هو مُوسَى. و{لاَ تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ} هو محمدٌ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، فرسولٌ دالٌّ على القَدْرِ المُشترَكِ واللامُ تدُلُّ على تعريفِه وتعيينِه، وكلٌّ مِنَ المَوضعَيْنِ حقيقةٌ، هذا مع أن اللفظَ يُستعمَلُ مُجرَّدًا عن التعريفِ كثيرًا. وأما لفظُ الرحمةِ والسمْعِ والبصَرِ واليَدِ والوَجهِ والكلامِ فلا تَكادُ تُستَعْمَلُ إلا مضافةً إلى مَحَلِّهَا، فلزومُ الإضافةِ فيها نحوُ لُزومِها في الأسماءِ والأعلامِ، ولا سِيَّمَا المضافةُ إلى الربِّ كقولِه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} {إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ} {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} {إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فهذه الإضافةُ تمنَعُ أن يَدْخُلَ في اسمِ الصفةِ شيءٌ من خصائصِ المخلوقينَ بوجهٍ من الوجوهِ، فالمحذوفُ الذي أوجبَ لهم دعوَى المجازِ فيها مُنتفٍ بالإضافةِ قَطعًا فلا وجهَ لدَعْوَى المجازِ فيها البتةَ، وهذا ظاهرٌ جدًّا فإنها بإضافتِها الخاصةِ دَلَّتْ على ما لا تَسَعُهُ العبارةُ مِن الكمالِ الذي لا نَقْصَ فيه بوجهٍ من الوجوهِ).
([76]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (3/ 334).
([77]) الصَّواعِقُ المُرْسَلَةُ (229-230).
* مُلحَقٌ: وهاهنا قواعدُ مُهِمَّةٌ، أشارَ إليها ابنُ القيِّمِ –رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- ولم يَجْتَمِعْ لنا من كلامِه ما يَكفِي لصياغتِها، فنَذْكُرُ كلامَهُ –رَحِمَهُ اللهُ- وتَجِدُ القاعدةَ التي أشارَ إليها ظاهرةً فيه، وقد عَنْوَنَّا لها بما نَرْجُو أن يُوضِّحَ المرادَ منها :
1 - قال - رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى – في شِفاءِ العليلِ (1/ 58): ([التعبُّدُ للهِ تعالَى بمُقتضَى أسمائِه الحُسنَى وصفاتِه العُلَى]
أنَّ اللهَ سبحانَهُ... يُحِبُّ مُقتضَى أسمائِه وصفاتِه وما يُوافِقُها، فهو القويُّ، ويُحِبُّ المؤمنَ القويَّ، وهو وِترٌ ويُحِبُّ الوِتْرَ، وجميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، وعليمٌ يحبُّ العُلَمَاءَ، ونظيفٌ يحبُّ النظافةَ، ومؤمنٌ يحبُّ المؤمنينَ، ومُحسِنٌ يُحِبُّ المحسنينَ، وصابرٌ يحبُّ الصابرينَ، وشاكرٌ يُحِبُّ الشاكرينَ).
2 - وقال –رَحِمَهُ اللهُ – في القصيدةِ النونيةِ (80): [أنواعُ ما يُضافُ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ]
وَنَظِيرُ ذَا أَيْضًا سَوَاءٌ مَا يُضَا = فُ إِلَيْهِ مِنْ صِفَةٍ وَمِنْ أَعْيَانِ
فَإِضَافَةُ الأَوْصَافِ ثَابِتَةٌ لِمَنْ = قَامَتْ بِهِ كَإِرَادَةِ الرَّحْمَنِ
وَإِضَافَةُ الأَعْيَانِ ثَابِتَةٌ لَهُ = مُلْكًا وخَلْقًا مَا هُمَا سِيَّانِ
فَانْظُرْ إِلَى بَيْتِ الإلهِ وعِلمِهِ = لَمَّا أُضِيفَا كَيْفَ يَفْتَرِقَانِ
وَكَلامُهُ كحَياتِهِ وكَعِلْمِهِ = فِي ذِي الإِضافَةِ إذْ هُمَا وَصْفَانِ
لَكِنَّ نَاقَتَهُ وبَيْتَ إِلَهِنَا = فَكَعْبِدِه أَيْضًا هُمَا ذَاتَانِ
فَانْظُرْ إِلَى الْجَهْمِيِّ لَمَّا فَاتَهُ الْـ = ـحَقُّ الْمُبِينُ وَوَاضِحُ الفُرقانِ
كانَ الجميعُ لَدَيْهِ بَابًا وَاحدًا = والصُّبْحُ لاحَ لِمَنْ لَهُ عَيْنَانِ).
[ومقصودُه –رَحِمَهُ اللهُ-: أنَّ ما يضافُ إلى اللهِ - جَلَّ وعَلا- إمَّا أن يكونَ صفةً أو عينًا قائمةً بذاتِها. فالأولُ إضافتُه إلى اللهِ عزَّ وجلَّ من بابِ إضافةِ الصفةِ إلى المُتَّصِفِ بها. والثاني من بابِ إضافةِ المخلوقِ إلى خالِقِه، والمملوكِ إلى مالكِه].
قال ابنُ القيمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى رحمةً وَاسِعَةً ـ بعد ذِكرِ بعضِ هذه القواعدِ في بدائعِ الفوائدِ (1/170): فهذه عشرونَ فائدةً مُضافةً إلى القاعدةِ التي بَدَأْنَا بها في أقسامِ ما يُوصَفُ به الربُّ تَبارَكَ وتعالَى فعَلَيْكَ بمَعْرِفَتِها ومُراعاتِها، ثم اشْرَحِ الأسماءَ الحُسنَى إن وَجَدْتَ قَلبًا عاقلاً ولسانًا قائلاً ومَحَلاًّ قابلاً، وإلا فالسكوتُ أولَى بك، فجَنابُ الربوبيةِ أجَلُّ وأعزُّ مِمَّا يَخْطُر بالبالِ أو يُعَبِّرُ عنه المَقالُ، وفوقَ كُلِّ ذي علمٍ عليمٌ حتى ينتهيَ العلمُ إلى مَن أحاطَ بكلِّ شيءٍ علمًا.
وعسى اللهُ أن يُعِينَ بفَضلِه على تعليقِ شرحِ الأسماءِ الحُسنَى مراعيًا فيه أحكامَ هذه القواعدِ بريئًا من الإلحادِ في أسمائِه وتعطيلِ صفاتِه فهو المانُّ بفضلِه، واللهُ ذو الفضلِ العظيمِ).
والحمدُ للهِ تعالَى على ما يَسَّرَ مِن جمعِ هذه الفوائدِ والقواعدِ المتفرِّقَةِ في كُتبِ هذا العالمِ الجليلِ، وقد جَمَعْتُهَا لك في موضعٍ واحدٍ لِتَكُونَ أسهلَ تَنَاوُلاً وأقربَ إلى الفَهْمِ إذا ما قُرِنَتْ بنَظائِرِها، وأيسَرَ في الرجوعِ إليها، وقد ذكرتُ لك مَوْضِعَ كُلِّ قاعدةٍ في كُتبِهِ - رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى –
فَلاَ تَجْهَلْ لَهَا قَدْرًا وَخُذْهَا = شَكُورًا لِلَّذِي يُحْيِي الأَنامَا


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
البابُ, الحادي

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:45 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir