sس1: تكلّم عن جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه.
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى ابو بكر خلافة المسلمين أنفذ جيش أسامة الذي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من العرب من أرتد ومنعوا الزكاة فما كان من أبو بكر رضي الله عنه إلا أن أعدّ الجيوش لقتال مانعي الزكاة رغم معارضة بعض الصحابة لهذا الأمر ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعندما راجع ابو بكر في ذلك انشرح صدر الفاروق لهذا الفعل , وكان من ارتد كثير وبأسهم شديد مع مسيلمة الكذاب في حوالي مائة الف ,وقد تمركزوا في اليمامة فما كان الصحابة رضوان الله عليهم إلا أن ساروا لقتالهم بقيادة خالد بن الوليد في حوالي ثلاثة عشر الف مقاتل وكان أغلب قراء القرآن وحفظته من ضمن ذلك الجيش , ونكشف جيش الصحابة لكثرة من فيه من الأعراب، فنادى القراء من كبار الصحابة: يا خالد، يقولون: ميزنا من هؤلاء الأعراب فتميزوا منهم، وانفردوا، فكانوا قريبا من ثلاثة آلاف، ثم صدقوا الحملة، وقاتلوا قتالا شديدا، وجعلوا يتنادون: يا أصحاب سورة البقرة، فلم يزل ذلك دأبهم حتى فتح الله عليهم وولى جيش الكفار فارا، وأتبعتهم السيوف المسلمة في أقفيتهم قتلا وأسرا، وقتل الله مسيلمة، وفرق شمل أصحابه، ثم رجعوا إلى الإسلام، ولكن قتل من القراء يومئذ قريب من خمسمائة، رضي الله عنهم، ولهذا أشار عمر على الصديق بأن يجمع القرآن؛ لئلا يذهب منه شيء بسبب موت من يكون يحفظه من الصحابة بعد ذلك في مواطن القتال، فإذا كتب وحفظ صار ذلك محفوظا فلا فرق بين حياة من بلغه أو موته، فراجعه الصديق قليلا ليستثبت الأمر، ثم وافقه، وكذلك راجعهما زيد بن ثابت في ذلك ثم صارا إلى ما رأياه، رضي الله عنهم أجمعين، وهذا المقام من أعظم فضائل زيد بن ثابت الأنصاري حيث كلفه الصديق بهذا الأمر؛ وهذا الفعل من أعظم وأجل ما فعله الصديق في نصرة هذا الدين وافعاله كلها عظام,وهذا من سر قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} , فجمع الصديق الخير وكف الشرور، رضي الله عنه وأرضاه. ولهذا روي غير واحد من الأئمة منهم وكيع وابن مهدي وقبيصة عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير عن عبد خير، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال: أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين. وإسناده صحيح.
2: بيّن معنى التغنّي بالقرآن.
عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه كان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم يأذن الله لشيء، ما أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن))
هذا الحديث هو العمدة في معنى التغني بالقرآن وقد ذكر ابن كثير في ذلك أقوال:
1- يستغني به وهو قول سفيان وقد رد ابن كثير ذلك فقال " فإن أراد: أنه يستغني عن الدنيا، وهو الظاهر من كلامه الذي تابعه عليه أبو عبيد القاسم بن سلام وغيره، فخلاف الظاهر من مراد الحديث؛ لأنه قد فسره بعض رواته بالجهر، وهو تحسين القراءة والتحزين به ,قال حرملة: سمعت ابن عيينة يقول: معناه: يستغني به، فقال لي الشافعي: ليس هو هكذا، ولو كان هكذا لكان يتغانى به، وإنما هو يتحزن ويترنم به،
2- يترنم به ويجهر بقراءته ويحسن صوته به,وهو قول وهب ابن منبه ورواه المزني والربيع عن الشافعي, وقد أخرج مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة ومعناه: أن الله ما استمع لشيء كاستماعه لقراءة نبي يجهر بقراءته ويحسنها، وذلك أنه يجتمع في قراءة الأنبياء طيب الصوت لكمال خلقهم وتمام الخشية، وذلك هو الغاية في ذلك,وهوسبحانه وتعالى يسمع أصوات العباد كلهم برهم وفاجرهم، كما قالت عائشة، رضي الله عنها: سبحان الله الذي وسع سمعه الأصوات، ولكن استماعه لقراءة عباده المؤمنين أعظم، واستماعه لقراءة أنبيائه أبلغ كما دل عليه هذا الحديث العظيم, ثم ذكر ابن كثير عدة أحاديث تؤيد هذا المعنى منها: مارواه ابن عبيد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (تعلموا كتاب الله واقتنوه وتغنّوا به), وهكذا رواه أحمد والنسائي في كتاب فضائل القرآن, قال ابو عبيد عن مولى فضالة ميسرة عن فضالة عن النبي صلى الله عليه وسلم (لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به من صاحب القينة إلى قينته (
قال أبو عبيد: يعني: الاستماع. وقوله في الحديث الآخر: ما أذن الله لشيء)) أي: ما استمع.
ثم قال ابن كثير تعقيبا على هذا ايضا "قد فهم من هذا أن السلف، رضي الله عنهم، إنما فهموا من التغني بالقرآن: إنما هو تحسين الصوت به، وتحزينه، كما قاله الأئمة، رحمهم الله، ويدل على ذلك -أيضا- ما رواه أبو داود حيث قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن طلحة، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((زينوا القرآن بأصواتكم)).وأخرجه النسائي وابن ماجة.
والمراد من تحسين الصوت بالقرآن: تطريبه وتحزينه والتخشع به، كما روي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة)). قلت: أما والله لو علمت أنك تستمع قراءتي لحبرتها لك تحبيرا)، فدل على جواز تعاطي ذلك وتكلفه، وقد كان أبو موسى كما قال، عليه السلام، قد أعطي صوتا حسنا وخشية تامة ورقة أهل اليمن الموصوفة، فدل على أن هذا من الأمور الشرعية.
3: أيهما أفضل: القراءة من المصحف أم القراءة عن ظهر قلب؟
ذكر ابن كثير االقولان:
الأول :أن القراءة عن ظهر قلب أفضل , بدليل أن البخاري رحمه الله أفرد لهذه الترجمة باباً بنفس العنوان وذكر حديث أبي حازم عن سهل بن سعد، ، وفيه أنه، عليه السلام، قال لرجل: ((فما معك من القرآن؟)). قال: معي سورة كذا وكذا، لسور عددها. قال: ((أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟)). قال: نعم. قال: ((اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن))..
الثاني :أن القراءة من القرآن أفضل , حيث قال ابن كثير "ولكن الذي صرح به كثيرون من العلماء أن قراءة القرآن من المصحف أفضل؛ لأنه يشتمل على التلاوة والنظر في المصحف وهو عبادة، كما صرح به غير واحد من السلف، وكرهوا أن يمضي على الرجل يوم لا ينظر في مصحفه، واستدلوا على فضيلة التلاوة في المصحف بما رواه الإمام العلم أبو عبيد في كتابه فضائل القرآن:
عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فضل قراءة القرآن نظرا على من يقرأه ظهرا، كفضل الفريضة على النافلة)) وهذا الحديث ضعيف, وعن ابن مسعود رضي الله عنه قوله "أديموا النظر في المصحف",وعن ابن عباس، عن عمر: أنه كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه. وعن ابن عمر ايضا ذلك , ثم أورد ابن كثيرا لهذا التفضيل تعليلا حيث قال "هذه الآثار تدل على أن هذا أمر مطلوب لئلا يعطل المصحف فلا يقرأ منه، ولعله قد يقع لبعض الحفظة نسيان فيستذكر منه، أو تحريف كلمة أو آية أو تقديم أو تأخير، فالاستثبات أولى، والرجوع إلى المصحف أثبت من أفواه الرجال، فأما تلقين القرآن فمن فم الملقن أحسن؛ لأن الكتابة لا تدل على كمال الأداء، كما أن المشاهد من كثير ممن يحفظ من الكتابة فقط يكثر تصحيفه وغلطه، وإذا أدى الحال إلى هذا منع منه إذا وجد شيخا يوقفه على لفظ القرآن، فأما عند العجز عمن يلقن فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فيجوز عند الضرورة ما لا يجوز عند الرفاهية، فإذا قرأ في المصحف -والحالة هذه- فلا حرج عليه", ثم ذكر ابن كثير أن افراد البخاري بترجمة لحديث أبي حازم عن سهل ابن سعد ليس دليلا على أفضلية القراءة عن ظهر قلب من المصحف لأنها قضية عين وقد يكون الرجل لايحسن القراءة من المصحف أصلا وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ذلك, ثم أن تسميعه عن ظهر قلب لاستثبات ذلك ويريد أنه يعلمها لزوجه, هذا والله اعلم وأحكم