- من رحمة الله بالعباد أنه يمهلهم ولا يعاجلهم العقوبة لعلهم يتوبون إليه ويستغفرونه؛ فيغفر لهم، ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)﴾﴾
المجموعة الرابعة:
1. حرّر القول في المسائل التالية:
أ: معنىقوله تعالى: {ولا تلبسوا الحق بالباطل}.
اللَّبْسُ: الْخَلْطُ. لَبَسْتُ-بفتح الباء- عَلَيْهِ الْأَمْرَ أَلْبِسْهُ، إِذَا مَزَجْتُ بَيِّنَهُ بِمُشْكِلِهِ وَحَقَّهُ بِبَاطِلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ" [الأنعام: 9]. وَفِي الْأَمْرِ لُبْسَةٌ أَيْ لَيْسَ بِوَاضِحٍ. .
اختلف أهل التأويل في المراد بتخليطهم على أقوال:
*أنهم قالوا : إن الله عهد إلينا أن نؤمن بالنبي الأمي ، ولم يذكر أنه من العرب ...ذكره الزجاج
**أن اليهود قالت : محمد نبي مبعوث، لكنإلى غيرنا، فإقرارهم ببعثه حق، وجحدهم أنه بعث إليهم باطل»...وهو قول أبي العالية ذكره ابن عطية عنه..
*** أنه كان من اليهود منافقون، فما أظهروا من الإيمان حق، وما أبطنوا من الكفر باطل». ..ذكره ابن عطية وعزاه للطبري
**: وقيل معنى ذلك لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام»....وهو قوله مجاهد ذكره ابن عطية عنه
**: وقيل لمراد بـ«الحقّ» التوراة، و«الباطل» ما بدلوا فيها من ذكر محمد عليه السلام»...وهو قوله ابن زيد ذكره ابن عطية عنه
ب: معنى تفضيل بني إسرائيل على العالمين.
ورد في ذلك أقوال
· أن المراد بالعالمين عالم زمانهم فلا يتناول من مضى ولا من يوجد بعدهم، وهذا التفضيل وإن كان في حق الآباء ولكن يحصل به الشرف للأبناء
والتفضيل حاصل بإرسال الرسل منهم وإنزال الكتب عليهم وقد كانت فيهم النبوءة المتكررة والملك
قال أبو العالية في قوله تعالى:{وأنّي فضّلتكم على العالمين}قال: «بما أعطوا من الملك والرّسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزّمان؛ فإنّ لكلّ زمانٍ عالمًا».رواه الرازي وهو قول مجاهد ، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة، وإسماعيل بن أبي خالدٍ
ذكره هذا القول ابن عطية وابن كثير و احتج له بكون أمة محمد أفضل منهم
كما قال: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}خطابًا لهذه الأمّة: {كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرًا لهم}[آل عمران: 110] وفي المسانيد والسّنن عن معاوية بن حيدة القشيري، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أنتم توفون سبعين أمّةً، أنتم خيرها وأكرمها على اللّه». والأحاديث في هذا كثيرةٌ تذكر عند قوله تعالى:{كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس}
*وقيل:المراد تفضيلٌ بنوعٍ ما منالفضل على سائر النّاس، ولا يلزم تفضيلهم مطلقًا، حكى هذا القول فخر الدّين الرّازيّ ذكره ابن كثير وقال فيه نظرٌ.
* وقيل: إنّهم فضّلوا على سائر الأمم لاشتمال أمّتهم على الأنبياء منهم، حكى هذا القول القرطبي ذكره ابن كثير وقال فيه نظرٌ ؛ لأن{العالمين}عام يشتمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء، فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم، ومحمّدٌ بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيّد ولد آدم في الدّنيا والآخرة، صلوات اللّه وسلامه عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين*
2. بيّن ما يلي:
أ: خطر عدم العمل بالعلم.
قال الله تعالى :{ أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (44}
ذمّ الله عزوجل في هذه الآية اليهود الذين كانوا يأمرون الناس بالخير ولا يفعلونه...وهذا الخطاب وإن كان موجها إلى اليهود فهو عبرة لغيرهم..فإن الآمر بما لا يأتمر به تكون الحجة عليه قائمة بلسانه. فلتنظر كل أمة أفرادا وجماعات في أحوالها، ثم لتحذر أن يكون حالها كحال أولئك القوم فيكون حكمها عند الله حكمهم.
فلكل من علم الناس و أمرهم ولم يمتثل هو الأمر ؛ فهو مذموم وكذا ذم العالم التارك للعمل ... مذمومٌ على ترك الطّاعة و امتثال الأمر و ترك العمل بالعلم ، لأنه خالف على بصيرة ، .
وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في الوعيد على ذلك ذكرها ابن كثير
1-يحرق نفسه لأجل الناس
فعن جندب بن عبد اللّه، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {مثل العالم الّذي يعلّم النّاس الخير ولا يعمل به كمثل السّراج يضيء للنّاسويحرق نفسه"}.رواه الطبراني في المعجم الكبير
قال ابن كثير "هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه.
2- دخوله النار
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أُنَاسًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطَّلِعُونَ عَلَى أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيَقُولُونَ: بِمَ دَخَلْتُمُ النَّارَ؟ فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ إِلَّا بِمَا تَعَلَّمْنَا مِنْكُمْ، فَيَقُولُونَ: إِنَّا كُنَّا نَقُولُ وَلَا نَفْعَلُ".
3- عذاب شديد وأليم أعد له يوم القيامة
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ شِفَاهُهُمْ تُقْرَض بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ. قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ " قَالُوا: خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا مِمَّنْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ، وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ؟ رواه الإمام أحمد في المسند وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ...وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قِيلَ لِأُسَامَةَ -وَأَنَا رَدِيفُهُ-: أَلَا تُكَلِّمُ عُثْمَانَ؟ فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُرَون أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ. إِنِّي لَا أُكَلِّمُهُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَا دُونُ أَنْ أَفْتَتِحَ أَمْرًا -لَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنِ افْتَتَحَهُ، وَاللَّهِ لَا أَقُولُ لِرَجُلٍ نَّكَ خَيْرُ النَّاسِ. وَإِنْ كَانَ عَلَيَّ أَمِيرًا -بَعْدَ أَنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ، قَالُوا: وَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "يُجَاء بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ بِهِ أَقْتَابُهُ ، فَيَدُورُ بِهَا فِي النَّارِ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيُطِيفُ بِهِ أهلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَا أَصَابَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ" . رواه الإمام أحمد في مسنده
4- بعد العفو والمغفرة عنه
عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ يُعَافِي الْأُمِّيِّينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا لَا يُعَافِي الْعُلَمَاءَ" رواه الإمام أحمد
. وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ: أَنَّهُ يَغْفِرُ لِلْجَاهِلِ سَبْعِينَ مَرَّةً حَتَّى يَغْفِرَ لِلْعَالِمِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ} [الزُّمَرِ: 9]
.
5- سخط الله عليه
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ وَلَمْ يَعْمَلْ هُوَ بِهِ لَمْ يَزَلْ فِي ظِلِّ سُخْطِ اللَّهِ حَتَّى يَكُفَّ أَوْ يَعْمَلَ مَا قَالَ، أَوْ دَعَا إِلَيْهِ" (رواه الطبراني) قال ابن كثير إِسْنَادُهُ فِيهِ ضَعْفٌ.
6- ليس أهلا للأمر بالمعروف و النهى عن المنكر
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وأنهى عن المنكر، قال: أو بلغت ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرْجُو. قَالَ: إِنْ لَمْ تَخْشَ أَنْ تفْتَضَح بِثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَافْعَلْ. قَالَ: وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أَحْكَمْتَ هَذِهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَالْحَرْفُ الثَّانِي. قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصَّفِّ: 2، 3] أَحْكَمْتَ هَذِهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فالحرفَ الثَّالِثُ. قَالَ: قَوْلُ الْعَبْدِ الصَّالِحِ شعيب، عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هُودٍ: 88] أَحْكَمْتَ هَذِهِ الْآيَةَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَابْدَأْ بِنَفْسِكَ..رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ.
ب: المراد بالنعمة ومعنى ذكرها في قوله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم}.
والنعمة في الآية اسم الجنس فهي مفردة بمعنى الجمع.
-و في المراد بها أقوال
**قيل : {بعثة الرسل منهم وإنزال المن والسلوى، وإنقاذهم من تعذيب آل فرعون، وتفجير الحجر}.قاله الطبريذكره ابن عطية
**وقيل: «النعمة هنا أن دركهم مدة محمد صلى الله عليه وسلم». ذكره ابن عطية
**وقيل: «هي أن منحهم علم التوراة وجعلهم أهله وحملته». ذكره ابن عطية
** وقيل " هي إرسال الرسل منهم و إنزال الكتب عليهم وجعل الملك فيهم ؛والدليل على ذلك قوله: {إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً} وهو قول أبى العاليةذكره الزجاج وابن كثير
قال أبو العالية: «نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرّسل، وأنزل عليهم الكتب».
واستدل له ابن كثير بقول موسى عليه السّلام لهم: { يا قوم اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكًا وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين}[المائدة: 20] .
**وقيل أن المراد بالنعمة هو البلاء وهو قول ابن عباس
فقد روى محمّد بن إسحاق عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم}:
«أي: بلائي عندكم وعند آبائكم، لما كان نجّاهم به من فرعون وقومه»ذكره ابن كثير
وقدر رجح ابن عطية أن كل ما ذكر في المراد بالنعمة هم من باب التفسير بالمثال والأحسن حمل اللفظ على عمومه
كما قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} [النحل: 18].