المجموعة الثانية:
1. حرّر القول في معنى العود في قوله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا}.
اختلفت الأقوال في معنى العود في قوله تعالى:"ثم يعودون لما قالوا", فجاء في معناه خمسة اقوال:منها ما هو متقارب ومنها ما هو متباعد:
الأول: أن يعزم على الجماع, ودليله حديث ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول اللّه، إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر. فقال: "ما حملك على ذلك يرحمك اللّه؟ ". قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال: "فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك اللّه، عز وجل", رواه أهل السنن, وقال الترمذي: حسن غريب صحيح, ذكره ابن كثير.
وقاله ابن عباس, وروى عنه ابن أبي طلحة في قوله تعالى: "من قبل أن يتماسا" والمس: النكاح. وهو قول عطاء، والزهري، وقتادة، ومقاتل , وسعيد بن جبير, والحسن البصري, وقاله أحمد, وحكي عن مالك, وذكره السعدي والأشقر.
الثاني: أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه، قاله ابوحنيفة, وإليه ذهب أصحابه، والليث بن سعد.
الثالث: هو أن يمسكها بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق, قاله الشافعي, وحكي عن مالك, ذكره ابن كثير, وذكره الأشقر.
الرابع: إن المراد هو الجماع: واستدلوا بقوله تعالى:"ثم يعودون لما قالوا": والذي "قالوا" إنما هو الوطء, قاله أحمد, وحكي عن مالك, ذكره ابن كثير, وذكره السعدي.
الخامس: أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره, وهو قول باطل اختاره ابن حزم وداود, وحكاه ابن عبدالبر عن بكير ابن الشج والفراء, وقال به فرقة من أهل الكلام, ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره.
والراجح هو القول الأول لدلالة ظاهر الآية عليه في قوله تعالى:"من قبل أن يتماسا", ومعناه "النكاح" كما فسره ابن عباس رضي الله عنهما, فالكفارة تكون قبل المسيس وبمجرد العزم, ولدلالة الحديث عليه, حيث أمر الرسول عليه الصلاة والسلام, الرجل بقوله:"لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به", ولدلالة سبب نزول الآية على هذا القول’ وقد قال الزهري: "ليس له أن يقبلها ولا يمسها حتى يكفر".
2. فسّر قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)} المجادلة.
"يا ايها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول": بعد أن ذكر الله تعالى حال اليهود والمنافقين وما يصدر منهم من حديث ومسارة فيما بينهم بالإثم والعدوان, فكانوا إذا مر بهم مسلم يتناجون أمامه ليظن بإنهم يتناجون بقتله أو بما يكره, فيبتعد عن طريقم اتقاء لشرهم, فأدب الله عباده المؤمنين ونهاهم عن أن يفعلوا فعل اليهود والمنافقين الكفرة من التناجي فيما بينهم بالإثم، وهو ما يتعلق بهم, وكذلك يتناجون بالعدوان, وهو ما يتعلق بالاعتداء على حقوق غيرهم, كما هي حالهم من معصية الرسول عليه الصلاة والسلام, ومخالفته, وغيبة المسلمين وأذاهم لهم. ثم أمرهم الله ب:
"وتناجوا بالبر والتقوى": فأمرهم تعالى بأن تكون نجواهم بكل ما هو خير وطاعة لله, وقيام بحقوقه سبحانه, وحقوق عباده التي أوجبها, وكذلك الابتعاد عن جميع ما حرم الله تعالى من المآثم. فهذه تربية للمؤمن حيث يجدر به أن يشغل وقته في محاب الله ومرضاته, وفيما يقربه إلى الله عز وجل, ويقربه إلى جنته ويبعده عن ناره, بعكس الكافر الفاجر الذي يقضي جل وقته فيما يجلب عليه سخط ربه’ بانتهاك محارمه وانتهاك حقوق عباده. ثم ذكرهم الله تعالى الآخرة:
"واتقوا الله الذي إليه تحشرون": فأمرهم بابتقوى الله بطاعة أمره واجتناب نواهيه, وذكرهم برجوعهم إليه, كما قال تعالى:"واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله", فتجتمعون عنده, وتحشرون إليه, فيخبركم بجميع أعمالكم واقوالكم التي أحصاها عليكم, كما قال تعالى:"أحصاه الله ونسوه", وسيجازيكم بما اقترفت أيديكم عدلا منه سبحانه, ويثيب من عمل صالحا فضلا منه وإحسانا.
"إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا": ثم أخبر الله عباده المؤمنين إلى أن ما يفعله اليهود والمنافقون الكفرة من المسارة فيما بينهم والتناجي بالمكر والخديعة, إنما هو من تسويل الشيطان وتزيينه لهم هذا الفعل القبيح, وإنما الغاية من فعله هذا ليسوء المؤمنين, ويدخل الحزن إلى قلوبهم, حيث يظن المؤمن بأنهم يكيدون له المكائد, لذلك جاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام:"إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث, فإن ذلك يحزنه", ثم طمأنهم الله تعالى بقوله:
"وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله":فلن يضر المؤمنون كيده وتزيينه, لأن الله تعالى تكفل بكفايتهم, وتكفل بنصرهم على أعدائهم, وقد قال تعالى:"ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله", وقال:"فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين", فلا يخرج شيىء عن مشيئته وتقديره سبحانه, وكما قال عليه الصلاة والسلام:"ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك...", لذلك أمرهم سبحانه بقوله:
"وعلى الله فليتوكل المؤمنون": فمن وجد في نفسه شيء من هذا, فليستعذ بالله وليتوكل عليه, وبفوض أمره إليه, وليعتمد على الله ربه, وليثق بوعده, فالله كافيه أمر دينه ودنياه.
3. بيّن سبب نزول سورة الحشر.
جاء في سبب نزول سورة الحشر سببان:
الأول: لما قتل أصحاب سبعون من الصحابة في حادثة بئر معونة، أفلت منهم عمرو بن أية الضمري, اوفي طريق عودته إلى المدينة, قتل رجلين من بني عامر، كان معهما عهد أمان من النبي عليه الصلاة والسلام, ولم يعلم به عمرو, ، فلما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام, قال له: "لقد قتلت رجلين، لأدينهما" وكان يجمع بني النضير وبني عامر حلف، فخرج إليهم النبي عليه الصلاة والسلام, يستعينهم في دية الرجلين من بني عامر, فلما عرض عليهم الرسول الأمر, قالوا: نعم، يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت، مما استعنت بنا عليه. ثم لما خلا بعضهم ببعضٍ فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه, وكان عليه الصلاة والسلام, إلى جنب جدار بيوتهم, فمن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة، فيريحنا منه؟ فانتدب لعمرو بن جحاش بن كعبٍ أحدهم، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخبر من السماء بما أرادوا، فقام وخرج راجعا إلى المدينة، فلما قاموا في طلبه سألو عنه رجلا قادما من المدينة، فقال: رأيته داخلا المدينة. فلما رجع النبي عليه الصلاة والسلام, أقبل إليه اصحابه فأخبرهم عما كان من اليهود من نية الغدر، وأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالتهيؤ لحربهم. ثم سار حتّى نزل بهم فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقطع النخل وتحريقها. فنادوه: أن يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟
وقد كان نفر من منافقي الحزرج منهم: أبي بن سلول, ، قد بعثوا إلى بني النّضير: أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم، فلم يفعلوا، وقذف اللّه في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة، ففعل، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به, وخلوا الأموال إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
ذكرها ابن إسحاق في السيرة, وقال: ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها.
الثاني: قبل وقعة بدر وبعد الهجرة, كتب كفار قريش لابن أبي بن سلول ومن معه: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم باللّه لنقاتلنه، أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم، فلما ببلغه ذلك, اجتمع هو ومن معه لقتال النبي صلى اللّه عليه وسلم، فلما بلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم لقيهم، فقال: "لقد بلغ وعيد قريشٍ منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريد أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم؟ "، فلما سمعوا ذلك من النبي تفرقوا، فبلغ ذلك كفار قريشٍ، فكتبت إليهم مرة أخرى بعد وقعة بدر: إنكم أهل الحلقة والحصون، وإنّكم لتقاتلن مع صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء, فلما بلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام, اجتمعت بنو النضير للغدر, وقالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: اخرج إلينا في ثلاثين رجلا من أصحابك ليخرج منا ثلاثون حبرا، حتّى نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك، فلما ذهب إليهم حصرهم، وقال لهم: "إنكم واللّه لا تأمنوا عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه". فأبوا أن يعطوه العهد، فقاتلهم يومهم ذلك، ثم غدا الغد على بني قريظة بالكتائب، وترك بني النضير، ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه، فانصرف عنهم. وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم، حتى أجلاهم، وحملوا معهم ما أقلت الإبل، وتركوا نخيلهم وأموالهم للرسول عليه الصلاة والسلام.
رواه عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام, رواه أبو داوود.
4. استدلّ على شرط الإيمان في الرقبة المعتقة في كفّارة الظهار.
جاءت الرقبة في كفارة الظهار مطلقة غير مقيدة بالإيمان, لكن حملت على التقييد في كفارة القتل لاتحاد الحكم أو الموجب وهو عتق الرقبة، وقد استدل الشافعي على ذلك بحديث الجارية وقول النبي عليه الصلاة والسلام, لمعاوية:"اعتقها فإنها مؤمنة", فدل على اشتراط الإيمان في الرقبة المعتقة.