فَصْلٌ: يَنْجَلِي الْفِعْلُ بِأَرْبَعِ عَلامَاتٍ:
إِحْدَاهَا: تاءُ الْفَاعِلِ، مُتَكَلِّماً كَانَ كـ (قُمْتُ)، أَوْ مُخَاطَباً نَحْوَ: (تَبَارَكْتَ).
الثَّانِيَةُ: تاءُ التأنيثِ الساكنةُ، كـ (قَامَتْ، وَقَعَدَتْ)، فَأَمَّا الْمُتَحَرِّكَةُ فَتَخْتَصُّ بالاسمِ كَـ (قَائِمَةٍ) ([1]).
وَبِهَاتَيْنِ العَلامَتَيْنِ رُدَّ عَلَى مَنْ زَعَمَ حَرْفِيَّةَ (لَيْسَ) و (عَسَى) ([2])، وبالعلامةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَنْ زَعَمَ اسْمِيَّةَ (نِعْمَ) وَ(بِئْسَ) ([3]).
الثَّالِثَةُ: يَاءُ الْمُخَاطَبَةِ: كَـ (قُومِي)، وَبِهَذِهِ رُدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ (هَاتِ) وَ(تَعَالَ) اسْمَا فِعْلَيْنِ.
الرابعةُ: نُونُ التوكيدِ شَدِيدَةً أَوْ خَفِيفَةً، نَحْوَ: {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً} ([4])، وَأَمَّا قَوْلُهُ:
4 - أَقَائِلُنَّ أَحْضِرُوا الشُّهُودَا
فَضَرُورَةٌ.
فَصْلٌ
وَيُعْرَفُ الحرفُ بِأَنَّهُ لا يَحْسُنُ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ العَلامَاتِ التِّسْعِ: كَهَلْ، وَفِي، وَلَمْ.
وَقَدْ أُشِيرَ بهذهِ المُثُلِ إِلَى أنواعِ الْحُرُوفِ ([5]): فَإِنَّ مِنْهَا مَا لا يَخْتَصُّ بالأسماءِ وَلا بالأفعالِ؛ فَلا يَعْمَلُ شَيْئاً: كَهَلْ، تَقُولُ: (هَلْ زَيْدٌ أَخُوكَ؟)، وَ (هَلْ يَقُومُ؟)، وَمِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بالأسماءِ، فَيَعْمَلُ فِيهَا: كَفِي، نَحْوَ: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ} ([6])، {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ}([7])، وَمِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بالأفعالِ، فَيَعْمَلُ فِيهَا: كَلَمْ، نَحْوُ: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}([8]).
فَصْلٌ: وَالفِعْلُ جِنْسٌ تَحْتَهُ ثَلاثَةُ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: الْمُضَارِعُ، وعلامتُهُ أَنْ يَصْلُحَ لأَنْ يَلِيَ (لَمْ)، نَحْوُ: (لَمْ يَقُمْ)،(لَمْ يَشَمَّ)، والأفصحُ فِيهِ فَتْحُ الشِّينِ لا ضَمُّهَا، والأفصحُ فِي الماضي: شَمِمْتُ، بِكَسْرِ الْمِيمِ، لا فَتْحِهَا. وَإِنَّمَا سُمِّيَ مُضَارِعاً؛ لِمُشَابَهَتِهِ للاسمِ؛ وَلِهَذَا ([9]) أُعْرِبَ وَاسْتَحَقَّ التقديمَ فِي الذِّكْرِ عَلَى أَخَوَيْهِ.
وَمَتَى دَلَّتْ كَلِمَةٌ عَلَى مَعْنَى الْمُضَارِعِ وَلَمْ تَقْبَلْ (لَمْ) فَهِيَ اسْمٌ ([10]). كَأَوَّهْ وَأُفٍّ بِمَعْنَى: أَتَوَجَّعُ وَأَتَضَجَّرُ.
الثَّانِي: الْمَاضِي، وَيَتَمَيَّزُ بِقَبُولِ تاءِ الْفَاعِلِ: كَتَبَارَكَ، وَعَسَى، وَلَيْسَ، أَوْ تَاءِ التأنيثِ الساكنةِ: كَنِعْمَ، وَبِئْسَ، وَعَسَى، وَلَيْسَ ([11]).
وَمَتَى دَلَّتْ كَلِمَةٌ عَلَى مَعْنَى الماضِي وَلَمْ تَقْبَلْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فَهِيَ اسْمٌ: كَهَيْهَاتَ، وَشَتَّانَ، بِمَعْنَى: بَعُدَ، وَافْتَرَقَ ([12]).
الثَّالِثُ: الأَمْرُ، وَعَلامتُهُ، أَنْ يَقْبَلَ نُونَ التوكيدِ مَعَ دلالتِهِ عَلَى الأَمْرِ، نَحْوَ: (قُومَنَّ)، فَإِنْ قَبِلَتْ كَلِمَةٌ النُّونَ، وَلَمْ تَدُلَّ عَلَى الأَمْرِ، فَهِيَ فِعْلٌ مُضَارِعٌ، نَحْوَ: {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً} ([13])، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى الأَمْرِ وَلَمْ تَقْبَلِ النُّونَ، فَهِيَ اسْمٌ: كَنَزَالِ، وَدَرَاكِ ([14])، بِمَعْنَى: انْزِلْ وَأَدْرِكْ، وَهَذَا أَوْلَى مِنَ التَّمْثِيلِ بِـ (صَهْ)، وَ(حَيَّهَلْ)، فَإِنَّ اسْمِيَّتَهُمَا مَعْلُومَةٌ مِمَّا تَقَدَّمَ؛ لأَنَّهُمَا يَقْبَلانِ التَّنْوِينَ.
([1]) التاءُ المُتَحَرِّكَةُ إمَّا أَنْ تكونَ حَرَكَتُهَا حركةَ إعرابٍ كَـ (قَائِمَةٍ)، وهذهِ تَخْتَصُّ بالاسمِ كَمَا قَالَ، وَإِمَّا أَنْ تكونَ حَرَكَتُهَا حَرَكَةَ بِنَاءٍ، وهذهِ تَدْخُلُ عَلَى الحرفِ فِي لاتَ وَرُبَّتَ وَثُمَّةَ، وتكونُ فِي الاسمِ أيضاً نَحْوَ (لا قُوَّةَ)، وَمِنْ شواهدِ دخولِ تاءِ التأنيثِ عَلَى (رُبَّ) قَوْلُهُ:
مَاوِيَّ يَا رُبَّتَمَا غَارَةٍ = شَعْوَاءَ مِثْلِ اللَّذْعَةِ بِالْمِيسَمِ
[لعل هنا سقط: وقوله]
وَرُبَّتَ سَائِلٍ عَنِّي حَفِيٍّ = أَعَارَتْ عَيْنُهُ أَمْ لَمْ تَعَارَا
وَمِنْ شَوَاهِدِ دُخُولِهَا عَلَى ثُمَّ قَوْلُهُ:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي = فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِينِي
وَأَمَّا دُخُولُهَا عَلَى (لا) فَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ لَهُ، فَقَدْ قَالُوا: (لاتَ)، وَوَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الكريمِ: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ}. وَقَالَ الشاعرُ:
نَدِمَ الْبُغَاةُ وَلاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ = وَالْبَغْيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيهِ وَخِيمُ
وَقَالَ أَبُو زُبَيْدٍ الطَّائِيُّ:
طَلَبُوا صُلْحَنَا وَلاتَ أَوَانٍ = فَأَجَبْنَا أَنْ لَيْسَ حِينَ بَقَاءِ
([2]) ذَهَبَ الفارسيُّ وَتَبِعَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ شُقَيْرٍ إِلَى أَنَّ (لَيْسَ) حَرْفٌ؛ لِكَوْنِهَا دالَّةً عَلَى النَّفْيِ مِثْلَ (مَا)، وَذَهَبَ الكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ (عَسَى) حَرْفٌ؛ لِكَوْنِهَا دالَّةً عَلَى التَّرَجِّي مثلَ لَعَلَّ، وَالصحيحُ أَنَّهُمَا فِعْلانِ، بِدَلِيلِ قَبُولِهِمَا تَاءَ التأنيثِ فِي نَحْوِ: لَيْسَتْ هِنْدٌ مُفْلِحَةً وَعَسَتْ هِنْدٌ أَنْ تَزُورَنَا، وَتَاءَ الفاعلِ فِي نَحْوِ: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}، ونحوِ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ}. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فِعْلِيَّتِهِمَا أَيْضاً: أَنَّهُ يَجُوزُ فِي خَبَرِ (لَيْسَ) تَقْدِيمُهُ عَلَى اسْمِهَا إِجْمَاعاً وَعَلَيْهَا عَلَى الراجحِ، و (مَا) لا يَجُوزُ مَعَهَا إِلاَّ مَجِيءُ خَبَرِهَا مُتَأَخِّراً عَنْهَا وَعَنِ اسْمِهَا.
([3]) تَقَدَّمَ قَرِيباً أَنَّ الْكُوفِيِّينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ (نِعْمَ، وَبِئْسَ) اسْمَانِ، مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بدخولِ حَرْفِ الجرِّ عَلَيْهِمَا، فَقَدْ حَكَوْا أَنَّ أَعْرَابِيًّا بُشِّرَ بِولادةِ امرأتِهِ أُنْثَى، فَقَالَ: (وَاللهِ مَا هِيَ بِنِعْمَ الْوَلَدُ)، وَحَكَوْا أَنَّ أَعْرَابِيًّا ذَهَبَ لزيارةِ أَحِبَّائِهِ عَلَى حِمَارٍ بَطِيءِ السيرِ، فَقَالَ: (نِعْمَ السَّيْرُ عَلَى بِئْسَ الْعَيرُ)، وَقَدْ رُدَّ عَلَيْهِمَا بِأَنَّ حَرْفَ الجرِّ فِي التقديرِ دَاخِلٌ عَلَى اسْمٍ.
وَجُمْلَةَ (بِئْسَ الْعَيْرُ) مَعْمُولَةٌ للاسمِ المُقَدَّرِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلامِ: وَاللهِ مَا هِيَ بِوَلَدٍ مَقُولٍ فِيهِ: نِعْمَ السَّيْرُ، عَلَى عَيرٍ مَقُولٍ فِيهِ: بِئْسَ العَيرُ.
وَالدليلُ عَلَى أَنَّ دخولَ حَرْفِ الجرِّ فِي اللفظِ لا يَدُلُّ عَلَى اسميَّةِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي اللفظِ عَلَى الفعلِ الَّذِي انْعَقَدَ الإجماعُ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ، مثلُ قَوْلِ الشاعرِ:
واللهِ مَا لَيْلِي بِنَامَ صَاحِبُهْ = وَلا مُخَالِطِ اللِّيَانِ جَانِبُهْ
فَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ (نَامَ) فِعْلٌ مَاضٍ، فَلا بُدَّ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَنَّ الْبَاءَ دَاخِلَةٌ عَلَى اسْمٍ، وَيَكُونَ التقديرُ: وَاللهِ مَا لَيْلِي بِمَقُولٍ فِيهِ: نَامَ صَاحِبُهُ، وَحَيْثُ لَزِمَ هَهُنَا فَلْيَلْزَمْ مِثْلُهُ فِي (نِعْمَ) و(َبِئْسَ) لِثُبُوتِ فِعْلِيَّتِهِمَا بِدُخُولِ تاءِ التأنيثِ وتاءِ الفاعلِ عَلَيْهِمَا.
([4]) سُورَةُ يُوسُفَ، الآيَةُ: 32.
4 - هَذَا بَيْتٌ مِنْ مَشْطُورِ الرَّجَزِ، وَقَدْ نُسِبَ هَذَا البيتُ إِلَى رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ، وَلا يُوجَدُ فِي دِيوَانِهِ، وَلَكِنَّهُ نُشِرَ فِي زياداتِ الديوانِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ السُّكَّرِيُّ فِي أَشْعَارِ الهَذَلِيِّينَ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ مع أبياتٍ أُخْرَى، وَهِيَ:
أَرَيْتَ إِنْ جَاءَتْ بِهِ أُمْلُودَا = مُرَجَّلاً وَيَلْبَسُ الْبُرُودَا
وَلا تَرَى مَالاً لَهُ مَعْدُودَا = أَقَائِلُنَّ............
اللغةُ: (أُمْلُودَا) - بِضَمِّ الهمزةِ وسكونِ الميمِ. هُوَ الناعِمُ، (مُرَجَّلاً) أَصْلُ الْكَلامِ: مُرَجَّلاً شَعْرُهُ، فَحَذَفَ المضافَ - وَهُوَ الشعرُ - وَأَقَامَ المضافَ إِلَيْهِ - وَهُوَ الضميرُ المجرورُ مَحَلاًّ بالإضافةِ - مُقَامَهُ، فَارْتَفَعَ وَاسْتَتَرَ، (الْبُرُودَا) جَمْعُ بُرْدٍ - بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الراءِ - وَهُوَ ضَرْبٌ مَعْرُوفٌ مِنَ الثِّيَابِ.
المَعْنَى: قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: أَتَى رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ أَمَةً لَهُ، فَلَمَّا حَبِلَتْ جَحَدَ أَنْ يَكُونَ حَبَلُهَا مِنْهُ، فَأَنْشَأَتْ تَقُولُ لَهُ هَذِهِ الأبياتَ. وَحَكَى غَيْرُهُ فِي بَيَانِ مَعَانِي الأبياتِ: أَخْبِرْنِي إِنْ جَاءَتْ هَذِهِ المرأةُ بِشَابٍّ مُرَجَّلِ الشعرِ حَسَنِ المَلْمَسِ كَأَنَّهُ الغُصْنُ الناعمُ لِيَتَزَوَّجَهَا، أَفَأَنْتَ مُوَافِقٌ عَلَى ذَلِكَ آمِرٌ بِإِحْضَارِ الشهودِ لِيَحْضُرُوا عَقْدَ زَوَاجِهَا؟ يُنْكِرُ ذَلِكَ مِنْهُ، يَعْنِي أَنَّ الاستفهامَ إِنْكَارِيٌّ.
الإعرابُ: (أَقَائِلُنَّ) الهَمْزَةُ للاستفهامِ، قَائِلُنَّ: خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ مَرْفُوعٌ بِالواوِ المحذوفةِ للتَّخَلُّصِ مِنَ التقاءِ السَّاكِنَيْنِ نِيَابَةً عَن الضمَّةِ؛ لأَنَّهُ جَمْعُ مُذَكَّرٍ سَالِمٌ، وَالنونُ المَحْذُوفَةُ لاجتماعِ الأمثالِ عِوَضٌ عَن التنوينِ فِي الاسمِ المفردِ، وأصلُ الْكَلامِ: أَأَنْتُمْ قَائِلُونَ، فَلَمَّا أَدْخَلَ نونَ التوكيدِ الثقيلةَ صَارَ قَائِلُونَنَّ، بِتَشْدِيدِ النُّونِ بَعْدَ النُّونِ المُعَوَّضِ بِهَا عَنْ تنوينِ المُفْرَدِ، فَحَذَفَ النُّونَ الأُولَى تَخَلُّصاً مِن اجتماعِ ثلاثةِ الأمثالِ، فَصَارَ قَائِلُونَّ بِتَشْدِيدِ النُّونِ - ثُمَّ حَذَفَ الْوَاوَ تَخَلُّصاً مِن التقاءِ السَّاكِنَيْنِ. (أَحْضِرُوا) فِعْلٌ أَمْرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى حذفِ النُّونِ، وواوُ الجماعةِ فَاعِلُهُ، (الشُّهُودَا) مَفْعُولٌ بِهِ لـ (أَحْضِرُوا)، والألفُ للإطلاقِ، والجملةُ فِي محلِّ نصبٍ مَقُولُ الْقَوْلِ.
الشاهدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (أَقَائِلُنَّ) حَيْثُ دَخَلَتْ نُونُ التوكيدِ عَلَى اسْمِ الفاعلِ ضرورةً، وَحَقُّهَا أَلاَّ تَدْخُلَ إِلاَّ عَلَى الفعلِ المضارعِ وفعلِ الأَمْرِ، وَالَّذِي سَهَّلَ هَذِهِ الضرورةَ شَبهُ اسْمِ الفاعلِ المَقْرُونِ بهمزةِ الاستفهامِ بالفعلِ المضارعِ، وَنَظِيرُ هَذَا الشاهدِ قَوْلُ الآخرِ، وَيُنْسَبُ إِلَى رُؤْبَةَ أَيْضاً:
أَشَاهِرُنَّ بَعْدَنَا السُّيُوفَا
وَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ يُنْكِرُونَ هَذِهِ الروايةَ فِي البَيْتَيْنِ، وَيَذْكُرُونَ أَنَّ الروايةَ فِي البيتِ المُسْتَشْهَدِ بِهِ: (أَقَائِلُونَ) وَفِي البيتِ الَّذِي أَنْشَدْنَاهُ: (أَشَاهِرُونَ) بالواوِ الَّتِي هِيَ علامةُ الرفعِ والنونِ المُعَوَّضِ بِهَا عَن التنوينِ فِي الاسمِ المُفْرَدِ، وَلا شُذُوذَ فِي وَاحِدٍ مِنَ البَيْتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلا ضرورةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
([5]) قَسَّمَ المُؤَلِّفُ الحرفَ إِلَى ثلاثةِ أقسامٍ: مُخْتَصٌّ بالاسمِ، وَمُخْتَصٌّ بالفعلِ، وَمُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَأَشَارَ إِلَى قاعدةٍ عَامَّةٍ فِي هَذَا الموضوعِ خُلاصَتُهَا أَنَّ مِنْ حَقِّ الحَرْفِ الخاصِّ أَنْ يَعْمَلَ فِيمَا اخْتَصَّ بِهِ العملَ الخاصَّ بِهِ، يَعْنِي أَنَّ حَقَّ الحرفِ المُخْتَصِّ بالاسمِ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ الجرَّ؛ لأَنَّ الجرَّ هُوَ الَّذِي يَخُصُّ الأسماءَ، وَمِنْ حَقِّ الحرفِ المُخْتَصِّ بالفعلِ أَنْ يَعْمَلَ الجزمَ؛ لأَنَّ الجزمَ هُوَ الَّذِي يَخُصُّ الأفعالَ.
وَمِنْ حَقِّ الحرفِ المُشْتَرَكِ أَلاَّ يَعْمَلَ شَيْئاً، وَهَذَا هُوَ الأصلُ، فما جَاءَ عَلَيْهِ لا تُطْلَبُ لَهُ عِلَّةٌ، فحروفُ الجرِّ الَّتِي تَجُرُّ الأسماءَ والتي مَثَّلَ لَهَا بِفِي لا يُسْأَلُ عَنْ عِلَّتِهَا، وَحُرُوفُ الجزمِ الَّتِي مَثَّلَ لَهَا بِـ (لَمْ) لا يُسْأَلُ عَنْ عِلَّتِهَا. وَالحروفُ المُشْتَرَكَةُ المُهْمَلَةُ الَّتِي مَثَّلَ لَهَا بِـ (هَلْ) لا يُسْأَلُ عَنْ عِلَّتِهَا، ولكن قَدْ وَرَدَتْ حُرُوفٌ مُخْتَصَّةٌ بالاسمِ وَعَمِلَتْ غَيْرَ الجرِّ، وَوَرَدَتْ حُرُوفٌ مُخْتَصَّةٌ بالفعلِ وَعَمِلَتْ غَيْرَ الجَزْمِ، وَوَرَدَتْ حُرُوفٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَعَمِلَتْ، وَوَرَدَتْ حُرُوفٌ مُخْتَصَّةٌ بالفعلِ وَقَدْ أُهْمِلَتْ، وَوَرَدَتْ حُرُوفٌ مُخْتَصَّةٌ بالاسمِ وَأُهْمِلَتْ، فهذهِ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ جَاءَتْ عَلَى خلافِ الأصلِ، فَلا بُدَّ لِمَجِيئِهَا عَلَى خلافِ الأصلِ مِنْ عِلَّةٍ.
وَمِن النوعِ الأوَّلِ - وَهُوَ الحرفُ المُخْتَصُّ بالاسمِ الَّذِي يَعْمَلُ غَيْرَ الجرِّ -، (إِنَّ) وَأَخَوَاتُهَا، وَعِلَّةُ عَمَلِهَا النَّصْبَ والرَّفْعَ: أَنَّهَا أَشْبَهَتِ الأفعالَ فِي لَفْظِهَا بِمَجِيئِهَا عَلَى ثلاثةِ أَحْرُفٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَفِي مَعْنَاهَا لدلالةِ (إِنَّ) عَلَى مَعْنَى أُؤَكِّدُ، ودلالةِ (كَأَنَّ) عَلَى مَعْنَى أُشَبِّهُ وَهَلُمَّ جَرًّا.
وَمِن النوعِ الثاني: نَوَاصِبُ المضارعِ؛ فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بالفعلِ ولم تَعْمَلِ الجزمَ فِي اللغةِ الفُصْحَى، بَلْ عَمِلَتِ النصبَ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ -عَلَى مَا ذَكَرَهُ النُّحَاةُ - أَنَّ (لَنْ) أَشْبَهَتْ (لا) النافيةَ للجنسِ فِي مَعْنَاهَا، فَعَمِلَتْ عَمَلَهَا فِيمَا اخْتَصَّتْ بِهِ، وَحُمِلَ الباقِي عَلَيْهَا.
وَمِنَ النوعِ الثالثِ - وَهُوَ الحرفُ المُشْتَرَكُ الَّذِي يَعْمَلُ -، (مَا، وَلا) اللَّتَانِ تَرْفَعَانِ الاسمَ وَتَنْصِبَانِ الخبرَ، وَعِلَّةُ عَمَلِهِمَا ذَلِكَ أَنَّهُمَا أَشْبَهَا (لَيْسَ) فِي المَعْنَى، فَعَمِلا عَمَلَهَا.
وَمِن النوعِ الرابعِ - وَهُوَ الحرفُ الَّذِي يَخْتَصُّ بالفعلِ وَقَدْ أُهْمِلَ -، قَدْ، وَالسينُ، وَسَوْفَ؛ فَإِنَّهَا لا تَدْخُلُ إِلاَّ عَلَى الأفعالِ وَلا يَعْمَلْنَ: معَ ذَلِكَ شَيْئاً، وَعِلَّةُ إِهْمَالِهِنَّ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَزَلَ مَنْزِلَةَ الجُزْءِ مِنَ الفعلِ، وَجُزْءُ الشيءِ لا يَعْمَلُ فِيهِ.
ومِن النوعِ الخامسِ - وَهُوَ الحرفُ المُخْتَصُّ بالاسمِ وَقَدْ أُهْمِلَ. حَرْفُ التعريفِ، وَهُوَ أل عِنْدَ عَامَّةِ الْعَرَبِ، وأَمْ فِي لُغَةِ حِمْيَرَ، وَعِلَّةُ إِهْمَالِهِ أَنَّهُ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الجزءِ مِن الاسمِ بدليلِ أَنَّ العاملَ يَتَجَاوَزُهُ.
([6]) سُورَةُ الذارياتِ، الآيَةُ: 20.
([7]) سُورَةُ الذارياتِ، الآيَةُ: 22.
([8]) سُورَةُ الإخلاصِ، الآيَةُ: 3.
([9]) (لِهَذَا)؛ أَيْ: لِمُضَارَعَتِهِ للاسمِ، والمرادُ بالاسمِ الَّذِي أَشْبَهَهُ المضارعُ: اسْمُ الفاعلِ، وَقَد اقْتَضَتْ مُضَارَعَتُهُ للاسمِ شَيْئَيْنِ، الأَوَّلُ: الإعرابُ؛ لأَنَّ الإعرابَ أَصْلٌ فِي الأسماءِ، والثاني: التقديمُ عَلَى الماضِي والأمرِ فِي الذِّكْرِ؛ لأَنَّ الاسمَ أَشْرَفُ الأنواعِ، وَقَدْ أَشْبَهَهُ الفعلُ المضارعُ؛ فَنَالَ مِنْهُ شَرَفَ التَّقَدُّمِ، وَشَبَهُ الفعلِ المضارعِ للاسمِ حَاصِلٌ فِي اللفظِ والمَعْنَى: أَمَّا شَبَهُهُ إِيَّاهُ فِي اللفظِ، فَلأنَّهُ يَجْرِي مَعَهُ فِي الحركاتِ والسَّكَنَاتِ، وَفِي عَدَدِ الحروفِ، وَفِي تَعْيِينِ الحروفِ الأصليَّةِ والحروفِ الزائدةِ، وَانْظُرْ إِلَى (يَنْصُر) مع (نَاصِر)، وَفِي (يَضْرِبُ) مع (ضَارِب) تَجِدْ ذَلِكَ وَاضِحاً، وَأَمَّا شَبَهُهُ إِيَّاهُ فِي المعنَى؛ فلأنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحٌ للحالِ وللاستقبالِ، ثُمَّ تَقُومُ قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ تُخَصِّصُهُ بِأَحَدِهِمَا.
([10]) فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ دَلَّتْ كلماتٌ عَلَى مَعَانِي الأفعالِ المضارعةِ ولمْ تَقْبَلْ (لَمْ) وَلَيْسَتْ - مع ذَلِكَ -، أَسْمَاءَ أفعالٍ، بَلْ هِيَ حُرُوفٌ، وَمِنْ ذَلِكَ حَرْفُ النداءِ؛ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى (أَدْعُو)، وَحَرْفُ الاستثناءِ؛ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى أَسْتَثْنِي، وَأَشْبَاهٌ لِهَذَا كَثِيرَةٌ.
فالجوابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ المرادَ إِذَا دَلَّتْ كَلِمَةٌ بِهَيْئَتِهَا، لا بِصِيغَتِهَا، عَلَى مَعْنَى المضارعِ، وَمَا ذَكَرْتَ وَنَحْوُهُ لا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى المضارعِ بِهَيْئَتِهِ.
([11]) ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ مِن التمثيلِ أَنْ يُرَى أَنَّ (تَبَارَكَ) لا تَدْخُلُ عَلَيْهِ إِلاَّ تاءُ الفاعلِ، وأنَّ (نِعْمَ) وَ(بِئْسَ) لا تَدْخُلُ عَلَيْهِمَا إِلاَّ تاءُ التأنيثِ، وأنَّ عَسَى وَلَيْسَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمَا التَّاءَانِ: أَمَّا فِي (تَبَارَكَ) فَهُوَ تَابِعٌ لابْنِ مَالِكٍ فِي (شَرْحِ الْكَافِيَةِ)، وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنَ النُّحَاةِ، فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذَا الفعلَ تَلْحَقُهُ تاءُ الفاعلِ، فَتَقُولُ: (تَبَارَكْتَ يَا اللَّهُ)، وَتَلْحَقُهُ تاءُ التأنيثِ أَيْضاً، فَتَقُولُ: (تَبَارَكَتْ أَسْمَاءُ اللَّهِ)، وَأَمَّا فِيمَا بَقِيَ فما يَدُلُّ عَلَيْهِ ظاهرُ كلامِهِ صَحِيحٌ، فَـ (نِعْمَ) وَ(بِئْسَ) لا تَقْتَرِنُ بِهِمَا تَاءُ الفاعلِ، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ مالكٍ فِي شرحِ الكافيَةِ، و(َعَسَى) وَ(لَيْسَ) تَلْحَقُهُمَا تَاءُ الفاعلِ، تَقُولُ (لَسْتُ ذَاهِباً، وَعَسَيْتَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا)، وَتَلْحَقُهُمَا تاءُ التأنيثِ، فَتَقُولُ: (لَيْسَتْ هِنْدٌ بِمُفْلِحَةٍ، وَعَسَتْ زَيْنَبُ أَنْ تَزُورَنَا).
([12]) قَدْ وَرَدَتْ كَلِمَاتٌ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الماضِي وَلا تَقْبَلُ التَّاءَيْنِ، وَهِيَ مع ذَلِكَ أفعالٌ وَلَيْسَتْ أَسْمَاءَ أفعالٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ: حَبَّذَا: فِي المدحِ، وَمِثْلُ: مَا أَحْسَنَهُ فِي التَّعَجُّبِ، وَلا يَضُرُّ ذَلِكَ؛ لأَنَّ عَدَمَ لَحَاقِهِنَّ إِحْدَى التَّاءَيْنِ عَارِضٌ لا أَصْلِيٌّ.
([13]) سُورَةُ يُوسُفَ، الآيَةُ: 32، وَقَدْ تَقْبَلُ كلمةٌ النُّونَ وَلَمْ تَدُلَّ عَلَى الأَمْرِ، وَلا تَكُونُ، مع ذَلِكَ، فِعْلاً مُضَارِعاً، وَذَلِكَ كَفِعْلِ التَّعَجُّبِ الَّذِي عَلَى صورةِ الأَمْرِ، نَحْوَ: (أَحْسِنْ بِزَيْدٍ)، ونحوَ قَوْلِ الشاعرِ:
فَأَحْرِ بِهِ مِنْ طُولِ فَقْرٍ وَأَحْرِيَا
فَإِنَّ الأصلَ: (وَأَحْرِيَنْ)، فَقُلِبَتْ نونُ التوكيدِ أَلِفاً.
([14]) الكلمةُ التي تَدُلُّ عَلَى الأَمْرِ وَلا تَقْبَلُ النُّونَ، إمَّا أَنْ تكونَ اسْمَ فِعْلٍ، كَنَزَالِ وَدَرَاكِ؛ فَإِنَّهُمَا بِمَعْنَى: انْزِلْ وَأَدْرِكْ، وَلا تَقْبَلانِ نونَ التوكيدِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَصْدَراً، نَحْوُ قَوْلِ الشاعرِ:
فَصَبْراً فِي مَجَالِ الْمَوْتِ صَبْراً = فَمَا نَيْلُ الْخُلُودِ بِمُسْتَطَاعِ
فَإِنَّ المَعْنَى: اصْبِرْ فِي مَجَالِ الْمَوْتِ، وَلا تَقْبَلُ كلمةُ (صَبْراً) نُونَ التوكيدِ.