المجموعة الأولى:
1. فصّل القول في تفسير قول الله تعالى:
{ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام}.
ذكر المفسرون في سبب نزولها ثلاثة أقوال، هي:
الأول: أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثّقفيّ، جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك، وهو قول السدي، ذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير، ورده ابن عطية بقوله: (ما ثبت قط أن الأخنس أسلم).
الثاني: أنّها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع وعابوهم، وهو قول ابن عباس، ذكره ابن عطية وابن كثير.
الثالث: أنها عامة في كل مبطن كفر أو نفاق أو كذب أو إضرار وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك، وهو قول قتادة ومجاهد والربيع ابن أنس وغيرهم، ذكره ابن عطية وابن كثير، وهو ترجيح ابن كثير، واستدلا له بما رواه ابن جرير عن القرظيّ، عن نوف -وهو البكاليّ، وكان ممّن يقرأ الكتب -قال: إنّي لأجد صفة ناسٍ من هذه الأمّة في كتاب اللّه المنزّل: قوم يحتالون على الدّنيا بالدّين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصّبر، يلبسون للنّاس مسوك الضّأن، وقلوبهم قلوب الذّئاب. يقول اللّه تعالى: فعليّ يجترئون! وبي يغترون! حلفت بنفسي لأبعثنّ عليهم فتنةً تترك الحليم فيها حيران. قال القرظيّ: تدبّرتها في القرآن، فإذا هم المنافقون، فوجدتها: {ومن النّاس من يعجبك قوله في الحياة الدّنيا ويشهد اللّه على ما في قلبه} الآية.
ورفع (من) ذكر الزجاج أنها على ضربين: على الابتداء، وبالعامل في (من).
وأما قوله: {ويشهد الله على ما في قلبه}:
فقرأ أبو حيوة وابن محيصن "ويشهد الله" بفتح الياء، وضمّ الجلالة أي بإسناد الفعل إلى اسم الجلالة، ويكون المعنى على هذه القراءة: أنه وإن أعجبك قوله وأظهر لكم الحيل، فالله يعلم من قلبه القبيح وهو العالم بحقيقة أمره، ويكون {ما في قلبه} على هذه القراءة هو الشر الباطن، كقوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول اللّه واللّه يعلم إنّك لرسوله واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون} [المنافقون: 1].
وقرأ الجمهور بضمّ الياء، ونصب الجلالة، وهذه القراءة تحتمل معنيين:
الأول: أي يظهر للناس الإسلام ويحلف لهم بالله أن الذي في قلبه موافقٌ للسانه، وهو قول عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، واختيار ابن جرير كما ذكر ابن كثير، وذكر ابن عطية أن هذه القراءة أبلغ لأنه قوى على نفسه التزام الكلام الحسن ثم ظهر من باطنه خلافه.
الثاني: أنّه يظهر للنّاس الإسلام ويبارز اللّه بما في قلبه من الكفر والنّفاق، كقوله تعالى: {يستخفون من النّاس ولا يستخفون من اللّه} [النّساء: 108]، ذكره ابن كثير ونسبه لابن عباس.
ويكون {ما قلبه} على قراءة الجمهور هو الخير الذي يظهر.
وقد نقل ابن عطية عن ابن عباس قراءته «والله يشهد على ما في قلبه»، وقراءة أبي وابن مسعود «ويستشهد الله على ما في قلبه».
ثم أعلم سبحانه وتعالى نبيه بحقيقة أمره ووصفه فقال تعالى: {وهو ألدّ الخصام}.
والألد من لددته بفتح العين ألده بضمها إذا غلبته في الخصام، فالألد هو الشديد الخصومة والجدل الصعب الشكيمة الأعوج الذي يلوي الحجج في كل جانب، واشتقاقه قيل من لديدي العنق، وهما صفحتا العنق، وقيل شبه انحرافه المشي في لديدي الوادي.
كما قال تعالى: {وتنذر به قومًا لدًّا} [مريم:97] أي: عوجًا، وروى البخاري عن عائشة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إن أبغض الرّجال إلى اللّه الألدّ الخصم".
وقال الشاعر:
إنّ تحت الأحجار حزما وعزما = وخصيما ألدّ ذا مغلاق
و(الخصام) مصدر خاصم، ومفردها خصم، نحو صعب وصعاب، وخدل وخدال، فالمعنى وهو أشد الخصماء.
فالآية تبين حال المنافق في حال خصومته، يكذب، ويزورّ عن الحقّ ولا يستقيم معه، بل يفتري ويفجر، كما ثبت في الصحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: "آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
2. حرّر القول في تفسير قوله تعالى:
{كان الناس أمّة واحدة}.
ذكر المفسرون في ذلك ثلاثة أقوال:
الأول: أي كان كل من بعث إليه الأنبياء كفارا، وهو قول ابن عباس، ذكره الزجاج واستشهد عليه بحال الناس قبل بعثة النبي، وذكره ابن عطية وعقب عليه بأن (كان) في هذا القول على بابها من المضي المنقضي، وقدر ما ذكر في حديث الشفاعة في قول الناس عن نوح: أنت أول الرسل، أن المعنى: إلى قوم كفار وإلا فآدم مرسل إلى بنيه يعلمهم الدين والإيمان، وذكره ابن كثير.
الثاني: بمعنى الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله، أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق، ذكره ابن عطية وعقب عليه بأن (كان) على هذا الثبوت لا تختص بالمضي فقط.
الثالث: أنهم كانوا على الهدى جميعا، مؤمنين على شريعة من الحق، وهو قول ابن عباس في رواية وقتادة ومجاهد، ذكره ابن عطية وذكر أن تقدير الكلام فاختلفوا، على قراءة ابن مسعود «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث»، وذكره ابن كثير واستحسنه لكون رواية ابن عباس أصح سندا، ولأنّ النّاس كانوا على ملّة آدم عليه السّلام حتّى عبدوا الأصنام، فبعث اللّه إليهم نوحا عليه السلام، فكان أول رسول بعثه اللّه إلى أهل الأرض.
3. اكتب رسالة مختصرة بالأسلوب الوعظي في تفسير قوله تعالى:
{زيّن للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتّقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب}.
يخبر تعالى في هذه الآية عن تزيينه للحياة الدنيا وذلك بخلقه للأشياء المعجبة، وبتزيين الشيطان بوسوسته وإغوائه، وفي ذلك تحذير للمؤمنين من مسلك الكافرين الذين أقبلوا على الدنيا ورضوا بها واطمأنوا إليها، وأعرضوا عن الآخرة وما أمر الله به بسبب قبولهم لهذا التزيين، فمن حكم الله في خلقه أن زين لهم ما في الأرض للابتلاء وبيان المؤمنين ممن لم تفتنهم الزينة من غيرهم، كما قال تعالى: {زيّن للنّاس حبّ الشّهوات من النّساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة}، كما أن تعظيم الكافرين للدنيا والاغترار بها أدى بهم إلى السخرية من المسلمين وحالهم من الإعراض عن الدنيا وبذلها ابتغاء وجه الله، فكان جزاؤهم على قبيح فعلهم هو خفض منزلتهم في أسفل سافلين من الدركات، وجزاء المؤمنين في الآخرة في أعلى عليين من الدرجات والتنعم والرحمة، وفي هذا إشارة إلى مكانة المؤمنين وتفضيلهم في القدر والدرجة والفوز بالحظ الأوفر يوم المعاد، كما قال تعالى: أصحاب الجنّة يومئذٍ خيرٌ مستقرًّا [الفرقان: 24]، ثم يختم تعالى الآية بالتأكيد على أنه رزقه لعباده في الدنيا ليس على قدر العمل، فلا يغتر المؤمن بما أوتي الكفار في دنياهم ولا يقيسوا عليها الآخرة، لكن الجزاء في الآخرة بقدر العمل وبتفضل الله عز وجل على عباده، وفي ذلك تنبيه على أن المؤمنين المستضعفين وإن لم يكونوا من أهل الغنى في الدنيا فهم أهل المكانة العليا في الآخرة، وهذا النعيم دائم لا ينقطع ولا يفنى، ورزقه لعباده كثيرا جزيلا بلا عطاء ولا تعداد في الدنيا والآخرة بغير حساب، ولذلك جاء في القرآن السنة الحث على الإنفاق والزهد في الدنيا، قال تعالى: {وما أنفقتم من شيءٍ فهو يخلفه} [سبأٍ: 39]، وفي الحديث: "ابن آدم، أنفق أنفق عليك"، وقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا"، وفي الصّحيح أنّ ملكين ينزلان من السّماء صبيحة كلّ يومٍ، يقول أحدهما: اللّهمّ أعط منفقًا خلفًا. ويقول الآخر: اللّهمّ أعط ممسكا تلفًا. وفي الصحيح "يقول ابن آدم: مالي، مالي! وهل لك من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت، وما لبست فأبليت، وما تصدّقت فأمضيت؟ وما سوى ذلك فذاهبٌ وتاركه للنّاس".، وفي مسند الإمام أحمد عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "الدّنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له.