مجموعة : ( كوثر التايه-هناء هلال-نبيلة الصفدي)
الآيات 219-221
رسالة تفسرية في قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌوَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَمَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِلَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَعَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْفَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَاللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُواالْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍوَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواوَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَإِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِوَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}
الآية استئنافية في هذه السورة الكريمة التي حوت عدد من الأحكام والتشريعات التي بها مايصلح أحوال الناس والمجتمع، وتتخلص من أدران الجاهلية ومعتقداتها، وفي الآيات ثلاثة أسئلة وأجوبتها: سؤال حول الخمر والميسر، وآخر حول الانفاق، وثالث حول اليتامى، في سياق الأمر بالدخول في شرائع الاسلام كلها.وهو سؤال عن حكم شرب الخمر وبيعها وشرائها، وعن حكم القمار
والآية نزلت في نفر من المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الأحكام، فقد نقل ابن كثير رواية الامام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه قال: لمّا نزل تحريم الخمر قال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت هذه الآية التي في البقرة: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ [ومنافع للنّاس]} فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانًاشافيًا. فنزلت الآية التي في النّساء: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاةوأنتم سكارى} [النّساء: 43]، فكان منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا أقام الصّلاة نادى: ألّا يقربنّ الصّلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللّهمّ بيّنلنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في المائدة. فدعي عمر، فقرئت عليه،فلمّا بلغ: {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91]؟ قال عمر: انتهينا،انتهينا.
ونقل الواحدي وابن كثير من سنن الترمذي –كتاب التفسير- وسنن أبي داود في الأشربة، ومستدرك الحاكم عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أنه أتوا النبي صلى الله عليه وسألوه فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال،فأنزل الله تعالى الآية.
وكذا رواه ابن أبي حاتم عن سفيان، عن أبي اسحاق، عن عمرو بن شرحبيل، عن عمر رضي الله عنه وذكره ابن كثير وقال: "لكن قال أبو زرعة: لم يسمع منه. واللّه أعلم. وقال علي بن المديني: هذا إسناد صالحٌ وصحّحه التّرمذيّ.
وقال الطاهر بن عاشور: "وشرب الخمر عمل متأصل في البشر قديما لم تحرمه الشرائع لا القدر المسكر بله مادونه، وأما ما يذكره بعض علماء الاسلام: إن الاسكار حرام في الشرائع كلها فلا شاهد عليه بل الشواهد على ضده متوافرة.... وشيوع شرب الخمر في الجاهلية معلوم لمن علم أدبهم وتاريخهم، فقد كانت الخمر قوام أود حياتهم ، وقصارى لذاتهم ومسرة زمانهم، وملهى أوقاتهم، قال طرفة:
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى***وجدك لم أحفل منى قام عُوَّدي
فمنهن سبقي العاذلات بشرية***كُميت متى ما تعل بالماء تُزبِدِ"
ولهذا يتبين لنا من الحكم الالهية والتدرج في التحريم ما يجعل أمر التحريم مقبولاَ بل وقد تلهفت النفوس لمعرفته عند الصحابة رضي الله عنهم.
القراءات :
* قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ
* كثير» بالثاء المثلثة ، وحجتها أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر ولعن معها عشرة: بائعها، ومبتاعها، والمشتراة له، وعاصرها، والمعصورة له، وساقيها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها، فهذه آثام كثيرة، وأيضا فجمع المنافع يحسن معه جمع الآثام، و «كثير» بالثاء المثلثة يعطي ذلك
*قرأ باقي القراء وجمهور الناس «كبير» بالباء بواحدة وحجتها أن الذنب في القمار وشرب الخمر من الكبائر فوصفه بالكبير أليق.
والقراءاتان جمعتا وصفين مختلفين من جهة ، فيكون الإثم كثيراً باعتبار آحاده، كبيراً باعتبار كيفيته.
* قُلِ الْعَفْوَ
*قرأ جمهور الناس «العفو» بالنصب،
* وقرأ أبو عمرو وحده «العفو» بالرفع،
*واختلف عن ابن كثير،
وسبب هذا الاختلاف هو (ماذا) في "وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ "هل هي مركبة أم لا؟
*من جعل «ما» ابتداء و «ذا» خبره بمعنى الذي وقدر الضمير في ينفقون هـ عائدا قرأ «العفو» بالرفع، لتصح مناسبة الجمل، ورفعه على الابتداء تقديره العفو إنفاقكم، أو كأنه قال: ما الذي ينفقون؟ الذي تنفقون العفو،
*من جعل ماذا اسما واحدا مفعولا ب ينفقون، قرأ «قل العفو» بالنصب بإضمار فعل، وصح له التناسب، كأنه قيل أنفقوا العفو
*ورفع «العفو» مع نصب «ما» جائز ضعيف، وكذلك نصبه مع رفعها
وفي معنى الخمرلغة: والخمر اسم مشتق من مصدر خمر الشيء خمره من باب نصر إذا ستره ، فهي من خمر إذا ستر، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خمروا الإناء»[1]، ومنه خمار المرأة، والخمر ما واراك من شجر وغيره، والخمرة التي يسجد عليها إنما سميت بذلك لأنها تستر الوجه عن الأرض،وكذلك قيل للعجين قد اختمر لأن فطرته قد غطاها الخمر أعني الاختمار - يقال قد اختمر العجين وخمرته، وفطرته وأفطرته.
ماهي الخمر المحرمة؟
وقال ابن عطية: "اجتمعت الأمة على خمر العنب-إذا غلت ورمت بالزبد-أنها حرام قليلها وكثيرها.
قال الزمخشري: "والخمر ما غلي واشتد وقذف بالزبد من عصير العنب، وهو حرام، وكذلك نقيع الزبيب أو التمر الذي لم يُطبخ، فإن طُبخ ذهب ثلثاه، ثم غلي واشتد ذهب خبثه ونصيب الشيطان، وحل شرب مادون المسكر".
وقال ابن تييمة:"واسم " الخمر " في لغة العرب الذين خوطبوا بالقرآن كان يتناول المسكر من التمر وغيره ولا يختص بالمسكر من العنب ; فإنه قد ثبت بالنقول الصحيحة أن الخمر لما حرمت بالمدينة النبوية وكان تحريمها بعد غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة لم يكن من عصير العنب شيء فإن المدينة ليس فيهاشجر عنب ; وإنما كانت خمرهم من التمر . فلما حرمها الله عليهم أراقوها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بل وكسروا أوعيتها وشقوا ظروفها ; وكانوا يسمونها " خمرا " . فعلم أن اسم " الخمر " في كتاب الله عام لا يختص بعصير العنب . فروى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ; ما منها شراب العنب . وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال : إن الخمر حرمت يومئذ من البسر والتمر . وفي لفظ لمسلم : لقد أنزل الله هذه الآية التي حرم فيها الخمر ; وما بالمدينة شراب إلا من تمر وبسر . وفي لفظ للبخاري : وحرمت علينا حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا ; وعامة خمرنا البسر والتمر ."[2]
*سبب تسمية الخمر بهذا الاسم : لأن الخمر تستر العقل وتغطي عليه ، فكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب: إنّه كلّ ما خامر العقل.[3]
قال ابن عاشور: "سمي به عصير العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد فصار مسكرا; لأنه يستر العقل عن تصرفه الخلقي تسمية مجازية وهي إما تسمية بالمصدر ، أو هو اسم جاء على زنة المصدر : هو اسم لكل مشروب مسكر سواء كان عصير عنب أو عصير غيره أو ماء نبذ فيه زبيب أو تمر أو غيرهما من الأنبذة وترك حتى يختمر ويزبد ، واستظهره صاحب القاموس . والحق أن الخمر كل شراب مسكر ، إلا أنه غلب على عصير العنب المسكر; لأنهم كانوا يتنافسون فيه ، وأن غيره يطلق عليه خمر ونبيذ وفضيخ ، وقد وردت أخبار صحيحة تدل على أن معظم شراب العرب يوم تحريم الخمر من فضيخ التمر ، وأن أشربة أهل المدينة يومئذ خمسة غير عصير العنب ، وهي من التمر والزبيب والعسل والذرة والشعير وبعضها يسمى الفضيخ ، والنقيع ، والسكركة ، والبتع .[4]فالخمر هي : كل مسكر خامر العقل وغطاه من أي نوع كان.
معنى الميسر لغة: الميسر اسم جنس على وزن مفعل مشتق من الميسر، وهو ضد العسر والشدة، أو من اليسار وهو ضد الاعسار، كأنهم صاغوه على هذا الوزن مراعاة لزنة اسم المكان من يسر ييسر وهو مكان مجازي جعلوا ذلك التقامر بمنزلة الظرف الذي فيه اليسار أو اليسر ، لأنه يفضي إلى رفاهة العيش وإزالة صعوبة زمن المحل وكلب الشتاء[5]
والميسر مأخوذ من يسر إذا جزر، والياسر الجازر، والجزور [6]الذي يستهم عليه يسمى ميسرا لأنه موضع اليسر، ثم قيل للسهام ميسر للمجاورة.
فالميسر : قمار كان للعرب في الجاهلية ، وهو من القمار القديم المتوغل في القدم، واليسر الي يدخل في الضرب بالقداح. كانت عادة العرب أن تضرب بهذه القداح في الشتوة وضيق الوقت وكلب البرد على الفقراء، تشتري الجزور ويضمن الأيسار ثمنها ثم تنحر وتقسم على عشرة أقسام، ويضرب عليها، فمن فاز سهمه بأن يخرج من الربابة متقدما أخذ أنصباءه وأعطاها الفقراء، وفي أحيان ربما تقامروا لأنفسهم ثم يغرم الثمن من لم يفز سهمه. ويعيش بهذه السيرة فقراء الحي. فهو: (ما يؤخذ من المال عن طريق المنافسات التي فيها عوض من الطرفين المشتركين في المنافسة) وضابطه : أن يكون فيه بين غانم وغارم
* قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
( فيهما إثم) يحتمل مقصدين: أحدهما أن يراد في استعمالهما بعد النهي، والآخر أن تراد خلال السوء التي فيهما .
المقصود بالإثم : العقوبة أو كان سببا للعقوبة، كما قال تعالى: ( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)-المائدة، ويقال فلان آثم: أي مستحق للعقوبة.والإثم في الدين.
قال ابن عباس: "المنافع قبل التحريم، والإثم بعده"[7]
"ومنافع للناس: جمع منفعة، وهي من صيغة منتهى الجموع التي تدل على الكثرة، وهي مع كثرتها فإن إثمهما أكبر وأعظم، لأنه لو كانت منفعة واحدة لم يستغرب كون الإثم أكبر، ولكن وإن تعددت المنافع، وكثرت فإن الإثم أكبر وأعظم، وتأمل قوله تعالى: " ومنافع للناس" لأنها منافع مادية بحتة تصلح للناس من حيث هم أناس، وليست منافع ذات خير ينتفع بها المؤمنون"[8]
(وإثمهما أكبر من نفعهما) : "ما يترتب عليهما من العقوبة أكبر من نفعهما، لأن العقوبة في الآخرة، وأما النفع في الدنيا، وعذاب الآخرة أشق وأبقى"[9]. ولهذا كانت هذه الآية ممهّدةً لتحريم الخمر على البتات، ولم تكن مصرّحةً بلمعرّضةً؛ ولهذا قال عمر، رضي اللّه عنه، لمّا قرئت عليه: اللّهمّ بين لنا في الخمربيانًا شافيًا، حتّى نزل التّصريح بتحريمها في سورة المائدة : : {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون * إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوةوالبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر اللّه وعن الصّلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة: 90، 91]
إثم الخمر :
*توقع العداوة والبغضاء، وما فيها من قول الفحش والزور.
*تحول بين المرء وعقله الذي يميز به ويعرف ما يجب لخالقه، ولما يترتب على شربها من نقصان أوقات الصحو للعبادة ولإقامة الدنيا.
*وما فيها من زوال العقل وفقدان الاتزان.
إثم القمار :
*يورث العداوة والبغضاء وإن مال الإنسان يصير إلى غيره بغير جزاء يؤخذ عليه،
*يعود على الكسل والبطالة .
*اضاعة الوقت والصد عن ذكر الله.
*تعود كسب المال الحرام، فيكون الاعراض عن الاقبال عن الأعمال التي فيها مصالح العباد.
*نقل للملكية غير معقول.
منافع الخمر :
- نفع البدن،
- تهضيم الطّعام،
- إخراج الفضلات،
- تشحيذ بعض الأذهان،
- لذّة الشّدّة المطربة التي فيها ،
- بيعها والانتفاع بثمنها.
منافع الميسر :
*ما كان يقمّشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله وعلى فقراء الحي.
* وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا : هذه المصالح لا توازي مضرّته ومفسدته الرّاجحة، لتعلّقها بالعقل والدّين .
هل قوله تعالى: ( فيه منافع للناس) منسوخ؟
نقل ابن عطية عن طائفة : أنها منسوخة بقوله تعالى: ( فاجتبوه لعلكم تفلحون) لما في ذلك من الاباحة والترخيص.
ولكن هذه الآية مرحلة من مراحل التدرج في التحريم والاشارة إليه.
علة ذكر المنافع:
"الفائدة من ذكر المنافع هي بيان حكمة التشريع ليعتاد المسلمون مراعاة علل الأِياء، لأن الله تعالى جعل هذا الدين ديناً دائماً أودعه أمة أراد أن يكون منها مشرعون لمختلف ومتجدد الحوادث، فلذلك أشار إلى العلل في غير موضع، قال تعالى: ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه فكرهتموه) ، ونحو ذلك، وتخصيص التنصيص على العلل ببعض الأحكام في بعض الآيات إنما هو مواضع خفاء العلل، فإن الخمر قد اشتهر بينهم نفعاً، والميسر قد اتخذوه ذريعة لنفع الفقراء، فوجب بيان ما فيهما من المفاسد إنباء بحكمة التحريم.
وفائدة أخرى: وعي تأنيس المكلفين عند فطامهم عن أكبر لذائذهم تذكيراً لهم بأن ربهم لا يريد إلا اصلاحهم دون نكايتهم كقوله تعالى: ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم) ، وقوله تعالى:
( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) .
وهناك علة أخرى: وهي عذرهم عما سلف منهم حتى لا يستكينوا لهذا التحريم والتنديد على المفاسد كقوله تعالى: ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم"[10]
حكم الخمر والحد الواجب فيها:
نقل ابن عطية عن أصحاب السنن قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام" قال ابن المنذر في "الاشراق" لم يبق هذا الخبر مقالة قائل، ولا حجة لمحتج، وقوله صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر خمر وكل خمر حرام" رواه مسلم والدارقطني، ورواه الشيخان، وأصحاب السنن بفلظ : " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام"
وقوله تعالى: " (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو)
مناسبة سؤالهم عن الخمر والميسر وسؤالهم عن ماذا ينفقون:
" أن النهي عن الخمر والميسر يتوقع منه تعطل إنفاق عظيم كان ينتفع به المحاويج، فبينت لهم الآية وجه الانفاق الحق..... ولا يخفى أن الذي يصلح للتفكر-كما آخر الآية- هو الحكم المنوط بالعلة وهو حكم الخمر والميسر ثم نشأ عنه قوله ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"[11]
هل الآية منسوخة أم محكمة؟
*وقال بعضهم: نسخت بآية الزكاة. كما رواه عليّ بن أبي طلحة، والعوفيّ عن ابن عبّاسٍ، واختاره الواحدي وقال: " وكان الرجل بعد نزول الآية يأخذ من كسبه ما يكفيه، وينفق باقيه إلى أن فُرضت الزكاة فنسخت آية الزكاة التي في براءة هذه الآية ، وكل صدقة أمروا بها قبل الزكاة."[12]
*وقيل: مبيّنةٌ بآية الزّكاة، قاله مجاهدٌ وغيره،
قال قيس بن سعد: «هذه الزكاة المفروضة».
*وقال آخرون: هي محكمة وفي المال حق سوى الزكاة.- وهو الصحيح ، وأنها في نفقة التطوع كم قاله جمهور العلماء: هي نفقات التطوع.
معنى العفو:
لغة: مصدر عفا يعفو إذا زاد ونمى، قال تعالى: ( ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا) وهي هنا مازاد عن الحاجة، الفضل والكثرة، يقال عفا القوم إذا كثروا، وقال الكلبي: هو السهل من غير مشقة، "العفو": نقيض الجهد، وهو أن ينفق مالا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع، قال
خذي العفو مني تستديمي مودتي
ويقال للأرض السهلة: العفو.
*شرعاً :
العفو: هو الفضل. وقيل أقوال آخرى ترجع كلها للفضل:
* اليسير من كلّ شيءٍ، عن طاوس
*أفضل مالك، وأطيبه ،عن الرّبيع
إذن هو ما ينفقه المرء دون أن يجهد نفسه وماله.ينفق مافضل عن حوائجه ولا يؤذي نفسه فيكون عالة، ويدل على ذلك عن أبي هريرة قال: قال رجلٌ: يا رسول اللّه، عندي دينارٌ؟ قال: "أنفقه على نفسك". قال: عندي آخر؟ قال: "أنفقه على أهلك". قال: عندي آخر؟ قال: "أنفقه على ولدك". قال: عندي آخر؟ قال: "فأنت أبصر".وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «من كان له فضل فلينفقه على نفسه، ثم على من يعول، فإن فضل شيء فليتصدق به»، وقال صلى الله عليه وسلم: «خير الصدقة ما أبقت غنى»، وفي حديث آخر: « خير الصّدقة ما كان عن ظهر غنًى، واليد العليا خيرٌ من اليد السّفلى، وابدأ بمن تعول».
سبب نزول الآية:
نقل ابن كثير عن ابن أبي حاتم: " أنّ معاذ بن جبلٍ وثعلبة أتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالا يا رسول اللّه، إن لنا أرقّاءوأهلين [فما ننفق] من أموالنا. فأنزل اللّه: (ويسألونك ماذاينفقون).
وقوله: {كذلك يبيّن اللّه لكمالآيات لعلّكم تتفكّرون * في الدّنيا والآخرة}
أي: كما فصّل لكم ماتقدم من هذه الأحكام وبينها وأوضحها، ليحصل للأمة التفكر وعلم أمور الدنيا وأمور الآخرة ، لأن التفكر مظروف في الدنيا والآخرة، فتقدير المضاف لازم بقرينة قوله والآخرة إذ لا معنى لوقوع التفكر يوم القيامة ، فلو اقتصر على بيان الحظر والوجوب والثواب والعقاب لكان بيانا للتفكر في أمور الآخرة خاصة، ولو اقتصر على بيان المنافع والمضار، بأن قيل: قل فيهما نفع وضر لكان بياناً للتفكر في أمور الدنيا خاصة، ولكن ذكر المصالح والمفاسد والثواب والعقاب تذكير بمصلحتي الدارين، فلعلكم تتفكرون في أمر الدنيا والآخرة وفي هذا تنويه بشأن اصلاح أمور الأمة في الدنيا بما يصلح لكم معاشكم فيها وعبادة الله والعمل لمعادكم بين يديه.
وفي قوله : لكم : "اللام للتعليل والامتنان وتشريف بهذه الفضيلة لإشعاره بأن البيان على هذا الأسلوب مما اختصت به هاته الأمة ليتلقوا التكاليف على بصيرة بمنزلة الموعظة التي تلقي إلى كامل العقل موضحة بالعواقب..."[13]
وروى ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قرأ هذه الآية في سورة البقرة: ( لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة) قال: هي والله لمن تفكر فيها ليعلم أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء، وليعلم أن الآخرة، دار جزاؤ، ثم دار بقاء، ونقلها ابن كثير.
هدايات الآيات:
1-على المسلم أن يعلم حكم الله في جميع أمور حياته، فإن الله أمر بالدخول في الاسلام كله، فيسأل أهل العلم ويتعلم، قال تعالى: (يسألونك) .
2-قد يعتاد الناس على عادة – وإن كانت سيئة – ولكن تألفها النفوس لانتشارها، ويبقى في القلب المؤمن نور الهداية الربانية، وهذا واضح في سبب النزول للآية، وهو مصداق قوله تعالى: ( ...مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في الزجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة) – النور-
3-المصلحة الحقيقة هي في الآخرة، فهما عظمت المصلحة الدنوية في عين الناس فإنها لا تعني شيئا فيما أعده الله في الآخرة، ( وإثمهما أكبر من نفعهما)
4-ليس كل مابدت فيه مصلحة ومتعة دنيوية يستوجب أن يكون على مثلها في الآخرة، (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس)
5-جاءت الشريعة الاسلامية في كل أحكامها بما فيه مصلحة العباد ومنفعتهم، ( وإثمهما أكبر من نفعهما )
قال تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَعَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْفَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَاللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
مناسبة الاية لما قبلها:
"عطف تبيين معاملة اليتامى على تبيين الانفاق لتعلق الأمرين بحكم تحريم الميسر أو التنويه عنه ، فإن الميسر كان باباً واسعاً للاتفاق على المحاويج وعلى اليتامى، وقد ذكر لبيد إطعام اليتامى بعد ذكر إطعام لحوم جزور الميسر فقال:
ويكللون إذا الرياح تناوحت***خلجا تمد شوارعها أيتامها
وكان ذلك السؤال مناسبة حسنة للتخلص إلى الوصايا باليتامى وذكر مجمل أحوالهم في جملة إصلاح الأحوال التي كانوا عليها قبل الاسلام، فكان هذا وجه عطف هذه الجملة على التي قبلها بواو العطف لاتصال بعض الأسئلة ببعض كما تقدم في قوله: ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو)"[14].
فجاء الاسلام بإصلاح حال اليتامى في أموالهم وسائر أحوالهم، حتى قيل إن أولياء اليتامى اعتزلوا اليتامى وتركوا التصرف في أموالهم، فنزلت الآية.
سبب النزول:
- قال السدي والضحاك أن العرب كانت عادتهم أن يتجنبوا مال اليتيم ولا يخالطوه في مأكل ولا مشرب ولا شيء، فكانت تلك مشقة عليهم، فسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكره ابن عطية .
-(ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم واللّه يعلم المفسدمن المصلح ولو شاء اللّه لأعنتكم} الآية: روى ابن جريرٍ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ قال: لمّا نزلت: {ولا تقربوامال اليتيم إلا بالّتي هي أحسن} [الإسراء: 34] و {إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامىظلمًا إنّما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا} [النّساء: 10] انطلق من كان عنده يتيمٌ فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشّيء من طعامه فيحبس له حتّى يأكله أو يفسد، فاشتدّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم} فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.نقله ابن كثير عن ابن جرير من رواية أ[ي داود والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم ، وغيرهم وحكاه ابن عطية.
وقيل: إن السائل عبد الله بن رواحة، فيما أخرجه أبو داود عن ابن عباس، وحكاه ابن عطية
وفي معنى الآية:
أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم أن من قصد اصلاح حال اليتيم وماله فهو خير، ولو رأى أن الخلط والانبساط بعوض منه فلا حرج، وفي ذلك رفع المشقة عنهم واباحة الخلطة والترفق باليتيم في قصد الاصلاح، الله عالم بالأحوال وخبايا الصدور.
- روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: ( ويسألونك عن اليتامى قل اصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم في الدين والله يعلم المفسد من المصلح) ، قال: من يتعمد أكل مال اليتيم، ومن يتحرج عنه، لا يألو عن اصلاحه. قال وكيع بن الجرّاح: حدّثنا هشامٌ الدّستوائي عن حمّادٍ، عن إبراهيم قال: قالت عائشة: إنّي لأكره أن يكون مال اليتيم عندي عرّة حتّى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي.
معنى يتيم: هو الذي مات أبوه ولم يبلغ الحلم، فهو بحاجة إلى مزيد عناية ورعاية، ولهذا كثرت الوصايا باليتيم في القرآن والسنة، حتى قال صلى الله عليه وسلم: أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَلِيلًا "أخرجه البخاري
وقال تعالى: " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده"-الأنعام
معنى الاصلاح: هو جعل الشيء صالحاً أي ذا صلاح، وهو ضد الفساد ، أي يتبع الانسان ماهو أصلح لليتيم في جميع أموره، سواء في التربية أو الانفاق، قوله تعالى: ( اصلاح لهم) اللام للتعليل أو الاختصاص، ولم يقل –اصلاحهم- حتى لا يتوهم أنه اصلاح ذواتهم، وهو كقوله تعالى: ( ائيتوني بأخ لكم من أبيكم) ولم يقل بأخيكم ليوهمهم أنه لم يرد أخا معهودا، والمقصود هنا جميع الاصلاح وليس اصلاح الذوات فقط، وهو يشمل اصلاح ذواتهم بالدرجة الأولى، ويتضمن اصلاح عقائدهم وأخلاقهم بالتعليم الصحيح والآداب الاسلامية ...وغيره، وكفاية مؤنهم بحسب المتعارف عليه، واصلاح أموالهم وتنميتها بما فيه صلاحهم. وحذف المفضل عليه
( اصلاح لهم خير) للعموم ويشمل في ذلك الرد على من حمله الخوف من أكل أموال اليتامى على اعتزال أمورهم وترك التصرف فيها، فكأنه قال : اصلاح أمورهم خير من اهمالهم ،أي فضل ثوابا وأبعد عن العقاب من اهمالهم فإنه ينجر منه إثم الاضاعة، ولا يحصل فيه ثواب النصيحة،
فالاصلاح هو الشطر الأول في الاجابة عن سؤالهم عن اليتامى، والشطر الثاني هو قوله تعالى:
( وإن تخالطوهم) في الأكل ، والشرب، ... فهم أخوانكم وليسوا بغرباء عنكم.والمخالطة مفاعلة من الخلط وهو جمع الأشياء جمعا يتعذر معه تمييز بعضها عن بعض. (فإخوانكم) جواب الشرط، ولذلك قرنه بالفاء، تقديره: فهم اخوانكم، وهو على معنى التشبيه البليغ ، والمراد بالأخوة أخوة الاسلام التي تقتضي المناصحة.
والله يعلم المفسد من المصلح) فيها وعد ووعيد، لأنه هنا علم معرفة وتمييز، وعليه يترتب الأثر والجزاء. وقال ابن عباس: المعنى لأوبقكم بما سلف من نيلكم من أموال اليتامى، وعزيزٌمقتضاه لا يرد أمره، وحكيمٌ أي محكم ما ينفذه
معنى العنت لغة: العنت: المشقة، من قولهم عنت البعير يعنت إذا حدث في رجله كسر بعد جبر لا يمكنه معه تصريفها، ويقال أكمة غنوت إذا كان لا يمكن أن يحازيها إلا بمشقة عنيفة.
وشرعاً: أي لو شاء لكلفكم مافيه العنت وهو أن يحرم مخالطة اليتامى، ، ولكنه خفف عنكم، وحذف مفعول المشيئة لإغناء ما بعده عنه
قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
فهي تذييل لما اقتضاه الشرط (لو) ، وكأنه قال: ولو شاء لأعنتكم، لأن الله له العزة والحكم.
عزيز : غالب يفعل بغزته ما يحب ولا دافع لأمره
حكيم : ذو حكمة فيما أمركم به في أمر الإيتام .
هدايات الآية:
1-الخشية مما يغضب الله تعالى ويستوجب عقابه، وهذا واضح من سبب النزول.
2-على المسلم مراعاة من تولى أمره، ( ويسألونك عن اليتامى) فهذا في أمر من تولى اليتيم وأمره، وعليه فمن هو تحته من زوج وولد وأقارب هم من باب أولى.
3-قصد الاصلاح في جميع الأمور التي بين يدي المؤمن والسعي لما فيه النفع والخير،
( اصلاح لهم)
4-جواز مخالطة اليتيم وماله إن قصد الاصلاح وسعى له، ( فخالطوهم)
5-تأكيد الأخوة الايمانية وأنها أصل ، ( فإخوانكم )
6-التحذير من الافساد وما يترتب عليه، ومراقبة الله في السر والعلن ( والله يعلم المفسد من المصلح)
7-علم الله للأمور الظاهرة والباطنة، وهو سبحانه يعلم السر وأخفى ( والله يعلم )
8-ارادة الله تعالى الخير لهذه الأمة ولا يريد لها المشقة، ( ولو شاء الله لأعنتكم) ، وكما قال تعالى: ( يريد الله أن يخفف عنكم)-النساء، ( ما جعل الله عليكم في الدين من حرج) –الحج
قال تعالى: (وَلَا تَنْكِحُواالْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍوَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواوَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَإِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِوَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
كان المسلمون أيام نزول الآيات مازالوا مختلطين مع المشركين في المدينة، فربما رغب بعضهم بالزواج من المشركات، أو رغب بعض المشركين بالزواج من المسلمات، جاءت الآية تحريم من الله سبحانه على المؤمنين الزواج من عبدة الأوثان ، وتوضح سبب هذا التحريم وهو أن هؤلاء يجروا المؤمنين إلى النار ، والله سبحانه رحيم بعباده يدعوهم إلى الجنة
مناسبة الآية لما قبلها:
لما ذكر تعالى بيان مخالطة اليتامى، وكانت المصاهرة من أعظم أحوال المخالطة، تطلعت النفوس إلى حكم هاته المصاهرة بالنسبة للمشركين والمشركات، فعطف حكم ذلك على حكم اليتامى ..
سبب النزول:
قال الواحدي: في أبي مرثد الغنوي، استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في عناق أن يتزوجها، وهي امرأة مسكينة من قريش، وكانت ذا حظ من جمال وهي مشركة، وأبو مرثد مسلم، فقال: يانبي الله إنها لتعجبني، فأنزل الله تعالى: ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) حكاه ابن عطية[15]
والنكاح في اللغة: الضم والجمع، ومنه قول الشاعر:
أيها المنكح الثريا سهيلا***عمرك الله كيف يجتمعان
معنى النكاح : أصله الجماع ، ويستعمل في التزوج تجوزا واتساعا ، وهو يطلق على حقيقة العقد، واستعماله في الوطء كناية.
والمشرك في لسان الشرع: من يدين بتعدد الألهة مع الله سبحانه.
والمشركات في الآية:
1-نص الآية في تحريم تزوج المسلم المرأة المشركة ، وتحريم تزويج المسلمة الرجل المشرك فهي صريحة في ذلك ، وأما تزوج المسلم المرأة الكتابية وتزويج المسلمة الرجل الكتابي فالآية ساكتة عنه، فلم تدخل اليهوديات ولا النصرانيات في الآية لفظاَ ولا معنى.
2-كان التحريم قد نزل في سائر الكفار في تزويج نسائهم من المسلمين، ثم أحل تزويج نساء أهل الكتاب من بينهم. فقال اللّه - عزّ وجلّ: (اليوم أحلّ لكم الطّيّبات وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلّ لكموطعامكم حلّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب منقبلكم) وقال قتادة وسعيد بن جبير –كما نقله ابن عطية- فلفظ الآية عام في آية البقرة والمراد به الخصوص في آية المائدة، والحاصل فهو إما عام مخصوص، أو عام أريد به خاص من أول الأمر، ومذهب مالك كما نقله ابن عطية عن ابن عباس والحسن : تناولهن العموم ثم نسخت آية سورة المائدة بعض العموم في الكتابيات. وكثيرا ما يطلق المتقدمون النسخ على التخصيص
3- قال ابن عباس : الآية عامة في كل الوثنيات والمجوسيات والكتابيات وكل من كان على غير دين الإسلام ، ذكره ابن عطية وقال : فعلى هذا القول فإن الآية ناسخة لآية سورة المائدة لقول ابن عمر رضي الله عنه : ولا أعلم إشراكا أعظم من أن تقول المرأة إن ربها عيسى.
هل يجوز نكاح الكتابيات ؟
اختلف في هذه المسألة على قولين :
الأول : المنع ،وقد روى ابن جريرٍ عن عبد اللّه بن عبّاسٍ قوله : "نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن أصناف النّساء، إلّا ما كان من المؤمنات المهاجرات، وحرّم كلّ ذات دينٍ غير الإسلام، قال اللّه عزّ وجلّ: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} [المائدة: 5]. وقد نكح طلحة بن عبيد اللّه يهوديّةً، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانيّةً، فغضب عمر بن الخطّاب غضبًا شديدًا، حتّى همّ أن يسطو عليهما. فقالا نحن نطلق يا أمير المؤمنين، ولا تغضب! فقال: لئن حلّ طلاقهنّ لقد حلّ نكاحهنّ، ولكنّي أنتزعهنّ منكم صغرة قمأة " فهو حديثٌ غريبٌ جدًّا. وهذا الأثر عن عمر غريب أيضًا
الثاني : الإباحة مع الكراهة ، وهذا مذهب مالك رحمه الله، ذكره ابن حبيب وقال: «ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله مستثقل مذموم»، وكره مالك رحمه الله تزوج الحربيات لعلة ترك الولد في دار الحرب ولتصرفها في الخمر والخنزير، وأباح نكاح الكتابيات عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وجابر بن عبد الله وطلحة وعطاء بن أبي رباح وابن المسيب والحسن وطاوس وابن جبير والزهري والشافعي وعوام أهل المدينة والكوفة
وقد حكى ابن جريرٍ الإجماع على إباحة تزويج الكتابيّات ، وقال : إنّما كره عمر ذلك، لئلّا يزهد النّاس في المسلّمات، أو لغير ذلك من المعاني، قال: تزوّج حذيفة يهوديّةً، فكتب إليه عمر: خل سبيلها، فكتب إليه: أتزعم أنّها حرامٌ فأخلي سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنّها حرامٌ، ولكنّي أخاف أن تعاطوا المومسات منهن " . إسناده صحيح
وقد روى عن عمر بن الخطّاب قال : المسلم يتزوّج النّصرانيّة، ولا يتزوّج النّصرانيّ المسلمة. وقد أورد ابن أبي حاتمٍ: عن ابن عمر: أنّه كره نكاح أهل الكتاب، وتأوّل (ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ)
وقال البخاريّ: وقال ابن عمر: "لا أعلم شركًا أعظم من أن تقول: ربّها عيسى"
وسئل أحمد بن حنبل، عن قول اللّه: {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ} قال: مشركات العرب الّذين يعبدون الأوثان .
فهذا هو القول الراجح .
قوله تعالى : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ)
سبب نزول الآية :
قال السّدّيّ: نزلت في عبد اللّه بن رواحة، كانت له أمةٌ سوداء، فغضب عليها فلطمها، ثمّ فزع، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأخبره خبرها. فقال له: "ما هي؟ " قال: تصوم، وتصلي، وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّك رسول اللّه. فقال: "يا أبا عبد اللّه، هذه مؤمنةٌ". فقال: والّذي بعثك بالحقّ لأعتقنّها ولأتزوجنها. ففعل، فطعن عليه ناسٌ من المسلمين، وقالوا: نكح أمة. وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين، وينكحوهم رغبةً في أحسابهم، فأنزل اللّه: (ولأمةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من مشركةٍ ولو أعجبتكم) (ولعبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشركٍ ولو أعجبكم.
ذكره ابن عطية وابن كثير، ونقله السيوطي في لباب النقول، ووأصله في أسباب النزول للواحدي.
أسباب نكاح المرأة :ثبت في الصّحيحين عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "تنكح المرأة لأربعٍ: لمالها، ولحسبها ولجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدّين تربت يداك".
ولمسلمٍ عن ابن عمر: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "الدّنيا متاعٌ، وخير متاع الدّنيا المرأة الصالحٍة".
حكم نكاح الأمة الكتابية :
اختلف في ذلك على أقوال :
- لا يجوز نكاح الأمة الكتابية عند مالك
- أجاز أبو حنيفة وأصحابه نكاح الإماء الكتابيات
- قال أشهب : من أسلم وتحته أمة كتابية لا يفرق بينهما
قال تعالى :(وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ)
المعنى : لا تزوجوا الكافر مسلمة ، فهو شر من المؤمن لكم ، وإن أعجبكم أمره في باب الدنيا
وقد أجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ مؤمنة لما في ذلك من الغضاضة على دين الإسلام ، وقد قال تعالى : (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن)
والمشرك هو كل من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم .
المقصود بالأمة والعبد في الآية :
قال القاضي أبو محمد : يحتمل أن العبد والأمة عبارة عن جميع الناس حرهم ومملوكهم ، فالجميع عبيد لله ، كما قال تعالى : (نعم العبد إنه أواب) ، وقال عليه الصلاة والسلام : "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" ، فالمعنى : ولامرأة مؤمنة ، ولرجل مؤمن .
مسألة : كيف يقال لمن كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه مشرك؟
أنه إذا كفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد زعم أن ما أتى به من القرآن من عند غير اللّه - جل ثناؤه - والقرآن إنماهو من عند اللّه - عزّ وجلّ - لأنه يعجز المخلوقين أن يأتوا بمثله - فقد زعم أنه قد أتى غير الله بما لا يأتي به إلا اللّه - عزّ وجلّ - فقد أشرك به غيره.
(أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)
المشار إليه في الآية
المشار إليه المشركات والمشركين
كيفية دعوتهم إلى النار :
بصحبتهم ومعاشرتهم التي توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم لنسلهم ، وهذا إن لم يدعوا صراحة إلى دينهم باللفظ ، فالكافر يدعو إلى النار ويعمل بعمل أهل النار ، ذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير
هدايات الآيات:
1-النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع، لأنه إذا لم يجز التزوج مع مافيه من مصالح كثيرة، فالخلطة الجردة من باب أولى، وخصوصا الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك ونحوه على المسلم كالخدمة ونحوها.
2-اعتبار الولي في النكاح، ( ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمن)
3-الزوج ولي نفسه، ( ولا تنكحوا المشركات)
4-المؤمن خير من المشرك حتى لو اختلفت الموازين عند الناس، ( ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم) ، قال تعالى: ( قل لا يستوي الخبيث ولا الطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث) –المائدة.
5-تفاضل أحوال الناس، وأنهم ليسوا على حد سواء، ( ولعبد مؤمن خير من مشرك)
6-الرد على من قالوا : ( إن دين الاسلام دين مساواة) ، فالتفضيل في الآية بقتضي نفي المساواة، دين الاسلام دين عدل، قال تعالى: ( إن الله يأمر بالعدل) –النحل
فكيف يستوي المسلم بالكافر، والعاصي بالطائع...!!!!
المراجع:
التحرير والتنوير لابن عاشور
المحرر الوجيز لابن عطية
معاني القرآن للزجاج
تفسير القرآن العظيم لابن كثير
الوجيز للواحدي
الكشاف للزمخشري
التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي الكلبي
تفسير الجلالين
أسباب النزول للواحدي
تفسير ابن أبي حاتم
المختصر في تفسير القرآن –اصدار مركز تفسير
الأساس في التفسير لسعيد حوى
تفسير السعدي
الكنز الثمين في تفسير ابن عثيمين.
مجموعة فتاوى ابن تيمية
[1]نقله ابن عطية من رواية البخاري ومسلم، ولفظ البخاري: " خمروا الآنية وأوكوا الأسقية"، ولفظ مسلم: "غطوا الاناء، وأوقوا السقاء"
[2]مجموع فتاوى ابن تيمية
[3]نقله ابن كثير
[4]التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور
[5]المرجع السابق
[6]يقال : الميسر للسهام المعروفة، وذلك قمار العرب، كما يقال للجزور التي ينحرونها ويُجزَوَّونها على حساب الميسر، فاسم الميسر يطلق على السهام وعلى الجزور
[7]التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
[8]الكنز الثمين من تفسير ابن عثيمين
[9]المرجع السابق
[10]التحري والتنوير للطاهر بن عاشور
[11]التحري روالتنوير للطاهر بن عاشور
[12]الوجيز للواحدي
[13]التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور
[14]المرجع السابق
[15]ذكره ابن أبي حاتم ، ونقله عنه السيوطي في (لباب النقول)