وَتُقَدَّرُ الضمَّةُ والفتحةُ فِي الْفِعْلِ المُعْتَلِّ بِالأَلِفِ، نَحْوُ: (هُوَ يَخْشَاهَا) وَ (لَنْ يَخْشَاهَا).
والضمَّةُ فَقَطْ فِي الْفِعْلِ المُعْتَلِّ بالواوِ أَو الْيَاءِ ([5])، نَحْوُ: (هُوَ يَدْعُو) (هُوَ يَرْمِي).
وَتَظْهَرُ الفتحةُ فِي الْوَاوِ والياءِ، نَحْوُ: (إِنَّ الْقَاضِيَ لَنْ يَرْمِيَ وَلَنْ يَغْزُوَ) ([6]).
([1]) المدارُ فِي اعْتِبَارِ آخِرِهِ أَلِفاً أَوْ يَاءً عَلَى النُّطْقِ، أَمَّا كِتَابَةُ الأَلِفِ يَاءً فِي يَخْشَى فَلِكَوْنِهَا رَابِعَةً، ولهذا سِرٌّ تَعْرِفُهُ فِي عِلْمِ رَسْمِ الحروفِ (الإِمْلاءِ).
20 - هَذَا البيتُ أَوَّلُ مَقْطُوعَةٍ لِقَيْسِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ العَبْسِيِّ، وَكَانَ قَدْ نَشَأَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ العَبْسِيِّ شَحْنَاءُ، وَذَلِكَ أَنَّ قَيْساً كَانَ عِنْدَهُ دِرْعٌ فَسَاوَمَهُ فِيهَا الربيعُ، ثُمَّ اهْتَبَلَ الربيعُ فُرْصَةً، وَأَخَذَ دِرْعَ قَيْسٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَعْدُو بِهِ فَرَسُهُ، فَتَعَرَّضَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ لأُمِّ الرَّبِيعِ - وَهِيَ فَاطِمَةُ بنتُ الخُرْشُبِ إِحْدَى المُنْجِبَاتِ - وَأَرَادَ أَنْ يَأْسِرَهَا، ثُمَّ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ، وَاسْتَاقَ نَعَمَ بَنِي زِيَادٍ، فَقَدِمَ بِهَا مَكَّةَ فَبَاعَهَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ التَّيْمِيِّ مُعَاوَضَةً بِأَدْرَاعٍ وَأَسْيَافٍ، وَبَعْدَ البَيْتِ المُسْتَشْهَدِ بِهِ قَوْلُهُ:
وَمَحْبِسُهَا عَلَى الْقُرَشِيِّ تُشْرَى = بِأَدْرَاعٍ وَأَسْيَافٍ حِدَادِ
كَمَا لاقَيْتُ مِنْ حَمَلِ بْنِ بَدْرٍ = وَإِخْوَتِهِ عَلَى ذَاتِ الإِصَادِ
هُمُ فَخَرُوا عَلَيَّ بِغَيْرِ فَخْرٍ = وَرَدُّوا دُونَ غَايَتِهِ جَوَادِي
وَكُنْتُ إِذَا مُنِيتُ بِخَصْمِ سَوْءٍ = دَلَفْتُ لَهُ بِدَاهِيَةٍ نَآدِ
اللغة: (الأنباءُ) جَمْعُ نَبَإٍ، مِثْلُ سَبَبٍ وَأَسْبَابٍ وَجَمَلٍ وَأَجْمَالٍ، والنَّبَأُ: الخبرُ وَزْناً وَمَعْنًى، وَقِيلَ: الخبرُ أَعَمُّ مِنْهُ؛ لأَنَّ النبأَ خَاصٌّ بِمَا كَانَ ذا شَأْنٍ مِن الأخبارِ (تَنْمِي) تَزِيدُ وَتَكْثُرُ، وفيهِ لُغَتَانِ: يُقَالُ: نَمَا الشيءُ يَنْمِي - مِنْ بَابِ ضَرَبَ يَضْرِبُ - وَيُقَالُ: نَمَا يَنْمُو - مِنْ بَابِ: نَصَرَ - والأوَّلُ أَكْثَرُ، (لَبُونُ) بِفَتْحِ اللامِ وَضَمِّ الْبَاءِ مُخَفَّفَةً - هِيَ الإبلُ ذَاتُ اللَّبَنِ (بَنِي زِيَادِ) هُم الكَمَلَةُ مِنَ الرجالِ: الرَّبِيعُ، وَعُمَارَةُ، وَقَيْسٌ، وَأَنَسٌ، بَنُو زِيَادِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ العَبْسِيِّ، وَأُمُّهُمْ - كَمَا عَلِمْتَ - فَاطِمَةُ بنتُ الخُرْشُبِ الأَنْمَارِيَّةُ، وَهِيَ الَّتِي سُئِلَتْ عَنْ أفضلِ أولادِهَا، فَقَالَت: (الرَّبِيعُ)، بَلْ عُمَارَةُ، بَلْ قَيْسٌ، بَلْ أَنَسٌ، ثُمَّ قَالَتْ: ثَكَلْتُهُمْ إِنْ كُنْتُ أَدْرِي أَيُّهُمْ أَفْضَلُ، هم كالحَلْقَةِ المُفَرَغَةِ لا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا.
(القُرَشِيِّ) أَرَادَ بِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُدْعَانَ؛ فَإِنَّهُ تَيْمِيٌّ، وَتَيْمُ مِنْ قُرَيْشٍ، (تُشْرَى): تُبَاعُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَشَرُوهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ}.
المَعْنَى - واللهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُم بَاعُوهُ بِذَلِكَ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ الشاعرِ وَكَانَ قَدْ بَاعَ غُلاماً لَهُ اسمُهُ بُرْدٌ ثُمَّ تَبِعَتْهُ نَفْسُهُ:
وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِي = مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ
(بِأَدْرَاعٍ) جَمْعُ دِرْعٍ، (وَأَسْيَافٍ) جَمْعُ سَيْفٍ، (حِدَادِ) جَمْعُ حَدِيدٍ، وَهُوَ بالنسبةُ إِلَى السيفِ: الصُّلْبُ الْقَوِيُّ عَلَى النفَاذِ فِي ضَرْبَتِهِ، وبالنسبةِ إِلَى الدرعِ: الصُّلْبُ الَّذِي لا يَقْوَى عَلَيْهِ سيفٌ أَوْ سَهْمٌ. (ذاتِ الإِصَادِ) مَكَانٌ بِعَيْنِهِ.
المَعْنَى: يُسَائِلُ عَمَّا إِذَا كَانَ قَدْ شَاعَ فِي النَّاسِ وَعَلِمَ كُلُّ مُخَاطَبٍ مَا قَدْ فَعَلَهُ بِإِبِلِ بَنِي زِيَادٍ - وَهُم المَغَاوِيرُ الأبطالُ الَّذِينَ يَخْشَاهُم النَّاسُ - حَيْثُ اسْتَاقَهَا وَبَاعَهَا غَيْرَ مُبَالٍ بِهِمْ.
الإعرابُ: (أَلَمْ) الهمزةُ للاستفهامِ، لَمْ: حَرْفُ نَفْيٍ وَجَزْمٍ وَقَلْبٍ. (يَأْتِيكَ) يَأْتِي: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِلَمْ، وَفِي علامةِ جَزْمِهِ وُجُوهٌ سَنَذْكُرُهَا فِي بيانِ الاستشهادِ بالبيتِ، والكافُ ضَمِيرُ المُخَاطَبِ مَفْعُولٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ. (وَالأنباءُ) الْوَاوُ واوُ الحالِ، الأنباءُ: مُبْتَدَأٌ مَرْفُوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ. (تَنْمِي) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ بضمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى الياءِ مَنَعَ مِنْ ظُهُورِهَا الثِّقَلُ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هِيَ يَعودُ إِلَى الأنباءِ، وجملةُ الفعلِ المضارعِ وفاعلِهِ فِي مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرِ المبتدإِ، وجملةُ المبتدإِ وخبرِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ حَالٌ. (بِمَا) اخْتَلَفَ العلماءُ فِي هَذِهِ الْبَاءِ، فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا زَائِدَةٌ، وَمَا فَاعِلُ يَأْتِي، وَكَأَنَّهُ قَدْ قَالَ: (أَلَمْ يَأْتِيكَ الَّذِي لاقَتْهُ لَبُونُ بَنِي زِيَادٍ)، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْبَاءَ أصليَّةٌ، وَمَا: فِي محلِّ جَرٍّ بِالْبَاءِ، والجارُّ والمجرورُ يَتَعَلَّقُ بِيَأْتِي، وفَاعِلُ يَأْتِي - عَلَى هَذَا - ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ تَقْدِيرُهُ هُوَ يَعُودُ إِلَى مَفْهُومٍ مِن المَقَامِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُهُ، وَكَأَنَّهُ قَدْ قَالَ: أَلَمْ يَأْتِيكَ هُوَ؛ أَي: النَّبَأُ بِالَّذِي لاقَتْهُ، أَو الفاعلُ مَحْذُوفٌ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ حَذْفَ الفاعلِ للعلمِ بِهِ. وَأَظْهَرُ هَذِهِ الوُجُوهِ الأوَّلُ. (لاقَتْ) فِعْلٌ مَاضٍ، والتاءُ علامةٌ عَلَى تأنيثِ الفاعلِ (لَبُونُ) فَاعِلُ لاقَتْ، وَالجملةُ مِن الفعلِ وفاعلِهِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ صِلَةُ الموصولِ، وَالعائدُ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ مَنْصُوبٌ بِلاقَتْ يَعُودُ إِلَى مَا، وَتَقْدِيرُ الْكَلامِ: الَّذِي لاقَتْهُ، وَلَبُونُ مُضَافٌ وَ (بَنِي) مُضَافٌ إِلَيْهِ مَجْرُورٌ بالياءِ نِيَابَةً عَنِ الكسرةِ؛ لأَنَّهُ جَمْعُ مُذَكَّرٍ سَالِمٌ، وَبَنِي مُضَافٌ وَ (زِيَادٍ) مُضَافٌ إِلَيْهِ مَجْرُورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ.
الشاهدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (أَلَمْ يَأْتِيكَ)، وَقَبْلَ أَنْ نُبَيِّنَ لَكَ وَجْهَ الاستشهادِ بِهَذِهِ العبارةِ نَرَى أَنْ نَذْكُرَ لَكَ أَمْرَيْنِ عَلَى وَجْهِ التمهيدِ لهذهِ المسألةِ؛ حَتَّى يَكُونَ الأَمْرُ وَاضِحاً غَايَةً فِي الوضوحِ:
أَمَّا الأَمْرُ الأوَّلُ فَحَاصِلُهُ أَنَّ الفعلَ المضارعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحَ الآخرِ، مِثْلَ: يَضْرِبُ، وَيَكْتُبُ، وَيَفْتَحُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَلَّ الآخرِ مِثْلَ: يَرْمِي، وَيَدْعُو، وَيَرْضَى. فَإِنْ كَانَ الفعلُ المضارعُ صحيحَ الآخرِ فَإِنَّهُ يُجْزَمُ بسكونِ آخرِهِ، فَتَقُولُ: لَمْ يَضْرِبْ، وَلَمْ يَكْتُبْ، وَلَمْ يَفْتَحْ، وَذَلِكَ لأَنَّهُ كَانَ يُرْفَعُ بحركةٍ ظاهرةٍ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ الجازمُ حَذَفَ هَذِهِ الحركةَ الظاهرةَ، وَإِنْ كَانَ الفعلُ المضارعُ مُعْتَلَّ الآخرِ فَإِنَّهُ يُجْزَمُ بِحَذْفِ حَرْفِ العلَّةِ الَّذِي هُوَ لامُ الكلمةِ؛ وَذَلِكَ لأَنَّهُ كَانَ يُرْفَعُ بحركةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى حَرْفِ العلَّةِ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ الجازمُ وَلَمْ يَجِدْ عَلَى الحرفِ حَرَكَةً ظَاهِرَةً يَحْذِفُهَا فَإِنَّهُ يَحْذِفُ الحَرْفَ نَفْسَهُ.
وأمَّا الأَمْرُ الثاني فَحَاصِلُهُ أَنَّ هَذِهِ العبارةَ تُرْوَى عَلَى عدَّةِ أَوْجُهٍ، فَتُرْوَى عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَوَاهَا المُؤَلِّفُ عَلَيْهِ، وَتُرْوَى عَلَى وَجْهٍ ثَانٍ، وَهُوَ:
أَلَمْ يَأْتِكَ وَالأَنْبَاءُ تَنْمِي
مِن غَيْرِ ياءٍ، وهذهِ رِوَايَةٌ رَوَاهَا ابْنُ جِنِّيٍّ، وَتُرْوَى عَلَى وَجْهٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ:
وَهَلْ أَتَاكَ وَالأَنْبَاءُ تَنْمِي
وَهِيَ رِوَايَةُ الأَصْمَعِيِّ.
فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا كُلَّهُ فَاعْلَمْ أَوَّلاً أَنَّهُ لا شَاهِدَ فِي البيتِ عَلَى روايةِ ابْنِ جِنِّيٍّ، وَلا عَلَى روايةِ الأَصْمَعِيِّ؛ لأَنَّ العبارةَ جَارِيَةٌ عَلَى مَا هُوَ الْفَصِيحُ المُسْتَعْمَلُ بِاطِّرَادٍ فِي كَلامِ الْعَرَبِ، وَهُوَ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي التَّمْهِيدِ لذلكَ الْكَلامِ، فَأَمَّا عَلَى روايةِ أكثرِ النُّحَاةِ - وَهِيَ الروايةُ الَّتِي ذَكَرَهَا المُؤَلِّفُ، وَمِنْ أَجْلِهَا أَتَى بالبيتِ هُنَا - فَاعْلَمْ أَنَّ العلماءَ مُخْتَلِفُونَ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الروايةِ.
فَذَهَبَ الكَثِيرُ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الياءَ هِيَ لامُ الكلمةِ، وَأَنَّهَا تَثْبُتُ مَعَ الجازمِ بِتَقْدِيرِ أَنَّ هَذَا الفعلَ كَانَ مَرْفُوعاً بِحَرَكَةٍ ظَاهِرَةٍ، فَلَمَّا دَخَلَ الجازمُ حَذَفَ هَذِهِ الحركةَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الفعلِ المضارعِ الصَّحِيحِ الآخرِ، وَيَكُونُ (يَأْتِي) مَجْزُوماً وَعَلامةُ جَزْمِهِ السُّكُونُ مُعَامَلَةً للمُعْتَلِّ مُعَامَلَةَ الصَّحِيحِ. وهؤلاءِ قَالُوا: إِنَّ الحرفَ المُعْتَلَّ قَدْ عَهِدَ ظُهُورَ حركةِ الإعرابِ عَلَيْهِ ضَرُورَةً فِي نَحْوِ قَوْلِ أَعْرَابِيٍّ ضَافَهُ رَجُلٌ فَذَبَحَ لَهُ عنزاً فَأَعْطَاهُ الرَّجَلُ مَالاً كَثِيراً:
فَقُمْتُ إِلَى عَنْزٍ بَقِيَّةِ أَعْنُزٍ = فَأَذْبَحُهَا فِعْلَ امْرِئٍ غَيْرِ نَادِمِ
فَعَوَّضَنِي مِنْهَا غِنَايَ وَلَمْ تَكُنْ = تُسَاوِيُ عِنْدِي غَيْرَ خَمْسِ دَرَاهِمِ
الشاهدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (تُسَاوِي) فَقَدْ جَاءَ بِهِ مَرْفُوعاً بالضمَّةِ الظَّاهِرَةِ حِينَ اضْطُرَّ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الآخرِ:
إِذَا قُلْتُ عَلَّ الْقَلْبَ يَسْلُوُ قُيِّضَتْ = هَوَاجِسُ لا تَنْفَكُّ تُغْرِيهِ بِالْوَجْدِ
وَلَيْسَ هَذَا خاصًّا بالفعلِ، بَلْ يَجْرِي فِي الاسمِ أَيْضاً، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَعْرَابِيٍّ مِنْ بَنِي كَلْبٍ، وَقَدْ أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ:
فَيَوْماً يُجَارِينَ الْهَوَى غَيْرَ مَاضِيٍ = وَيَوْماً تَرَى مِنْهُنَّ غُولاً تَغَوَّلُ
فَقَوْلُهُ: (مَاضِيٍ) مَجْرُورٌ بالكسرةِ الظاهرةِ عَلَى حَرْفِ العِلَّةِ؛ لأَنَّهُ لَمَّا اضْطُرَّ عَامَلَ المُعْتَلَّ مُعَامَلَةَ الصَّحِيحِ، وَإِذَا كَانَتِ الحركةُ تَظْهَرُ عَلَى حَرْفِ العلَّةِ للضرورةِ، فَعِنْدَ الجَزْمِ يَسُوغُ للشاعرِ إِذَا اضْطُرَّ أَنْ يُقَدِّرَ أَنَّ الفعلَ كَانَ مَرْفُوعاً بالضمَّةِ الظاهرةِ فَيَجْزِمَهُ بالسكونِ، وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا التَّوْجِيهَ أَبُو السَّعَادَاتِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الشَّجَرِيِّ فِي (أَمَالِيهِ).
وَمِن ظُهُورِ الحركةِ عَلَى آخِرِ الاسمِ المُعْتَلِّ بالياءِ قَوْلُ أَبِي خِرَاشٍ الهُذَلِيِّ يَصِفُ تَيْساً:
تَرَاهُ -وَقَدْ فَاتَ الرُّمَاةَ- كَأَنَّهُ = أَمَامَ الرُّمَاةِ مُصْغِيُ الْخَدِّ أَصْلَمُ
وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ:
لا بَارَكَ اللَّهُ فِي الْغَوَانِيِ هَلْ = يُصْبِحْنَ إِلاَّ لَهُنَّ مُطَّلَبُ
وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الياءَ لَيْسَتْ لامَ الفعلِ الَّتِي يَجِبُ حَذْفُهَا للجزمِ، بَلْ لامُ الفعلِ قَدْ حُذِفَتْ فِعْلاً للجزمِ فَصَارَتِ العبارةُ: (أَلَمْ يَأْتِكَ) بِغَيْرِ يَاءٍ، ثُمَّ أَشْبَعَ كَسْرَةَ التاءِ فَنَشَأَتْ عَنْ إِشْبَاعِهَا ياءٌ أُخْرَى غَيْرُ اللامِ، وهؤلاءِ قَالُوا: إِنَّ الشاعرَ كَثِيراً مَا يُضْطَرُّ إِلَى إِشْبَاعِ الحركةِ، فَيَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ الإشباعِ حَرْفُ عِلَّةٍ مِنْ جِنْسِ الحركةِ، ولذلكَ أَمْثِلَةٌ، مِنْهَا: قَوْلُ عَنْتَرَةَ بْنِ شَدَّادٍ العَبْسِيِّ:
يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ = زَيَّافَةٍ مِثْلِ الفَنِيقِ الْمُكْدَمِ
فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: (يَنْبَعُ) عَلَى وَزْنِ يَفْتَحُ، فَأَشْبَعَ حَرَكَةَ الْبَاءِ - وَهِيَ الفتحةُ - فَنَشَأَتْ عَنْهَا أَلِفٌ، وَمِنْهَا قَوْلُ الآخرِ:
وَأَنَّنِي حَيْثُمَا يَثْنِي الْهَوَى بَصَرِي = مِنْ حَيْثُمَا سَلَكُوا أَدْنُو فَأَنْظُورُ
فإنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ (فَأَنْظُرُ) فَأَشْبَعَ حركةَ الظاءِ - وَهِيَ الضمَّةُ - فَنَشَأَتْ عَنْهَا واوٌ.
وَقَد اخْتَارَ هَذَا التوجيهَ أَبُو الْبَرَكَاتِ الأَنْبَارِيُّ فِي كِتَابِهِ (الإنصافِ).
وَمِن العلماءِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَا وَرَدَ فِي هَذَا البيتِ ضَرُورَةٌ مِن الضروراتِ الَّتِي تَسوغُ للشَّاعِرِ، وَلا تَسُوغُ لِغَيْرِهِ، وَمِنْهُم المُؤَلِّفُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هَؤُلاءِ وَجْهَ هَذِهِ الضرورةِ، وَوَجْهُهَا - عِنْدَ التحقيقِ - وَاحِدٌ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلاً، فَاحْفَظْ هَذَا، وَاحْرِصْ عَلَيْهِ، وَاللهُ يَنْفَعُكَ بِهِ.
وَنَظِيرُ هَذَا البيتِ قَوْلُ الآخرِ:
إِذَا الْعَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ = وَلا تَرَضَّاهَا وَلا تَمَلَّقِ
الشاهدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (وَلا تَرَضَّاهَا) حَيْثُ أَثْبَتَ الأَلِفَ، وفيهِ كُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الآخرِ:
هَجَوْتَ زَبَّانَ ثُمَّ جِئْتَ مُعْتَذِراً = مِنْ هَجْوِ زَبَّانَ لَمْ تَهْجُو وَلَمْ تَدَعِ
ونظيرُهُ قَوْلُ الآخرِ، وَأَنْشَدَهُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ:
كأنَّ الْعَيْنَ خَالَطَهَا قَذَاهَا = بِعُوَّارٍ فَلَمْ تَقْضِي كَرَاهَا
ونظيرُهُ قَوْلُ عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ وَقَّاصٍ الْحَارِثِيِّ:
وَتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ = كَأَنْ لَمْ تَرَى قَبْلِي أَسِيراً يَمَانِيَا
وَنَظِيرُهُ مَا أَنْشَدَهُ الْقَالِي عَنْ ثَعْلَبٍ:
كَأَنْ لَمْ تَرَى قَبْلِي أَسِيراً مُقَيَّداً = وَلا رَجُلاً يُرْمَى بِهِ الرَّجَوَانِ
([2]) سُورَةُ يُوسُفَ، الآيَةُ: 90.
([3]) لأنَّكَ حِينَئِذٍ تَقْلِبُ الهمزةَ الساكنةَ حَرْفَ عِلَّةٍ مِنْ جِنْسِ حركةِ مَا قَبْلَهَا، وَنَظِيرُهُ: (فَأْرٌ، وَرَأْلٌ)؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَهِّلُهُمَا فَتَقُولُ: فَارٌ وَرَالٌ.
([4]) لأنَّكَ حِينَئِذٍ تَقْلِبُ الهمزةَ المُتَحَرِّكَةَ المُتَحَرِّكَ مَا قَبْلَهَا.
([5]) قَدْ أَظْهَرَ بَعْضُ الشعراءِ الضَّمَّةَ عَلَى الْوَاوِ والياءِ فِي الفعلِ المُعْتَلِّ، كَمَا أَظْهَرُوهُمَا عَلَيْهِمَا فِي الاسمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا لَكَ بَعْضَ الشواهدِ الَّتِي وَرَدَتْ عَنْهُمْ معَ شرحِ الشاهدِ رَقْمِ 20.
([6]) قَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ حَذْفُ الفتحةِ مِن الفعلِ المُعْتَلِّ بالياءِ اضْطِرَاراً، نَحْوُ قَوْلِ حُنْدُجٍ المُرِّيِّ:
مَا أَقْدَرَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِي عَلَى شَحَطٍ = مَنْ دَارُهُ الحَزْنُ مِمَّنْ دَارُهُ صُولُ
الشَّاهِدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (أَنْ يُدْنِي) حيثُ سَكَّنَ الياءَ وَلَمْ يُظْهِرِ الفتحةَ عَلَيْهَا.
وَقَدْ قَرَأَ الْحَسَنُ فِي الآيَةِ: 237 مِنْ سُورَةِ البقرةِ: {أَوْ يَعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} بسكونِ الْوَاوِ مِنْ (يَعْفُو).
ونظيرُهُ قَوْلُ الآخرِ، وَهُوَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ:
فَمَا سَوَّدَتْنِي عَامِرٌ عَنْ وِرَاثَةٍ = أَبَى اللَّهُ أَنْ أَسْمُو بِأُمٍّ وَلا أَبِ
وَحَذَفُوا الفتحةَ مِن الاسمِ المُعْتَلِّ بالياءِ حِينَ اضْطَرُّوا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشاعرِ: لا تُفْسِدِ الْقَوْسَ أَعْطِ الْقَوْسَ بَارِيهَا
الشاهدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (أَعْطِ الْقَوْسَ بَارِيهَا)؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: بَارِيهَا، مَفْعُولٌ بِهِ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُنْصَبَ بالفتحةِ الظاهرةِ، لَكِنَّهُ لَمَّا اضْطُرَّ لإقامةِ البيتِ حَذَفَ الفتحةَ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ رَاجِزٍ يَصِفُ إِبِلاً بالسُّرْعَةِ:
كَأَنْ أَيْدِيِهِنَّ بِالْقَاعِ الْقَرِقْ = أَيْدِي جَوَارٍ يَتَعَاطَيْنَ الْوَرِقْ
الشَّاهِدُ فِيهِ: قَوْلُهُ: (أَيْدِيهِنَّ) فَإِنَّهُ اسْمُ كَأَنَّ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُنْصَبَ بالفتحةِ الظاهرةِ لِخِفَّةِ الفتحةِ عَلَى الياءِ، لَكِنَّهُ لَمَّا اضْطُرَّ لإقامةِ الوزنِ سَكَّنَ الياءَ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَعْرَابِيٍّ يَصِفُ إِبِلاً دَمِيَتْ أَخْفَافُهُنَّ:
كَأَنَّ أَيْدِيهِنَّ بِالْمَوْمَاةِ = أَيْدِي جَوَارٍ بِتْنَ نَاعِمَاتِ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الأَعْشَى:
إِذَا كَانَ هَادِي الْفَتَى فِي الْبِلا = دِ صَدْرُ الْقَنَاةِ أَطَاعَ الأَمِيرَا
في روايةِ رَفْعِ (صَدْرُ).
وَمِن ذَلِكَ قَوْلُ الرَّاجِزِ يَصِفُ نُوقاً:
جُدْبٌ حَدَابِيرُ مِنَ الْوَخْشَنِّ = تَرَكْنَ رَاعِيهِنَّ مِثْلَ الشَّنِّ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَا دَارَ هِنْدٍ عَفَتْ إِلاَّ أَثَافِيهَا
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الأَخْطَلِ:
إِذَا شِئْتَ أَنْ نَلْهُو بِبَعْضِ حَدِيثِهَا = رَفَعْنَ وَأَنْزَلْنَ الْقَطِينَ الْمُوَلَّدَا