المجموعة الثالثة :
فسر قوله تعالى : ( يابني اسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون ، وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون )
هذه الآيات في قوله تعالى : ( يابني اسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم )
الأمر في الآية لبني اسرائيل – على قول جمهور العلماء-بالدخول في الاسلام ومتابعة محمد صلى الله عليه وسلم ومهيجا لهم بذكر أبيهم اسرائيلوهو يعقوب عليه السلام ـ وتقديره : يا بني العبد الصالح المطيع لله كونوا مثل أبيكمفي متابعة الحق ،
ومثله قوله تعالى ( ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا ) ،فالآية في التذكير بنعم الله على أبائهم ، لأن الذين صادفهم محمد صلى الله عليهوسلم لم يكونوا أنبياء ، قال تعالى : ( إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا)،والتذكير بنعم الآباء للأبناء أسلوب من أساليب العرب المعروف .
وفي قوله تعالى ( أنعمت عليكم ) يؤكد هذا .
الذكر في كلام العرب على الذكر بالقلب واللسان وتتبعهما الجوارح
والنعمة هنا اسم جنس ، خصصها بعض العلماء بذكر بعضها –
-قالمجاهد : نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سوى ذلك ، فجر لهم الحجر ،وأنزل عليهم المن والسلوى ، ونجاهم من عبودية بني اسرائيل – وهو اختيار الطبري .
-النعمة هنا أن أدركهم مدة محمدصلى الله عليه وسلم
-منحهم التوراة وعلمها وجعلهمأهلا لحملها
-قال ابن عطية : هذه الأقوالللتفسير بالمثال ، وحمل الآية على العموم أفضل
(وأوفوا بعهديأوف بعهدكم)
قال ابن عطية : أمروجوابه. وقال : ووفاءهم بعهدالله أمارة لوفاء الله تعالى لهم بعهدهم
والوفاء بالعهد : هو التزام ما تضمن من فعل
اختلف المفسرون في العهد هنا :
-قيل : عام في جميع أوامرهونواهيه ووصاياه ، فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فيالتوراة.
-أن يذكروا بما فيه من ذكر نبوةمحمد صلى الله عليه وسلم
-قال ابن عباس : عهدي الذي أخذتهفي أعناقكم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم – أنجز لكم ما وعدتكم عليهبتصديقه واتباعه ، بوضع ماكان عليكم من الأصر والأغلال التي كانت في أعناقكمبذنوبكم التي كانت من أحداثكم .
-قال أبو العالية : عهده إلىعباده دين الاسلام وأن يتبعوه
-قيل :العهد الذي في قوله تعالى : ( خذوا ما آتيناكم بقوة )
-قال ابن جريج : العهد في قولهتعالى : ( ولقد أخذ الله ميثاق بني اسرائيل ) وعهده أن يدخلهم الجنة .
ويجمع هذه الأقوال أن الله تعالى أخذ عليهم العهد والالتزام أن يتبعوا أوامره ودينه ويؤمنوا بأنبيائه
ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم المذكور عندهم التوراة وتصديقه ، وهو سبحانه يرفع عنهم ما أصابهم بكفرهم وطغيانهم ويدخلهم الجنة
(وإياي فارهبون )
الرهبة : يتضمن الأمر بها معنىالتهديد .
وهي : - اخشون
-قال ابن عباس : أي أنزل بكم ماأنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره .
قال ابن كثير : وفي هذه الآيةانتقال من الترغيب إلى الترهيب ، فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة ، لعلهم يرجعون إلىالحق واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاتعاظ بالقرآن وزواجره وامتثال أوامرهوتصديق أخباره ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
(وءامنوا بما أنزلت مصدقالما معكم ولا تكونوا أول كافر به ، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإيايفاتقون)
مناسبة الآيةلما قبلها :
بعد أن دعاهم الله تعالى بالرغبةوالرهبة لعلهم يرجعون ، وأن الهداية للطريق المستقيم من عند الله تعالى ،
بين الطريق ووضحه فقال : ( وءامنوا بما أنزلت مصدقا .... ) الآية
أمنوا: صدقوا
بما أنزلت: القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم مشتملا على الحق
لما معكم: التوراة والانجيل
ولا تكونوا أولكافر به
قال ابن عطية – ووافقه ابن كثير – كان قد كفر قبلهم كفار قريش فإنما معناه من أهل الكتاب ، إذ هم منظور إليهم فيمثل هذا لأنهم حجة مظنونة بهم العلم ، فالمراد أول من كفر من بني اسرائيلمباشرة
عود الضمير في(به) على أقوال :
-قال الزجاج : كتابكم والقرآن
-وذكر ابن عطية: التوراة
وعلى هذا تكون الهاء ( به) لكتابهم لأنهم إذا كتموا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في كتابهم فقد كفروا به – أيبالكتاب – وعلى قول أنها التوراة يجيء قوله تعالى : ( أول كافر به ) مستقيما علىظاهره في الأولية
-قيل يعود على محمد صلى اللهعليه وسلم وقاله أبو العالية وغيره
-قال ابن عباس : ولا تكونوا أولمن كفر به وعندكم فيه من العلم ماليس عند غيركم
-واختار ابن جرير أن الضمير في(به) يعود على القرآن
وقال ابن كثير : عوده على القرآنومحمد صلى الله عليه وسلم كلاهما صحيح لأنهما متلازمان
فالله سبحانه أمرهم أن يؤمنوا بما أنزل في كتابهم ومنه بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ولايكتموها ، ويؤمنوا بما أنزل معه من القرآن . لا تكونوا أول فريق كفر به .
ولا تشتروابآياتي ثمنا قليلا :
أي : لا تعتاضوا عن الايمان بآياتيوأوامري ونواهيي وتصديق رسولي ثمنا قليلا من الدنيا وشهواتها .وكأنه تعالى يبين سبب المبادرة للكفر لأن الدنيا ملأت قلوبهم فطلبوها بكل مايستطيعون ولو كان معاوضة عن الايمان
واختلف المفسرونفي الثمن الذي نهوا عنه :
-أن الأحبار كانوا يعلمون دينهمبالأجرة فنهوا عن ذلك بكتبهم
-كان لأحبار مأكلة يأكلونهاعلىالعلم كالراتب فنهوا عن ذلك.
-أن الأحبار أخذوا رشا على تغييرقصة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة
ففي الآية انكار عليهم بأن يكون علمهم وتعليمهم مقابل عرض زائل من الدنيا .
واياي فاتقون
التقوى :أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله ، وأن تترك المعاصي مخافة عذابالله على نور من الله , وفي الآية توعد من الله فيما يعتمدونه من كتمان الحق واظهارخلافه ومخالفتهم الرسول صلى الله عليه وسلم. فالآية تدلهم على أن تقوى الله تعالى فيه نجاتهم وعفتهم أن أخذ عرضا من الدنيا مقابل نعم الله عليهم من علم وتعليم
السؤال الثاني :
ما معنى الأولية في قوله تعالى : ( وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم لا تكونوا أول كافر به )
ذكر ابن عطية في عود الضمير في قوله ( به ) : أنه على التوراة – وقال : وعلى هذا تكون الهاء ( به)لكتابهم لأنهم إذا كتموا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في كتابهم فقد كفروا به – أيبالكتاب – وعلى قول أنها التوراة يجيء قوله تعالى : ( أول كافر به ) مستقيما علىظاهره في الأولية ، لأنه من المعلوم أن كفار قريش كفروا بالقرآن قبلهم .
ويجوز أن يكون ( أول فريق كفر به ) لأن الآخرين تبع لهم ، فجاء بلفظ المفرد والمعنى الجمع فراعى كليهما .
وتدل الآية على مبادرتهم للكفر بخلاف ما يجب أن يكونوا عليه وهم الذين جاءهم خبر محمد صلى الله عليه وسلم والايمان به . ومبادرتهم في الكفر صار عليهم فيها اثمهم واثم من وراءهم
السؤال الثالث :
مامعنى تفضيل بني اسرائيل على العالمين ؟
-قال قتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم : المعنى على عالم زمانهم الذي كانت النبوة فيهم مكررة والملك ، قال تعالى : ( إذا جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) . لأن الله تعالى يقول : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) – وهذا القول الراجح -
-قيل التفضيل : بنوع من الفضل لا يلزم تفضيلهم مطلقا ، حكاه الرازي ، وقال ابن كثير : فيه نظر
-قيل : فضلوا على سائر الأمم لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم – حكاه القرطبي ، وقال ابن كثير : فيه نظر ، لأن العالمين عام يشمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء ، وابراهيم الخليل قبلهم ، وهو أفضل من سائر أنبيائهم ، ومحمد صلى الله عليه وسلم بعدهم وهو أفضل الخلق