الحمد لله العليم الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على الذي أوتي جوامع الكلم، نبينا محمد، أعلم الخلق وأخشاهم للعلي الأعظم.
أما بعد:
فحياكم الله جميعا طلاب وطالبات المستوى الأول من برنامج الإعداد العلمي.
اعلموا رحمكم الله أن العلم ــ كما أثر عن الإمام أحمد ــ لا يعدله شيء، وهو أفضل الأعمال لمن صحت نيته، كيف لا وقد رتب الله عز وجل عليه من الأجور العظيمة، والثمار الزكية ما تشرئب إليه أعناق ذوي الألباب، وتهون دونه أشد الصعاب؛ فبه ترفع الدرجات، وبه تحط الخطايا، وبه تتحقق خشية الله عز وجل؛ وهو دليل على محبة الله لعبده؛ فمن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
وقد تواترت الأدلة من الكتاب والسنة على فضل طلب العلم:
قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}
وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}.
وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.
وقال تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.
وفي الصحيحين من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عَنْه أن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((ومَن سَلَكَ طريقًا يَلْتَمِسُ فيه علمًا سَهَّلَ اللَّهُ لهُ طريقًا إِلى الجنَّةِ)) رواه مسلم.
وقد كتبت هذه الرسالة إخواني أخواتي لثلاثة أهداف:
أولا: تنشيطا لهمم الطلبة المواظبين على الدراسة، وتحفيزا لهم على الاستمرار في الطلب، فإن الأمة في هذه الآونة في أمس الحاجة إليكم؛ لرفع الجهل، ودحض الباطل، ومحاربة البدع، وإحياء السنة؛ فحي على ميراث النبوة، وأفضل القربات، ولا تحوروا بعد الكور، وإياكم والتقاعس والكسل.
ثانيا: تحفيزا وترغيبا لإخواني وأخواتي المنقطعين على العودة للنهل من هذا المعين الصافي، واللحاق بهذا الركب الكريم، والرفقة الصالحة من طلبة العلم، فوطنوا أنفسكم على الصبر، وتحمل مشقة الطلب، وإذا فترت عزائمكم؛ فاشحذوها بذكر فضل طلب العلم، وجلالة قدره، وتأملوا إخواني أخواتي هذه الرؤيا العجيبة ــ التي ساقها ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري، وذكرها شيخنا عبد العزيز الداخل حفظه الله في كتابه بيان فضل العلم ــ فإنها ــ بعد كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ــ من أفضل ما سمعت في شحذ العزائم واستنهاض الهمم لطلب العلم:
“ساق ابن بطال بسنده إلى يحيى بن يحيى الليثي -وهو تلميذ الإمام مالك-، أنه قال: (أوَّل ما حدثني مالك بن أنس حين أتيته طالبًا لما ألهمني الله إليه في أول يوم جلستُ إليه، قال لي: (اسمك؟)
قلت: أكرمك الله يحيى.
وكنتُ أحدثَ أصحابي سنًا ؛ فقال لي: (يا يحيى! اللهَ اللهَ، عليك بالجدّ في هذا الأمر، وسأحدّثك في ذلك بحديثٍ يرغّبك فيه، ويزهّدك في غيره).
قال: (قدم المدينة غلامٌ من أهل الشامِ بحداثةِ سنّك، فكان معنا يجتهد ويطلب حتى نزلَ به الموت، فلقد رأيتُ على جنازته شيئًا لم أرَ مثله على أحدٍ من أهل بلدنا، لا طالبٍ ولا عالمٍ، فرأيت جميعَ العلماء يزدحمون على نَعْشه؛ فلمَّا رأى ذلك الأمير، أمسك عن الصلاة عليه، وقال: قدّموا منكم من أحببتم؛ فقدّم أهلُ العلم ربيعة، ثم نهض به إلى قبره).
قال مالك: (فألحده في قبره ربيعةُ، وزيدُ بن أسلم، ويحيى بن سعيد، وابنُ شهاب، وأقرب الناس إليهم: محمد بن المنذر، وصفوان بن سليم، وأبو حازم وأشباههم، وبنى اللّبِن على لحده ربيعة، وهؤلاء كلهم يناولونه اللّبِن!).
فهؤلاء علماء المدينة، وأشرافهم، وكبراؤهم من العلماء والعباد ازدحموا على جنازة هذا الغلام الشاب فما سرُّ هذا الغلام الذي مات وهو يطلب العلم؟!!
قال الإمام مالك: (فلما كان اليوم الثالث من يوم دفنه، رآه رجلٌ من خيار أهل بلدنا في أحسن صورة غلام أمرد، وعليه بياض، متعمّم بعمامة خضراء، وتحته فرس أشهب نازل من السماء؛ فكأنه كان يأتيه قاصدًا ويسلّم عليه، ويقول: هذا بلّغني إليه العلم؛ فقال له الرجل: وما الذي بلّغك إليه؟
فقال: أعطاني الله بكل باب تعلّمته من العلم درجةً في الجنة، فلم تبلغ بي الدرجات إلى درجة أهل العلم - لأنه مات صغيًرا-، فقال الله تعالى: زيدوا ورثة أنبيائي، فقد ضمنت على نفسي أنه من مات وهو عالم سنتي -أو سنة أنبيائي- أو طالب لذلك، أن أجمعهم في درجة واحدة؛ فأعطاني ربي حتى بلغت إلى درجة أهل العلم، وليس بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا درجتان، درجة هو فيها جالس وحوله النبيون كلهم، ودرجة فيها جميع أصحابه، وجميع أصحاب النبيين الذين اتبعوهم، ودرجة من بعدهم فيها جميع أهل العلم وطلبته، فسيرني حتى استوسطتهم، فقالوا لي: مرحبًا، مرحبًا، سوى ما لي عند الله من المزيد.
فقال له الرجل: ومالك عند الله من المزيد؟!!
قال: وعدني أن يحشر النبيين كلهم كما رأيتهم في زمرة واحدة، فيقول: يا معشر العلماء، هذه جنتي قد أبحتها لكم، وهذا رضواني قد رضيت عنكم، فلا تدخلوا الجنة حتى تتمنوا وتشفعوا، فأعطيكم ما شئتم، وأُشَفّعكم في من استشفعتم له، ليرى عبادي كرامتكم عليّ، ومنزلتكم عندي.
فلما أصبح الرجل حدَّث أهل العلم، وانتشر خبره بالمدينة).
قال مالك: (كان بالمدينة أقوام بدؤوا معنا في طلب هذا الأمر ثم كفّوا عنه، حتى سمعوا هذا الحديث؛ فلقد رجعوا إليه، وأخذوا بالحزم، وهم اليوم من علماء بلدنا، اللهَ اللهَ يا يحيى، جدّ في هذا الأمر).”
ثالثا: أود تذكير الإخوة والأخوات المتأخرين في مهامهم بأن نظام الدراسة في المعهد يقضي باستبعاد المنقطعين؛ فيتوجب على الراغبين في المواصلة إبلاغ الإدارة بذلك، والالتزام بخطة الدراسة الأسبوعية، والمسارعة في تدارك ما فاتهم من مهام.
أسأل الله عز وجل لي ولكم التوفيق والسداد، والحمد لله رب العالمين.