هَذا بابُ حُرُوفِ الجَرِّ([1]) وهي عِشرُونَ حَرفاً([2])؛ ثلاثَةٌ مضَت في الاستثناءِ وهي: خَلا وعَدَا وحَاشَا، وثَلاثةٌ شَاذَّةٌ:
أَحَدُها: (مَتَى) فِي لُغَةِ هُذَيلٍ، وهِيَ بمَعنَى (مِنْ) الابتِدَائِيَّةِ، سُمِعَ مِن بَعضِهِم: (أَخرَجَهَا مَتَى كُمِّهِ)، وقالَ:
287 متى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ([3]) والثَّانِي: (لَعَلَّ) فِي لُغَةِ عَقِيلٍ، قالَ:
288- لَعَلَّ اللَّهِ فَضَّلَكُم عَلَيْنَا([4]) ولَهُم في لامِها الأُولَى الإثباتُ والحَذفُ([5])، وفِي الثَّانِيَةِ الفَتحُ والكَسرُ.
والثَّالِثُ: (كَي) وإِنَّمَا تَجُرُّ ثَلاثَةً:
أَحَدُهَا: (مَا) الاستِفهَامِيَّةُ، يَقُولُونَ إذا سَأَلُوا عَن عِلَّةِ الشَّيءِ: (كَيْمَهْ)([6])، والأكثَرُ أَن يَقُولُوا: (لِمَهْ).
الثَّانِي: (ما) المَصدَرِيَّةُ وصِلَتُهَا كقَولِه:
289- يُرَادُ الفَتَى كَيمَا يَضُرُّ ويَنفَعُ([7]) أَي: لِلضَرِّ والنَّفعِ، قَالَهُ الأخفَشُ، وقِيلَ: (مَا) كَافَّةٌ.
الثَّالِثُ: (أَن) المَصدَرِيَّةُ وصِلَتُهَا، نحوَ: (جِئْتُ كَيْ تُكرِمَنِي) إِذَا قَدَّرْتَ (أَنْ) بَعدَهَا؛ بِدَلِيلِ ظُهُورِهَا في الضَّرُورَةِ كقولِهِ:
290- لِسَانُكَ كَيمَا أَن تَغُرَّ وتَخْدَعَا([8]) والأَولَى أَن تُقَدَّرَ (كَيْ) مَصدَرِيَّةً فتُقَدَّرَ اللاَّمَ قَبلَهَا؛ بدَلِيلِ كَثرَةِ ظُهُورِهَا مَعَهَا نحوَ: {لِكَيْلاَ تَأْسَوْا}([9]).
([1])تَسمِيَةُ هذه الحُرُوفِ بحُرُوفِ الجَرِّ هي تَسمِيَةُ البَصْرِيِّينَ، ووَجهُها أنَّهَا تَجُرُّ الأسمَاءَ التي تَدخُلُ علَيهَا، وذلك كما سمَّوا حُروفاً أُخرَى بالنَّوَاصِبِ، وسَمَّوا نَوعاً آخَرَ مِن الحُرُوفِ بالجَوَازِمِ، والكُوفِيُّون يُسَمُّونَها (حُرُوفُ الإضافَةِ) أَحياناً، ويُسَمُّونَها (حُرُوفُ الصِّفَاتِ) أحياناً أُخرَى، ووَجهُ التَّسمِيَةِ الأُولَى مِن هاتَينِ التَّسمِيَتَينِ أنَّهَا تُضِيفُ الفِعلَ إلى الاسمِ، أي تَربِطُ بينَهُمَا، ووَجهُ التَّسمِيَةِ الثَّانِيَةِ أنَّهَا تُحدِثُ في الاسمِ صِفَةً مِن ظَرفِيَّةٍ أو غَيرِها.
وقد عَمِلَت هذِه الحُرُوفُ الجَرَّ في الأسماءِ على ما هو الأصلُ، لأنَّها مُختَصَّةٌ بالدُّخُولِ على الأسمَاءِ، ومِن حَقِّ المُختَصِّ أن يَعمَلَ فيما اختَصَّ به العَمَلُ الخَاصُّ بهذا النَّوعِ، والجَرُّ هو الخَاصُّ بالأسماءِ، لذلك لا يُسأَلُ عَن عِلَّةِ عَمَلِهَا الجَرَّ، لأنَّ ما جاءَ على أَصلِه لا يُسأَلُ عَن عِلَّتِه.
([2])تَرَكَ المُؤَلِّفُ مِن حُرُوفِ الجَرِّ التي يَذكُرُها غَيرُه مِن النُّحَاةِ (لَولا) فإنَّ هذا الحرفَ يَكُونُ حَرفَ جَرٍّ عندَ جَمَاعَةٍ مِن النُّحَاةِ في بعضِ استعمالاتِهِ.
وبَيَانُ ذلك أنَّ (لولا) الدَّالَّةَ على امتِنَاعِ جَوَابِها لِوُجودِ شَرطِهَا تَدخُلُ على الاسمِ الظَّاهِرِ الصَّرِيحِ، نحوَ قَولِ أَفلَحَ بنِ يَسَارٍ أَبِي عَطَاءٍ السِّنْدِيِّ:
وَلَولا جَنَانُ اللَّيلِ مَا آبَ عَامِرٌ = إِلَى جَعفَرٍ سِرْبَالُهُ لَمْ يُمَزَّقِ
ونَحوَ قَولِ المُنذِرِ بنِ حَسَّانَ:
فَلَولاَ اللَّهُ والمُهْرُ المُفَدَّى = لأُبْتَ وأَنتَ غِرْبَالُ الإِهَابِ
وتَدخُلُ على الاسمِ المُؤَوَّلِ مِن حَرفِ المَصدَرِ ومَدخُولِه، نحوَ قَولِ اللَّهِ تعَالَى: {وَلَولاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِن فِضَّةٍ} ونَحوَ قَولِهِ سُبحَانَهُ: {لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ} ونَحوَ قَولِ نُصَيبٍ:
وَلَولاَ أَنْ يُقَالَ صَبَا نُصَيبٌ = لَقُلْتُ بِنَفسِيَ النَّشَأُ الصِّغَارُ
وتَدخُلُ علَى الضَّمِيرِ المُنفَصِلِ، نحوَ قَولِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}.
وقَد اختَلَفَ الكُوفِيُّونَ والبَصْرِيُّونَ فيهَا وفي مَدخُولِهَا في هذه الأحوَالِ الثَّلاثَةِ، فقالَ الكُوفِيُّونَ: هي عَامِلَةٌ في الاسمِ الذي بعدَهَا الرَّفعَ، مِن قِبَلِ أنَّهَا نَائِبَةٌ عن فِعلٍ لو ظَهَرَ لكانَ رَافِعاً للاسْمِ، ألا تَرَى أنَّكَ حينَ تَقُولُ: (لَولا زَيْدٌ لأَكْرَمْتُكَ) إِنَّمَا تُرِيدُ: لو لَم يَمْنَعْنِي زَيدٌ مِن إِكرَامِكَ لأَكْرَمْتُكَ.
وذَهَبَ البَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ الاسْمَ المَرْفُوعَ بعدَ لَولا مَرفُوعٌ بالابتداءِ، ولَيسَ الرَّافِعُ لَهُ لَولا، لأنَّ الحَرفَ لا يَعمَلُ إلا إذا كانَ مُختَصّاً، ولولا لَيسَتْ مُختَصَّةً، لأنَّها تَدخُلُ على الأسمَاءِ، كما في الشَّوَاهِدِ التي سُقْنَاهَا، وتَدخُلُ على الأفعَالِ كمَا في قَولِ الشَّاعِرِ:
قَالَتْ أُمَامَةُ لَمَّا جِئْتُ زَائِرَهَا = هَلاَّ رَمَيْتَ بِبَعضِ الأَسْهُمِ السُّودِ
لا دَرَّ دَرُّكِ إِنِّي قَدْ رَمَيْتُهُمُ = لَولا حُدِدْتُ ولا عُذْرَى لِمَحدُودِ
على أنَّهَا لو كانَتْ مُختَصَّةً بالأسمَاءِ لعَمِلَت الجَرَّ كما هو الأصلُ في الحَرفِ المُختَصِّ بالاسمِ.
وفي هذا البَيتِ مَقَالٌ؛ لأنَّ الكُوفِيِّينَ يُقَدِّرُونَ هذا الفِعلَ بِاسمٍ، أي: لَولا الحَدُّ، أي: الحِرمَانُ.
وتَدخُلُ لَولا علَى الضَّمَائِرِ المُتَّصِلَةِ، فتَقُولُ (لَولايَ) و(لَولاكَ) و(لَولاهُ)، وقد اختَلَفَ النُّحَاةُ في ذلك الاستِعمَالِ، ولَهُم في ذلك ثَلاثَةُ مَذَاهِبَ:
المَذهَبُ الأوَّلُ – وهُوَ مَذهَبُ الكُوفِيِّينَ وأَبِي الحَسَنِ الأخْفَشِ مِنَ البَصْرِيِّينَ، ونَسَبَهُ العَينِيُّ للخَلِيلِ ويُونُسَ – وخُلاصَتُهُ أنَّ الضَّمِيرَ المُتَّصِلَ، وهو الياءُ والكَافُ والهَاءُ، مَوضُوعٌ مَوضِعَ الضَّمِيرِ المُنفَصِلِ، وأنَّ مَوضِعَهُ رَفعٌ، وليسَ له إلا ذلك المَوضِعُ، وذلك ليَجرِيَ استِعْمَالُهَا في جَمِيعِ الأحوَالِ مُجرًى وَاحِداً، فيَكُونُ مِن طَردِ البَابِ على وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ.
المَذهَبُ الثَّانِي – وهُو مَذهَبُ سِيبَوَيْهِ وجُمْهُورِ البَصْرِيِّينَ – وخُلاصَتُهُ أنَّ (لولا) في هذه الحَالَةِ حَرفُ جَرٍّ زَائِدٍ لا يَتَعَلَّقُ بشَيءٍ، والضَّمِيرُ الذي بَعدَهَا له مَحَلاَّنِ: أَحَدُهُمَا جَرٌّ، والثَّانِي رَفعٌ بالابتِدَاءِ، كمَدْخُولِ (مِن) الزَّائِدَةِ فِي نَحوِ قَولِكَ: (ما في الدَّارِ مِن أَحَدٍ). فإنَّهُ مَجرُورٌ لَفظاً، ومَوضِعُهُ رَفعٌ؛ لأنَّهُ مُبتَدَأٌ، وهَذَا الرَّأيُ هو الذي أَشَرْنَا إليه في مَطلَعِ هذا البَحثِ.
المَذهَبُ الثَّالِثُ – وهو مَذهَبُ أبِي العَبَّاسِ المُبَرِّدِ – وخُلاصَتُهُ أنَّ هذا الاستعمالَ خَطَأٌ لم يَرِدْ عن العَرَبِ. وهُو مَحجُوجٌ بوُرُودِهِ عن العَرَبِ في نَحوِ قَولِ يَزِيدَ بنِ الحَكَمِ بنِ أَبِي العَاصِ:
وَكَمْ مَوطِنٍ لَولايَ طِحْتَ كمَا هَوَى = بِأَجْرَامِهِ مِنْ قُنَّةِ النَّبْقِ مُنْهَوِي
وكمَا في قَولِ عَمرِو بنِ العَاصِ يُخَاطِبُ مُعَاوِيَةَ بنَ أَبِي سُفْيَانَ في شَأنِ الحَسَنِ بنِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ:
أَتُطْمِعُ فِينَا مَنْ أَرَاقَ دِمَاءَنَا = وَلَولاكَ لَمْ يَعْرِضْ لأَحْسَابِنَا حَسَنْ
وكمَا فِي قَولِ الشَّاعِرِ، ويُنسَبُ إلَى عُمَرَ بنِ أَبِي رَبِيعَةَ المَخْزُومِيِّ، والصَّوَابُ أنَّهُ لِلعَرَجِيِّ:
لَولاكَ فِي ذَا العَامِ لَمْ أَحْجُجْ
ومعَ وُرُودِهِ في كلامِ العَرَبِ المَوثُوقِ بعَرَبِيَّتِهِم، وفي شِعرٍ مَنسُوبٍ إلى قَائِلِيهِ لا مَحَلَّ لإنكارِ هذا الاستِعمَالِ، وإِن كُنَّا نَعتَرِفُ بأنَّهُ قَلِيلٌ في الاستعمالِ غَيرُ شَائِعٍ شُيُوعَ استِعمالِ الاسمِ الظَّاهِرِ والضَّمِيرِ المُنفَصِلِ بعدَ لَولا.
ومِمَّا يتَّصِلُ بهذا الكلامِ أن نُبَيِّنَ لك أنَّ حَرفَ الجَرِّ يَنقَسِمُ إِلَى ثَلاثَةِ أَقسَامٍ:
القِسمُ الأوَّلُ: حَرفُ الجَرِّ الأصلِيُّ، وهو ما له مَعنًى خَاصٌّ، ويَحتَاجُ إلى مُتَعَلِّقٍ مَذكُورٍ أو مَحذُوفٍ، مِثلَ: (مِن) و(إِلَى)، في نَحوِ قَولِكَ: (ذَهَبْتُ مِنَ البَيتِ إِلَى المَسجِدِ)، ومِثلَ قَولِهِ تعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى} فَإِنَّ (مِن) تَدُلُّ علَى ابتِدَاءِ الغَايَةِ المَكَانِيَّةِ، و(إلى) تَدُلُّ علَى الانتهاءِ في كُلٍّ مِنَ المِثَالِ والآيَةِ الكَرِيمَةِ، ولِكُلٍّ مِن الحَرفَينِ مُتَعَلَّقٌ مَذكُورٌ.
والقِسمُ الثَّانِي: حَرفُ الجَرِّ الزَّائِدُ، هو ما ليس له مَعنًى خَاصٌّ، وإنَّمَا يُؤتَى به لمُجَرَّدِ التَّوكِيدِ، ولَيسَ له مُتَعَلِّقٌ، لا مَذكُورٌ، ولا مَحذُوفٌ، مِثلَ: (مِن)، في قولِكَ (مَا زَارَنِي مِن أَحَدٍ)، وفِي قَولِه تعَالَى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ}، فليسَ لِمِنْ في هذا المِثَالِ ولا في الآيَةِ الكَرِيمَةِ مَعنًى خَاصٌّ، وإنَّمَا جِيءَ بها لمُجَرَّدِ التَّوكِيدِ، كما أنَّهُ لا مُتَعَلِّقَ لها، وما بعدَها في المِثالِ فَاعِلٌ، وفي الآيَةِ مُبتَدَأٌ.
والقِسمُ الثَّالِثُ: حَرفُ الجَرِّ الشَّبِيهُ بالزَّائِدِ، وهو ما له مَعنًى خَاصٌّ، كالحرفِ الأصلِيِّ، وليسَ لهُ مُتَعَلِّقٌ كالزَّائِدِ، فقد أَخَذَ شَبَهاً مِن الحَرفِ الأصلِيِّ، وأَخَذَ شَبَهاً مِن الحَرفِ الزَّائِدِ، ومِثَالُهُ: لَولا، ورُبَّ، ولَعَلَّ، فإنَّ لولا تَدُلُّ على الامتناعِ للوُجُودِ، ورُبَّ تدُلُّ على التَّكثِيرِ أو التَّقلِيلِ، ولَعَلَّ تَدُلُّ على التَّرَجِّي، وليسَ لِوَاحِدٍ منهَا مُتَعَلِّقٌ، ولِكَونِهَا أُشبِهَت بالحَرفِ الزَّائِدِ في عَدَمِ احتِيَاجِهَا إِلَى مُتَعَلِّقٍ تَتَعَلَّقُ به سَمَّوهَا (حَرفُ جَرٍّ شَبِيهٌ بِالزَّائِدِ)، وإن كانت تُشبِهُ الحَرفَ الأَصلِيَّ أَيضاً كما بَيَّنتُ لكَ.
([3])287-هذا الشَّاهِدُ مِن كلامِ أَبِي ذُؤَيبٍ الهُذَلِيِّ يَصِفُ سَحَاباً، والذي ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ هَهُنَا عَجُزُ بَيتٍ مِنَ الطَّوِيلِ، وَصَدرُهُ:
*شَرِبْن بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ*
اللُّغَةُ: (شَرِبْنَ) أَرادَ أنَّ السَّحَابَ حَمَلَ مَاءَ البَحرِ، (لُجَجٍ) جَمعُ لُجَّةٍ – بِضَمِّ اللاَّمِ وتَشدِيدِ الجِيمِ – وهِيَ مُعظَمُ المَاءِ، (نَئِيجُ) صَوتُ.
الإعرابُ: (شَرِبْنَ) شَرِبَ: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ على فَتحٍ مُقَدَّرٍ علَى آخِرِهِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرَابِ، ونُونُ النِّسْوَةِ فَاعِلُهُ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ فِي مَحَلِّ رَفعٍ.
(بمَاءِ) البَاءُ حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌٌّّ علَى الكَسْرِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرَابِ، مَاءِ: مَجرُورٌ بِالبَاءِ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِشَرِبَ، ومَاءٌ مُضَافٌ، و(البَحرِ) مُضَافٌ إليه مَجرُورٌ بِالكَسرَةِ الظَّاهِرَةِ.
(ثُمَّ) حَرفُ عَطفٍ، مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ، (تَرَفَّعَتْ) تَرَفَّعَ: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرَابِ، والتَّاءُ حَرفٌ دَالٌّ علَى تَأنِيثِ الفَاعِلِ مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرَابِ، وفَاعِلُ تَرَفَّعَ ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوَازاً، تَقدِيرُه: هِيَ، يَعُودُ إِلَى السَّحَائِبِ المَذْكُورَةِ في بَيتٍ سَابِقٍ علَى بَيتِ الشَّاهِد.
(مَتَى) حَرفُ جَرٍّ بِمَعنَى مِن الابتِدَائِيَّةِ مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرَابِ، (لُجَجٍ) مَجرُورٌ بمَتَى، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِشَرِبَ، (خُضْرٍ) نَعتٌ لِلُجَجٍ، ونَعتُ المَجرُورِ مَجرُورٌ وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، (لَهُنَّ) اللاَّمُ حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرَابِ، هُنَّ: ضَمِيرٌ مُنفَصِلٌ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ في مَحَلِّ جَرٍّ باللاَّمِ، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحذُوفٍ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، (نَئِيجُ) مُبتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ مَرفُوعٌ، وعَلامَةُ رَفعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ، وجُملَةُ المُبتَدَأِ وخَبَرُهُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ، صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِلُجَجٍ، أَو فِي مَحَلِّ نَصبٍ حَالٌ مِن لُجَجٍ؛ لأنَّهُ – وإِن كانَ نَكِرَةً – قَد تَخَصَّصَ بِالوَصفِ بِخُضْرٍ.
الشَّاهِدُ فيهِ: قَولُهُ: (متَى لُجَجٍ) حيثُ استُعمِلَ فيه مَتَى بمَعنَى مِن.
([4])288- لَمْ أَقِفْ لِهَذا الشَّاهِدِ على نِسبَةٍ إلى قَائِلٍ مُعَيَّنٍ، والذي ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ هَهُنَا صَدْرُ بَيتٍ مِنَ الوَافِرِ، وعَجُزُهُ قَولُهُ:
*بِشَيءٍ أَنَّ أُمَّكُمُ شَرِيمُ*
اللُّغَةُ: (لَعَلَّ) أَصلُ مَعنَى هَذَا الحَرْفِ التَّرَجِّي، وقَالَ الدَّنُوشَرِيُّ: (هو في هذا البيتِ بَاقٍ على أَصلِهِ، وهو التَّرَجِّي، ولا يَتَعَلَّقُ بِشَيءٍ، ولكنَّ الظَّاهِرَ أنَّهُ في هذا البَيتِ بمَعنَى الإِشفَاقِ، مِثلُ قَولِه تعَالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ}اهـ كَلامُ الدّنُوشَرِيِّ، (إِنَّ) يَجُوزُ في هَمزَةِ إِنَّ هذه الفَتحُ والكَسرُ؛ أمَّا الفَتحُ فعلَى أنَّ المَصدَرَ المُنسَبِكَ مِنهَا ومَنِ مَعمُولَيهَا مَجرُورٌ على أنَّهُ بَدَلٌ مِن شَيءٍ المَجرُورِ بالبَاءِ، وأمَّا الكَسرُ فعلَى الابتداءِ، وجُملَتُهَا في مَقَامِ التَّعلِيلِ لِمَا قَبلَهَا (شَرِيمُ) بفَتحِ الشِّينِ – هو فَعِيلٌ بمَعنَى مَفعُولٍ كجَرِيحٍ وقَتِيلٍ – والشَّرِيمُ: المَرأَةُ المُفْضَاةُ، أي: التي اتَّحَدَ مَسلَكَاهَا واختَلَطَ أَحَدُهُمَا بالآخَرِ، ويُقَالُ فيها: شَرمَاءُ، وشَرُومٌ، أَيضاً.
الإعرابُ: (لَعَلَّ) حَرفُ تَرَجٍّ وَجَرٍّ شَبيهٌ بالزَّائِدِ، مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ له مِنَ الإعرابِ، (اللَّهِ) مُبتَدَأٌ، مَرفُوعٌ بضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ على آخِرِهِ، منَعَ مِن ظُهُورِهَا اشتِغَالُ المَحَلِّ بِحَرَكَةِ حَرفِ الجَرِّ الشَّبِيهِ بالزَّائِدِ، (فَضَّلَكُمْ) فَضَّلَ: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ له مِنَ الإعرابِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوَازاً، تَقدِيرُهُ: هُوَ، يعودُ إلى لَفظِ الجَلالَةِ، وضَمِيرُ المُخَاطَبِينَ مَفعُولٌ بِه، وجُملَةُ الفِعلِ المَاضِي وفَاعِلِه ومَفعُولِه في مَحَلِّ رَفعٍ خَبَرُ المُبتَدَأِ، (بِشَيءٍ) البَاءُ حَرفُ جَرٍّ مَبنِيٌّ على الكَسرِ، لا مَحَلَّ لهُ مِنَ الإعرابِ، شَيءٍ: مَجرُورٌ بالباءِ، وعلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ،والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بفَضَّلَ، (أنَّ) حَرفُ تَوكِيدٍ ونَصبٍ، مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ، لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ، (أُمَّكُمُ) أُمَّ: اسمُ أَنَّ مَنصُوبٌ بالفَتحَةِ الظَّاهِرَةِ، وهُوَ مُضَافٌ وضَمِيرُ المُخَاطَبِينَ مُضَافٌ إِلَيهِ، (شَرِيمُ) خَبَرُ أَنَّ مَرفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، فإذا قَرَأْتَ (أنَّ) بالكَسرِ؛ فجُملَتُهَا لا مَحَلَّ لهَا مِنَ الإعرَابِ تَعلِيلِيَّةٌ، وإذَا قَرَأْتَهَا بالفَتحِ، فهِيَ وما دَخَلَتْ علَيهِ في تَأوِيلِ مَصدَرٍ مَجرُورٍ بَدَلٍ مِن شَيءٍ.
الشَّاهِدُ فيه: قَولُهُ: (لَعَلَّ) حيثُ استَعمَلَهَا حَرفَ جَرٍّ، فَجَرَّ بهَا الاسْمَ الكَرِيمَ.
ومِثلُ هذا الشَّاهِدِ قَولُ كَعبِ بنِ سَعْدٍ الغَنَوِيِّ:
فَقُلْتُ ادْعُ أُخْرَى وارْفَعِ الصَّوتَ جَهْرَةً = لَعَلَّ أَبِي المِغْوَارِ مِنْكَ قَرِيبُ
([5])أَمَّا إِثبَاتُ اللاَّمِ الأُولَى فشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ، ومنها بيتُ الشَّاهِدِ الذي سَبَقَ شَرحُهُ (رَقَمُ 288)، ومنها قولُ الآخَرِ، وهُوَ خَالِدُ ابنُ جَعْفَرٍ:
لَعَلَّ اللَّهِ يُمْكِنُنِي عَلَيهَا = جِهَاراً مِن زُهَيرٍ أَو أَسِيدِ
وأَمَّا حَذفُ لامِها الأُولَى فَمِن شَوَاهِدِه قَولُ الشَّاعِرِ:
عَلَّ صُرُوفَ الدَّهرِ أَو دُولاتِهَا = تُدِلْنَنَا اللَّمَّةَ مِن لَمَّاتِهَا
والذي نُريدُ أن نُنَبِّهَكَ إِلَيهِ هو أنَّ هَذِهِ اللُّغَاتِ لَيسَتْ خَاصَّةً بِلَعَلَّ التي يُجَرُّ الاسمُ بعدَها، كما استَظْهَرَهُ العُلَيْمِيُّ اغتِرَاراً بظَاهِرِ عِبَارَةِ المُصَنِّفِ هنا، بل جَاءَت في لُغَاتِ العَرَبِ عَامَّةً، فمِنَ الحَذفِ قَولُ الأَضبَطِ بنِ قُرَيعٍ السَّعْدِيِّ:
لا تُهِينَ الفَقِيرَ عَلَّكَ أَنْ = تَركَعَ يَوماً والدَّهرُ قَدْ رَفَعَهْ
وقَولُ نَافِعِ بنِ سَعدٍ الطَّائِيِّ:
ولَسْتُ بِلَوَّامٍ علَى الأمْرِ بَعدَمَا = يَفُوتُ، ولَكِنْ عَلَّ أَنْ أَتَقَدَّمَا
وقَولُ العُجَيرِ السَّلُولِيِّ:
لَكَ الخَيْرُ عَلِّلْنَا بِهَا عَلَّ سَاعَةً = تَمُرُّ وَسِهْوَاءً مِنَ اللَّيلِ يَذهَبُ
وقَولُ أُمُّ النَّحِيفِ، وهُو سَعدُ بنُ قِرطٍ:
تَرَبَّصْ بِهَا الأَيَّامَ، عَلَّ صُرُوفَهَا = سَتَرْمِي بِهَا فِي جَاحِمٍ مُتَسَعِّرِ
وقَولُ رُؤْبَةَ بنِ العَجَّاجِ:
تَقُولُ بِنْتِي قَدْ أَنَى أَنَاكَا = يَا أَبَتَا عَلَّكَ أَو عَسَاكَا
([6])وذَهَبَ الكُوفِيُّونَ في هذه العِبَارَةِ إلى أنَّ (كَي) هِيَ المَصدَرِيَّةُ النَّاصِبَةُ لِلفعلِ المُضَارِعِ، وأنَّ المُضَارِعَ المَنصُوبَ بها مَحذُوفٌ، وأنَّ (مَهْ) التي بَعدَها مُؤَلَّفَةٌ مِن (ما) التي هي اسمُ استِفهامٍ، ومِن هَاءِ السَّكْتِ، وأنَّ (مَا) الاستفهامِيَّةَ في مَحَلِّ نَصبٍ مَفعُولٌ به لهذا الفعلِ المُضَارِعِ المَحذُوفِ، وكأنَّ قَائِلاً قد قالَ لك: جِئْتُ، فقُلْتَ لَهُ: كَي تَفْعَلَ مَاذا؟
وهذا تَكَلُّفٌ غَرِيبٌ، فوقَ أنَّهُ يَتَضَمَّنُ أَربَعَةَ أُمُورٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنها مِمَّا لا يُجِيزُهُ جَمهَرَةُ النُّحَاةِ، الأوَّلُ: أنَّ فيه حَذفَ صِلَةِ الحَرفِ المَصدَرِيِّ معَ بَقَاءِ مَعمُولِهَا، أمَّا الحَرفُ المَصدَرِيُّ فهو (كَي)، وأمَّا صِلَتُهُ فهي المُضَارِعُ الذي التَزَمُوا تَقدِيرَهُ، وأمَّا مَعمُولُ الصِّلَةِ فهُوَ (ما) الاستفهامِيَّةُ.
والثَّانِي: أنَّ فِيهِ نَصبَ اسمِ الاستِفهَامِ بعَامِلٍ مُتَقَدِّمٍ عليهِ، وقَد عُلِمَ أنَّ اسمَ الاستِفهَامِ مِمَّا له الصَّدَارَةُ، فلا يَتَقَدَّمُ عليه العَامِلُ فيهِ.
والثَّالِثُ: أنَّ فيهِ حَذفَ أَلِفِ (مَا) الاستِفهَامِيَّةِ في غَيرِ حَالَةِ الجَرِّ، وقَدْ عُلِمَ أنَّ أَلِفَهَا لا تُحذَفُ إلا في حَالَةِ الجَرِّ، نحوَ قَولِهِ تَعَالَى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}.
والرَّابِعُ: أنَّ فِيهِ حَذفَ المَنصُوبِ معَ بَقَاءِ عَامِلِ النَّصبِ، ولَمْ يَثْبُتْ لَهُ نَظِيرٌ في كلامِ العَرَبِ.
ثُمَّ إِنَّ استعمالَ العَرَبِ (لِمَه) كَثِيراً في المَوضِعِ الذي استَعمَلُوا فيهِ (كَيمَهْ) يَدُلُّ علَى أنَّ مَعنَى العِبَارَتَينِ وَاحِدٌ، وأنَّ كُلَّ ما بَينَهُمَا أنَّ فِي (كَيمَهْ) وَضعُ حَرفٍ، وهو (كَي). في مَوضِعِ حَرفٍ آخَرَ، وهُو اللاَّمُ.
([7])289-هذا الشَّاهِدُ مِن كلامِ قَيسِ بنِ الخطيمِ. وقيلَ: للنَّابِغَةِ. ثُمَّ مِنهُم مَن يقولُ: (النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ). ومِنهم مَن يقولُ: (النَّابِغَةُ الجَعْدِيُّ)، والذي ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ عَجُزُ البَيتِ مِن الطَّوِيلِ، وصَدرُهُ قَولُهُ:
*إِذَا أَنتَ لَمْ تَنْفَعْ فَضُرَّ فَإِنَّمَا*
المَعنَى: يُرِيدُ أنَّهُ لا بُدَّ للإنسانِ مِن أَحَدِ وَصفَينِ يَتَّصِفُ بِهِ: فإمَّا أَن يَكُونَ نَافِعاً يعُودُ الفَضلُ مِنهُ على إِخوَانِهِ وعَارِفِيهِ أو على أَهلِ جِلدَتِهِ جَمِيعاً، وإمَّا أن يَكُونَ ضَارّاً بهِم يَقَعُ علَيهِم شَرُّهُ، وتَنَالُهُم مَعَرَّتُهُ، فإن لم يَكُنِ الإنسانُ مُتَّصِفاً بأحدِ هذينِ الوَصفَينِ فليسَ بإِنسانٍ على الحَقِيقَةِ، لأنَّ الإنسانَ إنَّمَا يَمتَازُ عن سَائِرِ الحَيَوَانِ بأنَّهُ يَنفَعُ أو يَضُرُّ.
الإعرابُ: (إذا) ظَرْفٌ لمَا يُستَقبَلُ مِن الزَّمَانِ، خَافِضٌ لِشَرطِهِ، مَنصُوبٌ بِجَوَابِهِ، مَبنِيٌّ على السُّكُونِ في مَحَلِّ نَصبِ بِـ(ضُرّ) الآتِي، (أنت) فَاعِلٌ لِفِعلٍ مَحذُوفٍ يُفَسِّرُهُ المَذكُورُ بَعدَهُ، مَبنِيٌّ على الفَتحِ في مَحَلِّ رَفعٍ، والجُملَةُ مِن الفِعلِ المَحذُوفِ وفَاعِلِه هذا في مَحَلِّ جَرٍّ بإِضَافَةِ إِذَا إليها.
(لم) حَرفُ نَفيٍ وجَزمٍ وقَلبٍ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ، لا مَحَلَّله مِن الإعرابِ، (تَنْفَعْ) فِعلٌ مُضَارِعٌ مَجزُومٌ بِلَم، وعَلامَةُ جَزمِهِ السُّكُونُ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجُوباً تَقدِيرُه (أنت)، وجُملَةُ الفعلِ المُضَارِعِ المَجزُومِ بلم وفَاعِلِه المُستَتِرِ فيه لا مَحَلَّ لها مِن الإعرابِ مُفَسِّرَةٌ.
(فَضُرَّ) الفَاءُ وَاقِعَةٌ في جوابِ إذا، حَرفٌ مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، ضُرَّ: فِعلُ أَمرٍ مَبنِيٌّ علَى السُّكُونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، وحُرِّكَ بالفَتحِ للتَّخَلُّصِ مِن التِقَاءِ السَّاكِنَينِ ولِلتَّخفِيفِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجُوباً تَقدِيرُه أنت.
(فإِنَّمَا) الفَاءُ حَرفٌ دَالٌّ على التَّعلِيلِ مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ، إنَّمَا: حَرفٌ دَالٌّ على الحَصرِ، مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرابِ، (يُرَادُ) فِعلٌ مُضَارِعٌ مَبنِيٌّ لِلمَجْهُولِ مَرفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِن النَّاصِبِ والجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ، (الفَتَى) نَائِبُ فَاعِلِ (يُرَادُ)، مَرفُوعٌ بِضَمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ على الألِفِ مَنَعَ مِن ظُهُورِهَا التَّعَذُّرُ، (كيما) كَي: حَرفُ تَعلِيلٍ وجَرٍّ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، وما: حَرفٌ مَصدَرِيٌّ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، (يَضُرُّ) فِعلٌ مُضَارِعٌ مَرفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِن النَّاصِبِ والجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفعِهِ الضَّمَّةُ الظَّاهِرَةُ، وفَاعِلُهُ مُستَتِرٌ فيه جوَازاً تَقدِيرُه (هو) يَعُودُ إلى الفَتَى، وما المَصدَرِيَّةُ معَ ما دخَلَت عليه في تَأوِيلِ مَصدَرٍ مَجرُورٍ بكي، والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِيُرَادُ، وتَقدِيرُ الكلامِ: يُرَادُ الفتَى لِلضَّرِّ والنَّفعِ، (ويَنفَعُ) الواوُ حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ له مِنَ الإعرابِ، يَنفَعُ: فِعلٌ مُضَارِعٌ مرفُوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهِرَةِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه جوازاً تَقدِيرُه هو يَعودُ إلَى الفتَى.
الشَّاهِدُ فيه: دُخُولُ (كَي) علَى (ما) المَصدَرِيَّةِ، وتَقدِيرُ (ما) مَصدَرِيَّةً في هذا الشَّاهِدِ هو تَخرِيجُ الأخفَشِ، وهي عِندَ غَيرِهِ كَافَّةٌ لِكَي عن عَمَلِ النَّصبِ فِي الفِعلِ المُضارعِ، والفِعلُ مُؤَوَّلٌ بالمَصدَرِ على القَولَينِ؛ بوَاسِطَةِ (ما) على الأوَّلِ، وبوَاسِطَةِ (كي) على الثَّانِي.
([8])290-هذا الشَّاهِدُ مِن كَلامِ جَمِيلِ بنِ مَعمَرٍ العُذْرِيِّ، وقيلَ: لِحَسَّانَ بنِ ثَابِتٍ الأنصَارِيِّ. وليسَ بشَيءٍ، وما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ ههُنَا عَجُزُ بَيتٍ مِن الطَّوِيلِ، وصَدرُهُ قَولُهُ:
*فَقَالَتْ أَكُلَّ النَّاسِ أَصْبَحْتَ مَانِحَا*
وأَوَّلُ القَصِيدَةِ التِي مِنهَا بَيتُ الشَّاهِدِ مِن قَولِ جَمِيلِ بنِ مَعمَرٍ هُوَ:
عَرَفْتُ مَصِيفَ الحَيِّ والمُتَرَبَّعَا = كَمَا خَطَّتِ الكَفُّ الكِتَابَ المُرَجَّعَا
مَعَارِفَ أَطلالٍ لِبَثْنَةَ أَصْبَحَتْ = مَعَارِفُهَا قَفْراً مِنَ الحَيِّ بَلْقَعَا
اللُّغَةُ: (عَرَفْتُ مَصِيفَ الحَيِّ – البَيتَ) المَصِيفُ: مَكَانُ نُزُولِ القَومِ في الصَّيفِ، والمُتَرَبَّعُ: مَكَانُ نُزُولِهِم وَقتَ الرَّبِيعِ، وقَولُهُ: (كَمَا خَطَّتِ الكَفُّ الكِتَابَ المُرَجَّعَا) حَالٌ مِنهُمَا، يُرِيدُ أنَّ آثارَ نُزُولِ القَومِ في الصَّيفِ، وآثَارَ نُزُولِهِم في الرَّبِيعِ، قد انمَحَتْ وذَهَبَت، ولم يَبْقَ مِنهَا إلا ما يُشبِهُ الخَطَّ القَدِيمَ الذي رُوجِعَ في القِرَاءَةِ مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ، (مَعَارِفَ أَطْلالِ–البَيتَ) المَعَارِفُ: الأمَاكِنُ المَعرُوفَةُ، والقَفْرُ – بفَتْحٍ فَسُكُونٍ – المُوحِشَةُ، والبَلْقَعُ – بِوَزنِ جَعفَرٍ – الخَالِي الذي لا أَنِيسَ بِهِ.
(فقَالَت: أَكُلَّ النَّاسِ أَصْبَحْتَ – البيتَ) مَانِحاً: اسمُ فَاعِلٍ مِن المَنحِ وهو الإعطاءُ، وهُوَ يَتَعَدَّى إلى مَفعُولَينِ، تَقُولُ: مَنَحْتُ المِسكِينَ دِرْهَماً، وتَغُرَّ: مُضَارِعُ غَرَرْتُه – مِن بَابِ نَصَرَ – إِذَا خَدَعْتَهُ وزَيَّنْتَ لَهُ ما لَيسَ بِحَسَنٍ، وتَخْدَعَ: عَطفُ تَفسِيرٍ لِتَغُرَّ، فَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.
الإعرابُ: (فَقَالَت) الفَاءُ حَرفُ عَطفٍ، مَبنِيٌّ على الفتحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، قَالَ: فِعلٌ مَاضٍ مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، والتَّاءُ حَرفٌ دَالٌّ على تَأنِيثِ المُسنَدِ إليهِ، مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ، وفَاعِلُ قَالَ ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه جَوَازاً، تَقدِيرُه (هي) يَعُودُ لِلْخُودِ المَذْكُورَةِ في بَيتٍ سَابِقٍ على بَيتِ الشَّاهِدِ.
(أَكُلَّ) الهَمزَةُ للاستِفْهَامِ حَرفٌ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرابِ، كُلَّ: مَفعُولٌ ثَانٍ لِمَانِحٍ تَقَدَّمَ علَيهِ وعلى مَفعُولِهِ الأوَّلِ، مَنصُوبٌ وعَلامَةُ نَصبِهِ الفَتحَةُ الظَّاهِرَةُ، و(كُلَّ) مُضَافٌ، و(النَّاسِ) مُضَافٌ إِلَيهِ مَجرُورٌ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسرَةُ الظَّاهِرَةُ، (أَصْبَحْتَ) أَصْبَحَ: فِعلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ مَبنِيٌّ على الفَتحِ المُقَدَّرِ على آخِرِهِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرابِ، وتَاءُ المُخَاطَبِ اسمُ أَصبَحَ مَبنِيٌّ على الفَتحِ في مَحَلِّ رَفعٍ، (مَانِحَا) خَبَرُ أَصبَحَ مَنصُوبٌ، وعَلامَةُ نَصبِهِ الفَتحَةُ الظَّاهِرَةُ، وهو اسمُ فَاعِلٍ يَعمَلُ عَمَلَ فِعلِه، فَفِيهِ ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ تَقدِيرُهُ أَنتَ، وهذا الضَّمِيرُ فَاعِلُهُ، وقد تَقَدَّمَ مَفعُولُهُ الثَّانِي، (لِسَانَكَ) لِسَانَ: مَفعُولٌ أَوَّلٌ لِمَانِحٍ مَنصُوبٌ بالفَتحَةِ الظَّاهِرَةِ، وهو مُضَافٌ وضَمِيرُ المُخَاطَبِ مُضَافٌ إليه مَبنِيٌّ على الفتحِ في محلِّ جَرٍّ، (كَيمَا) كَي: حرفُ تَعلِيلٍ وجَرٍّ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ، ومَا: حَرفٌ زَائِدٌ، وذَكَرَ العَينِيُّ أنَّهُ حَرفٌ كَافٌّ لِكَي عَن عَمَلِ النَّصبِ أَو حَرفٌ مَصدَرِيٌّ. ولا وَجهَ لِمَا ذَكَرَهُ، (أَن) حَرفٌ مَصدَرِيٌّ ونَصبٌ مَبنِيٌّ على السُّكُونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ، (تَغُرَّ) فِعلٌ مُضَارِعٌ مَنصُوبٌ بأن المَصدَرِيَّةِ، وعَلامَةُ نَصبِهِ الفَتحَةُ الظَّاهِرَةُ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجُوباً تَقدِيرُه أنت، (وتَخدَعَ) الوَاوُ حَرفُ عَطفٍ مَبنِيٌّ على الفَتحِ لا مَحَلَّ لَهُ مِن الإعرابِ، وتَخدَعَ: مَعطُوفٌ على (تَغُرَّ) مَنصُوبٌ بالفَتحَةِ الظَّاهِرَةِ، و(أن) معَ ما دَخَلَت عليه في تَأوِيلِ مَصدَرٍ مَجرُورٍ بالكافِ, والجَارُّ والمَجرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِمَانِحٍ، وتَقدِيرُ الكلامِ: مَانِحاً لِسَانَكَ كُلَّ النَّاسِ لِلنَّفعِ والضَّرِّ.
الشَّاهِدُ فيه: ظُهُورُ (أن) المَصدَرِيَّةِ بعدَ (كي)؛ فذلك دَلِيلٌ على أَمرَينِ: الأوَّلُ: أنَّ (كي) دَالَّةٌ على التَّعلِيلِ وليست حَرفاً مَصدَرِيّاً، والثَّانِي: أنَّ (كي) التَّعلِيلِيَّةَ تُقَدَّرُ بعدَها (أن) إِذَا لَم تَكُنْ مَوجُودَةً، فأمَّا الأوَّلُ؛ فلأنَّكَ لو جَعَلْتَ (كي) مَصدَرِيَّةً لَلَزِمَ أن يتَوَالَى حَرفَانِ بمَعنًى وَاحِدٍ لا لِغَرَضِ التَّوكِيدِ، وهذا مَمنُوعٌ، وأمَّا الثَّانِي فلأنَّ ظُهورَ الشَّيءِ في بَعضِ الأوقَاتِ دَلِيلٌ على أنَّ هذَا المَوضِعَ مَحَلٌّ له، ألا تَرَى أنَّهُ لمَّا ظَهَرَت (مِن) بعدَ (لا) النَّافِيَةِ لِلجِنسِ في قَولِ الشَّاعِرِ:
فقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنهَا بِسَيْفِهِ = وقَالَ أَلا لا مِنْ سَبِيلٍ إِلَى هِندِ
قَضَوا لذلك بأَنَّ بِنَاءَ اسمِ (لا) لِتَضَمُّنِ مَعنَى (مِن) الاستِغْرَاقِيَّةِ؟ ومِثلُهُ ظُهُورُ (مِن) قَبلَ التَّميِيزِ أَحياناً، ونَحوُ ذلك كَثِيرٌ مِن تَعلِيلاتِهِم.
ومِثلُ بَيتِ الشَّاهِدِ في ظُهُورِ (أن) المَصدَرِيَّةِ بعدَ كي قَولُ الشَّاعِرِ:
أَرَدْتَ لِكَيْمَا أَنْ تَطِيرَ بِقِرْبَتِي = فَتَتْرُكَهَا شَنّاً بِبَيدَاءَ بَلْقَعِ
ومِثلُهُ قَولُ الآخَرِ، وأَنشَدَهُ أَبُو ثَروَانَ:
أَرَدْتَ لِكَيْمَا أَنْ تَرَى لِيَ عَثْرَةً = وَمَنْ ذَا الذي يُعْطَى الكَمَالَ فَيَكْمُلُ
([9])سُورَةُ الحَدِيدُ، الآيَةُ: 23، واعلَمْ أوَّلاً أنَّهُ لا خِلافَ بينَ أَحَدٍ مِنَ النُّحَاةِ في أنَّهُ قد وَرَدَ عن العَرَبِ الفِعلُ المُضَارِعُ مَنصوباً بعدَ كَي غَيرِ المَسبُوقَةِ بِلامِ التَّعلِيلِ ولا المُتبَعَةِ بِأَن المَصدَرِيَّةِ مِن غَيرِ شُذُوذٍ ولا ضَرُورَةٍ، ومِن ذلك قَولُهُ تَعَالَى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ}، وقَولُهُ سُبحَانَهُ: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَينَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}. ومِن ذلك قَولُ النَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيِّ:
وَقَفْتُ فِيهَا طَوِيلاً كَيْ أُسَائِلَهَا = عَيَّتْ جَوَاباً وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
كما أنَّهُ لا خِلافَ بينَ أَحَدٍ مِنَ النُّحَاةِ في أنَّ الفِعلَ المُضَارِعَ قد جاءَ في فَصيحِ الكلامِ مِن غيرِ شُذُوذٍ ولا ضَرُورَةٍ مَنصُوباً بعدَ كَي المَسبُوقَةِ بِلامِ التَّعلِيلِ، ومِن ذلك الآيَةُ التي تَلاهَا المُؤَلِّفُ {لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ}، وقَولُهُ تَعَالَى: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ}، وقَولُهُ سُبحَانَهُ: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} سُورَةُ الحَجِّ، آيَةُ 5، ومِنه قَولُ عُمَرَ بنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
إِذَا جِئْتَ فَامْنَحْ طَرْفَ عَيْنَيكَ غَيرَنَا = لِكَي يَعلَمُوا أَنَّ الهَوَى حَيثُ تَنْظُرُ
وقد جَاءَ في قَلِيلٍ مِن كلامِ العَرَبِ مَجِيءُ المُضَارِعِ مَنصوباً بعدَ كي، وقد تَوَسَّطَت بينَهُما (أن) المَصدَرِيَّةُ كما في الشَّاهِدِ رَقْمِ 290 والبَيتَينِ اللذين ذَكَرْنَاهُمَا في شَرحِه، ووَرَدَ عنهم في قَليلٍ مِن كَلامِهِم مَجِيءُ المُضَارِعِ مَنصوباً بعدَ كي، وقَد تَوَسَّطَت بينَهُما اللاَّمُ، نحوَ قَولِ عَبدِ اللَّهِ بنِ قَيسِ الرُّقَيَّاتِ:
كَيْ لِتَقْضِيَنِي رُقَيَّةُ مَا = وَعَدَتْنِي غَيرَ مُخْتَلَسِ
ثُمَّ اعلمْ ثَانياً أنَّ النُّحَاةَ يَختلِفُونَ في النَّاصِبِ للمُضَارِعِ في كُلِّ وَجهٍ مِن هذه الوُجُوهِ، فذَهَبَ الأخفَشُ إلى أنَّ النَّاصِبَ للمضارعِ في جميعِ هذه الأوجُهِ هو أن المَصدَرِيَّةُ، فإن كانت مَذكُورةً فالأمرُ ظَاهِرٌ، وإن لم تَكُنْ فهِيَ مُقَدَّرَةٌ، والسِّرُّ في هذا أنَّ الأخْفَشَ يَرَى أنَّ (كي) لا تَكُونُ إلا حَرفَ جَرٍّ دَالٍّ على التَّعلِيلِ, فإن ذُكِرَت اللاَّمُ قَبلَها كما في الآيَةِ الكَرِيمَةِ {لِكَيْ لا يَعْلَمَ} وكمَا في قَولِ عُمَرَ: *لِكَيْ يَعْلَمُوا أَنَّ الهَوَى حَيثُ تَنْظُرُ* كَانَت هذه اللاَّمُ لِلتَّعلِيلِ،وكانت (كي) بَدَلاً مِنها, وكانت (أن) مُضمَرَةً بَعدَهُمَا، وإِن ذُكِرَت اللاَّمُ بعدَ (كي) كما في قَولِ ابنِ قَيسِ الرُّقَيَّاتِ: *كَيْ لِتَقْضِيَنِي رُقَيَّةُ* كانت اللاَّمُ بَدَلاً مِن (كي) التَّعلِيلِيَّةِ، وأن مُقَدَّرَةً بَعدَهُمَا.
وذَهَبَ الخَلِيلُ بنُ أَحمَدَ إلى أنَّ النَّاصِبَ لِلمُضَارِعِ في كُلِّ هذه الوُجُوهِ هُو (أن) المَصدَرِيَّةُ، فإن كانت مَذكُورَةً في الكلامِ فالأمرُ ظَاهِرٌ، وإن لم تَكُنْ مَذكُورَةً فهي مُقَدَّرَةٌ، والسِّرُّ في ذلك أنَّ الخَلِيلَ رَحِمَهُ اللَّهُ لا يَرَى أنَّ لِلمُضَارِعِ نَاصِباً غَيرَ (أن) المَصدَرِيَّةِ مُظهَرَةً أو مُضمَرَةً.
وذَهَبَ جُمهُورُ الكُوفِيِّينَ إلى أنَّ النَّاصِبَ للمُضَارِعِ في جَمِيعِ هذه الوُجُوهِ هو (كي) نَفسُها، والسِّرُّ في هذا أنَّهُم يَرَونَ أنَّ (كي) لا تَكُونُ إلا حَرفاً مَصدَرِيّاً نَاصباً للمُضَارِعِ مَذكُوراً أو مُقَدَّراً، فإن ذُكِرَت (أن) بَعدَ (كي) كما في قَولِ جَمِيلٍ: *كَيْمَا أَنْ تَغُرَّ وتَخْدَعَا* كانت (أن) مَصدَرِيَّةً أَيضاً، وكانت بَدلاً مِن (كي)، وإِن ذُكِرَت اللاَّمُ بعدَ (كَي) كما في قَولِ ابنِ قَيسِ الرُّقَيَّاتِ: كَيْ لِتَقْضِيَنِي رُقَيَّةُ* كانت اللامُ زَائِدَةً، ولهذا قالُوا في قَولِ العَرَبِ: (كَيْمَهْ): إِنَّ ثَمَّةَ فِعلاً مُضَارِعاً مَحذُوفاً، وهو مَنصُوبٌ بـِ(كي)، و(مَهْ) عِبَارَةٌ عن (ما) الاستِفهَامِيَّةِ وهَاءِ السَّكتِ، وما الاستفهامِيَّةُ مَنصُوبَةُ المَحَلِّ بالمُضَارِعِ المُقَدَّرِ، وكأنَّ قَائِلاً قد قال لك: جِئْتُكَ، فَقُلْتَ لَهُ: كَي تَفْعَلَ مَاذَا، وهَذا تَكَلُّفٌ لا يَنبَغِي لك أن تُقِرَّهُم عليه، فوقَ أنَّهُ يَتَضَمَّنُ حَذفَ صِلَةِ الحرفِ المَصدَرِيِّ الذي هو (كي)، ويَتَضَمَّنُ نَصبَ اسمِ الاستفهامِ بعَامِلٍ مُتَقَدِّمٍ عليه, ويَتَضَمَّنُ حذفَ أَلِفِ (ما) الاستفهامِيَّةِ في غيرِ حَالَةِ الجَرِّ، وكُلُّ وَاحِدٍ مِن هذه الأمُورِ الثَّلاثَةِ مِمَّا لا يُجِيزُ جُمهُورُ النُّحَاةِ ارتِكَابَهُ، وقد سبَقَ لنا ذِكْرُ ذلك (ص9 من هذا الجُزءِ).
وذَهَبَ جُمهُورُ البَصْرِيِّينَ إلى أنَّ (كي) تَكُونُ أَحياناً حَرفَ جَرٍّ دَالاًّ على التَّعلِيلِ، وتَكُونُ أَحيَاناً أُخرَى حَرفاً مَصدَرِيّاً نَاصِباً، فهُم لا يَلتَزِمُونَ الوَجهَ الثَّانِيَ كما التَزَمَهُ الكُوفِيُّونَ، ولا يَلتَزِمُونَ الوَجهَ الأوَّلَ الذي التَزَمَهُ الأخفَشُ.
وعِندَهُم أنَّ (كي) تَكُونُ حَرفاً مَصدَرِيّاً نَاصباً للمُضَارِعِ، ولا تَحتَمِلُ غيرَ هذا الوَجهِ في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وهي أن تُذكَرَ اللاَّمُ قَبلَهَا، ولا تُذكَرُ (أن) بَعدَهَا، نَحوَ قَولِهِ تَعَالَى: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} وقَولِ عُمَرَ بنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
*لِكَيْ يَعْلَمُوا أَنَّ الهَوَى*
وتَكُونُ (كَي) عندَهُم حَرفَ تَعلِيلٍ وجَرٍّ، ولا تَحتَمِلُ غيرَ ذلك في حَالَتَينِ، إِحدَاهُمَا أن تُذكَرَ اللاَّمُ بَعدَها، كما في قَولِ ابنِ قَيسِ الرُّقَيَّاتِ: *كَيْ لِتَقْضِيَنِي رُقَيَّةُ* فكَي حَرفُ تَعلِيلٍ، واللاَّمُ تَوكِيدٌ لها، وأن مُقَدَّرَةٌ بَعدَهُمَا، وهي النَّاصِبَةُ، والحَالَةُ الثَّانِيَةُ أن تُذكَرَ (أن) بعد (كي)، ولا تُذكَرَ قَبلَهَا اللاَّمُ، كما في قَولِ جَمِيلٍ، (وهو الشَّاهِدُ رقمُ 290) * كَيْمَا أَنْ تَغُرَّ وتَخْدَعَا*.
وتَكُونُ (كي) مُحتَمِلَةً للوَجهَينِ في حَالَتَينِ، إِحدَاهُمَا أن تُذكَرَ في الكلامِ وَحدَهَا فلا تَتَقَدَّمُهَا اللاَّمُ ولا تَتَأَخَّرُ عنها (أن)، كما في قَولِهِ تعَالَى: {كَيْ تَقَرَّ عَينُهَا} وكما في قَولِ النَّابِغَةِ: *كَيْ أُسَائِلَهَا* والحَالَةُ الثَّانِيَةُ أن تَقَعَ (كي) بينَ اللاَّمِ و(أن) نحوَ قولِ الشَّاعِرِ: *لِكَيْمَا أَنْ تَطِيرَ* فَإِن اعتُبِرَت (كي) تَعلِيلِيَّةً كانت مُؤَكِّدَةً للاَّمِ، وهذا أَولَى، وإن اعتُبِرَت (كي) مَصدَرِيَّةً كانت (أن) مُؤَكِّدَةً لها.