254 - وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لرسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاتِي. قَالَ: ((قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كَثِيراً، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
مُفْرَدَاتُ الْحَدِيثِ:
أَدْعُو بِهِ: جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ مَحَلُّهَا النَّصْبُ، لأَنَّهَا صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: (دُعَاءً) الَّذِي هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ: (عَلِّمْنِي).
فِي صَلاتِي: ظَاهِرُهُ عُمُومُ الصَّلاةِ، وَلَكِن الْمُرَادُ بِهِ: حَالَةُ القعودِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَقَبْلَ السَّلامِ.
ظُلْماً كَثِيراً: بِالثاءِ المُثَلَّثَةِ، وَيُرْوَى بِالْبَاءِ المُوَحَّدَةِ كَمَا فِي (مُسْلِمٍ):
((وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ)):جُمْلَةٌ مُعترضةٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: ((ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْماً كَثِيراً)). وَبَيْنَ قَوْلِهِ: ((فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ)). وَيَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً.
مَغْفِرَةً: إِشَارَةٌ إِلَى مَزِيدِ ذَلِكَ التَّعْظِيمِ؛ لأَنَّ مَا يَكُونُ عِنْدَهُ لا يُحِيطُ بِهِ وَصْفُ الْوَاصِفِينَ.
إِنَّكَ أَنْتَ: ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ، وَفَائِدَتُهُ التَّوْكِيدُ، والحَصْرُ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْخَبَرِ والصفةِ، يُقَالُ: (زَيْدٌ الْفَاضِلُ) فَيُحْتَمَلُ فِي (الفاضلِ) الْخَبَرُ، والصفةُ، وَأَمَّا: (زَيْدٌ هُوَ الْفَاضِلُ) فَلا يُحْتَمَلُ إِلاَّ الْخَبَرُ، وَهَذَا الضَّمِيرُ لا مَحَلَّ لَهُ من الإعرابِ، ولذا لَمْ يُغَيِّرْ صِيغَةَ: {إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء: 40].
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ: لَفٌّ وَنَشْرٌ، مُرَتَّبٌ مَعَ: (اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي) قَبْلَهُ.
مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1 - مِنْ فِقْهِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الصَّلاةَ هِيَ أَقْرَبُ صِلَةٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَأَنَّهَا إِحْدَى الأحوالِ الَّتِي يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ، فَطَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَلِّمَهُ أَنْفَعَ دُعَاءٍ، وَأَنْسَبَ دُعَاءٍ فِي هَذَا المقامِ، فَعَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الدُّعَاءَ، الَّذِي يَرْفَعُ صَاحِبَهُ إِلَى أَعْلَى الدرجاتِ، وَعَلَّمَهُ الوسيلةَ القريبةَ الَّتِي تَسْتَوْجِبُ قَبُولَ هَذَا الدُّعَاءِ.
2 - قَالَ فِي (الشرحِ) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى شَرْعِيَّةِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلاةِ عَلَى الإطلاقِ، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَحَلٍّ لَهُ، وَمِنْ مَحَلَّاتِهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَالصَّلاةِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِقَوْلِهِ: ((فَلْيَخْتَرْ مِنَ الدُّعَاءِ مَا شَاءَ)).
3 - فِي الْحَدِيثِ اعترافُ الْعَبْدِ بِذَنْبِهِ منْ تَقْصِيرِهِ بالوَاجِبَاتِ، أَو ارْتِكَابِهِ المَنْهِيَّاتِ، وَفِيهِ التَّوَسُّلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ الحُسْنَى، عِنْدَ طَلَبِ الْحَاجَاتِ، وَاسْتِدْفَاعِ المَكْرُوهَاتِ، وَأَنَّ الدَّاعِيَ يَأْتِي مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يُنَاسِبُ المقامَ، فلفظُ: (الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) عِنْدَ طَلَبِ المغفرةِ والرحمةِ، وَخَتْمُ الآيَاتِ الكريمةِ بأسماءِ اللَّهِ مناسبةٌ غَايَةَ المُنَاسَبَةِ؛ لِمَا فِي الآيَةِ منْ مَعْنًى كَرِيمٍ، وَكَذَلِكَ الأَدْعِيَةُ النَّبَوِيَّةُ مَخْتُومَةٌ بأسماءِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يُنَاسِبُهَا.
4 - وَفِي الْحَدِيثِ الترغيبُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَسُؤَالِ الْعُلَمَاءِ، لا سِيَّمَا فِي المسائلِ الهامَّةِ، والأشياءِ المطلوبةِ.
5 - وَفِيهِ وُجُوبُ نُصْحِ الْعَالِمِ المُتَعَلِّمَ، وَتَوْجِيهِهِ إِلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ، وإعطائِهِ قَوَاعِدَ الْعِلْمِ وَأُصُولَ الأَحْكَامِ؛ لِتَكُونَ الفائدةُ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ.
6 - وَرَدَتْ أَدْعِيَةٌ أُخَرُ يُسْتَحَبُّ الإتيانُ بِهَا قُبَيْلَ السَّلامِ من الصَّلاةِ، مِنْهَا: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً... إلخ). رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ (1/264) عَن ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفاً.
وَمِنْهَا:((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ..)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (760).
وَمِنْهَا وَصِيَّتُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِمُعَاذٍ: ((لا تَدَعَنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (1522).
7 - وَلا يَتَعَيَّنُ دُعَاءٌ خَاصٌّ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ)). وَلَكِن الدُّعَاءُ الواردُ المأثورُ أَفْضَلُ منْ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
8 - ظُلْمُ الإِنْسَانِ يَكُونُ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا تَقْصِيرٌ فِي الْوَاجِبَاتِ، أَوْ تَعَدٍّ عَلَى المُحَرَّمَاتِ أَوْ بِهِمَا جَمِيعاً.
9 - قَوْلُهُ:((وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ)). اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الإنكارِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْخَلْقَ جَمِيعاً، لا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَغْفِرُوا زَلَّةً وَاحِدَةً مِنَ الزَّلاتِ، وَإِنَّمَا هَذَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلا يُطْلَبُ إِلاَّ مِنْهُ جَلَّ وَعَلا.
10 - ((اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي)) المَغْفِرَةُ فِيهَا زَوَالُ المَكْرُوهِ، والرحمةُ فِيهَا حُصُولُ المطلوبِ.
11 - قَالَ ابْنُ المُلَقَّنِ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الترتيبَ، فَإِنَّهُ قَدَّمَ اعْتِرَافَهُ بالذنبِ، ثُمَّ بالوَحْدَانِيَّةِ، ثُمَّ سَأَلَ المغفرةَ؛ لأَنَّ الاعترافَ أَقْرَبُ إِلَى الْعَفْوِ، والثناءَ عَلَى المَسْؤُولِ أَقْرَبُ لِقَبُولِ مَسْأَلَتِهِ.