أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي: (ت 103هـ)
ثقة إمام في التفسير والفقه رحمه الله تعالى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد،
فهذه رسالة وجيزة بألفاظ وعبارات مختصرة ، لكنها عظيمة القدر والمنزلة في بابها؛ لأنها تحمل أخبارًا من سيرة مباركة لإمام وشيخ القراء والمفسرين مجاهد بن جبر رحمه الله تعالى وأعلى منزلته في جنات النعيم، فأقول مستعينة بالله تعالى:
اسمه وكنيته:
مجاهد بن جبر ويكنى بأبي الحجاج، مولى لقيس بن السائب المخزومي، عاش في مكة فنسب إليها.
ولادته:
ولد رحمه الله تعالى في خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سنة إحدى وعشرين من الهجرة النبوية الشريفة.
طلبه للعلم:
كان مشمّراً في طلب العلم، والإقبال على شأنه حتى وصف كأنّه رجل أضلّ دابّته فهو يطلبها، ونشر علم التفسير نشراً لم يبلغه غيره؛ وقد لازم عبد الله ابن عباس رضي الله عنه مدة طويلة، وأخذ منه علماً غزيراً؛ حتى عُدّ من أعلم الناس بالتفسير، وروى عنه القرآن والتفسير وأخذ عنه الفقه.
كما أخذ العلم وروى عن طائفة من الصحابة رضوان الله تعالى عنهم:
أبي هريرة، وعائشة، وسعد بن أبي وقاصٍ، وعبدالله بن عمرٍو، وابن عمر، ورافع بن خَديجٍ، وأم كرزٍ، وجابر بن عبدالله، وأبي سعيدٍ الخدري، وغيرهم.
وأخذ العلم كذلك عن أقرانه وبعض التابعين، ومنهم:
سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير، والشعبي، وطاووس،، وابن أبي السائب القرشي وأبي بكر بن عبدالرحمن المخزومي ، وغيرهم.
تلاميذه:
قرأ عليه القرآن جماعة من التابعين وتابعيهم، منهم أئمة القراءات : ابن كثيرٍ، والدوري، وأبو عمرو بن العلاء، وابن محيصن.
وروى عنه الحديث : من أقرانه عكرمة، وطاوسٌ، وعطاءٌ وروى عنه عمرو بن دينارٍ، وأبو الزبير، والحكم بن عتيبة، ومنصور بن المعتمر، وسليمان الأعمش، وأيوب السَّختياني، وابن عونٍ، وعمر بن ذر، وقتادة بن دعامة، والفضل بن ميمونٍ، وإبراهيم بن مهاجرٍ، وحميدٌ الأعرج، وبكير بن الأخنس، وسليمان الأحول، وعبدالكريم الجزري، وأبو حصينٍ، والعوام بن حوشبٍ، وفطر بن خليفة، والنضر بن عربي، وخلقٌ كثيرٌ.
وقد اعتمد البخاري رحمه الله تعالى في كتابه الصحيح على تفسير مجاهد بن جبر رحمه الله ؛ فأكثر من ذكر أقواله في تفسير بعض الآيات، فربما ذكر الإسناد إليه، وربما علّق التفسير عن مجاهد، وربما ذكر قوله دون نسبة.
مجاهد إمام التفسير:
كان رحمه الله تعالى عالما بالقرآن و التفسير وأحكامه وآدابه، وكان له تفسير كثير لآيات الأحكام، كما كان من أهل الفتوى في زمانه.
قال ابن أبي مليكة: (رأيت مجاهدًا يسأل ابن عباسٍ عن تفسير القرآن ومعه ألواحه فيقول له ابن عباسٍ: اكتب، قال: حتى سأله عن التفسير كله).رواه ابن جرير.
قال مجاهد رحمه الله تعالى عن نفسه:
(لقد عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات أقف عند كل آية أسأله فيم أنزلت، وفيم كانت؟). رواه الدارمي وابن جرير.
وعن حبيب بن صالح قال: سمعت مجاهدا يقول: (استفرغ علمي القرآن). ذكره الذهبي.
وقال: صحبت عبدالله بن عمر، وإني أريد أن أخدمه، فكان هو يخدمني". ذكره أبو نعيم في حلية الأولياء.
لكن في تفسيره شيء يسير من الإسرائيليات، لأنه ربما روى عن تبيع بن عامر الحميري ابن امرأة كعب الأحبار؛ فوافق تفسيره التفسير المروي عن كعب الأحبار؛ فيعلّ بذلك.
ورواة التفسير عن مجاهد رحمه الله تعالى على خمس طبقات:
الطبقة الأولى:
أصحابه وطلابه الذين سمعوا منه التفسير أو سألوه عنه فأجابهم فرووا عنهم، وقد كتب بعضهم عنه رحمه الله تعالى، قال عبيدٌ المكتب: «رأيتهم يكتبون التفسير عند مجاهدٍ» رواه الدارمي.
ومن هذه الطبقة ما يلي: عمرو بن دينار، ومنصور بن المعتمر، والقاسم بن أبي بزة، والحكم بن عتيبة، وعبد الله بن كثير، وابن أبي نجيح، وعبيد المكتب، وإسحاق بن يحيى بن طلحة، وعبدة بن أبي لبابة، والعوام بن حوشب، وعثمان بن الأسود، وأبان بن صالح بن عمير، وعمر بن ذر، وخصيف، وغيرهم كثير.
الطبقة الثانية:
الذين سمعوا منه شيئا يسيرا، ومنهم المكثر والمقل في الرواية.
فمن المكثرين: ابن جريج وأكثر روايته عنه عن طريق أصحابه ابن أبي نجيح وغيره، ويرسل عنه كثيراً.
ومن المقلين: يونس بن أبي إسحاق، وأبو بشر اليشكري، والأعمش، ومنهم من لم يسمع منه إلا أربعة أحاديث كالأعمش، ذكر ذلك الترمذي عن البخاري في كتابه العلل الكبير.
الطبقة الثالثة:
الذين أرسلوا عنه وقد كان يمكنهم السماع منه؛ لكن روايتهم عنه منقطعة، ومن هؤلاء: قتادة، وسعيد بن أبي عروبة.
الطبقة الرابعة:
الذين لم يسمعوه ولم يدركوه، بل سمعوا بعض أصحابه فأرسلوا عنه، أو رووا عنه بالوجادة، ومنهم: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وعلي بن أبي طلحة، ومعمر بن راشد، وزهير بن محمد التميمي، ومقاتل بن سليمان.
الطبقة الخامسة:
طبقة الضعفاء من أصحاب مجاهد وبعضهم متهم بالكذب، ومن هؤلاء: ليث بن أبي سليم، وأبي سعد روح بن جناج المدني، وثوير بن أبي فاختة، وجابر بن يزيد الجعفي، ويزيد بن أبي زياد الكوفي، والمثنّى بن الصباح اليماني، وغالب بن عبيد الله الجزري.
ورواية هؤلاء إذا كانت من غير طريق المتهمين بالكذب وكان الإسناد متصلاً؛ فإنّها تعتبر في التفسير؛ فإن كان المتن غير منكر تساهل المفسّرون في قبولها، وأما إن كان المتن منكراً أو مخالفاً لما صحّ عن مجاهد فتردّ.
نماذج مما روي عنه رحمه الله:
1. عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال ابن عباس: «أمره أن يسبح، في أدبار الصلوات كلها»، يعني قوله: {وأدبار السجود} رواه البخاري.
2. عن شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد، في قوله: {وما تغيض الأرحام وما تزداد} قال: ما ترى من الدم، وما تزداد على تسعة أشهر). رواه ابن جرير.
3. عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، ألا تراه يقول: افعل وافعل , ويقول: {واسجد واقترب}). رواه ابن جرير.
التفسير المنسوب إلى مجاهد رحمه الله تعالى:
كان التفسير في القرن الأول يكتب على صحف صغيرة، تفسّر فيها الآية بعد الآية في جزء صغير، ولم يدون في التفاسير المطوّلة، أو تفسير على السور كاملة.
لذلك لم يعتد كثير من أهل العلم بالصحيفة التي رويت عن مجاهد في التفسير، والتي طبعت باسم تفسير مجاهد؛ وسموها باسم الذي رواها " تفسير آدم ابن إياس"
وهذه الصحيفة يرويها عبد الرحمن بن الحسن الهمذاني (ت:356هـ) وهو مضعف، عن الحافظ إبراهيم بن الحسين ابن ديزيل (ت: 281هـ) عن آدم بن أبي إياس العسقلاني (ت:221هـ)، و كانت لدى ابن ديزيل، ولم يروها؛ فوجدها عبد الرحمن بن الحسن وحدّث بها، وفيها آثار يرويها آدم بن أبي إياس عن غير مجاهد كأبي هريرة وأنس والحسن البصري وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة، لكن أكثر ما روى فيها عن مجاهد.
قال أهل العلم: رواية بالوجادة لا يحتجّ بها، لكن يُستفاد منها في المتابعات والشواهد؛ لأن منها ما هو موافق لما في كتب التفسير المشهورة من الطرق المروية بها.
ثناء أهل العلم والفضل عليه رحمه الله تعالى:
قال أبو بكر الحنفي: سمعت سفيان الثوري يقول: (إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به). رواه ابن جرير.
قال قتادة بن دعامة: إن أعلم من بقي بالحلال والحرام الزهريُّ، وأعلم من بقي بالقرآن مُجاهِد، يعني التفسير. ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق.
قال الأعمش: كان مُجاهِد كأنه حمالٌ، فإذا نطق خرج مِن فِيهِ اللؤلؤُ. ذكره الذهبي في السير.
وفاته:
مات رحمه الله تعالى وهو ساجد خلف المقام، سنة 103هـ وهو قول الأكثرين، وقيل: سنة 104هـ.
قال ابن سعد في الطبقات:
توفي مُجاهِد بن جَبْرٍ بمكة وهو ساجدٌ، سنة أربعٍ ومائةٍ، .بلغ مُجاهِد يوم مات ثلاثًا وثمانين سنةً.
من الفوائد المستقاة من سيرة الإمام مجاهد رحمه الله تعالى:
1. حرصه الشديد على طلب العلم وملازمته لشيوخه وقد أثمر ذلك عن علم غزير وأدب عظيم.
2. اجتهاده رحمه الله تعالى في العبادة وزهده في الدنيا، وإقباله على ما ينفعه في آخرته من طلب العلم وتبليغه.
3. البعد عن الرياء والسمعه في طلب العلم والحذر من الشهرة كما قال رحمه الله تعالى" (لا تنوهوا بي في الخلق).
4. تصحيح النية في طلب العلم ومجاهدة النفس في تصفيتها ، وعدم الإصغاء لوسوسة الشيطان في ذلك، واستمداد العون من الله تعالى.
5. الأخذ بأصول العلوم كلها، ثم استفراغ الجهد والطاقة في علم مخصص ؛ ليتمكن الطالب في نفسه وينفع غيره بشكل كبير.
والله أعلم.
وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.